الثلاثاء، 19 يناير 2021

التوسل بالذوات المباركة والأعمال الصالحة

 الوسيلة هي «الفعيلة» من قول القائل: «توسلت إلى فلان بكذا»، بمعنى: «تقرَّبت إليه»، ومنه قول عنترة:

إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ××× إِنْ يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبي 

يعني بـ«الوسيلة»، القُرْبة، جمعها وسائل أي القربات ومنه قول الآخر: 

إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ××× وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ

التوسل شرعًا هو التقرب إلى الله عز وجل بما يحب ويرضى من الوسائل والقربات كما قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوۤا۟ إِلَیۡهِ ٱلۡوَسِیلَةَ)، وهي إما أعمال صالحة يحبها الله تبارك وتعالى، أو ذوات مقربة لها عند الله تبارك وتعالى منزلة وشأنًا. 

أما التوسل بالأعمال فكما في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». 

وأما التوسل بالذوات المقربة عند الله عز وجل فيكون بدعاء الله تبارك وتعالى بحق منزلتها وقربها عنده عز وجل كما قال تعالى: (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ یَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِیلَةَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ) أي يتوسلون إلى الله عز وجل بمن هو أقرب إليه وأحب.

أخرج البخاري في صحيحه عن سيدنا أنس رضي الله عنه أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بسيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ﷺ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون»، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوسلون بذات النبي ﷺ لمنزلتها العظيمة عند الله عز وجل في الحياة وبعد الوفاة، أما التوسل به ﷺ بعد وفاته فقد ثبت بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في دلائل النبوة وصححه الحافظ في الفتح عن مالك الدار -وكان خازن سيدنا عمر رضي الله عنه على الطعام قال: “أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله، استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا»، فأتاه رسول الله ﷺ في المنام، فقال: «ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مُسْقَوْنَ، وقل له: عليك الْكَيْسَ الْكَيْسَ». فأتى الرجل عمر، فأخبره، فبكى عمر ثم قال: «يا رب ما آلو إلا ما عَجَزْتُ عنه». 

وكان توسل سيدنا عمر رضي الله عنه والصحابة رضوان الله عليهم بسيدنا العباس رضي الله عنه بعد وفاة النبي ﷺ لعدة حكم منها:

١/ أن التوسل بسيدنا العباس رضي الله عنه هو توسل ضمني برسول الله ﷺ لمكانة سيدنا العباس من النبي ﷺ، إذ يُتقرب إلى الله تبارك وتعالى بكل ما اتصل برسول الله ﷺ وكان له مكانة عنده، يؤيده قول سيدنا العباس رضي الله عنه في الاستسقاء: «اللهمَّ.. قد توجَّه القومُ بي إليك لمكاني من نبيِّك» [أخرجه الزبير بن بكار في الأنساب]، وما رواه الحاكم والبلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال: «اللهم هذا عم نبيك العباس نتوجه إليك به فاسقنا»، فما برحوا حتى سقاهم الله قال: فخطب عمر الناس فقال: «أيها الناس إن رسول الله ﷺ كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله ﷺ في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل فيما نزل بكم». وأخرج التاج السبكي في الطبقات أن سيدنا عمر خرج بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب رضى الله عَنْهُمَا يستسقى فَأخذ بضبعيه وأشخصه قَائِما ثمَّ أشخص إِلَى السَّمَاء وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نتقرب إِلَيْك بعم نبيك وقفية آبَائِهِ وَكبر رِجَاله فَإنَّك تَقول وقولك الْحق {وَأما الْجِدَار فَكَانَ لغلامين يتيمين فِي الْمَدِينَة وَكَانَ تَحْتَهُ كنز لَهما وَكَانَ أَبوهُمَا صَالحا} فحفظتهما لصلاح أَبِيهِمَا فاحفظ اللَّهُمَّ نبيك فى عَمه فقد دلونا بِهِ إِلَيْك مستشفعين ومستغفرين ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} إِلَى قَوْله {أَنهَارًا} وَالْعَبَّاس قد طَال عمر وَعَيناهُ تَنْضَحَانِ وسبابته تجول على صَدره وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْت الراعى لَا تهمل الضَّالة وَلَا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصَّغِير ورق الْكَبِير وَارْتَفَعت الشكوى وَأَنت تعلم السِّرّ وأخفى اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك قبل أَن يقنطوا فيهلكوا فَإِنَّهُ لَا ييأس من روحك إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك فقد تقرب إِلَى الْقَوْم لمكانى من نبيك عَلَيْهِ السَّلَام. فَنَشَأَتْ طريرة من سَحَاب وَقَالَ النَّاس ترَوْنَ ثمَّ تلامت واستتمت ومشت فِيهَا ريح ثمَّ هدت وَدرت فَمَا برح الْقَوْم حَتَّى اعتلقوا الْحذاء وقلصوا المآزر وخاضوا المَاء إِلَى الركب ولاذ النَّاس بِالْعَبَّاسِ يمسحون أردانه وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَك ساقى الْحَرَمَيْنِ، فأمرع الله الْحباب وأخصب الْبِلَاد ورحم الْعباد». قال السبكي: «فَهَذِهِ دَعْوَة مستجابة ببركة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم»

٢/ لأن سيدنا العباس رضي الله عنه هو من ضمن المتأثرين بالجوع والعطش فكان ذلك أدعى للقبول وأرجى للإجابة.

وقد تكلم من يجهل مشروعية التوسل بالذوات الصالحة في توسل سيدنا عمر رضي الله بسيدنا العباس رضي الله عنه وزعم أن التوسل كان بالدعاء وليس بالذات، وأن هناك محذوفَا في قول سيدنا عمر رضي الله عنه تقديره: «اللهم إنا كنا نتوسل [بدعاء] نبينا.. وإنا نتوسل إليك [بدعاء] عم نبينا» وهذا مردود من وجوه منها:

١/ مخالفته لظاهر النص من غير حاجة إلى تأويل فالذوات الصالحة يجوز التوسل بها. 

٢/ التوسل أصلًا يكون في سياق الدعاء وطلب قضاء الحاجة، فالغرض الأساسي منه هو قبول الدعاء أو الطلب، لذلك فالدعاء في حال الاستسقاء هو تحصيل حاصل. 

٣/ طلب الدعاء من ذات مباركة والاستسقاء بها هو توسل إلى الله تبارك وتعالى بحقها عنده وجاهها لديه لأن الغاية من التوسل هي قبول الدعاء وتحقق المراد.

وأخرج الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن سيدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال: «ادع الله أن يعافيني»، فقال ﷺ: «إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير لك». [وفي رواية: «وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك»]، فقال: «ادعهُ». فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفّعه فيَّ وشفّعني فيه». قال: «ففعل الرجل فبرأ». 

وقد تكلم ايضًا من يجهل مشروعية التوسل بالذوات في هذا الحديث وزعم أنه ليس توسلًا بل هو دعاء من النبي ﷺ بدليل قول الأعمى: «أدعه»، وغفل جهلًا أو عمدًا عن إرشاد النبي ﷺ للأعمى كيف يدعو الله عز وجل متوسلًا إليه بعظم قدر ذات النبي ﷺ، وهذا صريح في ألفاظ الدعاء التي علمها له المعلم الأعظم ﷺ «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي».


وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال حين يخرج إلى الصلاة: “اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت“ وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يفرغ من صلاته. [أخرجه ابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، و الطبراني في الكبير، و ابن أبي شيبة في مصنفه، وقد حسن الحديث الدمياطي في المتجر الرابح، و الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، و الحافظ ابن حجر العسقلاني في أمالي الأذكار]


وروى الحاكم في مستدركه وصححه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربِّ، أسألك بحق محمَّد لَمَا غفرتَ لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقْه؟ قال: يا رب، لأنَّك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من رُوحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِفْ إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك، فقال الله: صدقتَ يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقِّه، فقد غفرت لك، ولولا محمَّد ما خلقتك»

فالتوسل بالذوات الصالحة أحياءً أو أمواتًا مشروع، قال الإمام الشوكاني في تحفة الذاكرين: «ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين، ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن أعمى أتى النبي ﷺ فذكر الحديث ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله ﷺ وقال عمر رضي الله عنه اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا ﷺ»، وقال في الفتح الرباني: «لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه. فهذا الذي جاء إلى القبر زائرًا، ودعا الله وحده، وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك، أو المجاهدة فيك، أو التعلم والتعليم، خالصا لك، فهذا لا أتردد في جوازه».

 إن تحري الدعاء في الأزمنة المباركة كيوم الميلاد، ويوم عرفة، وليلة القدر، وفي السحر، وبين الأذان والإقامة، وفي الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، وعند نزول الغيث..وغيرها من أزمان استجابة الدعاء، وتحري الدعاء في الأمكنة المباركة كالقبر النبوي الشريف، والروضة النبوية الشريفة، والكعبة المشرفة، والمقام، وبين الصفا والمروة، وجبل عرفات، وأضرحة الصالحين،.. وغيرها من الأماكن المباركة، إن هذا التحري للدعاء في هذه الأزمنة والأمكنة المباركة هو في الحقيقة توسل، لأن الله هو الله، يسمع الدعاء ويقبله ويستجيب له في أي زمان ومكان، ولما كان التوسل هو التقرب إلى الله عز وجل والتودد إليه سبحانه رجاء الرضى والقبول والإجابة، كان تخير هذه الأزمنة والأمكنة هو تقربًا إلى الله تبار وتعالى بها وتوسلًا ببركتها. وإذا كان التوسل حاصل بالفعل ببركة الأزمنة والأمكنة المباركة والتي ما بوركت إلا بسبب إنسان صالح فمن باب أولى حصوله بذوات الصالحين الذين هم مصدر هذه البركات. فالقبر النبوي الشريف، والروضة النبوية الشريفة، والمسجد النبوي الشريف، يوم الميلاد، ويوم الإسراء والمعراج، على سبيل المثال بوركت بذات النبي ﷺ، والمقام بورك بذات سيدنا إبراهيم عليه السلام، والصفا والمروة بوركت بذات أمنا السيدة هاجر عليها السلام وهكذا، وهذا يثبت أيضًا مشروعية التوسل بالذوات الصالحة.