الثلاثاء، 24 مايو 2016

لا تنسوا موتاكم!! إنهم يلوحون إليكم!

روى رجل سوداني أنه رأى في المنام الموتى في مقابر "بُـرِّي" واقفين كأنهم دمى هوائية تلوِّح عن طريق هواء يضخ من أسفل، يلوحون طلبًا للعون والمساعدة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الميت في قبره إلا كالغريق المستغيث ينتظر دعوة تلحقه من أب أو أم أو أخ أو صديق، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن الله عز وجل ليُدخل على أهل القبور من دعاء أهل الدور أمثال الجبال، وإن هدية الأحياء إلى الأموات الإستغفار» رواه البيهقي في الشعب.
ورأى الرجل أحد الموتى لا يلوح مثل إخوانه، فسأله: «لماذا لا تلوح مثل إخوانك من الموتى؟» فقال له: «أنا لست مثلهم، لي ولد صالح يهب لي كل يوم جزء من القرءان الكريم. إنه يعمل في سوق "التُّشاشا" -أي سوق البهارات بأمدرمان-في دكان رقمه كذا».
قال فلما انتبهت من النوم في الصباح عزمت على أن أتأكد من هذه الرؤيا، لأن الأموات في دار حق ولا يكذبون. فذهبت إلى سوق «التُّشاشا» في أمدرمان وصرت أقرأ أرقام الدكاكين إلى أن وقعت عيني على الرقم الذي رأيته في الرؤيا، فتقدمت إلى الدكان فإذا به كأنه خالي، لكني تجرأت وقلت: «السلام عليكم» فرد علي شاب كان يجلس تحت «البنك» -أي منضدة الدكان- يتلو القرءان، فعمل علامة على الصفحة التي كان يقرأها ورد علي السلام. فقلت له: «أسأل عن صاحب هذا الدكان، أين هو لا أراه؟» فقال له: «أنا ولده، لقد توفي والدي منذ فترة». فأظهرت التأثر بما قال، لكنني تأكدت من جزء كبير من الرؤيا وتحمست لأن أتأكد من بقيتها، فقلت له: «أريد أن أصنع له معروفًا، أريد أن أجعل له صدقة لعلها تنفعه في قبره». فقال لي: «الأمر لا يحتاج إن شاء الله، نحن حالتنا حسنة، وأنا أهب له كل يوم جزء من القرءان الكريم». فتعجبت جدًا، وحكيت له قصة الرؤيا وبشرته بوصول ثواب قراءته لوالده رحمه الله تعالى. هذه قصة حقيقة حكاها صديق الشخص الذي رآها، في مناسبة عزاء.


السبت، 7 مايو 2016

نزول الحق تبارك وتعالى في الثلث الأخير كناية عن قرب المتهجدين وفتح باب الأنس للعاشقين

نزول الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل كناية عن دنوه من المتهجدين وقربه من المستغفرين وفتح باب أنسه للعاشقين.
أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحمه الله فقال له:
يا حسين، ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من أدعى محبتي فإذا جنَّه الليل نام عني!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطَّلع على أحبائي إذا جنَّهم الليل ، غدًا أقر عيون أحبائي في جنَّاتي. [سير أعلام النبلاء]
▪وقال ابن الجوزي رحمه: لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة "كذب من أدعى محبتي فإذا جنَّه الليل نام عني" حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
▪وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين عامًا حتى استقامت لي.
▪كان ثابت البناني يقول: كابدت نفسي على القيام عشرين سنة، وتلذذت به عشرين سنة.

المشبهة والمجسِّمة -الذين يرون أن الله جسم كالأجسام تعالى الله عن قولهم- استدلوا بحديث النزول على نسبة الجهة والمكان والحركة لله تبارك وتعالى عن افترائهم، وهذا خلل عقدي كبير، فالله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، لا يشبه خلقه في شيء. ومذهب جمهور أهل العلم إما تأويل المعنى بما يليق بالله تبارك وتعالى وتحتمله لغة العرب، خاصة المجاز. أو بالتفويض، وهو عدم محاولة فهم ذلك بالعقل السليم، والتفويض في حد ذاته هو تأويل لمعنى آخر يعلمه الله، فكأن مذهب الجمهور هو التأويل، إما لمعنى يليق بالله تبارك وتعالى وتحتمله لغة العرب، أو لمعنى آخر لا يعلمه إلا الله. أما التشبيه والتجسيم الذي جاء به الخوارج وغلاة الحنابلة والفرق التكفيرية والمتطرفة في العصر الحديث فهو كفر وبدعة ضلالة أجار الله المسملين من شرها.

