في الحلف برسول الله ﷺ وما اتصل بالله عز وجل:
الأصل في القسم والحلف بالأشياء تعظيمها، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته ليظهر للناس عظمتها مع استغنائه سبحانه وتعالى عنها وعن الإقسام بها، لكن تعارف الناس قبل الإسلام وبعده على الحلف بالأشياء التي يعظمونها بحيث ينعقد يمينهم بالحلف بها ويعز عليهم الحنث لعظمتها، لذلك فإن الأصل في الحلف يكون بالله عز وجل لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، والحلف بغير الله بشكل عام لا خلاف بين الفقهاء بأنه منهي عنه، لكن في مرتبة هذا النهي اختلاف، فالحنابلة قالوا: إنه حرام إلا الحلف بالأمانة، فإن بعضهم قال فيها بالكراهة، والحنفية قالوا: مكروه تحريمًا، والمعتمد عند المالكية والشافعية أنه مكروه تنزيهًا، وسبب هذا الإختلاف هو الجمع بين النصوص المختلفة التي صدرت عن حضرة النبي ﷺ في الحلف وسياقاتها الموضوعية، واتصال من حُلِفَ به بالله عز وجل فإن لذلك استثناءات في الحكم ظاهرة، فاختلف الفقهاء مثلًا في الحلف بالأنبياء عليهم السلام، فذهب جمهورهم إلى كراهة الحلف بالأنبياء، وذهب آخرون كالحنابلة إلى التحريم ولا تنعقد بها يمين باستثناء الحلف برسول الله ﷺ، فإمام المذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى استثنى الحلف برسول الله ﷺ، لذا ينعقد بها اليمين كالحلف بالله عز وجل، قال ابن قدامة في المغني [11 / 204]:
«فصل: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا الحلف برسول الله ﷺ يمين موجبة للكفارة وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله ﷺ فحنث فعليه الكفارة قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله تعالى.»أهـ
واختلفوا أيضًا في الحلف بالمصحف الشريف، فإنه ينعقد به اليمين عند المالكية ما لم يرد بحلفه النقوش والورق، وعند الشافعية ما لم يرد به الورقه والجلد، وقال الحنابلة: الحلف بكلام الله تعالى والمصحف والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور يمين، وكذا الحلف بسورة أو آية، وذلك لأن من حلف بالمصحف فإنه يريد ما فيه من كلام الله عز وجل، بينما يرى الأحناف أنه ليس بيمين لأنه الورق والجلد وليس صفة لله تعالى ولا اسمًا له، إذًا فإن هنالك استثناءات والمسألة تحتاج إلى بيان وفهم ومراعاة لأثر النية والعُرف في الحلف. وعلى أي حال فلا إنكار في مسائل الخلاف بين العلماء كما هو معتمد في علم الأصول، فالحلف برسول الله ﷺ تنعقد به اليمين ويوجب الكفارة إن حنث به.
نهى رسول الله ﷺ عن الحلف بغير الله عز وجل خصوصًا في صدر الإسلام، حيث كان الناس آنذاك يحلفون بالآباء والأمهات لعظمتهم عندهم في الجاهلية فعندما جاء الإسلام نهاهم عن ذلك من أجل تربيتهم على تعظيم الله الواحد الأحد، ولما في الحلف بالآباء والأمهات من تعظيم جاهلي لا يقوم على أسس التقوى والإيمان، بل قد يكون الآباء والأمهات مشركين، فتعظيم الشرك والمشركين يناقض رسالة الإسلام، لذلك قال رسول الله ﷺ: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» [أخرجه البخاري ومسلم] ، وقال رسول الله ﷺ: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت». [أخرجه النسائي وابن ماجه]، وقال ﷺ أيضاً: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالاَنداد» [أخرجه النسائي]، وقال ﷺ: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» [أخرجه النسائي وأبو داود]، وروي أنه جاء سيدنا ابنَ عمر رضي الله عنهما رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: «لا، ولكن إحلف بربِّ الكعبة، فانّ عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه له: "لا تحلف بأبيك، فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك"» [أخرجه النسائي]، معلوم أن والد سيدنا عمر رضي الله عنه الخطاب بن نفيل توفي قبل البعثة بأعوام قليلة، لذلك فالحلف به يكون على ما اعتادوا عليه من تعظيم الآباء في الجاهلية لذلك نهاه رسول الله ﷺ عن ذلك. وقال ﷺ: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [أخرجه أحمد والترمذي] وهو محمول على الحلف بالأصنام والأوثان وتعظيم المشركين، وغيرها من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، والملاحظ أنها وردت بألفاظ وسياقات تشير إلى أنها ذكرت في صدر الإسلام حيث جرت العادة أن يحلفوا بالـ «الآباء»، «الأمهات»، و«الأنداد»، و«الطواغيت»، وقوله ﷺ «فقد أشرك»، ونظائرها.
أما بعد أن رسخ الإسلام في النفوس وأسلم كثير من آباء المسلمين وأمهاتهم الذين كانوا على الشرك عرفوا عظمة الله عز وجل ودينه ثبت أن رسول الله ﷺ وبعض أكابر صحابته حلفوا ببعض المخلوقين، فأخرج الإمام مسلم في صحيحه أنّه جاء رجل إلى النبي، فقال: يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: «أما [وأبيك] لتُنَبَّئنَّه، أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء».
وأخرج مسلم أيضاً في صحيحه أنه جاء رجل إلى رسول اللّه من نجد يسأل عن الاِسلام، فقال رسول اللّه «ﷺ:
«خمس صلوات في اليوم والليل»
فقال: «هل عليَّ غيرهنّ؟»
قال: «لا...إلاّ أن تطوع، وصيام شهر رمضان».
فقال: «هلّ عليَّ غيره؟»
قال: «لا... إلاّ تطوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة».
فقال الرجل: «هل عليّ غيره؟»
قال: «لا... إلاّ أن تطوّع».
فأدبر الرجل وهو يقول: «واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه».
فقال رسول اللّه ﷺ: «أفلح [وأبيه] إن صدق».
أو قال: «دخل الجنة [وأبيه] إن صدق».
والحديث صحيح ثابت لا مطعن فيه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
«وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ وأبيه لم تصح لأنها ليست في الموطأ وكأنه لم يرتضِ الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه»
وذكر روايات أخرى صحيحة، حيث قال في موضع آخر:
«وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه: "[وأبيك] ما ليلك بليل سارق" أخرجه في الموطأ وغيره، قال السهيلي: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لتنبأن أخرجه مسلم»
وقد أشكل ذلك على بعض العلماء، كيف ينهى رسول الله ﷺ عن الحلف بغير الله عز وجل ويحذر من أنه شرك أصغر ثم يثبت عنه ﷺ أنه حلف بمخلوق، بل وخليفته سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أعلم الصحابة رضوان الله عليهم؟ وبرروا ذلك بأنه مما يجري على الألسن وهذا خطأ فادح لأنه في حق النبي ﷺ محال، فالنبي ﷺ معصوم عن قول ما لا يرضي الله عز وجل فضلًا عن أن يكون من الشرك الأصغر، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وأخرج أبو داود وأحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: «اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق»، لكن يزول الإشكال إذا علم أن الحلف أصلًا مداره على نية الحالف في تعظيم ما يحلف به، فالنهي في صدر الإسلام كان خشية تعظيم الشرك المتمثل في الطواغيت والأنداد والآباء والأمهات الذين لا يدينون بالإسلام ويُعَظَّمُون تعظيم الجاهلية، بل قد يكونوا أعداءً لله ورسوله ﷺ، وانتفى ذلك بعد أن استقر الإسلام في النفوس ورسخ الإيمان، وتؤيده أحاديث الإمام مسلم عن الرجل الذي جاء يسأل عن الإسلام كان بالمدينة بدليل أن النبي ﷺ ذكر له صوم رمضان الذي فرض في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، فالحادثة لم تكن في صدر الإسلام بمكة المكرمة. وعن الرجل الذي جاء يسأل عن الصدقة، فتشريع الصدقات متأخر بعد أن رسخت العقيدة، وكذلك قصة السارق الذي سرق حلي ابنته كانت على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذا متأخر جدًا بعد عهد النبي ﷺ بالمدينة المنورة. هذه من ناحية، من ناحية أخرى فإن الحلف بما أمر الله تعالى بتعظيمه كرسول الله ﷺ: {لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، وحرمات الله كافة: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وكتابه العزيز: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِى وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ}، وعرشه المجيد: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، وشعائر دينه المقدسة: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وحرمة النفس المسلمة فقد قال رسول الله ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» [أخرجه الترمذي]، وغير ذلك، هو تعظيم لما عظمه الله عز وجل وأمر بتعظيمه، فالحلف برسول الله ﷺ مثلًا هو حلف بالله تعالى ضمنيًّا، فمثلما أن طاعة رسول الله ﷺ هي طاعة لله عز وجل: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، ومبايعة رسول الله ﷺ هي مبايعة لله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، يكون الحلف به حلف بالله عز وجل لذلك جعل الإمام أحمد بن حنبل الحلف برسول الله ﷺ حلف بالله عز وجل. فيكون ثبوت الحلف بالمخلوقين عن رسول الله ﷺ نسخ للحكم الأول، وثبوته عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه هو إظهار لفهم أعلم صحابة رسول الله ﷺ بتلك المسألة. وعليه فإن الحلف برسول الله ﷺ أو بأنبياء الله عز وجل تنعقد به اليمين على مذهب الجمهور، وكذا بأولياء الله عز وجل، فقد أخرج ابن المبارك، والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قيل: «يا رسول الله من أولياء الله؟!»، قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله»، فالحلف بمن بأولياء الله حلف بما اتصل بالله عز وجل.
والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم