الخميس، 31 يوليو 2025

حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة هل يدخل هذا التعامل في الربا؟ لا، لا يدخل فيه

🟤 حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة، هل يدخل هذا التعامل في الربا؟

الجواب:
من يعرف النظام المالي والمصرفي الحديث يدرك تمامًا هذا النوع من المعاملة جائز شرعًا، ولا يدخل في باب الربا، وإنما هو من باب بيع المنافع أو الجعالة على فعل مباح، وبيان ذلك كما يلي:

أولًا: تحرير محل النزاع
المعاملة محل السؤال هي أن شخصًا يملك رصيدًا في حسابه البنكي، فيطلب من آخر أن يسلمه نقدًا (كاش) مقابل تحويل ذلك الرصيد إليه، على أن يأخذ المحوِّل نسبة معلومة (كـ5% مثلًا) من المبلغ كأجر على هذه الخدمة.
وهذه الصورة ليست من باب بيع النقد بالنقد حتى يقال: يشترط التماثل والتقابض، بل هي من باب أداء خدمة بأجر معلوم.

ثانيًا: الرصيد البنكي ليس عين المال، وإنما هو مجرد حق مالي
الرصيد البنكي ليس عين النقد، وإنما هو حق ثابت في ذمة البنك، والدليل على ذلك أنك لا تستطيع أن تمسك الرصيد بيدك، بل هو معلومة في النظام المصرفي تفيد أن لك مبلغًا في ذمة البنك.
والفقهاء قرروا أن الحقوق المالية يجوز التصرف فيها بطرق متعددة، ومنها الإنابة والوكالة، مع أجر أو بدون أجر.

ثالثًا: الواقع أن صاحب الكاش يؤدي خدمة نيابة عن البنك
في النظام المصرفي السليم، البنوك هي التي تتكفّل بتحويل الأرصدة إلى نقد عبر الصرافات الآلية، وتأخذ على ذلك عمولة معلومة. فإذا تعطّلت هذه الخدمة، وصار أفراد المجتمع يقومون بها، فإنهم يقومون بعمل هو في أصله من مسؤولية البنك، ويجوز لهم أخذ الأجرة عليه.

رابعًا: هذه المعاملة داخلة في باب الجعالة، أو الإجارة على عمل مباح
الذي يدفع لك النقد مقابل أن تحول له الرصيد، لم يبع لك نقدًا بنقد، بل استأجرك على أن توفر له خدمة: وهي تمكينه من النقد، عبر سحب رصيده أو مقابل نقل ملكيته. فهي من باب الجعالة: (من يأتي بكذا فله كذا)، أو الإجارة على المنافع: (أنت توصل لي الكاش، ولك أجر معلوم).

خامسًا: نسبة العمولة لا تجعلها ربا، بل تعكس تفاوت الجهد والمخاطرة
توفير الكاش، خصوصًا في بيئات تعاني من أزمة سيولة، يتطلب:
▪️مجهودًا كبيرًا في جمعه من مصادر متعددة
▪️مخاطر أمنية في حفظه ونقله
▪️ترتيبًا وعدًّا وتغليفًا بدقة
▪️التزامًا بتسليم المبلغ في وقت ومكان معين
▪️دعك من المجهود والوقت وخدمة الإنترنت وجهاز الموبايل الضروري لإجراء المعاملة

وهذه التكاليف تختلف باختلاف المبلغ، لذا من الطبيعي أن تتناسب الأجرة مع الجهد والمخاطرة، وهذا أصل معتبر في باب الإجارات والجعالات، وقد قرر الفقهاء أن الأجرة يجوز أن تكون نسبة من المال إذا لم تكن المعاملة محرّمة في أصلها.

سادسًا: القياس على ربا الفضل أو النسيئة قياس مع الفارق
من قاس هذه المعاملة على ربا الفضل أو النسيئة في بيع الذهب بالذهب أو الدراهم بالدراهم، فقد أخطأ من جهتين:
1. أن الرصيد البنكي ليس مالًا عينًا، بل هو حق مالي، فلا ينطبق عليه شرط التماثل والتقابض.

2. أن النقد الورقي المعاصر ليس جنسًا ربويًا حقيقيًا، لأنه لا يُقتنى لذاته، بل هو أداة تبادل وليس سلعة في نفسه، والربا يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، والعلة هنا مفقودة.

سابعًا: لو عاد النظام المصرفي إلى كفاءته، لما ظهرت هذه الخدمة
وهذا أقوى دليل على أن ما يحدث هو بديل عن خدمة تعطّلت، وليس نشاطًا تجاريًا ربوياً، لأن الناس لا يلجؤون إلى هذه المعاملة إلا عند فقدان القدرة على السحب المباشر. فلو توفرت السيولة في البنوك لما احتاج أحد إلى تحويل الرصيد مقابل عمولة، وهو ما يدل أن محل المعاملة هو الخدمة، لا المال في ذاته.

وعليه فإن هذه المعاملة جائزة شرعًا، وهي من باب بيع المنافع أو الجعالة، ولا تدخل في باب الربا، لأن الربا لا يكون إلا في بيع مال ربوي بجنسه مع تأجيل أو زيادة، ولا يوجد شيء من ذلك هنا.

⚠️ تنبيه مهم: لا يجوز استغلال حوجة الناس برفع العمولة إلى نسبة مجحفة
وإن كنا قد بيّنا جواز هذه المعاملة من حيث الأصل الشرعي، إلا أننا نُذكّر بأن الإسلام لا يُبيح استغلال حاجة الناس وضعفهم. فالأصل أن تكون العمولة مقابلة عادلة للخدمة والمجهود المبذول، لا أن تُحوّل إلى باب من أبواب أكل أموال الناس بالباطل.
وقد نص العلماء على أن: «كل معاملة وإن كانت جائزة في أصلها، إذا دخلها ظلم أو استغلال أو تغرير، صارت محرّمة لما شابها من المفاسد.» 
وقد قال النبي ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»[رواه أحمد وغيره]، وقال أيضًا: «من لا يَرحم لا يُرحم»[متفق عليه].
فعلى من يقدّم هذه الخدمة أن يتقي الله تعالى، وأن يتعامل برحمة وعدل وتقدير حقيقي للمجهود، دون استغلال ظروف الناس المعيشية، فالدين ليس فقط أحكامًا، بل هو أخلاق وقيم ومروءة.