قال الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري:
"قوله ينزل ربنا إلى السماء الدنيا استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن قولهم." أهـ
وقال أيضًا:
"النزول محال على الله لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه على ذلك، فليتأول ذلك بأن المراد نزول مَلَك الرحمة ونحوه أو يفوض مع اعتقاد التنزيه" أهـ
وقال أيضًا:
"قال بن بطال: هو وقت شريف خصه الله بالتنزيل فيه فيتفضل على عباده بإجابة دعائهم وإعطاء سؤلهم وغفران ذنوبهم وهو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له ومفارقة اللذة والدعة صعب لا سيما أهل الرفاهية وفي زمن البرد وكذا أهل التعب ولا سيما في قصر الليل فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه مع ذلك دل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه فلذلك نبه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه" أهـ
وقال أيضًا:
"قال ابن العربي: حُكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها وعن قوم تأويلها وبه أقول، فأما قوله ينزل فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني فإن حملته في الحديث على الحسي قتلك صفة الملك المبعوث بذلك وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة" أهـ
وقال أيضًا:
"قال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة" أهـ
وقال الخطابي في معالم السنن:
"الله سبحانه لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله جل وعز متعال عنهما ليس كمثله شيء" أهـ
وقال الإمام البدر العيني في شرح سنن أبي داود:
"اعلم أن النزول والصعود، والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك. فقيل: معناه: ينتقل كل ليلة من صفات الجلال إلى صفات الرحمة والكمال، وقيل: المراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، أو نزول مَلك من خواص ملائكته فينقل حكاية الرب."أهـ

التأويل ليس سؤال عن الكيف

إن الله تعالى هو من علمنا كيف ننزهه وننفي عنه كلَّ ما لا يليق بذاته العلية من هذه الظواهر، كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في فضل عيادة المريض والذي يقول فيه الرب تعالى لعبده يوم القيامة: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني... يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني... يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني) كل ذلك والعبد يقول (رب كيف أعودك وأنت رب العالمين... رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين.. رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين) فإنه عندما استحال في عقل العبد الذي ينزه مولاه عن صفات المخلوقين وسمات الأجسام وعوارض النقص والآفات أن يمرض ربه ويعوده على الحقيقة وأن يستطعم ويستسقي على الحقيقة سأل (رب كيف.. وأنت رب العالمين) أي أن حقائق هذه الألفاظ لا تليق به تعالى وهي محالة قطعاً في حقه، وما دامت منفية الظاهر والحقيقة فهي عنده بلا معنى مفهوم. ولهذا سأل (رب كيف)، وهذا شأن كل لفظ من هذه الألفاظ التي من هذا القبيل عندما يستحيل معناه الظاهر والحقيقي يستفسر عن المـراد منـه بـ (كيف)، وهذا الذي حدث من بعض العوام في الصدر الأول حين أخذوا يسألون عن مثل هذه الألفاظ: كيف استوي؟ كيف ينزل؟ كيف يضحك؟ فنهاهم علماء السلف عن الاستفسار عن معانيها بقولهم (بلا كيف) وألزموهم تنزيه الله تعالى عن ظواهرها ثم السكوت بعد الإيمان بأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
والتأويل ليس سؤالًا عن الكيف، بل هو فهم النص بما يليق بما تحتمله معاني اللغة العربية، ومنها المجاز بكل أصنافه.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، فاليد هنا لا تعني الجارحة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم" [البغوي في التفسير]

وقال الطبري في تفسيره:
"وفي قوله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وجهان من التأويل: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ; والآخر: قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على نُصرته على العدو."

وقال ابن الجوزي في زاد المسير:
"فيه أربعة أقوال: أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان." أهـ

وقال الحافظ ابن حيان في تفسيره:
"قال الجمهور: اليد هنا النعمة، أي نعمة الله في هذه المبايعة، لما يستقبل من محاسنها، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك. وقيل: قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم"

وقال الشوكاني في فتح القدير نقلًا عن القرطبي:
"والمعنى: أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت. وقال الكلبي: المعنى إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم"

