السبت، 14 سبتمبر 2024

الرد على رسالة: الاحتفال بالمولد النبوي شبهات وردود

◾ صلاحية الإسلام:
من المعلوم أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وفيه ضمن تعاليمه الشرعية من المرونة ما يستوعب المستجدات العصرية في حياة الناس، كيف لا وهو الدين الخاتم الذي ليس بعده دين. ولا يخفى أن قوّة التديُّن وشدّة العناية بالدين تضعف كُلّما مرّت السنين وبَعُد التاريخ من صدر الإسلام، ما يوجب اتخاذ تدابير معاصرة لتعويض النقص وسدّ الخلل، وهي مسائل معاصرة يجتهد فيها العلماء والرُّوَّاد من أهل كل زمان، وقد وفّر لهم الدين المساحة الكافية للتحرك من خلال المرونة في الاستجابة لتحديات العصر بدون حرج. لذا فإن الذين يتجاهلون مرونة الإسلام ويدفعون الناس للتدين وفقًا لنمط الحياة في العصور الأولى بدون مراعاة للواقع وتحدياته فإنهم جهلة وأدعياء وإن تلبّسوا بلباس العلماء.

◾ أكثرية العلماء تمثل المجلس الاستشاري العلمي الأعلى في الأمة:  
من المعلوم أن الدين يُؤخذ عن العلماء المُعتبرين المشهورين بالعلم والعمل، الذين تخصَّصوا في العلوم الشرعية وتَأهَّلوا لتبليغ الرسالة المحمدية. وعندما يُقال إن هذا الأمر عليه أكثر العلماء أو أجازه جمهور أهل العلم فيجب الانتباه والاكتراث، لأن العبرة ليست بالكثرة المطلقة وإنما بكثرة العلماء المتخصِّصين في الدين، فالقِلَّة التي تُخالفهم ليست معصومة في فهمها للدين ونصوصه لترجيح كفّتها ولكن جماعة العلماء معصومة من الضلال لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

◾ تصحيح مفهوم البدعة وفقًا لما عليه جمهور العلماء: 
البدعة هي إحداث شيء جديد غير مسبوق، وهذا المُحدَث لا بد له من حالين:  
١/ أن يكون موافقًا لتعاليم الإسلام، كتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل تيسيرًا على العوام والأعاجم، وهذا بطبيعة الحال شيء محمود.  
٢/ أن يكون مخالفًا لتعاليم الإسلام كتكفير المسلمين ورميهم بالشرك آخذين في الاعتبار نهي النبي ﷺ عن ذلك ووعيده لفاعله، وهذا مذموم بلا شك.  
لذا فالبدعة فيها المحمود وفيها المذموم كما قرر ذلك جمهور أهل العلم وعلى رأسهم الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة المتبوعين المتوفى في القرن الثالث الهجري سنة ٢٠٤هـ، أحد قرون السلف الصالح. قال النبي ﷺ: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ» ويفهم منه: (أنَّ مَن أحدث في ديننا ما هو منه، وله أصل في الشريعة يدل عليه فليس برَدّ). قال ابن رجب الحنبلي في [جامع العلوم والحِكم]: «والمراد بالبدعة ما أُحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدلّ عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة». لذا فما كان له أصل في الشريعة يدل عليه كان بدعة حسنة، وما كان بخلاف ذلك كان بدعة سيئة. 

◾ أقسام الدليل الشرعي الذي تُعرف به البدعة:
الأدلة الشرعية التي تميز البدعة الحسنة من السيئة تنقسم إلى قسمين:  
١/ دليل خاص: وهو النص الوارد في موضوع معين، كبيان النبي ﷺ مثلًا أنه يصوم يوم الإثنين لأنه اليوم الذي وُلِد فيه، فهذا دليل خاص على عناية النبي ﷺ بذكرى ميلاده الشريف.  
٢/ دليل عام: وهو نص عام تندرج تحته مواضيع غير محددة وغير محصورة كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [سورة المائدة: ٢]، فلم يُفصّل البر ولا التقوى ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل بر وتقوى، وكقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج: ٧٧]، لم يُفصِّل الخير ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل يرى الناس أنه خير، وكقول النبي ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواه مسلم]، لم يُفصِّل النفع ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل ينفع الناس.

◾ أبجديات الاستدلال في علم الأصول:  
من أبجديات علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الاستدلال يعتمد على استخراج الشاهد، وهو الجزء من النص الذي يُستَدلّ به على الحكم الشرعي. ولا يُشترط التطابق التام بين النص والمسألة المُستدَلّ عليها، بل يكفي أن يكون في النص ما يدل على الحكم بوجه من الوجوه. 

◾ عبارة (كل) لا تقتضي الشمول: 
قوله ﷺ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» لا يقتضي أن كل البدع مذمومة لأن عبارة (كل) لا تقتضي الشمول ولا تعنيه دائمًا، كما قال الله تعالى عن ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [سورة الأحقاف: ٢٥] فهل دمرت العرش والكرسي والقلم واللوح والجنان والنيران والسماوات والأرض؟! فهذه أشياء بلا خلاف. وقال الله تعالى عن الملك: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [سورة الكهف: ٧٩] فهل كان يأخذ كل السفن بما فيها المخروقة والمعيبة؟! لا، بل كان يأخذ السفن السليمة فقط، لأجل خرق سيدنا الخضر عليه السلام سفينة المساكين حتى لا يأخذها الملك. هذا النوع من الكُلِيَّة يُعرَف عند العلماء بالكُلِيَّة المنخرقة أو العام المخصوص، حيث يُطلَق الكل ويُراد الجزء، فأُطلِق لفظ البدعة وأُريد البدعة المذمومة، والتقدير: (كل بدعة بلا أصل يدل عليها هي بدعة ضلالة). ويؤيد هذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح: «نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، فكيف يمدح البدعة لو كانت كل بدعة ضلالة بالمعنى الحرفي والسطحي للمتطرفين؟! كيف يمدح البدعة الضلالة وهو الذي يجري الحق على لسانه وقلبه كما قال النبي ﷺ؟!

◾ مشروعية المولد هو مذهب جمهور أهل العلم:
جمهور أهل العلم من كافة المذاهب، ودور الفتوى في العالم الإسلامي أفتوا بمشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف استنادًا إلى أصول شرعية معتبرة وأدلة محكمة، وهذا كافٍ ووافٍ، فالقِلَّة القليلة المعترضة لا تبلغ في العلم ولا جلالة القدر معشار الأغلبية المحتفلة، طبعًا ولا تتمتع بالعصمة لترجح رأيها على رأي جمهور أهل العلم، بل العصمة مع جمهور العلماء لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وبهذا تسقط الدعوى الواهية بأن الاحتفال بالمولد "بدعة" لكونه لم يكن موجودًا في القرون الثلاثة الأولى، ولكون النبي ﷺ قال: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، فالعبرة بالأصل الشرعي الذي يقوم عليه الاحتفال وليس بإقامته في عصور من العصور من عدم إقامته لأن الدافع وراء الكثير من الأمور المستحدثة هو الحاجة والتي تختلف باختلاف العصور. 

◾ البدعة الحسنة سُنَّة:
قول النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، لَا يُنْقَصُ ذَٰلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم]، يعتبر من الأصول العامة العظيمة التي يُستدل بها على مشروعية كثير من الأعمال الدينية المعاصرة، فالنبي ﷺ لم يفصِّل السُّنن الحسنة بل ترك الباب مفتوحًا لتندرج تحت هذا الأصل كل مُحدثة محمودة، بل وجعلها سُنَّة ووصفها بالحُسن كما قال الإمام ابن الأثير في [النهاية]: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سُنَّة»، فقد نسبها النبي ﷺ للإسلام وسمَّاها (سُنَّة حسنة) فقال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً».

