استحباب صيام رجب هو مذهب جمهور أهل العلم من كافة المذاهب:
إن الصيام المفروضَ هو صيام شهر رمضان، وصيام النَّذر والكفارات، وما عدا ذلك فمُستحب، والنبي ﷺ رغَّب في صيام التطوع بمثل كما جاء في الصحيحين: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا». ومن الصيام المُستحب الصيام في الأشهر الحُرُم التي منها شهر رجب، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}[1]
والأشهر الحُرُم هي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمُحرَّم، ويستحب في هذه الأشهر الإكثار من العمل الصالح والبعد عن المعاصي، قال السلف: «العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحُرُم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن»
وذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب الصيام في شهر رجب كما يستحب صيام باقي الأشهر الحُرُم، واستدلوا على ذلك ببعض النصوص الدالة على ذلك،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم»[2] والمُحرَّم أي الأشهر الحُرُم، وعن أبي مجيبة الباهلي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له: «صُمْ من الحُرُم واترك، ثلاث مرات»[3]. وعن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما أنه: «كان يصومُ أشهرَ الحُرُم»[4]، وعن نافع أن ابنَ عمرَ رضي الله عنهما: «كان لا يكادُ يُفطرُ في أشهر الحُرُم ولا غيرها»[5].
قال الإمام الحافظ النووي في المجموع: «قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب.»اهـ.
أما في استحباب صيام شهر رجب فعن عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «هل كان رسول الله ﷺ يصوم في رجب»؟ قال: «نعم ويشرفه، قالها ثلاثًا»[6]. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: «يا رسول الله لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم في شعبان». قال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان»[7] فدل هذا الحديث الحسن على أن رجب ورمضان شهران اشتهرا في الصدر الأول بكثرة الصيام وكان الناس يغفلون عن صيام شعبان بينهما.
قال الحافظ بن حجر: «فهذا فيه إشعار بأن في رجب مشابهة برمضان، وأن الناس يشتغلون من العبادة بما يشتغلون به في رمضان، ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان. لذلك كان يصومه، وفي تخصيصه ذلك بالصوم إشعار بفضل رجب، وأن ذلك كان من المعلوم المقرر لديهم»[8]
وقال الحافظ الشوكاني: «ظاهر قوله في حديث أسامة إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم، كما يعظمون رمضان ورجبًا به»[9]
وعن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقالت: «بلغني أنك تحرِّم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله»،
فقال ابن عمر رضي الله عنهما: «أما ما ذكرتِ من رجب فكيف بمن يصوم الأبد؟!»[10]، قال الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم:«أما جواب ابن عمر –رضي الله عنهما- في صوم رجب فإنكار منه لما بلغها عنه من تحريمه، وإخبارٌ بأنه يصوم رجبًا كله، وأنه يصوم الأبد، والمراد بالأبد ما سوى أيام العيدين والتشريق، وهذا مذهبه ومذهب أبيه عمر بن الخطاب وعائشة وأبي طلحة –رضي الله عنهم- وغيرهم من سلف الأمة، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر»أهـ. وفيه دليل على استنكار السيدة أسماء رضي الله عنها لتحريم صيام شهر رجب كله فضلًا عن صيام بعضه، وإقرار من سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه ليس ممن ينكر ذلك، بل وممن يصومه كله، وهذا أنموذج لفهم الصحابة رضوان الله عليهم لصيام شهر رجب.
وقال الحافظ ابن حجر: «وروينا في كتاب [أخبار مكة] لأبى محمد الفاكهي، بإسناد لا بأس به، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا تتخذوا رجبًا عيدًا، ترونه حتمًا مثل شهر رمضان، إذا أفطرتم منه صمتم وقضيتموه"»[11].
وعن عطاء: «كان ابن عباس، ينهى عن صيام رجب كله، ألا يتخذ عيدًا)»[12].
وفيه دليل على شيوع صيام رجب عند الصحابة رضوان الله عليهم وأن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كره تشبيهه برمضان فنهى أن يصام حتمًا كما يصام رمضان ولا يقضون ما أفطروه.
فيثبت مما تقدم استحباب صوم شهر رجب وهو مذهب الجمهور من أهل العلم من كافة المذاهب، قال المرداوي في الإنصاف: «وأما صيام بعض رجب، فمتفق على استحبابه عند أهل المذاهب الأربعة لما سبق، وليس بدعة، ثم إن الراجح من الخلاف المتقدم مذهب الجمهور لا مذهب الحنابلة.»أهـ
المراجع:
[1] سورة التوبة، آية رقم 36.
[2] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
[3] أخرجه أبو داود والإمام أحمد وابن سعد والبيهقي في السنن.
[4] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح.
[5] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح.
[6] أخرجه أبو الحسن الربعي في "فضائل رجب"، والحافظ القسطلاني في "المواهب اللدنية"، وقال الحافظ السيوطي في "جامع الأحاديث": رجاله كلهم ثقات.
[7] أخرجه النسائي بسند جيد وأبو داود وابن خزيمة وصححه.
[8] مواهب الجليل للرعيني.
[9] نيل الأوطار.
[10] صحيح الإمام مسلم.
[11] مواهب الجليل للرعيني.
[12] أخرجه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح.