الأحد، 7 سبتمبر 2025

في الذكر الجماعي

قال الإمام النووي في [الأذكار]:
«اعلم أنه كما يُستحبُ الذِّكرُ يُستحبُ الجلوسُ في حِلَقِ أَهلِهِ، وقد تظاهرتُ الأدلةُ على ذلك، ويكفي في ذلك حديثُ ابن عمرَ، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قالوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ".
ولا تكون الحلقة إلا من جماعة، لذلك يستحب أن تكون الحلقة مغلقة.
ومن بركة هذا الذكر أن الملائكة تحفهم إلى السماء. قال الإمام النووي: «وروينا في: صحيح مسلم، أيضاً [رقم: ٢٧٠٠] ، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أنهما شهدا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قال: "لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُون اللَّهَ تَعالى إلا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَليهِمْ السَّكِينَةُ، وَذَكَرََهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيمَنْ عِنْدَهُ"»

وقالرأيضا: «وروينا في: صحيح مسلم، [رقم: ٢٧٠١] ، عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: خرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: "ما أجْلَسَكُم"؟ قالوا: جلسنا نذكُر الله تعالى، ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام، ومَنَّ به علينا؛ قال: "آلله ما أجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ"؟ [قالوا: واللَّهِ ما أجلسنا إلاّ ذاك؛ قال:] "أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ، فأخْبَرَنِي أنَّ الله تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ"»

فالذكر  الجماعي ثوابه عظيم، يكفي أن يباهي الله به الملائكة. 

الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم

الباب الثالث عشر في أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم. 
نقلا عن سبل الرشاد للصالحي. 

قال الحافظ أبو الخير السخاوي - رحمه الله تعالى- في فتاويه: عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم بعمل الولائم البديعة المشتملة على الأمور المبهجة الرفيعة ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. انتهى.

وقال الإمام الحافظ أبو الخير بن الجزري - رحمه الله تعالى- شيخ القراء: من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام.

قلت: وأول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكوبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد.

قال الحافظ عماد الدين ابن كثير - رحمه الله تعالى- في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا- رحمه الله تعالى- وأكرم مثواه. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب بن دحية- رحمه الله تعالى- كتابا له في المولد سماه: «التنوير في مولد البشير النذير » فأجازه بألف دينار.

قال سبط بن الجوزي - رحمه الله تعالى- في مرآة الزمان: حكى من حضر سماط المظفر في بعض المولد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف قرص ومائة ألف زبدية أي من طعام، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم. وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة. فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار وكان يفتك من الفرنج في كل سنة بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، وهذا كله سوى صدقات السر.

وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه [ ص: 363 ] كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم. قالت: فعاتبته في ذلك فقال: ألبس ثوبا بخمسة دراهم وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين.

وقد أثنى عليه الأئمة، منهم الحافظ أبو شامة شيخ النووي في كتابه «الباعث على إنكار البدع والحوادث » وقال: مثل هذا الحسن يندب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه.

قال ابن الجوزي : لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان وإدعام أهل الإيمان.

وقال العلامة ابن ظفر - رحمه الله تعالى-: بل في الدر المنتظم: وقد عمل المحبون للنبي صلى الله عليه وسلم فرحا بمولده الولائم-، فمن ذلك ما عمله بالقاهرة المعزية من الولائم الكبار الشيخ أبو الحسن المعروف بابن قفل قدس الله تعالى سره، شيخ شيخنا أبي عبد الله محمد بن النعمان، وعمل ذلك قبل جمال الدين العجمي الهمذاني وممن عمل ذلك على قدر وسعه يوسف الحجار بمصر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحرض يوسف المذكور على عمل ذلك.

قال: وسمعت يوسف بن علي بن زريق الشامي الأصل المصري المولد الحجار بمصر في منزله بها حيث يعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام منذ عشرين سنة وكان لي أخ في الله تعالى يقال له الشيخ أبو بكر الحجار فرأيت كأنني وأبا بكر هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم جالسين، فأمسك أبو بكر لحية نفسه وفرقها نصفين وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم كلاما لم أفهمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا له: لولا هذا لكانت هذه في النار. ودار إلي وقال: لأضربنك.

وكان بيده قضيب فقلت: لأي شيء يا رسول الله؟ فقال: حتى لا تبطل المولد ولا السنن. قال يوسف : فعملته منذ عشرين سنة إلى الآن. قال: وسمعت يوسف المذكور يقول: سمعت أخي أبا بكر الحجار يقول: سمعت منصورا النشار يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول لي: قل له لا يبطله. يعني المولد ما عليك ممن أكل وممن لم يأكل. قال: وسمعت شيخنا أبا عبد الله بن أبي محمد النعمان يقول: سمعت الشيخ أبا موسى الزرهوني يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فذكرت له ما يقوله الفقهاء في عمل الولائم في المولد فقال صلى الله عليه وسلم: «من فرح بنا فرحنا به » .

وقال الشيخ الإمام العلامة نصير الدين المبارك الشهير بابن الطباخ في فتوى بخطه: إذا أنفق المنفق تلك الليلة وجمع جمعا أطعمهم ما يجوز إطعامه وأسمعهم ما يجوز سماعه ودفع للمسمع المشوق للآخرة ملبوسا، كل ذلك سرورا بمولده صلى الله عليه وسلم فجميع ذلك جائز ويثاب [ ص: 364 ] فاعله إذ أحسن القصد، ولا يختص ذلك بالفقراء دون الأغنياء، إلا أن يقصد مواساة الأحوج فالفقراء أكثر ثوابا، نعم إن كان الاجتماع كما يبلغنا عن قراء هذا الزمان من أكل الحشيش واجتماع المردان وإبعاد القوال إن كان بلحية وإنشاد المشوقات للشهوات الدنيوية وغير ذلك من الخزي والعياذ بالله تعالى فهذا مجمع آثام.

وقال الشيخ الإمام جمال الدين بن عبد الرحمن بن عبد الملك الشهير بالمخلص الكتاني - رحمه الله تعالى- مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبجل مكرم، قدس يوم ولادته وشرف وعظم، وكان وجوده صلى الله عليه وسلم مبدأ سبب النجاة لمن اتبعه وتقليل حظ جهنم لمن أعد لها لفرحه بولادته صلى الله عليه وسلم وتمت بركاته على من اهتدى به، فشابه هذا اليوم يوم الجمعة من حيث إن يوم الجمعة لا تسعر فيه جهنم، هكذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم فمن المناسب إظهار السرور وإنفاق الميسور وإجابة من دعاه رب الوليمة للحضور.

وقال الإمام العلامة ظهير الدين جعفر التزمنتي - رحمه الله تعالى-: هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح مع تعظيمهم وحبهم له إعظاما ومحبة لا يبلغ جمعنا الواحد منهم ولا ذرة منه، وهي بدعة حسنة إذا قصد فاعلها جمع الصالحين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام للفقراء والمساكين، وهذا القدر يثاب عليه بهذا الشرط في كل وقت، وأما جمع الرعاع وعمل السماع والرقص وخلع الثياب على القوال بمروديته وحسن صوته فلا يندب بل يقارب أن يذم، ولا خير فيما لم يعمله السلف الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها » .

وقال الشيخ نصير الدين أيضا: ليس هذا من السنن، ولكن إذا أنفق في هذا اليوم وأظهر السرور فرحا بدخول النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود واتخذ السماع الخالي عن اجتماع المردان وإنشاد ما يثير نار الشهوة من العشقيات والمشوقات للشهوات الدنيوية كالقد والخد والعين والحاجب، وإنشاد ما يشوق إلى الآخرة ويزهد في الدنيا فهذا اجتماع حسن يثاب قاصد ذلك وفاعله عليه، إلا أن سؤال الناس ما في أيديهم بذلك فقط بدون ضرورة وحاجة سؤال مكروه، واجتماع الصلحاء فقط ليأكلوا ذلك الطعام ويذكروا الله تعالى ويصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاعف لهم القربات والمثوبات.

وقال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه: «الباعث على إنكار البدع والحوادث » قال الربيع: قال الشافعي - رحمه الله تعالى ورضي عنه-: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواحد من هذا. [ ص: 365 ]

فهي محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر - رضي الله تعالى عنه- في قيام رمضان نعمت البدعة هذه. يعني أنها محدثة لم تكن. وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.

قلت: وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على قيام شهر رمضان وفعله هو صلى الله عليه وسلم واقتدى به فيه بعض أصحابه ليلة أخرى. ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالمسجد جماعة، لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع وفعله والحث عليه والترغيب فيه. والله تعالى أعلم.

فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي. وذلك نحو بناء المنابر والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى. ومن أحسن ما ابتدع في زماننا هذا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة «إربل » جبرها الله تعالى، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله وشكر الله تعالى على ما من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيرهم رحمهم الله تعالى.

وقال الشيخ الإمام العلامة صدر الدين موهوب بن عمر الجزري الشافعي رحمه الله تعالى: هذه بدعة لا بأس بها ولا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في إظهار السرور والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 366 ]

وقال في موضع آخر: هذا بدعة، ولكنها بدعة لا بأس بها، ولكن لا يجوز له أن يسأل الناس بل إن كان يعلم أو يغلب على ظنه أن نفس المسؤول تطيب بما يعطيه فالسؤال لذلك مباح أرجو أن لا ينتهي إلى الكراهة.

وقال الحافظ- رحمه الله تعالى-: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما

ثبت في الصحيحين من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى. فقال: «أنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه .

فيستفاد من فعل ذلك شكرا لله تعالى على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات والسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي الكريم نبي الرحمة في ذلك اليوم؟

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم حتى نقلوه إلى أي يوم من السنة. وفيه ما فيه.

فهذا ما يتعلق بأصل عمل المولد.

الاثنين، 25 أغسطس 2025

خطأ إقحام العوام في النقاشات الدينية

خطورة الفتوى والقول على الله بغير علم:
لكل من تكلم في مشروعية المولد هل أنت عالم متخصص في الدين لتفتي على حكم مشروعية المولد؟ أم أنت في درجة الأئمة والعلماء المعتبرين ودور الفتوى التي أفتت بجوازه؟
إعلم هداك الله أن الكلام في الدين بدون علم كبيرة من الكبائر، قال تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}، وقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} 
الفتوى هي توقيع عن رب العالمين كما قال ابن القيم رحمه الله: المفتي موقّع عن رب العالمين. فكيف يُعقل لمن لم يتأهل أن يوقّع عن الله وهو لا يعرف أصول الحكم الشرعي؟ العالم وحده يتحمل مسؤولية الفتوى إذا أخطأ، فعلى العامي عدم التدخل فيما لا يحسن من علم شرعي حتى لا يحرم ما أحل الله ويحرم ما أحل الله بغير علم.
يجب احترام التخصص في العلوم الشرعية:
العلماء يتكلمون عن قواعد وأصول لا يدركها العوام، فالعالم عندما يفتي أو يقرر مسألة دينية فإنه لا يعتمد على رأي مجرد، بل على:
▪️نصوص من القرآن والسنة.
▪️معرفة التفسير وأسباب النزول 
▪️معرفة علوم الحديث والجرح والتعديل والعلل
▪️معرفة اللغة العربية وأصولها وإعراب القرآن الكريم.
▪️معرفة الناسخ والمنسوخ.
▪️معرفة المطلق والمقيد
▪️معرفة قواعد أصول الفقه.
▪️معرفة مقاصد الشريعة.
وغيرها من العلوم المنخصصة
والعوام يجهلون بطبيعة الحال هذه العلوم ، فكيف يعترضون على الأئمة والعلماء المعتبرين؟

يجب احترام التخصص الشرعي، فكما لا يحق لغير الطبيب أن يُجري عملية جراحية، ولا لغير المهندس أن يضع مخطط بناء، فكذلك الدين علم له أدواته وقواعده (اللغة، أصول الفقه، الحديث، التفسير… إلخ). فالعوام لا يملكون هذه الأدوات، فيكون دخولهم في تفاصيل الأدلة واستنباط الأحكام عبثًا وخوضًا في غير تخصصهم.
لا لتطاول العوام على العلماء:
العامي غير المتخصص في العلوم الشرعية غير مكلف بالنظر في الأدلة الشرعية، بل غير مؤهل للنظر فيها ومناقشتها. والطامة الكبرى وقمة العبث والفوضى العلمية هي مطالبته للغير بالدليل وهو غير مؤهل للنظر في الأدلة. لذا لا يسعه إلا إلى الرجوع للعلماء الثقاة أهل الذكر ولا يجتهد بنفسه بغير علم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، وقال تعالى: {وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلࣰا}، والرد إلى الله ورسوله لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون. واجبهم سؤال العلماء الثقاة الموافقين لجمهور أهل العلم الذين تلقتهم الأمة بالقبول لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وبراءتهم أمام الله تكون باتباع من أفتى لهم من العلماء المعتبرين أو الجهات الرسمية، 
جاء رجل إلى الإمام الشافعي يناقشه في مسألة، فقال له الشافعي: «أأنت من أصحاب الحديث؟» 
قال: لا.
قال: «أفأنت من أصحاب الفقه؟» 
قال: لا.
فقال الشافعي: «إذن: أنا أتكلم معك في علم لا تحسنه، فإياك أن تعترض عليّ».
وقال الإمام الشعبي [ت 103هـ] : «إنما هلكتم حين تركتم أخذ العلم عن أهله، وأخذتموه عن صغاركم» [رواه أبو نعيم في الحلية].

السبت، 9 أغسطس 2025

لفظ الاستغاثة في حديث الشفاعة الكبرى

عن حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأتِيَ يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ». وَقالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]
وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الشَّمسَ لَتَدنو حتى يَبلُغَ العَرَقُ نِصفَ آذانِهم، فبينَما هم كذلك استَغاثوا بآدَمَ، فيقولُ: لستُ صاحِبَ ذاك، ثم بموسى عليه السَّلامُ فيقولُ كذلك، ثم بمُحمَّدٍ ﷺ ويَشفَعُ لِيُقضى بين الخَلْقِ، فيَمشي حتى يأخُذَ بحَلقَةِ الجَنَّةِ، فيومَئذٍ يَبعَثُه اللهُ مَقامًا مَحمودًا يَحمَدُه أهلُ الجَمعِ كُلُّهم.» [أخرجه بن منده في الإيمان]
وعن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّمسَ لتدنو حتّى يبلُغَ العَرَقُ نصفَ الأُذنِ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: لست صاحبَ ذلك، ثمَّ بموسى عليه السَّلامُ، فيقولُ: كذلك، ثمَّ بمحمَّدٍ، فيشفعُ بين الخلقِ، فيمشي حتّى يأخذَ بحلقةِ الجنَّةِ، فيومئذٍ يبعثه اللهُ مقامًا محمودًا»[أخرجه بن جرير الطبري في تفسيره]
وعليه فيجوز الاستغاثة بالخلق على سبيل التسبب إذ أن المغيث حقيقة هو الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله

الخميس، 31 يوليو 2025

حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة هل يدخل هذا التعامل في الربا؟ لا، لا يدخل فيه

🟤 حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة، هل يدخل هذا التعامل في الربا؟

الجواب:
من يعرف النظام المالي والمصرفي الحديث يدرك تمامًا هذا النوع من المعاملة جائز شرعًا، ولا يدخل في باب الربا، وإنما هو من باب بيع المنافع أو الجعالة على فعل مباح، وبيان ذلك كما يلي:

أولًا: تحرير محل النزاع
المعاملة محل السؤال هي أن شخصًا يملك رصيدًا في حسابه البنكي، فيطلب من آخر أن يسلمه نقدًا (كاش) مقابل تحويل ذلك الرصيد إليه، على أن يأخذ المحوِّل نسبة معلومة (كـ5% مثلًا) من المبلغ كأجر على هذه الخدمة.
وهذه الصورة ليست من باب بيع النقد بالنقد حتى يقال: يشترط التماثل والتقابض، بل هي من باب أداء خدمة بأجر معلوم.

ثانيًا: الرصيد البنكي ليس عين المال، وإنما هو مجرد حق مالي
الرصيد البنكي ليس عين النقد، وإنما هو حق ثابت في ذمة البنك، والدليل على ذلك أنك لا تستطيع أن تمسك الرصيد بيدك، بل هو معلومة في النظام المصرفي تفيد أن لك مبلغًا في ذمة البنك.
والفقهاء قرروا أن الحقوق المالية يجوز التصرف فيها بطرق متعددة، ومنها الإنابة والوكالة، مع أجر أو بدون أجر.

ثالثًا: الواقع أن صاحب الكاش يؤدي خدمة نيابة عن البنك
في النظام المصرفي السليم، البنوك هي التي تتكفّل بتحويل الأرصدة إلى نقد عبر الصرافات الآلية، وتأخذ على ذلك عمولة معلومة. فإذا تعطّلت هذه الخدمة، وصار أفراد المجتمع يقومون بها، فإنهم يقومون بعمل هو في أصله من مسؤولية البنك، ويجوز لهم أخذ الأجرة عليه.

رابعًا: هذه المعاملة داخلة في باب الجعالة، أو الإجارة على عمل مباح
الذي يدفع لك النقد مقابل أن تحول له الرصيد، لم يبع لك نقدًا بنقد، بل استأجرك على أن توفر له خدمة: وهي تمكينه من النقد، عبر سحب رصيده أو مقابل نقل ملكيته. فهي من باب الجعالة: (من يأتي بكذا فله كذا)، أو الإجارة على المنافع: (أنت توصل لي الكاش، ولك أجر معلوم).

خامسًا: نسبة العمولة لا تجعلها ربا، بل تعكس تفاوت الجهد والمخاطرة
توفير الكاش، خصوصًا في بيئات تعاني من أزمة سيولة، يتطلب:
▪️مجهودًا كبيرًا في جمعه من مصادر متعددة
▪️مخاطر أمنية في حفظه ونقله
▪️ترتيبًا وعدًّا وتغليفًا بدقة
▪️التزامًا بتسليم المبلغ في وقت ومكان معين
▪️دعك من المجهود والوقت وخدمة الإنترنت وجهاز الموبايل الضروري لإجراء المعاملة

وهذه التكاليف تختلف باختلاف المبلغ، لذا من الطبيعي أن تتناسب الأجرة مع الجهد والمخاطرة، وهذا أصل معتبر في باب الإجارات والجعالات، وقد قرر الفقهاء أن الأجرة يجوز أن تكون نسبة من المال إذا لم تكن المعاملة محرّمة في أصلها.

سادسًا: القياس على ربا الفضل أو النسيئة قياس مع الفارق
من قاس هذه المعاملة على ربا الفضل أو النسيئة في بيع الذهب بالذهب أو الدراهم بالدراهم، فقد أخطأ من جهتين:
1. أن الرصيد البنكي ليس مالًا عينًا، بل هو حق مالي، فلا ينطبق عليه شرط التماثل والتقابض.

2. أن النقد الورقي المعاصر ليس جنسًا ربويًا حقيقيًا، لأنه لا يُقتنى لذاته، بل هو أداة تبادل وليس سلعة في نفسه، والربا يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، والعلة هنا مفقودة.

سابعًا: لو عاد النظام المصرفي إلى كفاءته، لما ظهرت هذه الخدمة
وهذا أقوى دليل على أن ما يحدث هو بديل عن خدمة تعطّلت، وليس نشاطًا تجاريًا ربوياً، لأن الناس لا يلجؤون إلى هذه المعاملة إلا عند فقدان القدرة على السحب المباشر. فلو توفرت السيولة في البنوك لما احتاج أحد إلى تحويل الرصيد مقابل عمولة، وهو ما يدل أن محل المعاملة هو الخدمة، لا المال في ذاته.

وعليه فإن هذه المعاملة جائزة شرعًا، وهي من باب بيع المنافع أو الجعالة، ولا تدخل في باب الربا، لأن الربا لا يكون إلا في بيع مال ربوي بجنسه مع تأجيل أو زيادة، ولا يوجد شيء من ذلك هنا.

⚠️ تنبيه مهم: لا يجوز استغلال حوجة الناس برفع العمولة إلى نسبة مجحفة
وإن كنا قد بيّنا جواز هذه المعاملة من حيث الأصل الشرعي، إلا أننا نُذكّر بأن الإسلام لا يُبيح استغلال حاجة الناس وضعفهم. فالأصل أن تكون العمولة مقابلة عادلة للخدمة والمجهود المبذول، لا أن تُحوّل إلى باب من أبواب أكل أموال الناس بالباطل.
وقد نص العلماء على أن: «كل معاملة وإن كانت جائزة في أصلها، إذا دخلها ظلم أو استغلال أو تغرير، صارت محرّمة لما شابها من المفاسد.» 
وقد قال النبي ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»[رواه أحمد وغيره]، وقال أيضًا: «من لا يَرحم لا يُرحم»[متفق عليه].
فعلى من يقدّم هذه الخدمة أن يتقي الله تعالى، وأن يتعامل برحمة وعدل وتقدير حقيقي للمجهود، دون استغلال ظروف الناس المعيشية، فالدين ليس فقط أحكامًا، بل هو أخلاق وقيم ومروءة.

السبت، 14 سبتمبر 2024

الرد على رسالة: الاحتفال بالمولد النبوي شبهات وردود

◾ صلاحية الإسلام:
من المعلوم أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وفيه ضمن تعاليمه الشرعية من المرونة ما يستوعب المستجدات العصرية في حياة الناس، كيف لا وهو الدين الخاتم الذي ليس بعده دين. ولا يخفى أن قوّة التديُّن وشدّة العناية بالدين تضعف كُلّما مرّت السنين وبَعُد التاريخ من صدر الإسلام، ما يوجب اتخاذ تدابير معاصرة لتعويض النقص وسدّ الخلل، وهي مسائل معاصرة يجتهد فيها العلماء والرُّوَّاد من أهل كل زمان، وقد وفّر لهم الدين المساحة الكافية للتحرك من خلال المرونة في الاستجابة لتحديات العصر بدون حرج. لذا فإن الذين يتجاهلون مرونة الإسلام ويدفعون الناس للتدين وفقًا لنمط الحياة في العصور الأولى بدون مراعاة للواقع وتحدياته فإنهم جهلة وأدعياء وإن تلبّسوا بلباس العلماء.

◾ أكثرية العلماء تمثل المجلس الاستشاري العلمي الأعلى في الأمة:  
من المعلوم أن الدين يُؤخذ عن العلماء المُعتبرين المشهورين بالعلم والعمل، الذين تخصَّصوا في العلوم الشرعية وتَأهَّلوا لتبليغ الرسالة المحمدية. وعندما يُقال إن هذا الأمر عليه أكثر العلماء أو أجازه جمهور أهل العلم فيجب الانتباه والاكتراث، لأن العبرة ليست بالكثرة المطلقة وإنما بكثرة العلماء المتخصِّصين في الدين، فالقِلَّة التي تُخالفهم ليست معصومة في فهمها للدين ونصوصه لترجيح كفّتها ولكن جماعة العلماء معصومة من الضلال لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

◾ تصحيح مفهوم البدعة وفقًا لما عليه جمهور العلماء: 
البدعة هي إحداث شيء جديد غير مسبوق، وهذا المُحدَث لا بد له من حالين:  
١/ أن يكون موافقًا لتعاليم الإسلام، كتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل تيسيرًا على العوام والأعاجم، وهذا بطبيعة الحال شيء محمود.  
٢/ أن يكون مخالفًا لتعاليم الإسلام كتكفير المسلمين ورميهم بالشرك آخذين في الاعتبار نهي النبي ﷺ عن ذلك ووعيده لفاعله، وهذا مذموم بلا شك.  
لذا فالبدعة فيها المحمود وفيها المذموم كما قرر ذلك جمهور أهل العلم وعلى رأسهم الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة المتبوعين المتوفى في القرن الثالث الهجري سنة ٢٠٤هـ، أحد قرون السلف الصالح. قال النبي ﷺ: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ» ويفهم منه: (أنَّ مَن أحدث في ديننا ما هو منه، وله أصل في الشريعة يدل عليه فليس برَدّ). قال ابن رجب الحنبلي في [جامع العلوم والحِكم]: «والمراد بالبدعة ما أُحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدلّ عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة». لذا فما كان له أصل في الشريعة يدل عليه كان بدعة حسنة، وما كان بخلاف ذلك كان بدعة سيئة. 

◾ أقسام الدليل الشرعي الذي تُعرف به البدعة:
الأدلة الشرعية التي تميز البدعة الحسنة من السيئة تنقسم إلى قسمين:  
١/ دليل خاص: وهو النص الوارد في موضوع معين، كبيان النبي ﷺ مثلًا أنه يصوم يوم الإثنين لأنه اليوم الذي وُلِد فيه، فهذا دليل خاص على عناية النبي ﷺ بذكرى ميلاده الشريف.  
٢/ دليل عام: وهو نص عام تندرج تحته مواضيع غير محددة وغير محصورة كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [سورة المائدة: ٢]، فلم يُفصّل البر ولا التقوى ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل بر وتقوى، وكقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج: ٧٧]، لم يُفصِّل الخير ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل يرى الناس أنه خير، وكقول النبي ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواه مسلم]، لم يُفصِّل النفع ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل ينفع الناس.