ولليد معانٍ كثيرة جدًا في كلام العرب، قال أهل اللغة:
اليَدُ:
اليَدُ: من أَعضاء الجسد، وهي من المنكب إِلى أَطراف الأَصابع [ مؤنثة ].
واليَدُ من كلِّ شيءٍ: مَقْبَضُه.
ومنه يدُ السيف والسِّكِّين والفأْس والرَّحَى.
واليَدُ الثَّوب ونحوه: كُمُّه.
واليَدُ النِّعمةُ والإِحسان تصطنعهما.
واليَدُ السُّلطانُ.
واليَدُ القُدرة.
واليَدُ القُوَّة.
يقال: ما لي بهذا الأَمر يدان.
واليَدُ الجماعةُ.
يقال: هم يَدُهُ: أَنصاره.
وهم يدٌ على غيرهم: مجتمعون متَّفقون.
واليَدُ المِلْكُ.
يقال: هو في يدي: أَي مِلكي وحَوْزَتي.
واليَدُ الكَفالةُ في الرَّهن.
واليَدُ الطاعةُ والانقياد والاستسلام.
يقال: هذه يدي لك.
وأَعطى بيده: استسلم وخَضَع.
ويقال: أَعطى الجزيةَ عن يد: عن ذلٍّ واستسلام. والجمع: أَيْدٍ، ويدِيٌّ ( بتثليث الياء )، وأيادٍ.
ويقال: ضرب يَدَهُ في يَدِ كذا: شرع فيه.
و::- اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى:-: أَي المعطيةُ خيرٌ من الآخذة.
وخرج من تحت يده فلانٌ: خَرَّجَهُ وعلَّمه وربّاه.
والأَمرُ بِيَدِ فلانٍ: في تصرُّفه.
وهو طويل اليد: سَخِيّ ؛ كطويل الباع.
واستعمله المولَّدون بمعنى المختلس.
ويقال: هو أَطولُ يدًا منه: أَكرمُ وأَجود.
واليَدُ مشى بين يديه: قُدَّامَهُ.
وسُقِطَ في يده، أَو في يديه: نَدِمَ وتحسَّر، أَو أَخذ يقلِّب كفَّيه على ما فات: وبعتُه يدًا بيدٍ: حاضرًا بحاضر.
ويقال: جاءَ فلانٌ بما أَدَّتْ يَدٌ إِلى يد: مُخفِقًا خائبًا، ولا أَفعلهُ يَدَ الدَّهْر: أَبدًا.
ولقيتُه أَوَّل ذات يدين: أَوّلَ شيءٍ: وابْتَعْتُ الغنمَ ونحوَها اليدين، أَو باليدين: بثمنين مختلفين: غالٍ ورخيص.
وباعها اليَدَانِ: أَسلمها بيدٍ وأَخذ ثمنَها بيدٍ.
وأَعطاه مالاً عن ظهر يدٍ: تفضُّلاً، ليس من بيعٍ ولا قَرْضٍ ولا مكافأَة.
ويقال في الدُّعاءِ على المرءِ: لليدين وللفم: أَي يَسقُطُ لليدين وللفم.

قال الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - عند شرحه قول النبي ‘ "وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب " (معالم السنن 4 / 328):
(هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله " أتدري ما الله " معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله، وقوله " إنه ليئط به " معناه إنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله، فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة، وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفا بصورة خلق أو مدركاً بحد. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) اهـ.

ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيداً له في شرحـه لحديث " لا شخص أغير من الله " (الفتح 13 / 411) قال:
(قال ابن دقيق العيد: المنزهون لله إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول، والثاني - يعني المؤول - يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأطلقت على سبيل المجاز، كالملازمة وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب) اهـ.

وقال الإمام النووي - رحمه الله - (شرح مسلم 5 / 24) في شرح حديث إمساك السموات على أصبع والأرضين على أصبع " ما نصه:
(هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والإمساك...) ثم قال بعد صفحات (وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة، والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به ولا نشبهه بشيء) اهـ.


وقال الإمام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر حديث النزول في سياق إثباته للمجاز (الإنصاف ص/ 82):
(جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع العارفون بالله عز وجل على أنه لا ينتقل لأن الانتقال من صفات المحدثات، ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه:
أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد سئل عن هذا الحديث فقال: ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو.
وسئل الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء([1]).
وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفي إشارة يحتاج إلى تبيين عبارة)
ثم أخذ رحمه الله ببيان حقيقة ما قالاه على أساليب العرب واستعاراتها، وذكر أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره ومعنى النزول في الحديث أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره، ثم قال رحمه الله: (فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على فصيح كلام العرب في محاوراتها والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله) اهـ.

