الأحد، 6 نوفمبر 2022

براءة نسل سيدنا إبراهيم عليه السلام من الآباء المشركين

 براءة نسل سيدنا إبراهيم عليه السلام من الآباء المشركين:

قال تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[سورة الأنعام: 74]

فهل كان آزر والدًا لسيدنا إبراهيم عليه السلام؟ بالطبع لا، فالأنبياء أشرف عند الله تعالى من أن يخرجهم من أصلاب نجسة وأرحام نجسة والمشركون نجس كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، فضلًا عن أن يخرج من أصلاب المشركين وأرحامهم أولي العزم من الرسل الذين هم عند الله أشرف من سائر الأنبياء، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[سورة آل عمران: 33-34]، وبموجب هذا الاصطفاء الإلهي لا يليق بالسلسلة النسبية لذرية الأنبياء عليهم السلام إلا الطهر والكرامة لأجل ذلك قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} قال أهل التفسير: ذرية بعضها من بعض في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. يؤيده ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»، وأخرج الإمام الترمذي وحسنه وأحمد البيهقي وأبو نعيم بسند جيد عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: جاء العباس رضي الله عنه إلى رسول الله ﷺ وكأنه سمع شيئًا، فقام النبي ﷺ على المنبر، فقال: «من أنا؟» قالوا: «أنت رسول الله عليك السلام»، فقال ﷺ: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا، وخيركم نفسًا»، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طرق، والسيوطي في الخصائص عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «لم يلتق أبواي في سفاح، لم يزل الله عز وجل ينقلني من أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة، صافيًا، مهذبًا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما»، وقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[سورة الشعراء: 219] أي انتقالك بين الموحدين الساجدين لله عز وجل، وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم من طريق عكرمة عن ابن عباس  رضي الله عنهما في قوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} قال: «ما زال النبي ﷺ يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه» وهذا الذي يليق بالأنبياء الأنقياء عليهم السلام وبخاتم الأنبياء والرسل وسيدهم ﷺ.


أورد مسلم بن قتيبة الدينوري في المعارف نسب سيدنا إبراهيم عليه السلام عند أهل الكتاب فقال: هو إبراهيم بن تَارَخْ -أو تَارَحْ بالمهملة، وقد يكون ذلك لتقارب النطق بين حرفي الحاء والخاء، أو تصحيفًا في النَّسْخ- بن ناحور بن أشرغ بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، قال: «هكذا قال وهب، وقابلت بهذه النسبة ما في التوراة فوجدتها موافقة، إلا أنى وجدت مكان [أشرغ] شاروغ». وذكرنا النسب من أهل الكتاب لكونهم أعلم بأنسابهم خصوصًا اليهود لكونه عليه السلام جدهم، والد سيدنا يعقوب عليهما السلام الذي يسمى إسرائيل وينتسبون إليه، ولأن النبي ﷺ أجاز التحديث عن بني إسرائيل فقال ﷺ: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، ما دام أن ما ينقل عنهم لا يناقض ما عندنا. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} قال: «إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، إنما كان اسمه تارح»، وعن مجاهد قال: «ليس آزر أبا إبراهيم»، وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح، وقال الزجاج: «ليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبى إبراهيم تارح»! وجاء في معجم تاج العروس: «وتَارَحُ، كآدَمَ: أَبو إِبراهيمَ الخَليلِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلَى نَبيّنا» وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور النسابين. 


وأسباب الخطأ باعتقاد أن آزر هو والد إبراهيم عليه السلام أولًا التقصير في تنزيه الأنبياء والرسل عليهم السلام عما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وثانيًا الخلط بين وصف الأب والوالد، فالأب كثيرًا ما يطلق على العم والجد بينما الوالد عادة ما يطلق على الأب الحقيقي الذي أنجب الولد. ثالثًا الغفلة عن الحكمة من وراء ذكر الإسم مقرونًا بصفة الأبوة، رابعًا إهمال مراعاة السياق الزماني للأحداث التي تثبت أن سيدنا إبراهيم عليه السلام تبرأ من عمه وأبيه المجازي في الشباب ودعا لوالديه وأبويه الحقيقيين في الكبر، خامسًا الغفلة عن الآثار الكثيرة التي تتكاثف لتعضد حقيقة أن آزر إنما كان عمًّا لإبراهيم عليه السلام وليس والده، وذلك من عدة وجوه منها:

1/ أن وصف الأب لا يعني بالضرورة الوالد، فالعم والجد يطلق عليهما أيضًا لفظ الأب كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[سورة البقرة: 133]، فإبراهيم عليه السلام جده، وإسماعيل عليه السلام عمه، وإسحاق عليه السلام والده ومع ذلك جاء في التنزيل: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ}، فكلهم آباء. وكذلك قول سيدنا يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِىٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ}[سورة يوسف: 38] فيعقوب عليه السلام والده بينما إسحاق وإبراهيم عليهما السلام أجداده ومع ذلك وصفوا بالآباء. وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني والطحاوي وابن عساكر وغيرهما أن رسول الله ﷺ قال عن عمه العباس رضي الله عنه: «ردُّوا عليَّ أبي, ردُّوا عليَّ أبي» وفي رواية:«إن عمَّ الرجل صِنْو أبيه»، وفي أخرى: «هذا بقية آبائي» فدل على أن العم يقال له أب. وأخرج الحاكم وغيره عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: «إن رسول الله ﷺ كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده»، ومن الشائع أن يطلق على العم أب كما يطلق على الخالة أم. لذلك فقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) ليس صريحًا في أن آزر والده لأن وصف الأب يحتمل العم والجد أيضًا، وكل الآيات التي تناولت الأحداث ومواقف سيدنا إبراهيم عليه السلام مع عمه الكافر كانت بصيغة الأبوة وهي غير صريحة في أنه والده.


2/ أن آزر هذا هو عمه لما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال: «لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى أن كانت العجوز لتجمع الحطب، فلما أن أرادوا أن يلقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما ألقوه قال الله: {يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} فقال عم إبراهيم: من أجلي دُفِعَ عنه، فأرسل الله عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته».وجاء في السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي: «أجمع أهل الكتاب على أن آزر كان عمه، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أمًّا»، ويؤيد ذلك أن سيدنا إبراهيم عليه السلام تكلم مع آزر بشيء من الحدة والشدة التي لا تكون بين الولد ووالده، فقال له: {أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} والذي يليق بالوالد: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا}، {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريمًا}، وهو الحليم الأواه،  فكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع والده، فدل على أنه لم يكن والده وإنما كان عمه.


3/ لا يؤتى بالإسم بعد صفة الأبوة عادة إلا للتمييز، فعندما يقال لك: أين أبوك؟ فإنك ستفهم أن السؤال عن والدك لأنه ذكر مبهمًا، أما إن قيل لك أين أبوك فلان فهذا يدل على أن المقصود أب مجازي آخر غير والدك. فلو أن الله تعالى قال مثلا: {وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ أصنامًا آلهة} بدون ذكر الإسم لانصرف الذهن إلى أن المراد هو الوالد والأب الحقيقي، لكن الله أتبع صفة الأبوة بذكر الإسم (آزر) فدل على أن المقصود أب مجازي آخر وليس الوالد أو الأب الحقيقي حتى لو لم يأت ذكره بالإسم في الآيات الأخرى التي نقلت الحوارات الدعوية والأحداث التي ربطت سيدنا إبراهيم عليه السلام بعمه. وقد أُثبٍت الإسم أيضًا في السنة المطهرة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «يلقى إبراهيم أباه [آزر] يوم القيامة، وعلى وجه [آزر] قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: {إني حرمت الجنة على الكافرين}» الحديث، فميز رسول الله ﷺ أباه بذكر اسمه ما يدل على أنه ليس والده وأباه الحقيقي، ثم هناك إشارة أخرى في الحديث وهي قوله: «من أبي الأبعد»، حيث يستخدم وصف الأقرب والأبعد كثيرًا في النسب والمواريث، فالأب الأقرب هو الوالد والأبعد هو العم أو الجد، جاء في لسان العرب: «وَيُقَال فلَان قصير النّسَب إِذا كَانَ أَبوهُ مَعْرُوفًا إِذا ذكره الابْن كَفاهُ عَن الانتماء إِلَى [الْجد الْأَبْعَد]» فاستخدمت عبارة [الجد الأبعد] في سياق النسب دلالة على أنه ليس والده.


4/ يدل السياق الزماني لقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام أن دعوته لعمه آزر ومحاججته لقومه إنما كانت أيام الشباب عندما كان فتىً، وهي الفترة التي كاد فيها أصنامهم وأقام عليهم بذلك الحجة على رؤوس الأشهاد، كما قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} فعندما وجدوا أن آلهتهم قد أهينت {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وهنا عبارة صريحة بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام وكان فتىً في سن الشباب: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، فطلبوا أن حضوره ليوبَّخ أمام جميع الناس على ما فعله بآلهتهم: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} وعندما أحضروه، جعلوا يستجوبونه ويستوضحونه فعلته وهو يرد عليهم بالحجة والبرهان حتى حيرهم: {قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ليثبت لهم أنها جمادات لا تنطق، وهنا وقع الحق وبطل ما كانوا يفترون: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ} ثم اعترفوا له بعجز أصنامهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، فأثبت لهم ضلالهم الذي هم فيه: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ؟ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، فعندما أقام الحجة عليهم وأفقدهم صوابهم عدلوا عن الجدال والمناظرة ولم يبقَ لهم إلا استعمال القوة والسلطان لينتصروا لباطلهم وينصروا أصنامهم: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}. 

ثم عمد إلى دعوة عمه هذه المرة بالرفق واللين طمعًا في أن يسلم بعد أن أظهر له من الحجة والبرهان في المناظرة التي كانت على رؤوس الأشهاد ما فيه الكفاية، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ [لِأَبِيهِ] يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[سورة مريم: 43-45]، لكن عمه استكبر وأبى وقابله بالكفر والإنكار كما جاء في التنزيل: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، فتوعده بالرجم والإيذاء وطرده، لكن سيدنا إبراهيم عليه السلام قابله بالحسنى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} فوعده أن يدعو له ويستغفر، وعزم على أن يتركهم وشأنهم، ويعتزل قومًا أبوا الحق بعد أن ظهر جليًّا: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}. لكن قومه كانوا قد عزموا على التخلص منه عليه السلام،  فشرعوا يجمعون حطبًا من جميع الأماكن، ومكثوا مدة يجمعون له ما يستطيعون من الحطب، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبًا لإحراق إبراهيم عليه السلام، فجمعوا حطبًا عظيمًا وأشعلوا فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط، ثم أوثقوه وجعلوه في منجنيق ورموه في النار ليحرقوه ويتخلصوا منه، كما جاء في سورة الأنبياء: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}، فنجاه الله من كيدهم ونصره عليهم وأظهر قدرته الجلية عز وجل فلم تأكل النار إلا وثاقه، وقيل مكث أربعين يومًا هي من أطيب الأيام والليالي التي عاشها في الدنيا. 

ومما يدل أيضًا في هذا السياق على أن والديه وأبويه الحقيقيين كانا مؤمنين على خلاف عمه الكافر ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم» وهذا ثناء على الله عز وجل لا يكون إلا من مؤمن، وروي عنه أيضًا رضي الله عنه: «أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته: يا بني إني أريد أن أجيء إليك، فادعُ الله أن ينجيني من حر النار حولك، فقال: نعم. فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته، ثم عادت»، فلو لم تكن مؤمنة وحانية على ولدها لأحرقتها النار، فدل على إيمانها مع أنه لم يكن بمقدورهما -والدته ووالده- أن يدفعا عنه أذى قومهما لكنهما تفاعلا معه وسعدا بما أكرمه به ربه عز وجل، وهذا أقصى ما يستطيعان. بعد حادثة محاولة الإحراق التي ظاهر فيها عمه قومه على ابن أخيه تبين لسيدنا إبراهيم عليه السلام بأن عمه آزر عدو لله، لذلك تبرأ منه وترك الإستغفار له، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[سورة التوبة: 113-114].

ثم تزوج سارة التي كانت تصغره بعشر سنوات وكانت عاقرًأ، وهاجر مع والده تارخ إلى أرض كنعان (الشام) كما ذكر ابن كثير وغيره من أهل التاريخ، وهذا يدل على أنه هاجر مع والده المؤمن واعتزل عمه الكافر تصديقًا لقوله عليه السلام في سورة الأنبياء {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}. فتزوج السيدة هاجر بناءً على رغبة سارة في الولد، وأنجب من السيدة هاجر رضي الله عنها سيدنا إسماعيل عليه السلام وأسكنهما بالحجاز حيث بنى هو وولده إسماعيل عليه السلام الكعبة المشرفة، ثم عافى الله سارة فأنجبت له سيدنا إسحاق عليه السلام ويعقوب من بعده، فذكر نعم الله عليه وهو في أواخر عمره ودعا لوالديه بالخير، ويدل السياق على أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه المجازي في شبابه، بينما دعا واستغفر لأبويه الحقيقيين في كبره وأواخر عمره، وللتفريق بينهما جاءت صيغة الدعاء بلفظ [والدي] وليس [أبوي] أو [أبي] كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[سورة إبراهيم: 39-40] فجاءت الآيات صريحةً في الدعاء كان على الكِبَر، وأن ذلك كان بعد أن هاجر إلى الحجاز، وذكر والديه في زمرة المؤمنين، وربط دعاءه بيوم الحساب، فدل على أن حديث تعذيب آزر الوارد في صحيح البخاري وغيره لا يشمل تعذيب والديه الحقيقيين لكونها مغفور لهما يوم يقوم الحساب.


والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم