لاشك أن المؤمن يطيع الله ورسوله وإلا لما صح إيمانه، فهو يطيعه في الأمر بمحبة الله ورسوله، وفي أركان الإسلام، وفي أركان الإيمان، وفي العبادات والمعاملات، وغيرها من شرائع الإسلام، لكن طاعة العباد في ذلك تتفاوت حسب إيمانهم وعزائمهم ودرجة تقواهم، لكن لابد لهم من طاعة، وإلا لما كانوا مؤمنين أصلا.
لكن هل تمام الطاعة وكمال الاتباع هي الدليل على المحبة؟‼
ليس بالضرورة، فكل مؤمن مثلًا يحب الله عز وجل بلا شك، ومع ذلك فهناك مؤمنون يعصونه باقتراف بعض الذنوب، بل كان هناك مدمن خمر على عهد النبي ﷺ -والخمر هي أم الكبائر- وكان كثيرًا ما يؤتى به فيجلد. وذات يوم سبه أحد الحاضرين وقال: «ما أكثر ما يؤتى بك!»
فقال النبي ﷺ: «لا تسبوه، فوالله إني قد علمت أنه يحب الله ورسوله»[رواه البخاري]
فرغم عصيانه وإدمانه لأم الكبائر فقد شهد له رسول الله ﷺ بحب الله ورسوله ﷺ، ويالها من شهادة تؤكد أن تمام الطاعة ليس شرطًا للمحبة، وكم من منافق كان يطيع رسول الله ﷺ في ظاهره ويبغضه في باطنه! وكم من عاصٍ ومبتلى وهو يسأل الله كل حين أن يتوب عليه.
🌴🌴🌴
وقد يكون العصيان في بعض الأحيان أبلغ دليل على المحبة، فإذا كنت ومحبوبك في خطر وأمرك حبيبك أن تتركه وتنجو فهل سيهون عليك أن تفعل؟! بل ستبقى معه وتخالفه إن كان حبه متمكنًا من قلبك.
النبى صلى ﷺ فى مرضه الاخير أمر سيدنا أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة، ثم شعر النبى ﷺ يومًا من نفسه بخفة وعافية فدخل إلى المسجد فلما شعر أبو بكر رضي الله عنه بنهمة رسول الله ﷺ تراجع عن الإمامة، فأشار إليه النبي ﷺ أن أثبت مكانك، فلم يثبت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وتراجع وصلى النبى ﷺ بالناس إمامًا وصلى سيدنا أبو بكر بصلاة النبي ﷺ، وبعد الصلاة قال له النبي ﷺ: «ما منعك يا أبا بكر أن تثبت إذ أمرتك؟»، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: «ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله»، فتبسم النبى ﷺ ولم ينكر عليه.
وأيضًا عندما أصرَّ المشركون في صلح الحديبية على النبي ﷺ أن يمحو من المعاهدة عبارة «رسول الله»، قال النبي ﷺ لسيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: «أمحها يا علي»، فأبي سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه أن يمحوها وقال: «لا والله لا أمحوك أبدًا»، وما قال ذلك إلا محبة وغيرة على جناب النبي ﷺ.
☘☘☘
إن المحبة عاطفة قلبية صادقة، الدليل عليها الشوق إلى لقاء المحبوب، لذلك أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ قوله:
«إن من أشد أمتي لي 💕 حبًّا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم أن لو رآني بأهله وماله»‼
يتخلى عن كل ما يملك من الدنيا لأجل أن يلقى محبوبه ﷺ ويراه، وفي هذا دليل صريح من الحضرة المحمدية على أن علامة حب النبي ﷺ هي شدة الشوق لرؤية الجميل الجليل النبيل ﷺ.
☘☘☘
والمحبة درجات، فكلما تصاعدت وتجذرت في قلب المحب كلما زاد صدقه لمحبوبه وإخلاصه، وطاعته، والإستعداد للتضحية من أجله. فلذلك المحبة أصل وأساس والطاعة فرع منها وليس العكس، وعندما سأل أعرابي النبي ﷺ عن القيامة قائلًا: «يا رسول الله متى الساعة؟»
فتعجب النبي من جرأة السائل وقال له: «ويحك، وماذا أعددت لها؟!»
فقال: «والله ما أعددت لها من شيء يا رسول الله غير أني أحب الله وسوله»‼
فسُرَّ النبي ﷺ وتهلل وقال له: «أنت مع من أحببت»، وفي رواية: «المرء مع من أحب»[متفق عليه]
لم يقل له: "لن تنفعك المحبة لأن أعمالك وطاعتك قليلة كما تقول"، بل بشره بأنه سيكون في معية الله عز وجل ورسوله ﷺ بفضل هذه المحبة، ويالها من معية.
وقد فرح الصحابة رضوان الله عليهم ببشارة النبي ﷺ تلك فرحًا شديدًا، فقال راوي الحديث سيدنا ﺃﻧﺲ رضي الله عنه:
”ﻓﻤﺎ ﻓﺮﺣﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﺮﺣًﺎ ﺃﺷﺪ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﻓﺈﻧﻚ ﻣﻊ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺖ». ﻗﺎﻝ ﺃﻧﺲ: ﻓﺄﻧﺎ ﺃﺣﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﻭﻋﻤﺮ ﻓﺄﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﺃﻛﻮﻥ ﻣﻌﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺃﻋﻤﻞ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻬﻢ“.
فالمحبة هي الأساس والطاعة ثمرة من ثمارها، وهذا يفسر لنا لماذا أن الإسلام أوجب علينا محبة الله عز وجل وحبيبه المصطفى ﷺ أكثر من كل شيء حتى النفس! لأن ذلك هو السبيل الممهد إلى الصدق والإخلاص والتضحية وحسن الطاعة.
☘☘☘
أما قوله تعالى: {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ}[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٣١]
فيستدل به في غير موضعه، وفيه عدة مسائل منها:
▪ذكر المفسرون أن الآية نزلت في وفد النصارى الذين قدموا إلى النبي ﷺ من نجران، فأمره الله عز وجل إن كان الذي يَقولونه في عيسى من عظيم القول إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فليتبعوا رسوله سيدنا محمدًا ﷺ.
▪الإتباع هنا بمعنى التصديق والإيمان بالرسالة والدخول في دين الإسلام.
▪الآية تتناول الذين يزعمون ويدَّعون محبة الله، وليس محبة رسول الله ﷺ.
▪هذه الآية أصل كبير في أن النبي ﷺ هو باب الله عز وجل، فلو سلك الخلق إلى الله كل طريق وطرقوا له كل باب فلن يُفتح لهم حتى يأتوا من خلف النبي ﷺ كما جاء في الأثر الذي أوره ابن القيم في [جلاء الأفهام]، قال الجنيد رحمه الله تعالى، يقول الله عز وجل لرسوله ﷺ: «وعزتي وجلالي، لو أتوني من كل طريق، أو استفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك»، وقال أيضا في [طريق الهجرتين]: وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه: «الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي ﷺ فإن الله عز وجل يقول: {وعزتي و جلالي لو أتوني من كل طريق، واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك»، ولذا أخرج الإمام أحمد والبيهقي بسند حسن عن النبي ﷺ قوله: «لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»