قال الإمام أبو بكر بن العربي - رحمه الله - (القبس شرح الموطأ 1 / 288 – 289):
(وأما الأوزاعي - وهو إمام عظيم - فنزع بالتأويل حين قال وقد سئل عن قول النبي ‘ "ينزل ربنا " فقال: يفعل الله ما يشاء. ففتح باباً من المعرفة عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما).
ثم قال رحمه الله تعالى:
(إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزاً كما لا يدنو إلى شيء بمسافة ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغير والاستحالات، إله في الأرض إله في السماوات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل) اهـ.
وقال أيضاً في شرحه على سنن الترمذي (2 /234):
(اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلاثة أقوال فمنهم من ردّه لأنه خبر واحد ورد بما لا يجوز ظاهره على الله وهم المبتدعة، ومنهم من قبله وأمرّه كما جاء ولم يتأوله ولا تكلم فيه مع اعتقاده أن الله ليس كمثله شيء، ومنهم من تأوله وفسره. وبه أقول، لأنه معنى قريب عربي فصيح.

أما إنه قد تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير، قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات.
قلنا:هذا جهل عظيم وإنما قال " ينزل إلى السماء " ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ولا كيف ينزل.
قالوا - وحجتهم ظاهره - : قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) .
قلنا: وما العرش في العربية؟ وما الاستواء؟...) إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شيء معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتغير بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول قدوس لا يتغير ولا يستحيل، وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإن شيئاً من ذلك لا يجوز على الباري تعالى، ولا يضرب له الأمثال في المخلوقات، وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره: إن الاستواء معلوم. يعني مورده في اللغة. والكيفية التي أراد الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيّنها، والسؤال عنه بدعة، لأن الاشتغال به وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة. فتحصل لك من كلام إمام المسلمين مالك أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه، وتعيُّن المراد بما لا يجوز عليه لا فائدة لك فيه إذ قد حصل لك التوحيد والإيمان بنفي التشبيه والمحال على الله سبحانه وتعالى فلا يلزمك سواه، وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق، وأما قوله: ينزل ويجيء ويأتي، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها فإنها ترجع إلى أفعاله، وهنا نكتة وهي: أن أفعالك أيها العبد إنما هي في ذاتك، وأفعال الله سبحانه لا تكون في ذاته ولا ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته، فإذا سمعت الله يقول كذا فمعناه في المخلوقات لا في الذات، وقد بين ذلك الأوزاعي حين سئل عن هذا الحديث ـ أي حديث النزول ـ فقال: يفعل الله ما يشاء. وإما أن تعلم وتعتقد أن الله لا يتوهم على صفة من المحدثات ولا يشبهه شيء من المخلوقات ولا يدخل باباً من التأويلات.
قالوا- أي أصحاب الظواهر - : نقول ينزل ولا نكيف.
قلنا: معاذ الله أن نقول ذلك، إنما نقول كما علمنا رسول الله ‘ وكما علمنا من العربية التي نزل بها القرآن، قال النبي ‘: " يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني.. وجعت فلم تطعمني.. وعطشت فلم تسقني " وهو لا يجوز عليه شيء من ذلك ولكن شرّف هؤلاء بأن عبّر به عنهم، كذلك قوله: ينزل ربنا، عبّر به عن عبده وملَكه الذي ينزل بأمره باسمه فيما يعطي من رحمته... والنزول قد يكون في المعاني وقد يكون في الأجسام، والنزول الذي أخبر الله عنه إن حملته على أنه جسم فذلك ملَكُه ورسوله وعبده، وإن حملته على أنه كان لايفعل شيئاً من ذلك ثم فعله عند ثلث الليل فاستجاب وغفر وأعطى وسمّى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة ومن صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم أعرف منكم - أهل الظاهر - وأعقل وأكثر توحيداً وأقلّ بل أعدم تخليطاً. قالوا بجهلهم: لو أراد نزول رحمته لما خص بذلك الثلث من الليل لأن رحمته تنزل بالليل والنهار. قلنا: ولكنها بالليل وفي يوم عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤها أوسع وقد نبّه الله على ذلك بقوله تعالى ( والمستغفرين بالأسحار ) اهـ.

وجاء في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) رحمه الله تعالى (18 / 504، وانظر السير 8/104، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد 14/553) ما نصه:
(قال - يعني ابن القاسم صاحب مالك - وسألت مالكاً عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال: لا تتحدث به... وعن الحديث " إن الله خلق آدم على صورته " وعن الحديث في الساق، وذلك كله، قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا. قال ابن رشد بعد أن ذكر الأحاديث التي أشار إليها ابن القاسم: وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه، مخافة أن يتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس، فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، وسبيلها – إذا صحت الروايات بها – أن تتأول على ما يصح، مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل ) والاستواء في قوله ( الرحمن على العرش استوى ) وكما يفعل أيضاً بما جاء من ذلك في السنن المتواترة كالضحك والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء) اهـ.

وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى (النهاية في غريب الحديث 5/300):
( " الحجر يمين الله في الأرض " هذا الكلام تمثيل وتخييل، وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً قبّل الرجل يده، فكأن الحجر الأسود لله بمنزلة اليمين للملك، حيث يستلم ويلثم.
ومنه الحديث الآخر " وكلتا يديه يمين " أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال، لانقص في واحدة منهما، لأن الشمال تنقص عن اليمين، وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله تعالى فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة، والله منزه عن التشبيه والتجسيم ) اهـ.
وقال أيضاً عن حديث النزول (5/42): ( النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، وتخصيصها بالليل والثلث الأخير منه لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمّن يتعرض لنفحات رحمة الله، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة ) اهـ.
وقال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى - (المُفهم 6 / 672) في شرح حديث "قلوب بنى آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ":
(ظاهر الأصبع محال على الله تعالى قطعاً... وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي وفي قبضتي. يراد به أنه متمكن من التصرف فيه والتصريف له كيف يشاء...) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (الفتح 1/189) مؤولاً للفظ الحياء المضاف إلى الله تعالى في الحديث: (قوله " فاستحيا الله منه " أي رحمه ولم يعاقبه، وقوله " فأعرض الله عنه " أي سخط عليه..)’اهـ.
وقال أيضاً (الفتح 1/419) مؤوّلاً للفظ اليد (والمراد باليد هنا القدرة) اهـ.
وقال قبل ذلك (هدي الساري ص/219): (ووقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به، فمنهم من وقف ولم يتأوّل، ومنهم من حمل كلّ لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك) اهـ

وللإمام الأُبّي - رحمه الله تعالى - كـلام يعتبر قـاعدة ذهبية في هذا الباب، قال رحمه الله (شرح مسلم 7 / 54):
(القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواتراً في نص لا يحتمل التأويل، وغاية المتواتر أن يرد فيما دلالته على المحال دلالة ظاهرة، والظاهر يقبل التأويل، فإن ورد فيجب صرف اللفظ عن ظاهره المستحيل، ثم اختلف، فوقف أكثر السلف عن التأويل، وقالوا نؤمن به على ما هو عند الله سبحانه في نفس الأمر، ونَكِلُ علم ذلك إلى الله سبحانه، وقال قوم بل الأولى التأويل... وإن ورد خبر واحد نصاً في محال قطع بكذب راويه، وإن كان محتملاً للتأويل يتصرف فيه كما سبق) اهـ.
وقوله رحمه الله (وإن ورد... قطع بكذب راويه) لأنه ظني عارض القطعي، وقد ثبت بالقطعي من دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء، فكل خبر يأتي على خلاف ذلك يقطع بكذب راويه، لأن أدلة الشرع تتعاضد ولا تتضاد.

بعض المحتويات منقولة من موقع "المستنير دوت كوم"

بعض ما روي عن قيام الليل عند السلف

قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إن لأحبُ هذا الرجل!!.
قيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره.
صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول:ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! (أي لأجل قيام الليل).
قال ثابت البناني رحمه الله: لا يسمى عابد أبداً عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه!!
قال طاووس بن كيسان رحمه الله: ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
قال سليمان بن طرخان رحمه الله: إن العين إذا عودتها النوم اعتادت، وإذا عودتها السهر اعتادت.
قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله: إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني.
أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله، فقال له: يا حسين: ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
قال ابن الجوزي رحمه: لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
قال محمد بن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين عاماً (أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات) حتى استقامت لي!!
كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة!! وتلذذت به عشرين سنة.
كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة.
كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول: ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.
قال معمر: صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا، ثم خرجت إلى بيتي، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة!! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
قالت امرأة مسروق بن الأجدع: والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام!!....، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف (أي إلى فراشه) كما يزحف البعير!!
قال مخلد بن الحسين: ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك، ثم أتعزى بهذه الآية { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
قال أبو حازم رحمه الله: لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة!!
قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها!! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا، والقرآن لا تنقضي عجائبه!!
كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
قال سفيان الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته.
قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم؟!! فقال الحسن: ذنوبــك قيــدتك!!
وقال رجل للحسن البصري: أعياني قيام الليل؟!! فقال: قيدتك خطاياك.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة.
قال عطاء الخرساني رحمه الله: إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أًبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عينه فنام عن حزبه (أي عن قيام الليل) أصبح حزيناً منكسر القلب، كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا (أي قيام الليل).
رأى معقل بن حبيب رحمه الله:قوماً يأكلون كثيراً فقال: ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة.
قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل:
وجدت الجوع يطرده رغيف *** وملء الكف من ماء الفرات
وقل الطعم عـون للمصلــــي *** وكثر الطعم عــــون للسبات
كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب!! والله إنك لبارد!! والله لا علوتك ليلتي (أي لا تمت عليك هذه الليلة) ثم يقوم يصلي إلى الفجر!!
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة!! إنما هو على الجنب، فإذا تحرك (أي أفاق من نومه) قال: ليس هذا لك!! قومي خذي حظك من الآخرة!!.
قال هشام الدستوائي رحمه الله: إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
عن جعفر بن زيد رحمه الله قال: خرجنا غزاة إلى [ كأبول ] وفي الجيش [ صلة بين أيشم العدوي ] رحمه، قال: فترك الناس بعد العتمة (أي بعد العشاء) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه، فدخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي!! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة، أما صلة فوالله ما التفت إلى الأسد!! ولا خاف من زئيره ولا بالى به!! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت: الآن يفترسه!! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم، التفت إلى الأسد وقال: أيها السبع اطلب رزقك في مكان آخر!! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال!! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر!! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: الله إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة!!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه (أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً) فأصبح وكأنه بات على الحشايا (وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الكسل والخمول شيء الله به عليم.
كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة ؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم، إذ سمعوا زئير أسد مفزع،فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته!! ولا التفت فيها!! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له: أما خفت الأسد وأنت تصلي؟!! فقال: إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه!!
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس.
قال أبو جعفر البقال: دخلت على أحمد بن يحيى رحمه الله، فرأيته يبكي بكاء كثيرا ما يكاد يتمالك نفسه!! فقلت له: أخبرني ما حالك؟!! فأراد أن يكتمني فلم أدعه، فقال لي: فاتني حزبي البارحة!! ولا أحسب ذلك إلا لأمر أحدثته، فعوقبت بمنع حزبي!!ثم أخذ يبكي!! فأشفقت عليه وأحببت أن أسهل عليه، فقلت له: ما أعجب أمرك!! لم ترض عن الله تعالى في نومة نومك إياها، حتى قعدت تبكي!! فقال لي: دع عنك هذا يا أبا جعفر!! فما احسب ذلك إلا من أمر أحدثته!! ثم غلب عليه البكاء!! فلما رأيته لا يقبل مني انصرفت وتركته.
عن أي غالب قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة، وكان يتهجد من الليل، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح: يا أبا غالب: ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن؟!! فقال إن سورة الإخلاص { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن.
كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول: يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا، وبادروا قوتكم، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا،ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية!!
كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة: يا أهل الدار انتبهوا!! (أي من نومكم) فما هذه (أي الدنيا) دار نوم، عن قريب يأكلكم الدود!!
قال محمد بن يوسف: كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول: قوموا يا شباب!! صلوا ما دمتم شبابا!! إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟!!
دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجة الأوزاعي: ثكلتك أمك!! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ (أي مكان صلاته بالليل) فقالت لها زوجة الأوزاعي: ويحك هذا يُصبح كل ليلة!! من أثر دموع الشيخ في سجوده.
قال: إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام.
قال أبو يزيد المعَّنى: كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل!!
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا!! ثم يصلي إلى الفجر.
رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل: لمن هذه الخيام؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن!! فكان لا ينام الليل!!
كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم!! ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول: أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم.
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله -: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي (أي ما شبعت من القرآن والصلاة).
لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له: ما يبكيك!! فقال: إني لم أشتفِ من قيام الليل!!
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم، خلائق ثلاثة: الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل.
كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب، فإذا تعب صلى وهو جالس.
قال السري السقطي رحمه الله: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.
كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا، فتخسروا كثيرا!!
قال حسن بن صالح رحمه الله: إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا (أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني (أي هو الذي يغلبني)، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني!!
كان العبد الصالح سليمان التميمي رحمه الله هو وابنه يدوران في الليل في المساجد،فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة، حتى يصبحا!!

الخميس، 5 مايو 2016

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الإسراء والمعراج

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الإسراء والمعراج: قال القاضي عياض في الشفا: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه رآه بعينه. وروى عطاء عنه: أنه رآه بقلبه، وعن أبي العالية عنه: رآه بفؤاده مرتين. وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم. والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه»أهـ وقال الحافظ السيوطي في الدر المنثور: «وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: "رأى محمد ربه". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: "إن محمدًا رأى ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده". وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله الله {ولقد رآه نزلة أخرى} قال ابن عباس:" قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل"»أهـ وقال الشوكاني في فتح القدير: «أخرج ابن مردويه عن أنس قال: "رأى محمد ربه". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه". وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال: "رأى محمد ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده". وأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا قال: "لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل". وأخرج النسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضًا قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد؟" قال: وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنى أراه؟» . وأخرج مسلم وابن مردويه عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورًا"» أهـ أما ما يروى من إنكار السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها للرؤية ونفيها فمعلوم أن الإثبات مقدم على النفي، لأن الإثبات فيه زيادة علم والنفي يحتمل التأول ونقصان علم بالمنفي، وقد أثبت الرؤية النبي صلى الله عليه وسلم. روى الخلال في كتاب السنة عن المروزي قال: قلت للإمام أحمد بن حنبل: إنهم يقولون إن عائشة قالت: «من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: «بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ”رأيت ربي“، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها». وروى الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد على شرط الصحيح قال: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل» وأثبت الرؤية أيضًا عدد من الصحابة، قال الحافظ في فتح الباري: «أما احتجاج عائشة رضي الله عنها بالآية (لا تدركه الأبصار) فقد خالفها فيه بن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن بن عباس قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: (لا تدركه الأبصار)، قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين.» وتابع الحافظ فقال: «ذهب جماعة إلى إثباتها، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدًا رأى ربه. وأخرج بن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب بن عباس، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر، وآخرون وهو قول الأشعري وغالب أتباعه» 🌹🌹🌹 اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد أ ك

الثلاثاء، 3 مايو 2016

استحباب صيام رجب

استحباب الصوم في شهر رجب وهو مذهب الجمهور من أهل العلم من كافة المذاهب، لأنه أحد الأشهر الحرم التي يندب فيها الصوم وسائر الأعمال الصالحات، والصوم أخص بالندب لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي المشهور: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به). وقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم الأشهر الحرم ويأمر بصيامها، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي مجيبة الباهلي رضي الله عنه: (صم من الحرم واترك) [رواه أبو داود والإمام أحمد وابن سعد والبيهقي في السنن]، وحين سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صومه شهر شعبان: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) [رواه النسائي بسند جيد]، قال الشوكاني في نيل الأوطار: "ظاهر قوله في حديث أسامة إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم، كما يعظمون رمضان ورجبًا به" أهـ
وقال المرداوي في الإنصاف: "وأما صيام بعض رجب، فمتفق على استحبابه عند أهل المذاهب الأربعة لما سبق، وليس بدعة، ثم إن الراجح من الخلاف المتقدم مذهب الجمهور لا مذهب الحنابلة." أهـ
وكل الأحاديث المرغِّبة في صيامه فإنها تحسَّن لغيرها، ولو ضعف سندها فإنه يعمل بها على مذهب جمهور أهل العلم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند دخول شهر رجب: "اللهم بارك لنا في رجبٍ وشعبان وبلغنا رمضان".

الأحد، 1 مايو 2016

ذكرى الإسراء والمعراج

ما هي الذكرى؟ هي التفكر والتدبر في التاريخ لاستلهام الدروس والعبر، وهي من خصائص المؤمنين أولي الأبصار وأولي الألباب الممدوحين في كتاب الله عز وجل حيث قال سبحانه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ؟ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، وقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، فقال أحد السلف: "من وجد للذكرى في قلبه موقعًا فليعلم أنه مؤمن". وفي التاريخ تذكير بنعم الله ووآلائه وفضله، وفيه ذكر آياته الكبرى كما قال تعالى لموسى عليه السلام: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي ذكِّر قومك بفضله تعالى ونعمه عليهم وإنجائهم من فرعون وملأه وبمعجزة فلق البحر لهم. وتمر علينا ذكرى الإسراء والمعراج وما فيها من العجائب والحكم والعبر والآيات، ولعل من إشارات ذلك أن الحق سبحانه وتعالى استهل كلامه عنها بـ"سبحان" فقال تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا). وأعظم ما في هذه الذكرى العجيبة هو خرق الحجاب وشهود المخلوق للخالق عز وجل ممثلًا في سيدنا محمد ﷺ وما يدل عليه ذلك من العظمة والتفرد والخصوصية التي حظي بها نبيُّنا ﷺ، فإن موسى عليه السلام طلب الرؤية فقال له الله تعالى: (لَن تَرَانِي)، بينما رآه النبي ﷺ في تلك الليلة كما في صحيح مسلم: "رأيتُ نورًا"، وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله (ولقد رآه نزلة أخرى): "قد رأى النبي ﷺ ربه عز وجل"، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ رأى ربه بعينه. وفي هذه الذكرى أيضًا إشارة إلى تميز البصر المحمدي الخاص عن بصر عامة الناس، فالإسراء كان ليلًا، وفي السابع والعشرين من رجب كما ذهب إلى ذلك الجمهور، وهي ليلة مظلمة، ومع ذلك حكى ما حكى من عجائب ما رآه في الملك والملكوت، ووصف قافلة قريش وما حصل لها وكأن ذلك كان نهارًا! حكى كل ذلك ولم يُروَ في أحاديث الإسراء أنه ﷺ كان يحمل قنديلًا أو مصباحًا! ولا غرو، فخصوصية البصر المحمدي ثابته، ففي صحيح البخاري قال ﷺ: «أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري»! فمن مثله ﷺ يرى من خلفه كما يرى من أمامه؟! إن المؤمنين أولي الألباب الذين تعرضوا لنفحات شهر رجبٍ المبارك، أحد الأشهر الحرم ذات الثواب المضاعف، عليهم أن يغتنموا ذكرى هذه الليلة التي أسري فيها برسول الله ﷺ روحًا وجسدًا من أول بيت وضع للناس إلى ثاني بيت، إلى المسجد الأقصى فأمَّ أنبياء الله جميعًا إشارة إلى سيادته عليهم، ثم عرج به إلى السماء العلية لشهود ربه جلَّ وعلا ثم عاد وفراشه لم يفقد دفئه. أحيوها بذكر الله عز وجل والثناء عليه وحمده وشكره على ما منَّ به علينا من نعمة الإتباع لهذا النبي العظيم ﷺ، وبتدارس تلك الذكرى العظيمة والاعتبار بما فيها من الحكم والآيات والعجائب. احتفلوا بهذه الليلة الكبرى لأنها تستحق، فعجائبها لا تحصى ولا تعد، فاقت عجائب غيرها من معجزات الأنبياء والقصص القرءاني، وليس في الاحتفال بها بدعة، لأن البدعة عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف تنقسم إلى حسنة سيئة، والبدعة الحسنة هي ما كان لها أصل من الدين يدل عليها، وقد تقدم في هذا المقال التأصيل لهذه الذكرى. واللبيب يدرك إن البدع الحسنة دائمًا ما ترتبط بواقع الناس في كل عصر وبحاجات الأمة المتجددة، فما جُمع القرءان إلا عندما خِيف على القراء الهلاك، وما نقِّط المصحف إلا عندما دخل الأعاجم في الإسلام وخِيف على القرءان اللحن، والآن لم يُندب مثل هذا الاحتفال إلا لأن الناس انشغلت وبعدت وتكاثرت عليها المُلهيات في الفضائيات والإنترنت والهواتف المحمولة والحياة العصرية، فيحسن عندئذٍ تذكيرها بأيام الله متى ما كان إلى ذلك من سبيل. وبهذا الفهم تقبَّلت الأمة أمورًا دينية كثيرة لم تكن في صدر الإسلام الأول كصلاة التهجد في في العشر الأواخر من رمضان في جماعة، وكالأسابيع الدعوية، والمؤتمرات الإسلامية، والمسابقات الدينية، بل وحتى نيل الدرجات العلمية الغربية في الدراسات الإسلامية، كالدكتوراة، والماجستير، والبكالريوس والدبلوم وغير ذلك. إن كانت دوامة الحياة المادية المعاصرة قد جرفتنا فلتكن هذه الذكرى فرصة لأن نستريح من عناء ذلك التفكير المادي الدخيل ونسرح في عالم عجائب قدرة الله، ونحكي لأطفالنا قصص وعجائب الإسراء والمعراج، فنحبب إليهم سيرة المصطفى ﷺ، ونكلمهم عن عظمة نبيهم ﷺ الذي عرج به إلى العرش المجيد وعاد في كسر من الثانية!! لنوسع مداركهم بأن هذا الكون هو خلق عظيم، وفيه سكان عظماء، ففي كل سماء أنبياء وملائكة وأرواح، وشؤون وحضرات، وأن المسافة بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. أخرجوهم من ضيق المادة إلى سعة المعنى، فالإيمان ليس ماديات، الإيمان ينفذ إلى ما وراء المادة، إلى الإيمان بالغيب، وهذا ما يميز المؤمن من الكافر.