هل تارك الصلاة تهاونا كافر؟‼
في البداية إن مهمل صلاته والمتهاون فيها والمتكاسل ما كان ينبغي بالأساس أن يسمى (تاركًا للصلاة) اللهم إلا اصطلاحًا، لأن عبارة (تَرَك فلان الشيء) تعني انصرف عنه أو صرف النظر عنه، وبمعنى خلاه أو تخلى عنه، وبمعنى فارقه، ومنه تركة الميت أي ميراثه الذي فارقه وخلاه إلى غير رجعة كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)، أي فارقه إلى غير رجعة، وهذا المعنى كثير في القرءان الكريم كما في قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، وقوله تعالى: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، وقوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ)، وغيره كثير. فالترك من معانيه الظاهرة المفارقة إلى غير رجعة، والراوي المتروك مثلًا لا يُرجع إلى الرواية عنه مطلقًا، ولذا فالترك لا يصف حال المهمل صلاته، الذي يضيعها بالتكاسل والتهاون، فيصلي حينًا ويتكاسل عنها حينًا، لكن الترك يناسب من يهجرها جحودا وردة كالملاحدة أعاذنا الله تعالى. لذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن تركها) فمحمول على من فارقها إلى غير رجعة جحودا وإنكارًا، وهذا الذي يتسق مع النصوص الشرعية الأخرى ذات العلاقة.
وهذا التفصيل الشرعي مهم لمعرفة حال تارك الصلاة تمهيدًا لنصحه، فالدعوة إلى الله مشروطة بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى:
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة النحل: 125]
إن التهاون في الصلاة إثم عظيم وكبيرة من الكبائر، فالصلاة هي الركن الأول بعد الشهادتين، وهي عماد هذا الدين، وهي من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها، وأوثق صلة فعلية بالله في اليوم والليلة، والتهاون فيها إثم عظيم ومغضبة لله تبارك وتعالى كما قال في كتابه الحكيم:
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [سورة مريم: 59]
ولحكم تاركها وجهان:
١/ جحودًا وإنكارًا فهذا كافر مرتد باتفاق العلماء، ويلحق بذلك الحكم من تركها في الصدر الأول والنبي ﷺ بين ظهرانيهم، والصحابة والخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم متوافرون، وذلك لأن العصر النبوي والقرن الأول الهجري هو أفضل عصور الإسلام، فالدين في أشده والدعوة في أوجها، فمن تهاون في الصلاة في ذلك العصر فهو بلا شك إما منافق أو كافر مرتد لأنها كانت شعار الإسلام إذ كانت تؤدى في جماعة فمن يتخلف عنها يكون محل تهمة، وعلى هذا يحمل قول النبي ﷺ: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة»، وقوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، فالضمير في قوله «وبينهم» يعود إلى فئة أخرى غير المسلمين وهي فئة المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر، يؤيده ما اخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح أن رجلًا من الأنصار أتى رسول الله ﷺ وهو في مجلس فسارَّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله ﷺ فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، قال الأنصاري : «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» فقال رسول الله ﷺ: «أليس يشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» قال: «أليس يصلي؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا صلاة له» فقال رسول الله ﷺ: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» فدل على أن المنافق إن كان يصلي فليس عليه من سبيل لكن إن ترك الصلاة فقد أظهر نفاقه، ويؤيده أيضا قول سيدنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين»، وفي رواية لمسلم: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
ولا يخفى أن تاركها في الصدر الأول ليس كالمتهاون فيها اليوم بعد 1400 عامًا، وقد وهن المسلمون، وضعف الإلتزام، وكثر الجهل وتراجعت التربية الإسلامية المطلوبة.
٢/تهاونا، وتكاسلا وجهلًا فمذهب الجمهور أنه لا يكفر، وهذا مذهب الشافعية والحنفية ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، وذكر الإمام النووي في المجموع أنه مذهب الأكثرين من السلف والخلف، أنه لا يكفر بترك الصلاة تهاونًا.
واستدلوا على ذلك بأدلة محكمة منها:
▪الدليل الأول: قوله تعالى في موضوعين من سورة النساء: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰلِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ} والتهاون في أداء الصلاة هو دون الشرك بالله لأنه الفاعل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
▪الدليل الثاني: قوله ﷺ عن المفرط في أداء الصلوات المكتوبات على وجههن: «إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، فعن عبادة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد، من أداهن وصلاهن بركوعهن وخشوعهن ووضوئهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يفعله لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والحديث رواه أصحاب السنن، وقال النووي في المجموع: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، فهو حديث صحيح، وفيه قوله: «ومن لم يفعل لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والكافر لا يغفر الله له.
▪الدليل الثالث: حملوا ظاهر قوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وما شابهه من نصوص على الجحود والإنكار والنفاق كما تقدم، ولمعارضتها النصوص الثابتة أعلاه.
▪الدليل الرابع: تقدم أن الترك يعني المفارقة إلى غير رجعة وهذا يكون حال الجاحد لوجوبها المتعمد لتركها إنكارًا، وليس المتهاون المتكاسل أو الجاهل، ويؤيده ان المسلم قد تفوته الصلاة ولا يؤديها في وقتها لعذر شرعي ولا يعتبر بذلك تاركًا لها، كالمستحاضة من النساء مثلا، أو كالنائم حتى يستيقظ لما صح عنه ﷺ أنه قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»، وقوله ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا وقت لها إلا ذلك»، أو كالمريض لذي فقد وعيه وغير ذلك، فلذا فالترك المراد في الأحاديث المشار إليها محمول على الجحود والإنكار.
▪الدليل الخامس: عموم أحاديث الرجاء كقوله ﷺ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل»[متفق عليه]، وفي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم عليه النار»، وفي الصحيحين أيضا: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار»، وقوله ﷺ: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة»، ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وغيرها، فلم يشترط لدخول الجنة شيئًا آخر غير الشهادتين، لم يشترط الصلاة ولا غيرها، فدل على أن تارك الصلاة تهاونًا لا يكفَّر وأنه يستحق دخول الجنة بالشهادتين إن مات عليهما.
▪الدليل السادس: نجاة قائلي (لا إله إلا الله) مع عدم علمهم بالصلاة، فقد روى ابن ماجه وغيره عن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ والعجوز يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها. فقال صلة بن زفر -أحد رواة الحديث- لـحذيفة: يا حذيفة! ما تنفعهم: لا إله إلا الله؟! فسكت، فأعادها عليه ثلاثًا فقال حذيفة رضي الله عنه: يا صلة! تنجيهم من النار»، والحديث رواه ابن ماجه، وقال الحافظ البوصيري: «إسناده صحيح رجاله ثقات»، وقوى إسناده الحافظ ابن حجر، فهو سند صحيح، وفيه قول حذيفة رضي الله عنه: «تنجيهم من النار»، يعني مع أنهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، فدل هذا على أن تارك الصلاة جاهلًا أو متهاونًا لا يكون بذلك كافرًا.
▪الدليل السابع: حملوا الكفر المذكور في أحاديث ترك الصلاة في حق المسلم على كفر النعمة لما في أداء الصلاة من الخير والنعمة كقوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، وقول رسول الله ﷺ: «أرحنا بها يا بلال» وغير ذلك، فمن يتهاون فيها فكأنما جحد نعمة عظيمة، وقيل لأن ذلك التهاون قد يئول بفاعله إلى الكفر كما قيل: «المعاصي بريد الكفر»، وقيل إن فعله فعل الكفار.