السبت، 7 مايو 2016

التأويل ليس سؤال عن الكيف

إن الله تعالى هو من علمنا كيف ننزهه وننفي عنه كلَّ ما لا يليق بذاته العلية من هذه الظواهر، كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في فضل عيادة المريض والذي يقول فيه الرب تعالى لعبده يوم القيامة: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني... يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني... يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني) كل ذلك والعبد يقول (رب كيف أعودك وأنت رب العالمين... رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين.. رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين) فإنه عندما استحال في عقل العبد الذي ينزه مولاه عن صفات المخلوقين وسمات الأجسام وعوارض النقص والآفات أن يمرض ربه ويعوده على الحقيقة وأن يستطعم ويستسقي على الحقيقة سأل (رب كيف.. وأنت رب العالمين) أي أن حقائق هذه الألفاظ لا تليق به تعالى وهي محالة قطعاً في حقه، وما دامت منفية الظاهر والحقيقة فهي عنده بلا معنى مفهوم. ولهذا سأل (رب كيف)، وهذا شأن كل لفظ من هذه الألفاظ التي من هذا القبيل عندما يستحيل معناه الظاهر والحقيقي يستفسر عن المـراد منـه بـ (كيف)، وهذا الذي حدث من بعض العوام في الصدر الأول حين أخذوا يسألون عن مثل هذه الألفاظ: كيف استوي؟ كيف ينزل؟ كيف يضحك؟ فنهاهم علماء السلف عن الاستفسار عن معانيها بقولهم (بلا كيف) وألزموهم تنزيه الله تعالى عن ظواهرها ثم السكوت بعد الإيمان بأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
والتأويل ليس سؤالًا عن الكيف، بل هو فهم النص بما يليق بما تحتمله معاني اللغة العربية، ومنها المجاز بكل أصنافه.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، فاليد هنا لا تعني الجارحة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم" [البغوي في التفسير]

وقال الطبري في تفسيره:
"وفي قوله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وجهان من التأويل: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ; والآخر: قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على نُصرته على العدو."

وقال ابن الجوزي في زاد المسير:
"فيه أربعة أقوال: أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان." أهـ

وقال الحافظ ابن حيان في تفسيره:
"قال الجمهور: اليد هنا النعمة، أي نعمة الله في هذه المبايعة، لما يستقبل من محاسنها، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك. وقيل: قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم"

وقال الشوكاني في فتح القدير نقلًا عن القرطبي:
"والمعنى: أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت. وقال الكلبي: المعنى إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم"

ولليد معانٍ كثيرة جدًا في كلام العرب، قال أهل اللغة:
اليَدُ:
اليَدُ: من أَعضاء الجسد، وهي من المنكب إِلى أَطراف الأَصابع [ مؤنثة ].
واليَدُ من كلِّ شيءٍ: مَقْبَضُه.
ومنه يدُ السيف والسِّكِّين والفأْس والرَّحَى.
واليَدُ الثَّوب ونحوه: كُمُّه.
واليَدُ النِّعمةُ والإِحسان تصطنعهما.
واليَدُ السُّلطانُ.
واليَدُ القُدرة.
واليَدُ القُوَّة.
يقال: ما لي بهذا الأَمر يدان.
واليَدُ الجماعةُ.
يقال: هم يَدُهُ: أَنصاره.
وهم يدٌ على غيرهم: مجتمعون متَّفقون.
واليَدُ المِلْكُ.
يقال: هو في يدي: أَي مِلكي وحَوْزَتي.
واليَدُ الكَفالةُ في الرَّهن.
واليَدُ الطاعةُ والانقياد والاستسلام.
يقال: هذه يدي لك.
وأَعطى بيده: استسلم وخَضَع.
ويقال: أَعطى الجزيةَ عن يد: عن ذلٍّ واستسلام. والجمع: أَيْدٍ، ويدِيٌّ ( بتثليث الياء )، وأيادٍ.
ويقال: ضرب يَدَهُ في يَدِ كذا: شرع فيه.
و::- اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى:-: أَي المعطيةُ خيرٌ من الآخذة.
وخرج من تحت يده فلانٌ: خَرَّجَهُ وعلَّمه وربّاه.
والأَمرُ بِيَدِ فلانٍ: في تصرُّفه.
وهو طويل اليد: سَخِيّ ؛ كطويل الباع.
واستعمله المولَّدون بمعنى المختلس.
ويقال: هو أَطولُ يدًا منه: أَكرمُ وأَجود.
واليَدُ مشى بين يديه: قُدَّامَهُ.
وسُقِطَ في يده، أَو في يديه: نَدِمَ وتحسَّر، أَو أَخذ يقلِّب كفَّيه على ما فات: وبعتُه يدًا بيدٍ: حاضرًا بحاضر.
ويقال: جاءَ فلانٌ بما أَدَّتْ يَدٌ إِلى يد: مُخفِقًا خائبًا، ولا أَفعلهُ يَدَ الدَّهْر: أَبدًا.
ولقيتُه أَوَّل ذات يدين: أَوّلَ شيءٍ: وابْتَعْتُ الغنمَ ونحوَها اليدين، أَو باليدين: بثمنين مختلفين: غالٍ ورخيص.
وباعها اليَدَانِ: أَسلمها بيدٍ وأَخذ ثمنَها بيدٍ.
وأَعطاه مالاً عن ظهر يدٍ: تفضُّلاً، ليس من بيعٍ ولا قَرْضٍ ولا مكافأَة.
ويقال في الدُّعاءِ على المرءِ: لليدين وللفم: أَي يَسقُطُ لليدين وللفم.

قال الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - عند شرحه قول النبي ‘ "وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب " (معالم السنن 4 / 328):
(هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله " أتدري ما الله " معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله، وقوله " إنه ليئط به " معناه إنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله، فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة، وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفا بصورة خلق أو مدركاً بحد. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) اهـ.

ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيداً له في شرحـه لحديث " لا شخص أغير من الله " (الفتح 13 / 411) قال:
(قال ابن دقيق العيد: المنزهون لله إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول، والثاني - يعني المؤول - يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأطلقت على سبيل المجاز، كالملازمة وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب) اهـ.

وقال الإمام النووي - رحمه الله - (شرح مسلم 5 / 24) في شرح حديث إمساك السموات على أصبع والأرضين على أصبع " ما نصه:
(هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والإمساك...) ثم قال بعد صفحات (وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة، والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به ولا نشبهه بشيء) اهـ.


وقال الإمام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر حديث النزول في سياق إثباته للمجاز (الإنصاف ص/ 82):
(جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع العارفون بالله عز وجل على أنه لا ينتقل لأن الانتقال من صفات المحدثات، ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه:
أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد سئل عن هذا الحديث فقال: ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو.
وسئل الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء([1]).
وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفي إشارة يحتاج إلى تبيين عبارة)
ثم أخذ رحمه الله ببيان حقيقة ما قالاه على أساليب العرب واستعاراتها، وذكر أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره ومعنى النزول في الحديث أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره، ثم قال رحمه الله: (فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على فصيح كلام العرب في محاوراتها والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله) اهـ.

قال الإمام أبو بكر بن العربي - رحمه الله - (القبس شرح الموطأ 1 / 288 – 289):
(وأما الأوزاعي - وهو إمام عظيم - فنزع بالتأويل حين قال وقد سئل عن قول النبي ‘ "ينزل ربنا " فقال: يفعل الله ما يشاء. ففتح باباً من المعرفة عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما).
ثم قال رحمه الله تعالى:
(إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزاً كما لا يدنو إلى شيء بمسافة ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغير والاستحالات، إله في الأرض إله في السماوات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل) اهـ.
وقال أيضاً في شرحه على سنن الترمذي (2 /234):
(اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلاثة أقوال فمنهم من ردّه لأنه خبر واحد ورد بما لا يجوز ظاهره على الله وهم المبتدعة، ومنهم من قبله وأمرّه كما جاء ولم يتأوله ولا تكلم فيه مع اعتقاده أن الله ليس كمثله شيء، ومنهم من تأوله وفسره. وبه أقول، لأنه معنى قريب عربي فصيح.

أما إنه قد تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير، قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات.
قلنا:هذا جهل عظيم وإنما قال " ينزل إلى السماء " ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ولا كيف ينزل.
قالوا - وحجتهم ظاهره - : قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) .
قلنا: وما العرش في العربية؟ وما الاستواء؟...) إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شيء معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتغير بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول قدوس لا يتغير ولا يستحيل، وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإن شيئاً من ذلك لا يجوز على الباري تعالى، ولا يضرب له الأمثال في المخلوقات، وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره: إن الاستواء معلوم. يعني مورده في اللغة. والكيفية التي أراد الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيّنها، والسؤال عنه بدعة، لأن الاشتغال به وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة. فتحصل لك من كلام إمام المسلمين مالك أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه، وتعيُّن المراد بما لا يجوز عليه لا فائدة لك فيه إذ قد حصل لك التوحيد والإيمان بنفي التشبيه والمحال على الله سبحانه وتعالى فلا يلزمك سواه، وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق، وأما قوله: ينزل ويجيء ويأتي، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها فإنها ترجع إلى أفعاله، وهنا نكتة وهي: أن أفعالك أيها العبد إنما هي في ذاتك، وأفعال الله سبحانه لا تكون في ذاته ولا ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته، فإذا سمعت الله يقول كذا فمعناه في المخلوقات لا في الذات، وقد بين ذلك الأوزاعي حين سئل عن هذا الحديث ـ أي حديث النزول ـ فقال: يفعل الله ما يشاء. وإما أن تعلم وتعتقد أن الله لا يتوهم على صفة من المحدثات ولا يشبهه شيء من المخلوقات ولا يدخل باباً من التأويلات.
قالوا- أي أصحاب الظواهر - : نقول ينزل ولا نكيف.
قلنا: معاذ الله أن نقول ذلك، إنما نقول كما علمنا رسول الله ‘ وكما علمنا من العربية التي نزل بها القرآن، قال النبي ‘: " يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني.. وجعت فلم تطعمني.. وعطشت فلم تسقني " وهو لا يجوز عليه شيء من ذلك ولكن شرّف هؤلاء بأن عبّر به عنهم، كذلك قوله: ينزل ربنا، عبّر به عن عبده وملَكه الذي ينزل بأمره باسمه فيما يعطي من رحمته... والنزول قد يكون في المعاني وقد يكون في الأجسام، والنزول الذي أخبر الله عنه إن حملته على أنه جسم فذلك ملَكُه ورسوله وعبده، وإن حملته على أنه كان لايفعل شيئاً من ذلك ثم فعله عند ثلث الليل فاستجاب وغفر وأعطى وسمّى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة ومن صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم أعرف منكم - أهل الظاهر - وأعقل وأكثر توحيداً وأقلّ بل أعدم تخليطاً. قالوا بجهلهم: لو أراد نزول رحمته لما خص بذلك الثلث من الليل لأن رحمته تنزل بالليل والنهار. قلنا: ولكنها بالليل وفي يوم عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤها أوسع وقد نبّه الله على ذلك بقوله تعالى ( والمستغفرين بالأسحار ) اهـ.

وجاء في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) رحمه الله تعالى (18 / 504، وانظر السير 8/104، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد 14/553) ما نصه:
(قال - يعني ابن القاسم صاحب مالك - وسألت مالكاً عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال: لا تتحدث به... وعن الحديث " إن الله خلق آدم على صورته " وعن الحديث في الساق، وذلك كله، قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا. قال ابن رشد بعد أن ذكر الأحاديث التي أشار إليها ابن القاسم: وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه، مخافة أن يتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس، فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، وسبيلها – إذا صحت الروايات بها – أن تتأول على ما يصح، مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل ) والاستواء في قوله ( الرحمن على العرش استوى ) وكما يفعل أيضاً بما جاء من ذلك في السنن المتواترة كالضحك والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء) اهـ.

وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى (النهاية في غريب الحديث 5/300):
( " الحجر يمين الله في الأرض " هذا الكلام تمثيل وتخييل، وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً قبّل الرجل يده، فكأن الحجر الأسود لله بمنزلة اليمين للملك، حيث يستلم ويلثم.
ومنه الحديث الآخر " وكلتا يديه يمين " أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال، لانقص في واحدة منهما، لأن الشمال تنقص عن اليمين، وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله تعالى فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة، والله منزه عن التشبيه والتجسيم ) اهـ.
وقال أيضاً عن حديث النزول (5/42): ( النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، وتخصيصها بالليل والثلث الأخير منه لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمّن يتعرض لنفحات رحمة الله، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة ) اهـ.
وقال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى - (المُفهم 6 / 672) في شرح حديث "قلوب بنى آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ":
(ظاهر الأصبع محال على الله تعالى قطعاً... وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي وفي قبضتي. يراد به أنه متمكن من التصرف فيه والتصريف له كيف يشاء...) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (الفتح 1/189) مؤولاً للفظ الحياء المضاف إلى الله تعالى في الحديث: (قوله " فاستحيا الله منه " أي رحمه ولم يعاقبه، وقوله " فأعرض الله عنه " أي سخط عليه..)’اهـ.
وقال أيضاً (الفتح 1/419) مؤوّلاً للفظ اليد (والمراد باليد هنا القدرة) اهـ.
وقال قبل ذلك (هدي الساري ص/219): (ووقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به، فمنهم من وقف ولم يتأوّل، ومنهم من حمل كلّ لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك) اهـ

وللإمام الأُبّي - رحمه الله تعالى - كـلام يعتبر قـاعدة ذهبية في هذا الباب، قال رحمه الله (شرح مسلم 7 / 54):
(القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواتراً في نص لا يحتمل التأويل، وغاية المتواتر أن يرد فيما دلالته على المحال دلالة ظاهرة، والظاهر يقبل التأويل، فإن ورد فيجب صرف اللفظ عن ظاهره المستحيل، ثم اختلف، فوقف أكثر السلف عن التأويل، وقالوا نؤمن به على ما هو عند الله سبحانه في نفس الأمر، ونَكِلُ علم ذلك إلى الله سبحانه، وقال قوم بل الأولى التأويل... وإن ورد خبر واحد نصاً في محال قطع بكذب راويه، وإن كان محتملاً للتأويل يتصرف فيه كما سبق) اهـ.
وقوله رحمه الله (وإن ورد... قطع بكذب راويه) لأنه ظني عارض القطعي، وقد ثبت بالقطعي من دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء، فكل خبر يأتي على خلاف ذلك يقطع بكذب راويه، لأن أدلة الشرع تتعاضد ولا تتضاد.

بعض المحتويات منقولة من موقع "المستنير دوت كوم"