◾ أبجديات الاستدلال في علم الأصول:  
من أبجديات علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الاستدلال يعتمد على استخراج الشاهد، وهو الجزء من النص الذي يُستَدلّ به على الحكم الشرعي. ولا يُشترط التطابق التام بين النص والمسألة المُستدَلّ عليها، بل يكفي أن يكون في النص ما يدل على الحكم بوجه من الوجوه. 

◾ عبارة (كل) لا تقتضي الشمول: 
قوله ﷺ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» لا يقتضي أن كل البدع مذمومة لأن عبارة (كل) لا تقتضي الشمول ولا تعنيه دائمًا، كما قال الله تعالى عن ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [سورة الأحقاف: ٢٥] فهل دمرت العرش والكرسي والقلم واللوح والجنان والنيران والسماوات والأرض؟! فهذه أشياء بلا خلاف. وقال الله تعالى عن الملك: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [سورة الكهف: ٧٩] فهل كان يأخذ كل السفن بما فيها المخروقة والمعيبة؟! لا، بل كان يأخذ السفن السليمة فقط، لأجل خرق سيدنا الخضر عليه السلام سفينة المساكين حتى لا يأخذها الملك. هذا النوع من الكُلِيَّة يُعرَف عند العلماء بالكُلِيَّة المنخرقة أو العام المخصوص، حيث يُطلَق الكل ويُراد الجزء، فأُطلِق لفظ البدعة وأُريد البدعة المذمومة، والتقدير: (كل بدعة بلا أصل يدل عليها هي بدعة ضلالة). ويؤيد هذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح: «نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، فكيف يمدح البدعة لو كانت كل بدعة ضلالة بالمعنى الحرفي والسطحي للمتطرفين؟! كيف يمدح البدعة الضلالة وهو الذي يجري الحق على لسانه وقلبه كما قال النبي ﷺ؟!

◾ مشروعية المولد هو مذهب جمهور أهل العلم:
جمهور أهل العلم من كافة المذاهب، ودور الفتوى في العالم الإسلامي أفتوا بمشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف استنادًا إلى أصول شرعية معتبرة وأدلة محكمة، وهذا كافٍ ووافٍ، فالقِلَّة القليلة المعترضة لا تبلغ في العلم ولا جلالة القدر معشار الأغلبية المحتفلة، طبعًا ولا تتمتع بالعصمة لترجح رأيها على رأي جمهور أهل العلم، بل العصمة مع جمهور العلماء لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وبهذا تسقط الدعوى الواهية بأن الاحتفال بالمولد "بدعة" لكونه لم يكن موجودًا في القرون الثلاثة الأولى، ولكون النبي ﷺ قال: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، فالعبرة بالأصل الشرعي الذي يقوم عليه الاحتفال وليس بإقامته في عصور من العصور من عدم إقامته لأن الدافع وراء الكثير من الأمور المستحدثة هو الحاجة والتي تختلف باختلاف العصور. 

◾ البدعة الحسنة سُنَّة:
قول النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، لَا يُنْقَصُ ذَٰلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم]، يعتبر من الأصول العامة العظيمة التي يُستدل بها على مشروعية كثير من الأعمال الدينية المعاصرة، فالنبي ﷺ لم يفصِّل السُّنن الحسنة بل ترك الباب مفتوحًا لتندرج تحت هذا الأصل كل مُحدثة محمودة، بل وجعلها سُنَّة ووصفها بالحُسن كما قال الإمام ابن الأثير في [النهاية]: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سُنَّة»، فقد نسبها النبي ﷺ للإسلام وسمَّاها (سُنَّة حسنة) فقال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً».

◾ الفرق كبير بين سَنِّ سُنَّة وإحياءِ سُنَّة:
السُّنَّة في حديث السُّنَّة الحسنة المشهور ليس المقصود بها إحياء سُنَّة متروكة من سُنن النبي ﷺ، فالسَّنُّ شيء والإحياء شيء آخر تمامًا، بدليل أن النبي ﷺ بالمقابل وفي نفس الحديث ذمَّ السُّنَّة القبيحة المضافة للإسلام وسمَّاها (السُّنَّة السيئة) فقال: «وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً»، فإذا كان المقصود بسَنِّ السُّنَّة إحياءُ سُنَّة ميتة فهل في الإسلام سُنن سيئة لإحيائها؟! قطعًا لا يوجد، فدلَّ على أن المقصود بالسُّنَّة معناها اللغوي المعروف وهو إحداث أمور في الإسلام جديدة إما محمودة أو مذمومة يسير عليها الناس من بعد، وليس المقصود إحياءَ سُنَّة من سنن النبي ﷺ المهجورة المرغب في إحيائها بقوله ﷺ: «من أحيا سنَّةً من سنَّتي قد أميتت بعدي فإنَّ لَه منَ الأجرِ مثلَ أجورِ من عملَ بِها من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شيئًا» [رواه البغوي في شرح السنة]، فهذا شيء وذاك شيء آخر. 

◾ السُّنَّة التقريرية خير شاهد على البدعة الحسنة:
السُّنَّة التقريرية هي إقرار النبي ﷺ عملًا قام به أحد الصحابة رضي الله عنهم بدون أن يسبقه إليه النبي ﷺ أو يطلبه منه، والعمل بهذا الوصف مُحدث، لكن النبي ﷺ كان يقر المحمود الموافق لتعاليم الإسلام وله في الشريعة ما يدل عليه كقول الصحابي في الصلاة: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ» [رواه البخاري]، وكان يرفض ولا يقبل المخالف لتعاليم الإسلام وليس له في الشريعة ما يدل عليه كالشَّفاعة مثلًا في المخزومية التي سرقت، وكقتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله. ولو كان المقصود بقوله ﷺ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ما فهمه المتطرفون من ظاهر النص أن كل المحدثات مذمومة، لما أقر النبي ﷺ عملًا لم يسبق هو إليه ولم يطلبه، بل لكان الأولى أن يرفضه وينهى عن العودة لمثله في المستقبل، وهذا لم يحدث، بل صارت السُّنة التقريرية أصلًا عظيمًا من أصول الدين وقسمًا عظيمًا من أقسام السُّنة، ما يثبت أن المحدثات من الأمور فيها المحمود وهي البدع الحسنة وفيها المذموم وهي البدع الضلالة، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا.

◾ صلاة التراويح من الأمثلة الواقعية على البدعة الحسنة:
إن صلاة التراويح التي أمر بها سيدنا عمر رضي الله عنه كانت تختلف عن صلاة القيام التي صلاها النبي ﷺ لثلاث أيام من رمضان ثم تركها خشية أن تُفرض، فقد كانت صلاة النبي ﷺ آخر الليل وقريب الفجر كما روى سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وبعدد قليل من الركعات لا يزيد عن عشر ركعات من غير الوتر، بينما كانت صلاة التراويح في عهد سيدنا عمر تُقام أول الليل، وبعشرين ركعة، وبإمامين أحدهما للرجال والثاني للنساء، وبالمئين من القرآن، ولطول الشهر الفضيل ولكل عام. وهي بهذه الهيئة تختلف عن الصلاة التي صلاها النبي ﷺ، ولا يمكن اعتبارها سُنَّة من هذا الوجه، لكن يمكن اعتبارها أصلًا يدل مشروعيتها وتدخل به في باب البدع الحسنة، ويؤيد ذلك قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، مقرًا أنها بدعة حسنة فقد مدحها كبدعة وليس كسُنَّة نبوية، فالسُّنة النبوية لا يمكن أن توصف بالبدعية، لا لغويًا ولا شرعيًا لأنها الأصل والمصدر الثاني للتشريع.

◾ الدافع وراء البدع الحسنة هو الحاجة والضرورة العصرية:
الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لجمع القرآن، واستحسان جمهور علماء المسلمين لإقامة الموالد هو الحاجة والضرورة العصرية. فإن جمع القرآن وتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل وترقيم آياته وأحزابه وأجزائه وصفحاته وبيان مواضع الوقف والوصل وعلامات التجويد وغيرها من الأمور المحدثة التي أضيفت إلى كتاب الله والمصدر الأول للتشريع لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يأمر بها، ومع ذلك هي ليست بدعًا ضلالات لأنها تندرج تحت الدليل العام: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، والدليل العام: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. فهي خير وبر وتقوى دعت إليها ضرورة الخشية على القرآن من الضياع، وكثرة دخول الأعاجم في الإسلام والحاجة للتيسير. والاحتفال بالمولد النبوي الشريف لا يختلف عن ذلك، فهو أيضًا وسيلة معاصرة فيها من الخير والبر ما فيها للتعبير عن الفرح بنعمة ميلاد النبي ﷺ ومساعدة الأجيال المتأخرة على زيادة الاهتمام به ﷺ والتعرف عليه بما يثمر عن محبته وتعظيمه وتوقيره في عصور كثرت فيها الغفلة وضعف فيها الدين وزاد فيها الانشغال عن رسول الله بما كاد أن يفصل الرأس من الجسد، في حين أن قوة الصلة بين الأمة ونبيها ﷺ مطلب شرعي أساسي يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان.

◾ بطلان الاحتجاج بما روي عن الإمام مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}:
أولاً: ما روي عن الإمام مالك في هذه الآية لا يثبت لضعف عبد الملك بن حبيب السلمي، والمتهم بالكذب فهو ساقط في الاحتجاج. 
ثانيًا: حتى لو افترضنا جدلًا ثبوت الرواية فليس فيها حجة لأن الإسلام لم يكتمل بنزول هذه الآية، فقد نزلت بعدها آيات وسورة، والنبي ﷺ ما توفي بعد نزول هذه الآية بل عاش أيامًا يتكلم ويفعل ويقرر وكل ذلك سُنَّة نبوية ودين، والاجتهاد في الدين لم يتوقف عند نزول هذه الآية ولن يتوقف إلى قيام الساعة، وهو متجدد ويغطي المسائل المستحدثة.
ثالثًا: ثبت أن إحداث وسائل جديدة مؤصَّلة شرعيا لتحقيق مقاصد الشريعة هو من صميم الدين وأحد مظاهر مرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

◾ فساد تصنيف الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة:
إن تقسيم الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة بهذا الإطلاق تقسيم فاسد ومبتدع. فإن سئلت عن الطعام أو الشراب، أهما عادة أم عبادة؟ ماذا ستقول؟ إن قلت عبادة كنت مخطئًا لأن الكافر بقولك هذا عابد لله، بل وأفضل عبادة من المسلم لقول النبي ﷺ: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد»، وإن قلت عادة فقد أخطأت أيضًا لأنك بذلك نفيت وألغيت أحكام الشريعة المتعلقة بالطعام والشراب، وجوزت بذلك أكل الخنزير والميتة والدم وما أهل به لغير الله، وأبحت شرب الخمر، وغير ذلك، فيظهر بذلك فساد هذا التقسيم.
لذلك قسم أهل العلم الشريعة إلى الأحكام الخمسة المعروفة: الحلال والمستحب والحرام والمكروه والمباح، وهي تستوعب كل الأحكام. فمن الطعام ما هو حلال كبهيمة الأنعام، ومنه ما هو مستحب كالتمر والزيتون وكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومنه ما هو حرام كلحم الخنزير والميتة، ومنه ما هو مكروه كالبصل والثوم والكراث، ومنه مباح كسائر الطعام الذي لم يرد فيه نص. وللطعام والشراب آداب شرعية أيضًا كالبسملة، وتناول الطعام مما يليك، والشرب جالسًا، وعدم التنفس في الإناء، وفيه سنن مثل لعق الأصابع بعد الأكل، والأكل بثلاثة أصابع، والشرب على ثلاث دفعات، وعدم عيب الطعام، وغير ذلك، وكل ذلك دين. لذلك قسم العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة: المحرمة والمكروهة والواجبة والمستحبة والمباحة، وهو تقسيم يستوعب أقسام البدعة بشقيها الحسنة والسيئة.

◾ الذكرى من الأمور الثابتة التي دعت إليها الشريعة الغراء:
المولد جوهره ذكرى حيث يتناول سيرة النبي ﷺ من قبل ولادته، مرورًا بطفولته، ونبوته وبعثته ودعوته وإسرائه ومعراجه وهجرته وأوصافه وشمائله وخصائصه وكثير مما يجهله الناس عن رسولهم ﷺ. وقد مدح الله تعالى الذكرى وحضَّ عليها فقال تعالى: {.. وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة إبراهيم: 5]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات: 55]. فمن لم تنفعه الذكرى فكأنه أحمق أو غير مؤمن.

◾ صيام يوم الإثنين من الحجج القوية على مشروعية المولد:
إن مداومة النبي ﷺ لصيام يوم الإثنين شكرًا لله تعالى على نعمة ميلاده سُنَّة مؤكدة ودليل صحيح وصريح وأصل عظيم من أصول مشروعية المولد النبوي الشريف لأنه يلفت النظر لنعمة الميلاد العظيمة التي يغفل عنها الكثيرون حتى بعض الذين يصومون يوم الإثنين من أمته. وقد أشار النبي ﷺ للحكمة من الصيام بوضوح وجلاء بقوله ﷺ: «فِيهِ وُلِدْتُ»، وهنا بيت القصيد وموضع الشاهد وعين الاستدلال. ومن عظمة هذه المناسبة أن اختار الله تعالى ذلك اليوم لنزول القرآن العظيم فقال ﷺ: «وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ». أما كونه ﷺ شكر الله تعالى على هذه النعمة بالصيام فلا يستلزم أن يحتفل الجميع بالصيام فقط لأن العلة الأساسية هي لفت النظر للنعمة بما يوجب شكرها والاكتراث لأمرها، ولأن الشكر قد يكون بالسجود أو الصلاة أو الذبح أو النذر أو الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة، فالشكر حمدٌ مقرون بعمل. ولأن الصيام قد لا يتيسر لجميع المسلمين كالمرضى وكبار السن والأطفال والحوامل وغيرهم من ذوي الأعذار الشرعية، لكن من حق الجميع أن يفرحوا بميلاد الرحمة المهداة والنعمة المسداة ﷺ، ولذا شرع لهم رسول الله ﷺ الذبح وإطعام الطعام بحديث عقيقته عن نفسه ﷺ وهو حديث صحيح.

◾ بطلان الاعتراض على حديث عقيقة النبي ﷺ عن نفسه:
حديث: «عقَّ رسول الله ﷺ عن نفسه بعد أن بُعِث نبيًّا» حديث صحيح لا مطعن فيه من عدة وجوه:
أولًا: من أبجديات علم الحديث أنه لا يُحكم على الحديث من إسناد أو طريق واحدة، فلابد من جمع كل الطرق والأسانيد الأخرى للحكم على الحديث، فإن الأسانيد الأخرى حتى لو كان فيها ضعف فقد تقوي بعضها بعضًا وترقى بالحديث الضعيف إلى رتبة الحسن وبالحسن إلى الصحيح.
ثانيًا: حديث أن النبي ﷺ عَقَّ عن نفسه بعد النبوة صحيح، فقد أخرجه الطبراني في [الأوسط]، وأبوالشيخ في [العقيقة]، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في [مستخرجه]، والضياء المقدسي في [المختارة]، والطحاوي في [مشكل الآثار] وغيرهم من طريق الهيثم بن جميل، ثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه رفعه. ورجاله ثقات، احتج بهم الإمام البخاري في صحيحه سوى الهيثم بن جميل وهو ثقة. قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/329) رقم: (7960)، وابن حبان في «الضعفاء» (2/33)، من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه. كما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/461)، وابن حزم في «المحلى» (8/321)، من طريق ثُمامة بن أنس عن أنس رضي الله عنه. صححه الضياء المقدسي في [المختارة]، وقوى إسناده الحافظ في [الفتح]، والعراقي في [طرح التثريب]، وغيرهم.
ثالثًا: رواية عبد الله بن المُثنى عن عمه ثُمامة كما في هذا الإسناد حجة، فقد احتج بها البخاري في صحيحه، قال الحافظ في [هدي الساري]: «لم أرَ البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثُمامة، فعنده أحاديث، وأخرج له من روايته عن أنس حديثًا توبع فيه عنده».
رابعًا: له شاهد ومتابعة، فقد قال الحافظ في [فتح الباري]: «وأخرجه أبو الشيخ من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة»، وإسماعيل وإن كان فيه ضعف إلا أنه يصلح للمتابعة والشواهد، قال عنه أبو حاتم: «ليس بمتروك، يكتب حديثه»، وقال عنه ابن سعد: «كان له رأي وفتوى، وبصر وحفظ للحديث، فكنت أكتب عنه لنباهته».
خامسًا: لم يجد شيخهم الألباني بُدًّا من تصحيحه، «السلسلة الصحيحة» (6/1/502) برقم: (2726).
سادسًا: للحديث آخر إسناد ضعيف، أخرجه البزار في [مسنده]، وعبد الرزاق في [مصنفه]، وابن عدي في [الكامل]، والبيهقي في [السنن]، وابن المديني في [العلل] وغيرهم من طريق عبد الله بن مُحرَّر عن قتادة عن أنس به. وعبد الله بن محرر ضعيف لكن يصلح للمتابعة لأنهم ما تركوه إلا بسبب هذا الحديث، زعموا أنه تفرد به وأنه باطل ومنكر، قال البزار: «تفرد به عبد الله بن المُحرَّر، وهو ضعيف جدًا إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره»، وقال الذهبي في [الميزان]: «إن هذا الحديث من بلايا ابن مُحرَّر»، وعدّ الذهبي في [تاريخ الإسلام] الحديث من مفاريده، وقال الحافظ عنه: «متروك»، وقال البيهقي: «منكر، وفيه عبد الله بن مُحرَّر ضعيف جدًا»، وقال ابن عبد البر: «وعبد الله بن مُحرَّر ليس حديثه بحجة»، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال: «إنما تركوا عبد الله بن مُحرَّر بسبب هذا الحديث». أمَا وقد ثبت أن الحديث صحيح وله طرق، فيكون هذا الإسناد لعبد الله بن مُحرَّر شاهدًا إضافيًّا ومقويًا لله ، وتبرئة لعبد الله بن مُحرَّر مما نسب إليه من وتفرده بالحديث، ويكون ممن تُكُلِّم فيه بغير حجة.
سابعًا: ذهب السلف إلى العمل بهذا الحديث مما يدل على أنه كان مشهورًا بينهم، فروي عن قتادة أنه كان يفتي به، ذكره ابن عبد البر، وأخرج ابن أبي شيبة في [مصنفه] عن محمد بن سيرين قال: «لو أعلم أنه لم يُعَقَّ عني لعققت عن نفسي»، وأخرج ابن حزم في [المُحلّى] عن الحسن البصري أنه قال: «إذا لم يُعَق عنك فعق عن نفسك، وإن كنت رجلًا»، وغير ذلك.

◾ النبي ﷺ تذاكر سيرة مولده الشريف مع الصحابة رضوان الله عليهم فتأسى المحتفلون بالمولد به ﷺ في ذلك:
ثبت أن النبي ﷺ تذاكر مع أصحابه رضي الله عنهم سيرة مولده الشريف وما حدث فيه من العجائب وهذا يؤصل لمدارسة السيرة في المولد، فقد أخرج أحمد والبزَّار والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي وأبو نُعَيم وغيرهم عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذٰلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذٰلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَينَ، وَإنَّ أُمَّ رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ»

◾ الفرح بقدوم النبي ﷺ إلى الدنيا أولى من الفرح بقدومه من الغزو:
إن إقرار النبي ﷺ التغني وضرب الدف فرحًا بقدومه ﷺ من الغزو يجعل الفرح بقدومه إلى الدنيا بالميلاد أولى وأعظم، وهذا يضاف إلى أدلة مشروعية الاحتفال بمولده ﷺ لكون أن إقرار النبي ﷺ ولو مرة واحدة هو حجة، فقد كان لا يؤخر البيان عن وقته.

◾ تخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ خصوصية نبوية:
خبر تخفيف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ وإعتاقه ثويبة أخرجه الإمام البخاري في صحيحه واستدل به العلماء على عظمة الفرح بمولد النبي ﷺ وفائدته حتى للكافر، فكيف بالمؤمن المحب؟! وعدوا ما حصل لأبي لهب من تخفيف للعذاب في النار من خصائصه ﷺ، قال الإمام الكرماني: «يحتمل أن يكون العمل الصالح والخير الذي يتعلق برسول الله ﷺ مخصوصًا، كما أن أبا طالب أيضًا ينتفع بتخفيف العذاب»، وقال الإمام السُّهَيلي: «يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي ﷺ مخصوصًا من ذلك بدليل قصة أبي طالب حيث خُفف عنه»، وقال الإمام القرطبي: «هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه، والله أعلم».

◾ الاجتماع للمولد ليس مشروعًا فقط بل مستحب:
الاجتماع للمولد ومذاكرة سيرة النبي ﷺ ومناقبه وصفاته وشمائله وسنته وزيادة المعرفة به مؤصل بعدد من الأدلة الواضحة منها ما رواه النسائي بسند صحيح عن سيدنا معاوية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خرج على حلقة -يعني من أصحابه- فقال: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قالوا: «جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ» قال: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَٰلِكَ؟» قالوا: «آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَٰلِكَ»، قال: «أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تَهَمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ».
ومن الأدلة أيضًا عقيقة النبي ﷺ عن نفسه بعد أن بُعث نبيًا وهو حديث صحيح كما تقدَّم. ومنها أيضًا أنه ﷺ أخبر الصحابة رضوان الله عليهم بما حصل في يوم مولده الشريف كخروج النور الذي أضاءت منه قصور الشام كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وغير ذلك من الأدلة الخاصة، ومؤصل أيضًا بالأدلة العامة الحاضة على الاجتماع للذكر مطلقًا كقوله ﷺ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا». قالوا: «وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟» قال: «حَلَقُ الذِّكْرِ» [حسنه الحافظ في تخريج أحاديث المشكاة].

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال نشأ عند الفاطميين:
أولًا: أسس جمهور أهل العلم احتفالهم بالمولد على تأصيل محكم من الكتاب والسنة وأصول الشريعة الغراء وليس مجاراة للفاطميين ولا غيرهم، وهذا كافٍ لقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»[متفق عليه].  
ثانيًا: أول من أقام الاحتفال بالمولد هو الملك المُظَفَّر صاحب إربل، قال الإمام الحافظ السيوطي [في حسن المقصد]: «وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد»، وذكر مثله الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في [الباعث] وغيرهما.  
ثالثًا: حتى لو افترضنا جدلًا أن الفاطميين سبقونا للاحتفال بالمولد فليس في ذلك حجة، لأن العبرة بالتأصيل الشرعي وليس بمن سبق، بل الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لذا صام النبي ﷺ عاشوراء ووافق اليهود على الحق ولم يخالفهم، وأثنى على حلف الفضول وهو حلف في الجاهلية وقال: «لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت»، لما فيه من الخير.

◾ الثاني عشر من ربيع الأول هو تاريخ ميلاد النبي ﷺ الذي عليه العمل والمشهور لدى الجمهور:
المشهور لدى جمهور أهل العلم والمعمول به أن النبي ﷺ ولد يوم الثاني عشر من ربيع الأول لعام الفيل، قال ابن كثير في [البداية والنهاية]: «قيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور»، فهذا هو المشهور والمعمول به وهو كافٍ لتأسيس الاحتفال عليه.

◾ الاختلاط والزحام يمكن تجنبه بحسن تنظيم المولد:
إن احتمال وقوع بعض المخالفات الشرعية في تنظيم المولد عند البعض لا يلغيه. الاختلاط والزحام وبعض المخالفات التي قد تقع في الاحتفال بالمولد لدى البعض بسبب سوء التنظيم ينبغي تجنبها وإنكارها حال وقوعها بدون أن يقتضي ذلك السعي لإنكار الاحتفال نفسه، لأنها أمور عرضية لا تتبع لأصل الاحتفال، مثلما أن الاختلاط والزحام لو وقع في صلاة الجمعة أو العيدين أو مناسبة زواج أو غير ذلك من الأمور المشروعة لكان واجبًا إنكارها بدون أن يقتضي ذلك إنكار صلاة الجمعة أو العيدين أو الزواج أو غيرها من الأمور المشروعة.

◾ بطلان الادعاء بأن مدح النبي ﷺ في المولد يشتمل على غلو:
الغلو هو مجاوزة الحد، ومناقب النبي ﷺ وفضله وقدره العظيم يعجز عن وصفه الواصفون، فإذا كان المادحون مقصرين عن إيفاء النبي ﷺ حقه في المدح فكيف يغلون فيه؟! أما إطراء اليهود والنصارى بإخراج النبي ﷺ من العبودية لله تعالى إلى الألوهية فإن هذا لا يقع من مسلم يشهد الشهادتين لأنه موحِّد. المدح هو رسول المحبين ولقد سبقنا الصحابة رضوان الله عليهم لمدح ميلاد النبي ﷺ، فهذا هو سيدنا العباس رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
وأنت لما [وُلِدت] أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق  
فنحن في ذلك الضِّياء وفي النور وسبل الرشاد نخترق  
وهذا سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
أحسن منك لم ترَ قطُّ عيني  
وأفضل منك لم تلد النساء  
خُلِقتَ مبرءًا عن كل عيب  
كأنك قد خُلِقتَ كما تشاء  
وغير ذلك من مدح الصحابة رضوان الله عليهم لحبيبهم وقرة أعينهم ﷺ.

◾ الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني يقسم البدعة إلى محمودة ومذمومة ويؤصِّل للمولد بأصل ثابت ويستحسن ما يحصل فيه من الشكر والإطعام والصدقة والمديح والإنشاد واللهو المباح:
قال الإمام الحافظ السيوطي رحمه الله في [الحاوي للفتاوي]:
سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه:
«أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى.
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي؟! نبي الرحمة في ذلك اليوم؟! وعلى هذا، فينبغي أن يُتَحرَّى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه.
فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يُفهم به الشكر لله تعالى، من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزُّهدية المحرِّكة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى».

◾ كذبوا فزعموا أنه لا يوجد مُفسِّر ذكر أن فضل الله هو القرآن ورحمته هو سيدنا محمد ﷺ:
وهذا دليل دامغ على فرط جهلهم وجرأتهم على الحق وقولهم على الله ما لا يعلمون. ففي قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس: 58]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَضْلُ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَرَحْمَتُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}» [سورة الأنبياء: 107]. أورده الإمام الحافظ السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، والإمام الحافظ ابن الجوزي في [زاد المسير في علم التفسير]، والإمام العلامة أبو حيان الأندلسي في [البحر المحيط]، وهي كما ترون دعوة صريحة للفرح بإيجاد النبي ﷺ المبعوث رحمة للعالمين.

◾ بطلان الاعتراض على تخصيص يوم للاحتفال بالمولد والمناسبات الإسلامية الأخرى:
يجوز تخصيص الأعمال المشروعة بزمان وكيفية ولا يعتبر ذلك من البدعة في شيء بل هو مشروع ما لم يرد نهي صحيح وصريح كالنهي مثلا عن تخصيص يوم الجمعة أو أيام العيد بصيام، ومما يستدل به على ذلك ما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح أن سيدنا بلالًا رضي الله عنه كان كلما أذَّن صلى ركعتين، وكلما أحدث توضأ وصلى ركعتين، فكان يخصِّص أذانه ووضوءه بركعتين ويلزم نفسه بذلك، فأقره النبي ﷺ وبشَّره بأن هذا العمل أدخله الجنة، ولو كان التخصيص بدعة ضلالة لنهاه النبي ﷺ عن ذلك بدل أن يقره ويبشره بالجنة، فإنه ﷺ لم يكن يقر على باطل ولا يؤخر البيان في حالة الخطأ.
ودليل آخر من قصة الرجل الذي كان يخصِّص صلاته بقراءة سورة الإخلاص فأقرَّه النبي ﷺ على ذلك، وبشَّره بأن حبَّه لسورة الإخلاص أدخله الجنة، والقصة مخرَّجة في صحيح البخاري. وأيضًازفي صيام النبي ﷺ لعاشوراء وحث المسلمين على صيامه دليل على جواز تخصيص الاحتفال بالمناسبات الدينية المباركة شكرًا لله على النعمة واتخاذها أعيادًا مستحبة لا مفروضة كالعيدين. قال الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: «وَعَلَى هَـٰذَا، فِيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمَ بَعَيْنِهِ حَتَّىٰ يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَىٰ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلاحِظْ ذٰلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ».

◾ بطلان الادعاء بضرورة تذكر الوفاة طالما أنها اشتركت مع الميلاد في التاريخ:
أولاً: ذكرى الموت لا تخصم من ذكرى الميلاد، بدليل أن الله عز وجل جمع بينهما في سياق الثناء على الأنبياء عليهم السلام وإظهار نعمته عليهم، فقال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم: 15].
ثانيًا: الموت لم يغيِّب النبي ﷺ، فهو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيٌّ وحاضر، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة: 2-4].
فبنص الآيات هو ﷺ لا يزال ﷺ متصلاً بأمته وسيظل متصلاً بها إلى يوم يبعثون، يهديهم ويعلمهم ويحضُّهم على الخير. فعن مجاهد في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: «من رَدِف الإسلام من الناس كلهم». وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن زيد أنه قال: «هؤلاء كل من كان بعد النبي ﷺ إلى يوم القيامة، كل من دخَل في الإسلام من العرب والعجم».
ولقوله ﷺ: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» [1].
ولقوله ﷺ: «حياتي خير لكم تُحدّثون ويُحدّث لكم، فإذا أنا متُّ كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خيرٍ حمدت الله عليه، وما رأيت من شرٍ استغفرت الله لكم» [2].
ولقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 154]. فإذا كان الشهداء أحياء فكيف بالأنبياء؟ وكيف بسيِّدهم ﷺ وأكرمهم على ربه عز وجل؟! 
ثالثًا: الله تعالى تعبَّدنا في الميلاد بإظهار الفرح والسُّرور، وبشكر الله على هذه النعمة، لذلك شرع لنا العقيقة (السِّماية)، وهي وليمة يُدعى لها الناس شكرًا لله وتعبيرًا عن الفرح والسُّرور. أمَّا في الموت والمصاب فتعبَّدنا بالصبر والاحتساب والاسترجاع، لكن موت الأنبياء والشهداء ليس كموت غيرهم لأنهم أحياء عند ربهم. بل إن الإنسان ليفرح بالموت والشهادة في سبيل الله كما قال الله تعالى عن الشهداء: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة آل عمران: 170]. وهذا هو التحقيق عند أهل التحقيق، فلا يلغي الموتُ الفرحَ بهذه النعمة العظيمة، ولا يعفي عن إظهار الفرح بها وشكر الله عليها، فإنها نعمة باقية.
رابعًا: الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يصومون يوم الإثنين تبرُّكًا بذكرى ميلاد النبي ﷺ لم يتركوا الصيام بعد وفاة النبي ﷺ، ما يؤكد أن احتفالهم بذكرى الميلاد وفرحهم بها لم يتغير بعد وفاته ﷺ، وفعلهم هذا حجة في الفهم الصحيح لهذه المسألة، فإنهم أعلم الناس بدين رسول الله ﷺ بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات والبيهقي والهيثمي وصححاه.
[2] رواه البزار في مسنده، وجود إسناده الحافظ العراقي في [طرح التثريب]، وقال الهيثمي في [المجمع]: رجاله رجال الصحيح.

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يؤدي إلى التشبه بالكفار:
أولاً: لا علاقة بين مسلم يحتفل بذكرى ميلاد النبي ﷺ مستندًا إلى أدلة شرعية محكمة من الكتاب والسُّنة على فهم جمهور أهل العلم المعتبرين وبين من يحتفل بميلاد عيسى عليه السلام على سبيل الاعتياد، بل إن النصراني قد يكون مشركًا بالله ينسب له سبحانه الولد ويؤمن بالثالوث والعياذ بالله.
ثانيًا: المسلم هو أولى الناس بالحق والحكمة، فعندما كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
ثالثًا: عندما قال رسول الله ﷺ: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
رابعًا: عندما وجد النبي ﷺ اليهود يصومون عاشوراء بمناسبة ذكرى إنجاء الله تعالى لموسى عليه السلام من فرعون، وقال: «نحن أولى بموسى منكم» وأمر بصيامه، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
خامسًا: لقد أثنى النبي ﷺ على حلف الفضول الذي حدث في الجاهلية وقال عنه: «لقد شَهِدْتُّ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حُمر النَّعَم، ولو دُعِي به في الإسلام لأجبتُ»، فهل ذمَّه لأنه كان أيام الجاهلية ودعا إليه المشركون؟! بل أثنى عليه وقرَّر أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجابه.
سادسًا: إذًا إذا وافق الحق أهل الكتاب أو حتى أهل الجاهلية لا نخالف بل نكون نحن الأولى، فنحن أحقُّ بالحقِّ أينما وجد لأننا خير أمة أخرجت للناس، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى الناس بها.
سابعًا: التَّشبه ضابطه أن تنوي مشابهة المتشبه به ومحاكاته ومماثلته والاندراج في سياقه، وهذا معدوم في حالة الاحتفال بالمولد لأن النِّية هي إحياء ذكرى النبي ﷺ في نفوس الأمة ونشر المعرفة به ﷺ وبصفاته وشمائله وسيرته وسُنَّته وليس تشبُّهًا بأحد.

◾ المجيزون والمحتفلون بالمولد هم جمهور أهل العلم بينما المعترضون قِلة قليلة ممن تأثروا بابن تيمية في شذوذه على العلماء:
من تواريخ الوفاة يلاحظ أن المعترضين على مشروعية المولد -على قلتهم- هم ممن عاشوا في القرن الثامن الهجري وما تلاه، فالفاكهاني توفي سنة 734هـ، وابن الحاج توفي سنة 737هـ، وأبو إسحاق الشاطبي توفي سنة 790 هـ، ويبدو أنهم تأثروا بابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ في شذوذه على العلماء وجنوحه نحو مخالفة الأكابر من باب خالف تُذكَر محبةً للظهور وطلبًا لرياسة المشيخة كما قرر ذلك الإمام الذهبي في [زَغَل العلم والطَّلب]، وتأثروا به في جرأته على رسول الله ﷺ وآل بيته الطاهرين كما هو مشهور عنه، حتى إنه حرَّم زيارة النبي ﷺ فحِبِس بسبب ذلك وهلك في الحبس. رد الإمام الحافظ السيوطي في رسالتين من كتابه [حسن المقصد في عمل المولد] على كل من ابن الحاج والفاكهاني ردًا محكمًا وأبطل كلامهما في المولد وفنده بما لا مزيد عليه.

◾ استحسان المولد وثناء العلماء عليه:
استحسن المولد جمهور أهل العلم من المذاهب كافة، وفي طليعتهم الإمامان الكبيران الحافظان ابن حجر العسقلاني وجلال الدين السيوطي. كما أثنى العلماء الذين حضروا احتفالات المولد أو أرَّخوا لها ثناءً عظيمًا، وصنَّفوا في المولد تصانيف بديعة، ومن ذلك ثناء الإمام الحافظ أبي شامة المقدسي في [الباعث]، والإمام الحافظ الذهبي في [سير أعلام النبلاء] في ترجمة الملك المظفر أبو سعيد كوكبري صاحب إربل، والإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي في [البداية والنهاية] وغيرهم. وممن أجاز المولد وألف فيه كتبًا تقرأ:
- الإمام الحافظ ابن الجوزي [ت 597هـ]: له مولد بعنوان "العروس"، وقد طبع في مصر.
- الإمام الحافظ أبو الخطاب عمر بن علي بن محمد المعروف بابن دحية الكلبي: له مولد بعنوان "التنوير في مولد البشير النذير".
- الإمام الحافظ أبو العباس العَزَفي: له مولد بعنوان "الدر المنظَّم في مولد النبي المعظَّم".
- الإمام الحافظ ابن كثير صاحب التفسير: له "مولد رسول الله ﷺ" طبع بتحقيق د. صلاح الدين المنجد، وطبعته دار الكتب ببيروت.
- الإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي: له مولد بعنوان "المورد الهَني في المولد السَّني".
- إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري: له مولد بعنوان "عَرف التعريف بالمولد الشريف".
- الإمام الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي: له مولد بعنوان "المورد الصَّادي في مولد الهادي"، وكذلك "جامع الآثار في مولد المختار" و"اللفظ الرَّائق في مولد خير الخلائق".
- الإمام الحافظ شمس الدين السَّخاوي: له مولد بعنوان "الفخر العَلَوِي في المولد النَّبَوي".
- الإمام الحافظ علي زين العابدين السِّمْهُودي: له مولد بعنوان "الموارد الهَنِية في مولد خير البرية".
- الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي: له مصنف بعنوان "حُسن المَقصِد في عمل المَولِد".
- الإمام الحافظ عبد الرحمن بن علي بن محمد الشَّيباني المعروف بابن الديبع.
- الإمام المحدث الفقيه ابن حجر الهَيتَمي: له مولد بعنوان "إتمام النِّعمة على العالَم بمَولِد سيد ولد آدَم".
- الإمام المحدث الفقيه مُلا علي قاري: له مولد بعنوان "المورِد الرَّوي في المولد النَّبوي".
- الإمام المحدث الفقيه محمد عبد الرؤوف المِناوي صاحب "فيض القدير شرح الجامع الصغير".

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يفرِّق المسلمين:
المولد يجمع المسلمين حول القائد الأعظم ﷺ بما يوحِّد الأمة ويزيد من ارتباطها برسولها ﷺ ورسالته الخالدة. كيف لا وجمهور أهل العلم من كافة المذاهب استحسنوا الاحتفال بالمولد لما فيه من البِّر والخير وجمع الكلمة ونشر المحبة وبذل المعروف على الفقراء والمساكين، والأُمَّة لا تجتمع على ضلالة. ولكن الذي يفرق المسلمين حقًّا هو الشذوذ على جماعتهم والتشنج في الإنكار عليهم باعتراضات واهية لا يسندها منطق ولا دليل، ولا تعبر إلا عن جفوة لرسول الله ﷺ ورغبة في التقليل من شأنه وإعانة للغافلين على زيادة الغفلة.

◾ الهوى والانتصار للرأي بالباطل وراء التشنج في إنكار المولد:
ومن المعلوم أن الخلاف قد يقع بين العلماء حول فهم مسألة أو نصّ شرعي لاختلاف وجهات النظر، وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا ويمكن التوفيق بينهما. وقد يتعذر التوفيق بينهما فيُرَجَّح عندئذ فهم جمهور العلماء لأنهم بمثابة المجلس الاستشاري الأعلى والهيئة العلمية الشرعية العليا في الأمة. لكن عندما تصرّ الأقلية المخالفة على رأيها وعلى تخطئة أكثرية العلماء وتتشنج في الإنكار عليهم، فهذا يكون إلا بدافع الهوى والانتصار للرأي ولو بالباطل، فالقاعدة الأصولية تقول: «لا يُنكر المُختلَف فيه، وإنما يُنكر المُجمَع عليه»، فطالما أن المجيزين للمولد علماء معتبرون، بل جمهور أهل العلم المعتبرين وأكابرهم من كافة المذاهب، مدجَّجين بالأدلة الشرعية المتينة التي يتسلَّحون بمثلها في كثير من المسائل الخلافية، لم يكن هناك مجال للإنكار عليهم والإصرار على ذلك إلا من باب الهوى والجفاء لصاحب الميلاد سيدنا محمد ﷺ، وإلا فيعتبر المعترضون أنها مسألة خلافية كألوف المسائل الخلافية بين العلماء.

الأربعاء، 31 يناير 2024

🌒 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج على المشهور

قال الإمام الحافظ السيوطي [توفي ٩١١ هـ]: «وتعيَّينُ الإسراء والمعراج بالسابع والعشرين من شهر رجب حكاه كثيرٌ من الأئمة واختاره جماعةٌ من المحققين، وهو ما جرى عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا»[الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا]

وقال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي [توفي ٥٠٥هـ]: «ليلة سبع وعشرين منه -رجب- وهي ليلة المعراج»[إحياء علوم الدين]

وقال الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي [توفي ٥٩٧هـ] عن الإسراء والمعراج: «وقد كان في ليلة سبع وعشرين من رجب»[الوفا بتعريف فضائل المصطفى]

وقال الإمام المؤرخ عماد الدين الأصفهاني [توفي ٥٩٧هـ]: «ذكر يوم الفتح وهو سابع عشري رجب واتفق فتح البيت المقدس في يوم كان في مثل ليلته منه المعراج»[الفتح القسي في القدسي]

وهو اختيار الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي [توفي ٦٠٠هـ]، قال الحافظ ابن كثير [توفي ٧٧٤هـ]: «كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سُرور المقدسي في سيرته»[البداية والنهاية]

وقال الإمام أبو القاسم الملاحي محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج الغافقي الأندلسي [توفي ٦١٩هـ]: «ليلة سبع وعشرين من رجب الفرد، وهي ليلة المعراج»[لمحات الأنوار] 

وقال العلامة المؤرخ الإمام أبو المحاسن بهاء الدين ابن شداد
[المتوفى: 632هـ]:
«وكان تسلمه -الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي- القدس قدس الله روحه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلة كانت المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد. فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم! وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى»
[النوادر السلطانية]

وقال الإمام الحافظ محيي الدين يحيى النووي [توفي ٦٧٦هـ]: «ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، ليلة سبع وعشرين من رجب»[روضة الطالبين وعمدة المفتين]

وقال قاضي القضاة الإمام شمس الدين ابن خِلِّكَان [توفي ٦٨١هـ]: «وكان تسلمه -بيت المقدس- في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم»[وفيات الأعيان]

وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي [توفي ٧٦٨هـ]: «وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون، السابع والعشرين من رجب المعظم، وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال»[مرآة الجنان]

وجزم به الحافظُ سراج الدين البلقيني [توفي ٨٠٥هـ] في فقال: «ليلة الإسراء بمكة، بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، ليلةَ سبع ٍ وعشرين من شهر رجب»[محاسن الاصطلاح].