الأربعاء، 23 مارس 2016

توقير المشائخ والعلماء

قال الله تبارك وتعالى: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59]، وقال تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] وقال تعالى: (بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49]
في الحث على أخذ العلم من أهل الدراية والمعرفة والخبرة أمر الدين. قال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم، دين، فلينظر الرجل، عمن يأخذ دينه" رواه مسلم.
وإن للعلماء فضل، فهم ورثة الأنبياء عليهم السلام لما رواه أهل السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم: رواه الترمذي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا من لم يجلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه"، رواه أحمد والترمذي.

لذلك يجب اتخاذ الشيخ والمرشد، الخبير العالم الذي يدلك على الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه)، ولقد كان في تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرءان عن جبريل عليه السلام التشريع والسنة في اتخاذ المشائخ، ولقد كان أئمة السلف والخلف على ذلك إلى أن جاء عصر التلقي عن الكتب والأشرطة ومواقع الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي فضاعت أخلاق العلم في طلبته وكثر الجهل والفهم الخاطئ لنصوص الكتاب والسنة. قال أبو حنيفة: (دخلت البصرة وظننت أني لا أسأل عن شيء إلاَّ اجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألاَّ أفارق حماد حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة).

وإن لطالب العلم آدابًا يجب أن يتحراها حتى يظفر بمراده من طلب العلم استقيت من تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم وتوقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من تعظيم الصحابة وتوقيرهم للعلماء منهم، فسار السلف على ذلك. من تلك الآداب الإحترام والتوقير والإجلال، والتذلل لأهل العلم والفضل، والصبر على صحبتهم والتجاوز عن زلاتهم، وعدم مضايقتهم بالإسئلة قبل أن يحين زمان شرحها وتفسيرها، والتزام أمره وكتم سره، وغير ذلك من الآداب التي قررها أهل العلم. قال المناوي في فيض القدير: ("البركة مع أكابركم" المجربين للأمور، المحافظين على تكثير الأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم، وتهتدوا بهديهم)، رويَ عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً وموقفاً أنه قال: (تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولمن تعلمونه، ولا تكونوا جبابرة العلماء) جامع بيان العلم لابن عبد البر.

ومن الأدلة الصريحة في احترام العلماء وأهل الديانه ما أخرجه البخاري عن سيدنا عروة بن مسعود في زمان صلح الحديبية إذ قال لقريش: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له"، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.

ولنا أيضًا في قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر عليهما السلام الدروس والعبر في تلك الآداب المهمة.
فقال له موسى عليه السلام: "قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا"، قال القرطبي: "هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل، المبالغ في حسن الأدب". فذكره بأن الأمر يتطلب صبرًا وأناةً فقال له: "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟"، والتزم له موسى عليه السلام ببذل الوسع في الطاعة فقال: "ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرًا"، ثم ذكره بأدب التلميذ في حضرة شيخه أن يصبر إلى أن يبدي له الشيخ الأمر، فإنه أعلم وأدرى وأعرف بالزمان المناسب لشرح المسائل، فقال: "فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا"، أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، لا تفسره أنت من تلقائك طالما علمت أني عليم خبير. قال القرطبي: "وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة" لأنه بخلاف ذلك ستنفض الصحبة ويفقد الطالب فرصة ثمينة في التعلم. وحصل ما كان يتوقع الخضر عليه السلام من كثرة اعتراضات سيدنا موسى على ما لم يعلم، فكان الفراق بينهما قبل أن يأخذ كفايته من العلم.
لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب) أخرجه مسلم.
وفي هذه الآيات كثير من الآداب التي يجب أن يرعاها التلميذ مع شيخه.

ولقد كان سلفنا الصالح أكثر حرصًا على توقير العلماء واحترامهم، فعن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوماً، فأخذ ابن عباس بركابه فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. أخرجه ابن سعد في الطبقات وجود إسناده الحافظ في الفتح.

وعن الأعمش قال: (كنا نهاب إبراهيم –النخعي– كما يُهاب الأمير) تذكرة الحافظ.

وعن أبي عبدالله المعيطي قال: (رأيت أبابكر بن عياش بمكة، فأتاه سفيان بن عيينة، فبرك بين يديه، فجعل أبوبكر يقول له: يا سفيان كيف أنت؟ يا سفيان كيف عيال أبيك؟، فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعداً) الجامع للخطيب.

وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند مُعْتَمر بن سليمان يحدثنا، إذ أقبل ابن المبارك، فقطع مُعْتَمر حديثه، فقيل له: (حدثنا)، فقال: (إنا لا نتكلم عند كبرائنا) الجامع للخطيب.

وكان عبدالرحمن بن مهدي: (لا يُتحَدَّث في مجلسه، ولا يُبرى قَلَم، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة) تذكرة الحافظ.

 وقال حرملة وهو من كبار تلاميذ الشافعي: (سمعت الشافعي يقول وذكر له أصحاب الحديث وأنهم لا يستعملون الأدب، فقال: ما اعلم أني أخذت شيئاً من الحديث، ولا القرآن، أو النحو، أو غير ذلك من الأشياء مما كنت أستفيد، إلاَّ استعملت فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله للعلم، فازددت من ذلك، حتى ربما أكون في مجلسه، فاصفح الورقة تصفحاً رقيقاً هيبة لئلا يسمع وقعها) توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس.

وقال الربيع بن سليمان، وهو كبار تلاميذ الشافعي كذلك: (والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له) مناقب الشاقفي للبيهقي.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: (لزمت هشيم أربع سنين ما سألته عن شيء إلاَّ مرتين هيبة له) تذكرة الحفاظ.

في ترجمة إبراهيم بن أبي طالب قال الإمام أحمد بن إسحاق الفقيه: (ما رأيت في المحدثين أهيب من إبراهيم بن أبي طالب، كنا نجلس كأنَّ على رؤوسنا الطير، لقد عطس أبو زكريا العنبري، فأخفى عطاسه، فقلت له سراً: لا تخف! أنت بين يدي الله) تذكرة الحفاظ.

قال إسحاق الشهيد: (كنت أرى يحي القطان يصلي العصر، ثمَّ يستند إلى أصل منارة مسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني، والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحي ابن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لأحد منهم اجلس، ولا يجلسون هيبة وإعظاماً) مناقب اللإمام أحمد لابن الجوزي.

قال أبو مصعب: (كانوا يرذُحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكنا إذا كنا عنده لا يلتفت ذا إلى ذا، قائلون برؤوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه، وكان يقول: "لا"، و"ونعم"، ولا يقال له من أين قلت ذا؟) سير أعلام النبلاء.

وعن محمد بن سيرين قال: (رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأصحابه يعظمونه ويسودونه، ويشرفونه مثل الأمير).

لما بلغ الثوري مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذي طوى –موضع بمكة– فحل سفيان رأس البعير عن القطار ووضعه على رقبته، وكان إذا مرَّ بجماعة قال: "الطريق للشيخ" سير أعلام النبلاء.

وقال إمام القراء عاصم بن أبي النجود: (ما قدمت على أبي وائل من سفر إلاَّ قَبَّلَ كَفِّي) سير أعلام النبلاء.

وقال إبراهيم بن الأشعث: (رأيت سفيان بن عيينة يقبِّل الفضيل مرتين) سير أعلام النبلاء.

وقَبَّل الإمام مسلم الإمام البخاري بين عينيه، وقال له: (دعني أقَبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله) سير أعلام النبلاء.

ولفضلهم وما يحملونه من العلم والحكمة يجب الصبر عليهم، قال بلال بن أبي بردة: (لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا) جامع بيان العلم. وقال أبو يوسف القاضي: (خمس يجب على الناس مداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتاؤل، والمريض، والمرأة، والعالم ليقتبس من علمه).

ويندب لطالب العلم قلة الأسئلة وعدم المراء، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: (وروينا من وجوه كثيرة عن أبي سلمة –وكان يجادل ويماري ابن عباس– قال: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً)، وقال الشعبي: كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علماً كثيراً)، وفي رواية كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فيخزِنُ عنه، وكان عبيد الله بن عبد الله يلاطفه، فكان يغره غراً.
وقال ميمون بن مهران: (لا تمار من هو أعلم منك، فإنك إن ماريته خزن عنك علمه، و لا يبالي ما صنعت) جامع بيان العلم.
 . وإن لهذه الصحبة النورانية آداب

وليس هنالك معصوم إلا الأنبياء، فلذلك قد تقع من الشيخ الهفوات، والهفوة هي الخطأ من العالم، ولا تسمى هفوة إلا من عالم، وقد تكون فيه بعض العيوب اليسيرة، فلا تكن الهفوات والعيوب اليسيرة سببًا في سقوطه من نظر طالب العلم بل الأولى أن يتغاضى عنها، روى السخاوي عن سعيد بن المسيب أنه قال: (ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل –يعني من غير الانبياء عليهم السلام– إلاَّ وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله اكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله).

إن للشيخ على طالب العلم فضل عظيم لو أنه يقدره، فهو يقدم العلم سخاءًا لا يطلب عليه مالًا، ويسير بتلميذه إلى أعلى المصاف، قال الشافعي رحمه الله: (الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة)، وقال شعبة: (من أخذت عنه حديثًا كنت له عبد)، وقال محمد بن واسع: (لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة).