السبت، 29 أغسطس 2015

أين نحن من تعظيم السلف الصالح لسيدنا محمد ﷺ؟

عن شعبة قال: ما رأيت أحدًا أصدق من سليمان التيمي رحمه الله، كان إذا حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم تغير لونه.

وقال الإمام الحافظ القاضي عياض في كتابه [الشفا في شرف المصطفى ]:
"واعلم أن حرمة النبي ﷺ بعد موته، وتوقيره، وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره ﷺ، وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه، وسيرته، ومعاملة آله، وعترته، وتعظيم أهل بيته، وصحابته.

وقال أبو إبراهيم التجيبي: واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده أن يخضع، ويخشع، ويتوقَّر، ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته، وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به.

قال القاضي أبو الفضل: وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح، وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم.

وروى بسنده عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفرٍ أميرُ المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قومًا فقال: ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [ الحجرات: 2].

ومدح قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [ الحجرات: 3].

وذم قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [ الحجرات: 4].

وإن حرمته ميتًا كحرمته حيَّاً.

فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟
بل استقبله، واستشفع به، فيشفعه الله، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [ النساء: 64].

وقال مصعب بن عبد الله: كان الإمام مالك إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه.

ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق، وكان كثير الدعابة، والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ اصفر. وما رأيته يحدث عن رسول الله ﷺ إلا على طهارة.

ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.

ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنإ الناس، وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفك، ولا عرفته.

ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه، ويتركوه.

وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل، والزويل.

ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلت مستمليا يسمعهم؟ فقال: قال الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) [ الحجرات: 2]، وحرمته حيا، وميتا سواء.

وكان ابن سيرين ربما يضحك، فإذا ذكر عنده حديث النبي ﷺ خشع.

وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي ﷺ أمرهم بالسكوت، وقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) [ الحجرات: 2 ]، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله. "

ـــــــــــــــــــــــ
ترجمة الإمام الحافظ القاضي عياض في سير أعلام النبلاء:
"الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي.
ولد في سنة ست وسبعين وأربعمائة.

رحل إلى الأندلس سنة بضع وخمسمائة، وروى عن القاضي أبي علي بن سكرة الصدفي ولازمه، وعن أبي بحر بن العاص، ومحمد بن حمدين، وأبي الحسين سراج الصغير، وأبي محمد بن عتاب، وهشام بن أحمد، وعدة.

وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي.
واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق.

قال خلف بن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، استقضي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطول بها وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه.
قال القاضي شمس الدين في [وفيات الأعيان]:
(هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم.
وقال الفقيه محمد بن حماده السبتي : جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هينا من غير ضعف، صليبًا في الحق، تفقه على أبي عبد الله التميمي، وصحب أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكن أحد بسبتة في عصر أكثر تواليف من تواليفه، له كتاب [الشفا في شرف المصطفى] مجلد وكتاب [ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك] في مجلدات وكتاب [العقيدة] ، وكتاب [شرح حديث أم زرع] وكتاب [جامع التاريخ] الذي أربى على جميع المؤلفات، جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب، واستوعب فيه أخبار سبتة وعلمائها، وله كتاب [مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار]: [الموطأ] و [الصحيحين] . . .
إلى أن قال: وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعا وخشية لله تعالى) أهـ
"