الجمعة، 24 نوفمبر 2023

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن:
روى أصحاب السنن عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: «أقضي بكتاب الله»، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: «فبسنة رسول الله ﷺ»، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ﷺ، ولا في كتاب الله؟» قال: «أجتهد رأيي، ولا آلو» فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله».
وهو حديث مشهور جدا تلقاه علماء الأمة وفقهائها بالقبول واحتجوا به على الاجتهاد في الدين لمن تأهّل، واستدلوا به على القياس على أدلة الكتاب والسنة في المسائل التي لم يرد فيها دليل صريح، واستشهدوا به كثيرا في تصانيفهم. وقد كان سيدنا معاذ من أعلم وأفقه الصحابة رضوان الله عليهم، وقال رسول الله ﷺ: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وقال ﷺ: «يأتي معاذ بن جبل يوم القيامة أمام العلماء»، والعلم بالحلال والحرام يقتضي سعة في العلم والفهم والإحاطة بالأحكام لأجل ذلك بعثه رسول الله ﷺ رسولًا له إلى اليمن يعلم الناس الدين، وبسؤاله له ﷺ وإجابته رضي الله عنه تبين لنا نحن أمة رسول الله ﷺ كيف يكون اختيار الدعاة إلى الله عز وجل من حيث التأهل لأداء مهمة الدعوة إلى الله خاصة في جانب الحكمة، إذ أن الدعوة مشروطة بالحكمة {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، فتجلت حكمته في الاجتهاد على أصول الكتاب والسنة فيما لم يرد فيه نص. وللحديث شواهد كما في الصحيحين عن ‌عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، ولما كان لا اجتهاد مع نص دل ذلك على أنه اجتهاد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله ﷺ أو خلفاء رسول الله ﷺ.
وأخرج البيهقي في سننه عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضى به قضى به بينهم، فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي ﷺ فيه سنة فان علمها قضى بها وان لم يعلم، خرج فسأل المسلمين فقال: «اتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفى سنة رسول الله ﷺ فلم أجد في ذلك شيئا فهل تعلمون ان نبي الله ﷺ قضى في ذلك بقضاء؟» فربما قام إليه الرهط فقالوا: «نعم قضى فيه بكذا وكذا» فيأخذ بقضاء رسول الله ﷺ، قال جعفر: وحدثني غير ميمون: «أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا ﷺ، وإن أعياه ذك دعا رؤس المسلمين وعلماء هم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به»
قلت: ما يتوفر لأمير المؤمنين من العلماء من الصحابة للشورى قد لا يتوفر للقضاة في الأمصار كما أخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن الشعبي قال: لما بعث عمر -رضي الله عنه- شريحًا على قضاء الكوفة قال له: «انظر، ما تبيَّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله ﷺ، وما لم يتبيَّن لك فيه السنة فاجتهد رأيك». 
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من عرض له منه قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه ﷺ، فإن جاءه أمره ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فليقر ولا يستحي»
قلت: وإن معاذًا لمن الصالحين الذين يقضى بقضائهم لكونه من أعلم الصحابة رضوان عليهم خاصة في الحلال والحرام. 

وأخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن عبد الله بن أبي يزيد قال: «رأيت ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله ﷺ قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله ﷺ وقاله أبو بكر أو عمر قال به، وإلا اجتهد رأيه». 

وأخرج البيهقي في سننه عن مسلمة بن مخلد أنه قام على زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: «يا ابن عم، أكرهنا على القضاء» فقال: «زيد اقض بكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي ﷺ، فإن لم يكن في سنة النبي ﷺ فادع أهل الرأي ثم اجتهد واختر لنفسك ولا حرج»، 
وغير ذلك من الشواهد. 

فالحديث صحيح درايةً، خاصة وأن الصحابي الذي هو محور الأمر رمز للعلم والفتوى في الأمة، لكن تُكُلِّم في إسناده من جهة الرواية، قالوا إسناده ضعيف لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو، قالوا مجهول. وقد قوَّاه وقال بصحته غير واحد من أهل العلم منهم الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في "السنن" بإيراد الشواهد، والإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، والإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" وإمام الحرمين الجويني في "البرهان"، والإمام الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره" وجوَّد إسناده،  والإمام الحافظ الشوكاني في جزء مفرد خصصه لدراسة هذا الحديث، أشار إليه هو في "فتح القدير"، ونقل الحافظ في "التلخيص" عن أبي العباس ابن القاص الفقيه الشافعي تصحيحه، وكذلك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، وابن القيم في "إعلام الموقعين"، وخلق كثير من أهل العلم الذين لا يجتمعون على ضلالة.
وأجابوا عن دعوى جهالة الحارث بن عمرو بأنه ليس بمجهول العين لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: «إنه ابن أُخي المغيرة بن شعبة»، ولا بمجهول الوصف لأنه من كبار التابعين، وثقه ابن حبان ولم ينقل أهل الشأن جرحًا مفسرًا في حقه، والشيوخ الذين روى عنهم هم أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولًا، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة لكثرتهم، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحدًا، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والصدق بالمحل الذي لا يخفى، وقد خرج الإمام البخاري الذي اشترط في جامعه الصحة حديث عروة البارقي: «سمعت الحي يحدثون عن عروة»، ولم يكن ذلك الحديث في المجهولات، وغير ذلك كما قال الإمام مالك في "القسامة": «أخبرني رجل من كبراء قومه»، وفي "صحيح مسلم" «عن ابن شهاب حدثني رجال عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمثل حديث معمر: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط"». 

