المقدمة:
يمثل الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وقد اعتنى العلماء بنقد أسانيده ورواياته عناية عظيمة بغية الاستيثاق من الأخبار المنسوبة للنبي ﷺ. غير أن مسألة الحديث شديد الضعف شهدت في عصور متأخرة (من القرن السابع الهجري وما بعده) تقعيدًا صارمًا يقضي بردّه مطلقًا، وهو تقعيد يحتاج إلى مراجعة منهجية في ضوء النصوص الصحيحة، وعمل السلف، وقواعد الاستدلال الشرعي. ويهدف هذا البحث إلى بيان أن رد الحديث شديد الضعف على الإطلاق ليس مسلكًا منضبطًا، وأن النظر في المعنى والمقصد أصل معتبر في المنهج الإسلامي ينبغي التعويل عليه في التعامل مع الحديث النبوي الشريف.
المبحث الأول: تعريف الحديث شديد الضعف عند المتأخرين
عرف المتأخرون من المحدثين بعد القرن السادس الهجري الحديث شديد الضعف بأنه الحديث الذي فسد أصله، وظهرت فيه علة قوية تجعل صدقه مستبعدًا، بحيث لا يحتمل العمل به مطلقًا ومن أبرز سماته:
- ظهور علامات الوضع أو التحريف في السند أو المتن.
- ثبوت كذب أو وهم شديد على الراوي.
- تفرد راوٍ متروك عند أئمة النقد.
- اختلال المتن بشكل يجعل نسبته للنبي ﷺ غير محتملة.
وهذا التعريف يركّز على السند أكثر من المتن، ويغلب عليه الحكم الاصطلاحي للراوي والأسانيد دون النظر الشامل للمتن أو المعنى.
المبحث الثاني: نقد مفهوم الحديث شديد الضعف
التركيز على السند أكثر من المتن في نقد الروايات والتعامل معها بشكل حرفي يقود إلى تضييق مفرط، وإسقاط لأحاديث يمكن الاستئناس بها لمعانيها الصحيحة، فتعريف المتأخرين للحديث شديد الضعف لم يأخذ في الحسبان الفرق بين التضعيف القطعي والاحتمالي، فمن أمثلة التضعيف القطعي ثبوت الكذب في رواية من الروايات، كالحديث الموضوع مثلًا الذي ثبت وضعه أو اعترف واضعه، وبين الحديث المشكوك في وضعه لما عليه من النكارة والغرابة وآثار الوضع. فالأول قطعي لأن الكذب والاختلاق ثبت، أم الثاني فاحتمالي لأن النكارة والغرابة وما يوصف بأنه آثار للوضع ليس بالضرورة إثباتًا، فكثير من أمور الدين فيها غرابة وعجائب، وليس أدل على ذلك مما نزل به الوحي في قصة أهل الكهف وغيرها من عجائب القرآن الكريم. وكون أن الراوي كذابًا فقد لا يكون ذلك كافيًا لرد كل رواياته، فقد يصدق في بعضها، فبلا شك أن الكذاب لا يقتضي واقع الحال أنه يكذب في كل كلامه، ولا كثير الوهم مثلًا يقتضي الواقع أنه يهم في كل شيء، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال عن الشيطان: ”صدقك وهو كذوب“[رواه البخاري]، ففرق ﷺ في الكذب بين حال الراوي وبين حال الرواية، وهذا باب مهم جدًا يجب الانتباه إليه عند نقد الروايات، فيحب تحري النظر في الرواية كمتن أكثر من كسند.
وكذلك ضعف السند الشديد ليس كافيًا لرد الرواية، بل ولا ينبغي ردها إن كان لها ما يشهد لها بالصحة أو القبول، ويدل على ذلك أن النبي ﷺ أباح التحديث عن بني إسرائيل بدون النظر إلى الإسناد لانعدامه، ولو كان موجودا لكان تالفًا بل وأشد تلفًا من أي إسناد يمكن أن يوصف بأنه شديد الضعف، قال ﷺ: «بلغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»[أخرجه البخاري]، فالتعويل هنا على المتن لا السند، فمتى ما كان المعنى أو المتن محتملًا أو مقبولًا أو متوافقًا مع ديننا وما صح وثبت فإنه يجوز التحديث به، وما يتعارف عليه بشديد الضعف أولى بما لا يخفى. وفي هذا الحديث الشريف إشارة أيضًا إلى إباحة الإرسال على غير ما ذهب إليه بعض العلماء رد الأحاديث المرسلة مطلقًا واعتبارها من قسم الحديث الضعيف، فقول النبي ﷺ: ”بلغوا عني ولو آية“ فيه إشارة إلى أهمية تبليغ المتن بغض النظر عن ذكر السند أو عدمه، فما بلغ المسلم الواعي عن النبي ﷺ هو مأمور بتبليغه بإسناد أو بغير إسناد، وتبليغه بغير إسناد لا يقتضي الضعف بالضرورة، وإن كان على العلماء تحري صحته قدر المستطاع، ليس فقط من ناحية السند وإنما من المتن أيضًا وما يشهد له بالصحة.
المبحث الثالث: الفرق بين ضعف السند وصحة المعنى
ضعف الحديث –مهما بلغ– هو وصف اصطلاحي، لا يلزم منه فساد المعنى، فقد يكون المتن موافقًا لنصوص صحيحة قرآنية أو سنية، أو مندرجًا تحت أصل شرعي عام، أو معمولًا به عند السلف. وعليه، فإن إسقاط المعنى لمجرد ضعف السند الشديد هو خلطٌ بين مجال نقد السند ونقد المتن، وهو خلط لا تقره القواعد الأصولية.
المبحث الرابع: لا عصمة في أئمة الجرح والتعديل
أحكام أئمة الجرح والتعديل على الرواة اجتهادية غير معصومة، خصوصًا اذا انفردوا بالحكم ولم يفسروه أو يثبتوه، فقد تضعَّف مثلا رواية راوٍ عن شيخه لغلبة الظن أنه لم يلق شيخه هذا، لكن احتمال أنه لقي شيخه قد يكون قائمًا متى ما تعاصرا وأمكن أن يلتقيا. ومن الأمثلة الواقعية على ذلك ما أخرجه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي الأزهر، قال: ثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ”نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي فقال: "يا علي، أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي“ قال الحاكم: ”صحيح على شرط الشيخين، وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة، وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح.“
ثم قال: ”سمعت أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت أحمد بن يحيى الحلواني يقول: لما ورد أبو الأزهر من صنعاء وذاكر أهل بغداد بهذا الحديث أنكره يحيى بن معين، فلما كان يوم مجلسه، قال في آخر المجلس: أين هذا الكذاب النيسابوري الذي يذكر عن عبد الرزاق هذا الحديث؟ فقام أبو الأزهر، فقال: هو ذا أنا، فضحك يحيى بن معين من قوله وقيامه في المجلس فقربه وأدناه، ثم قال له: كيف حدثك عبد الرزاق بهذا، ولم يحدث به غيرك؟ فقال: اعلم يا أبا زكريا، أني قدمت صنعاء وعبد الرزاق غائب في قرية له بعيدة فخرجت إليه، وأنا عليل، فلما وصلت إليه سألني عن أمر خراسان، فحدثته بها وكتبت عنه، وانصرفت معه إلى صنعاء، فلما ودعته، قال لي: قد وجب علي حقك، فأنا أحدثك بحديث لم يسمعه مني غيرك، فحدثني والله بهذا الحديث لفظًا، فصدقه يحيى بن معين واعتذر إليه.“
ومثال واقعي آخر من حديث عقيقة الكبير الذي أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن المحرر، عن قتادة عن أنس، فتكلم أئمة الجرح والتعديل كالبزار والذهبي وابن عَدي، في عبد الله بن المحرر بسبب هذا الحديث، وقالوا إنه تفرد به، وإنه من بلاياه، فضعفوه وشنّعوا عليه وتركوه، لكن ثبت أنه لم يتفرد بالحديث وأنه صح براويات أخرى منها ما أخرجه أبو داود والطبراني وأبو الشيخ وغيرهم عن الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المثنى عن ثمامة، عن أنس به، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل، وهو ثقة، قال الحافظ في الفتح عن رواية أبي الشيخ الثانية: "من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل.. والهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري. فالحديث قوي الإسناد“، فقد اتهم عبد الله بن المحرر بما ليس فيه، وبسبب ذلك تركوه وضعفوا أحاديثه.
المبحث الخامس: العمل بالحديث شديد الضعف في الفضائل
الفضائل والترغيب والترهيب ليست كالأحكام ولا العقائد، فإذا كان معنى الحديث صحيحًا فليس هناك مبرر لمنع العمل به لمجرد شدة ضعفه، ما دام داخلًا في عموم الخير والطاعة، ولا يعتبر العمل به بدعة وتشريع لعبادة جديدة، فإن العبادة فيها ما هو مقيد بأحكام محددة كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها، وفيها ما هو عمل صالح قصد به وجه الله عز وجل، وهذا باب واسع، يجوز فيه التخصيص طالما أنه عمل صالح حضت عليه الشريعة بنصوص صحيحة وثابتة، ومن أمثلة ذلك إقرار النبي ﷺ سيدنا بلالًا في تخصيصه للوضوء وصلاة ركعتين كلما أحدث أو أراد أن يؤذن، فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لبلال: «يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة».
فقال بلال: «ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين»[متفق عليه]، فإقرار النبي ﷺ لهذا الفعل يدل على أن تخصيص العبادة بعد وضوء أو زمن معين ليس محظورًا شرعًا، حتى لو لم يرد نص عام على ذلك.
ومثال آخر من الصحابي الذي كان يخصص صلاته بقراءة سورة الإخلاص في كل ركعة، فاشتكاه أصحابه للنبي ﷺ فقال له: «ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟»
فقال: «إني أحبها». فقال له النبي ﷺ: «حبّك إيّاها أدخلك الجنة»[رواه البخاري]، فإقرار النبي ﷺ التخصيص في العمل الصالح ثابت في الأعمال الصالحة النفلية.
المبحث السابع: نقد تقعيد المنع المطلق
هذا التقعيد الذي جاء من المحدثين المتأخرين في القرن السابع والثامن الهجري وما تلاه، مخالف لهدي النبي ﷺ ولعمل السلف الصالح، وهو مغالاة غير موضوعية.
الخلاصة:
يخلص هذا البحث إلى أن الحديث شديد الضعف لا يُرد مطلقًا، بل يُنظر فيه من حيث:
1. صحة المعنى.
2. موافقته للأصول الشرعية.
3. مجاله: هل هو من الفضائل أو من الأحكام؟
فرد الحديث شديد الضعف لمجرد شدة ضعف السند غير مبرر إذا كان معناه صالحًا، خصوصًا في الأعمال الصالحة والفضائل، والمنهج الأقرب للصواب هو اعتبار المعنى مع سلامة الأصل، لا الاقتصار على درجة السند وحدها.