وقال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": «إن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها».

وقال شمس الحق في "عون المعبود": «وللحديث شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، أخرجها البيهقي في "سننه" عقب تخريج هذا الحديث تقوية له».

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": «فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم. وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذَّاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك. كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. ‏قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله ﷺ "لا وصية لوارث"، وقوله في البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته"، وقوله "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع"، وقوله "الدية على العاقلة"، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما نقلها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له»
فشهرته كما قال الأئمة والحفاظ تغني عن الإسناد وهذا معلوم عن الحديث المشهور، فضلا عن أن كثرة الشواهد عليه ترقيه لدرجة لا ينزل فيها عن رتبة الحسن، هذا إن لم يكن صحيحًا لغيره. فالحديث صحيح دراية رواية وقد جزم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني بصحته ووروده في الصحاح على ما توفرت لديه من نسخها آنذاك. 

هذا الحديث العظيم والأصل الكبير في الفقه والفتيا قد يكون مثالا على الغلو في علم مصطلح الحديث الذي هو علم حادث في الأمة لم يكن على عهد النبي ﷺ، فهو من البدع الحسنات،  الغاية منه ضبط المنسوب إلى سنة رسول الله ﷺ وليس نفيها أو بترها، لذا ينبغي تقديم روح العلم والغاية منه على مجرد تطبيق القواعد الحديثية فإن هناك كثير من القرائن عند اصطحابها ترجح الكفة عند الظنون إذ أن هذا العلم فيه كثير من الظنيات التي يحترز بها فالكذاب مثلا قد لا يكذب في كل ما يقول بدليل قول رسول الله ﷺ عن الشيطان: «صدقك وهو كذوب»، والصدوق الذي يخطئ مؤكد أنه لا يخطئ في كل شيء، وكذلك الصدوق الذي يهم فإنه بلا شك لا يهم في كل شيء وإلا تركوه، وهكذا.

السبت، 18 نوفمبر 2023

هل تارك الصلاة تهاونا كافر؟‼

هل تارك الصلاة تهاونا كافر؟‼
في البداية إن مهمل صلاته والمتهاون فيها والمتكاسل ما كان ينبغي بالأساس أن يسمى (تاركًا للصلاة) اللهم إلا اصطلاحًا، لأن عبارة (تَرَك فلان الشيء) تعني انصرف عنه أو صرف النظر عنه، وبمعنى خلاه أو تخلى عنه، وبمعنى فارقه، ومنه تركة الميت أي ميراثه الذي فارقه وخلاه إلى غير رجعة كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)، أي فارقه إلى غير رجعة، وهذا المعنى كثير في القرءان الكريم كما في قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، وقوله تعالى: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، وقوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ)، وغيره كثير. فالترك من معانيه الظاهرة المفارقة إلى غير رجعة، والراوي المتروك مثلًا لا يُرجع إلى الرواية عنه مطلقًا، ولذا فالترك لا يصف حال المهمل صلاته، الذي يضيعها بالتكاسل والتهاون، فيصلي حينًا ويتكاسل عنها حينًا، لكن الترك يناسب من يهجرها  جحودا وردة كالملاحدة أعاذنا الله تعالى. لذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن تركها) فمحمول على من فارقها إلى غير رجعة جحودا وإنكارًا، وهذا الذي يتسق مع  النصوص الشرعية الأخرى ذات العلاقة.
              
وهذا التفصيل الشرعي مهم لمعرفة حال تارك الصلاة تمهيدًا لنصحه، فالدعوة إلى الله مشروطة بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى:
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة النحل: 125]
            
إن التهاون في الصلاة إثم عظيم وكبيرة من الكبائر، فالصلاة هي الركن الأول بعد الشهادتين، وهي عماد هذا الدين، وهي من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها، وأوثق  صلة فعلية بالله في اليوم والليلة، والتهاون فيها إثم عظيم ومغضبة لله تبارك وتعالى كما قال في كتابه الحكيم: 
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [سورة مريم: 59]

ولحكم تاركها وجهان: 
١/ جحودًا وإنكارًا فهذا كافر مرتد باتفاق العلماء، ويلحق بذلك الحكم من تركها في الصدر الأول والنبي ﷺ بين ظهرانيهم، والصحابة والخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم متوافرون، وذلك لأن العصر النبوي والقرن الأول الهجري هو أفضل عصور الإسلام، فالدين في أشده والدعوة في أوجها، فمن تهاون في الصلاة في ذلك العصر فهو بلا شك إما منافق أو كافر مرتد لأنها كانت شعار الإسلام إذ كانت تؤدى في جماعة فمن يتخلف عنها يكون محل تهمة، وعلى هذا يحمل قول النبي ﷺ: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة»، وقوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، فالضمير في قوله «وبينهم» يعود إلى فئة أخرى غير المسلمين وهي فئة المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر، يؤيده ما اخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح أن رجلًا من الأنصار أتى رسول الله ﷺ وهو في مجلس فسارَّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله ﷺ فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، قال الأنصاري : «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» فقال رسول الله ﷺ: «أليس يشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» قال: «أليس يصلي؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا صلاة له» فقال رسول الله ﷺ: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» فدل على أن المنافق إن كان يصلي فليس عليه من سبيل لكن إن ترك الصلاة فقد أظهر نفاقه، ويؤيده أيضا قول سيدنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين»، وفي رواية لمسلم: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
ولا يخفى أن تاركها في الصدر الأول ليس كالمتهاون فيها اليوم بعد 1400 عامًا، وقد وهن المسلمون، وضعف الإلتزام، وكثر الجهل وتراجعت التربية الإسلامية المطلوبة.

٢/تهاونا، وتكاسلا وجهلًا فمذهب الجمهور أنه لا يكفر، وهذا مذهب الشافعية والحنفية ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، وذكر الإمام النووي في المجموع أنه مذهب الأكثرين من السلف والخلف، أنه لا يكفر بترك الصلاة تهاونًا.
واستدلوا على ذلك بأدلة محكمة منها:
▪الدليل الأول: قوله تعالى في موضوعين من سورة النساء: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ} والتهاون في أداء الصلاة هو دون الشرك بالله لأنه الفاعل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
▪الدليل الثاني: قوله ﷺ عن المفرط في أداء الصلوات المكتوبات على وجههن: «إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، فعن عبادة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد، من أداهن وصلاهن بركوعهن وخشوعهن ووضوئهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يفعله لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والحديث رواه أصحاب السنن، وقال النووي في المجموع: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، فهو حديث صحيح، وفيه قوله: «ومن لم يفعل لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والكافر لا يغفر الله له.
▪الدليل الثالث: حملوا ظاهر قوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وما شابهه من نصوص على الجحود والإنكار والنفاق كما تقدم، ولمعارضتها النصوص الثابتة أعلاه. 
▪الدليل الرابع: تقدم أن الترك يعني المفارقة إلى غير رجعة وهذا يكون حال الجاحد لوجوبها المتعمد لتركها إنكارًا، وليس المتهاون المتكاسل أو الجاهل، ويؤيده ان المسلم قد تفوته الصلاة ولا يؤديها في وقتها لعذر شرعي ولا يعتبر بذلك تاركًا لها، كالمستحاضة من النساء مثلا، أو كالنائم حتى يستيقظ لما صح عنه ﷺ أنه قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»، وقوله ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا وقت لها إلا ذلك»، أو كالمريض لذي فقد وعيه وغير ذلك، فلذا فالترك المراد في الأحاديث المشار إليها محمول على الجحود والإنكار. 
▪الدليل الخامس: عموم أحاديث الرجاء كقوله ﷺ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل»[متفق عليه]، وفي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم عليه النار»، وفي الصحيحين أيضا: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار»، وقوله ﷺ: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة»، ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وغيرها، فلم يشترط لدخول الجنة شيئًا آخر غير الشهادتين، لم يشترط الصلاة ولا غيرها، فدل على أن تارك الصلاة تهاونًا لا يكفَّر وأنه يستحق دخول الجنة بالشهادتين إن مات عليهما.
▪الدليل السادس: نجاة قائلي (لا إله إلا الله) مع عدم علمهم بالصلاة، فقد روى ابن ماجه وغيره عن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ والعجوز يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها. فقال صلة بن زفر -أحد رواة الحديث- لـحذيفة: يا حذيفة! ما تنفعهم: لا إله إلا الله؟! فسكت، فأعادها عليه ثلاثًا فقال حذيفة رضي الله عنه: يا صلة! تنجيهم من النار»، والحديث رواه ابن ماجه، وقال الحافظ البوصيري: «إسناده صحيح رجاله ثقات»، وقوى إسناده الحافظ ابن حجر، فهو سند صحيح، وفيه قول حذيفة رضي الله عنه: «تنجيهم من النار»، يعني مع أنهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، فدل هذا على أن تارك الصلاة جاهلًا أو متهاونًا لا يكون بذلك كافرًا.
▪الدليل السابع: حملوا الكفر المذكور في أحاديث ترك الصلاة في حق المسلم على كفر النعمة لما في أداء الصلاة من الخير والنعمة كقوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، وقول رسول الله ﷺ: «أرحنا بها يا بلال» وغير ذلك، فمن يتهاون فيها فكأنما جحد نعمة عظيمة، وقيل لأن ذلك التهاون قد يئول بفاعله إلى الكفر كما قيل: «المعاصي بريد الكفر»، وقيل إن فعله فعل الكفار.