◾ الفرق كبير بين سَنِّ سُنَّة وإحياءِ سُنَّة:
السُّنَّة في حديث السُّنَّة الحسنة المشهور ليس المقصود بها إحياء سُنَّة متروكة من سُنن النبي ﷺ، فالسَّنُّ شيء والإحياء شيء آخر تمامًا، بدليل أن النبي ﷺ بالمقابل وفي نفس الحديث ذمَّ السُّنَّة القبيحة المضافة للإسلام وسمَّاها (السُّنَّة السيئة) فقال: «وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً»، فإذا كان المقصود بسَنِّ السُّنَّة إحياءُ سُنَّة ميتة فهل في الإسلام سُنن سيئة لإحيائها؟! قطعًا لا يوجد، فدلَّ على أن المقصود بالسُّنَّة معناها اللغوي المعروف وهو إحداث أمور في الإسلام جديدة إما محمودة أو مذمومة يسير عليها الناس من بعد، وليس المقصود إحياءَ سُنَّة من سنن النبي ﷺ المهجورة المرغب في إحيائها بقوله ﷺ: «من أحيا سنَّةً من سنَّتي قد أميتت بعدي فإنَّ لَه منَ الأجرِ مثلَ أجورِ من عملَ بِها من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شيئًا» [رواه البغوي في شرح السنة]، فهذا شيء وذاك شيء آخر. 

◾ السُّنَّة التقريرية خير شاهد على البدعة الحسنة:
السُّنَّة التقريرية هي إقرار النبي ﷺ عملًا قام به أحد الصحابة رضي الله عنهم بدون أن يسبقه إليه النبي ﷺ أو يطلبه منه، والعمل بهذا الوصف مُحدث، لكن النبي ﷺ كان يقر المحمود الموافق لتعاليم الإسلام وله في الشريعة ما يدل عليه كقول الصحابي في الصلاة: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ» [رواه البخاري]، وكان يرفض ولا يقبل المخالف لتعاليم الإسلام وليس له في الشريعة ما يدل عليه كالشَّفاعة مثلًا في المخزومية التي سرقت، وكقتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله. ولو كان المقصود بقوله ﷺ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ما فهمه المتطرفون من ظاهر النص أن كل المحدثات مذمومة، لما أقر النبي ﷺ عملًا لم يسبق هو إليه ولم يطلبه، بل لكان الأولى أن يرفضه وينهى عن العودة لمثله في المستقبل، وهذا لم يحدث، بل صارت السُّنة التقريرية أصلًا عظيمًا من أصول الدين وقسمًا عظيمًا من أقسام السُّنة، ما يثبت أن المحدثات من الأمور فيها المحمود وهي البدع الحسنة وفيها المذموم وهي البدع الضلالة، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا.

◾ صلاة التراويح من الأمثلة الواقعية على البدعة الحسنة:
إن صلاة التراويح التي أمر بها سيدنا عمر رضي الله عنه كانت تختلف عن صلاة القيام التي صلاها النبي ﷺ لثلاث أيام من رمضان ثم تركها خشية أن تُفرض، فقد كانت صلاة النبي ﷺ آخر الليل وقريب الفجر كما روى سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وبعدد قليل من الركعات لا يزيد عن عشر ركعات من غير الوتر، بينما كانت صلاة التراويح في عهد سيدنا عمر تُقام أول الليل، وبعشرين ركعة، وبإمامين أحدهما للرجال والثاني للنساء، وبالمئين من القرآن، ولطول الشهر الفضيل ولكل عام. وهي بهذه الهيئة تختلف عن الصلاة التي صلاها النبي ﷺ، ولا يمكن اعتبارها سُنَّة من هذا الوجه، لكن يمكن اعتبارها أصلًا يدل مشروعيتها وتدخل به في باب البدع الحسنة، ويؤيد ذلك قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، مقرًا أنها بدعة حسنة فقد مدحها كبدعة وليس كسُنَّة نبوية، فالسُّنة النبوية لا يمكن أن توصف بالبدعية، لا لغويًا ولا شرعيًا لأنها الأصل والمصدر الثاني للتشريع.

◾ الدافع وراء البدع الحسنة هو الحاجة والضرورة العصرية:
الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لجمع القرآن، واستحسان جمهور علماء المسلمين لإقامة الموالد هو الحاجة والضرورة العصرية. فإن جمع القرآن وتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل وترقيم آياته وأحزابه وأجزائه وصفحاته وبيان مواضع الوقف والوصل وعلامات التجويد وغيرها من الأمور المحدثة التي أضيفت إلى كتاب الله والمصدر الأول للتشريع لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يأمر بها، ومع ذلك هي ليست بدعًا ضلالات لأنها تندرج تحت الدليل العام: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، والدليل العام: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. فهي خير وبر وتقوى دعت إليها ضرورة الخشية على القرآن من الضياع، وكثرة دخول الأعاجم في الإسلام والحاجة للتيسير. والاحتفال بالمولد النبوي الشريف لا يختلف عن ذلك، فهو أيضًا وسيلة معاصرة فيها من الخير والبر ما فيها للتعبير عن الفرح بنعمة ميلاد النبي ﷺ ومساعدة الأجيال المتأخرة على زيادة الاهتمام به ﷺ والتعرف عليه بما يثمر عن محبته وتعظيمه وتوقيره في عصور كثرت فيها الغفلة وضعف فيها الدين وزاد فيها الانشغال عن رسول الله بما كاد أن يفصل الرأس من الجسد، في حين أن قوة الصلة بين الأمة ونبيها ﷺ مطلب شرعي أساسي يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان.

◾ بطلان الاحتجاج بما روي عن الإمام مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}:
أولاً: ما روي عن الإمام مالك في هذه الآية لا يثبت لضعف عبد الملك بن حبيب السلمي، والمتهم بالكذب فهو ساقط في الاحتجاج. 
ثانيًا: حتى لو افترضنا جدلًا ثبوت الرواية فليس فيها حجة لأن الإسلام لم يكتمل بنزول هذه الآية، فقد نزلت بعدها آيات وسورة، والنبي ﷺ ما توفي بعد نزول هذه الآية بل عاش أيامًا يتكلم ويفعل ويقرر وكل ذلك سُنَّة نبوية ودين، والاجتهاد في الدين لم يتوقف عند نزول هذه الآية ولن يتوقف إلى قيام الساعة، وهو متجدد ويغطي المسائل المستحدثة.
ثالثًا: ثبت أن إحداث وسائل جديدة مؤصَّلة شرعيا لتحقيق مقاصد الشريعة هو من صميم الدين وأحد مظاهر مرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

◾ فساد تصنيف الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة:
إن تقسيم الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة بهذا الإطلاق تقسيم فاسد ومبتدع. فإن سئلت عن الطعام أو الشراب، أهما عادة أم عبادة؟ ماذا ستقول؟ إن قلت عبادة كنت مخطئًا لأن الكافر بقولك هذا عابد لله، بل وأفضل عبادة من المسلم لقول النبي ﷺ: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد»، وإن قلت عادة فقد أخطأت أيضًا لأنك بذلك نفيت وألغيت أحكام الشريعة المتعلقة بالطعام والشراب، وجوزت بذلك أكل الخنزير والميتة والدم وما أهل به لغير الله، وأبحت شرب الخمر، وغير ذلك، فيظهر بذلك فساد هذا التقسيم.
لذلك قسم أهل العلم الشريعة إلى الأحكام الخمسة المعروفة: الحلال والمستحب والحرام والمكروه والمباح، وهي تستوعب كل الأحكام. فمن الطعام ما هو حلال كبهيمة الأنعام، ومنه ما هو مستحب كالتمر والزيتون وكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومنه ما هو حرام كلحم الخنزير والميتة، ومنه ما هو مكروه كالبصل والثوم والكراث، ومنه مباح كسائر الطعام الذي لم يرد فيه نص. وللطعام والشراب آداب شرعية أيضًا كالبسملة، وتناول الطعام مما يليك، والشرب جالسًا، وعدم التنفس في الإناء، وفيه سنن مثل لعق الأصابع بعد الأكل، والأكل بثلاثة أصابع، والشرب على ثلاث دفعات، وعدم عيب الطعام، وغير ذلك، وكل ذلك دين. لذلك قسم العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة: المحرمة والمكروهة والواجبة والمستحبة والمباحة، وهو تقسيم يستوعب أقسام البدعة بشقيها الحسنة والسيئة.

◾ الذكرى من الأمور الثابتة التي دعت إليها الشريعة الغراء:
المولد جوهره ذكرى حيث يتناول سيرة النبي ﷺ من قبل ولادته، مرورًا بطفولته، ونبوته وبعثته ودعوته وإسرائه ومعراجه وهجرته وأوصافه وشمائله وخصائصه وكثير مما يجهله الناس عن رسولهم ﷺ. وقد مدح الله تعالى الذكرى وحضَّ عليها فقال تعالى: {.. وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة إبراهيم: 5]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات: 55]. فمن لم تنفعه الذكرى فكأنه أحمق أو غير مؤمن.

◾ صيام يوم الإثنين من الحجج القوية على مشروعية المولد:
إن مداومة النبي ﷺ لصيام يوم الإثنين شكرًا لله تعالى على نعمة ميلاده سُنَّة مؤكدة ودليل صحيح وصريح وأصل عظيم من أصول مشروعية المولد النبوي الشريف لأنه يلفت النظر لنعمة الميلاد العظيمة التي يغفل عنها الكثيرون حتى بعض الذين يصومون يوم الإثنين من أمته. وقد أشار النبي ﷺ للحكمة من الصيام بوضوح وجلاء بقوله ﷺ: «فِيهِ وُلِدْتُ»، وهنا بيت القصيد وموضع الشاهد وعين الاستدلال. ومن عظمة هذه المناسبة أن اختار الله تعالى ذلك اليوم لنزول القرآن العظيم فقال ﷺ: «وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ». أما كونه ﷺ شكر الله تعالى على هذه النعمة بالصيام فلا يستلزم أن يحتفل الجميع بالصيام فقط لأن العلة الأساسية هي لفت النظر للنعمة بما يوجب شكرها والاكتراث لأمرها، ولأن الشكر قد يكون بالسجود أو الصلاة أو الذبح أو النذر أو الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة، فالشكر حمدٌ مقرون بعمل. ولأن الصيام قد لا يتيسر لجميع المسلمين كالمرضى وكبار السن والأطفال والحوامل وغيرهم من ذوي الأعذار الشرعية، لكن من حق الجميع أن يفرحوا بميلاد الرحمة المهداة والنعمة المسداة ﷺ، ولذا شرع لهم رسول الله ﷺ الذبح وإطعام الطعام بحديث عقيقته عن نفسه ﷺ وهو حديث صحيح.

◾ بطلان الاعتراض على حديث عقيقة النبي ﷺ عن نفسه:
حديث: «عقَّ رسول الله ﷺ عن نفسه بعد أن بُعِث نبيًّا» حديث صحيح لا مطعن فيه من عدة وجوه:
أولًا: من أبجديات علم الحديث أنه لا يُحكم على الحديث من إسناد أو طريق واحدة، فلابد من جمع كل الطرق والأسانيد الأخرى للحكم على الحديث، فإن الأسانيد الأخرى حتى لو كان فيها ضعف فقد تقوي بعضها بعضًا وترقى بالحديث الضعيف إلى رتبة الحسن وبالحسن إلى الصحيح.
ثانيًا: حديث أن النبي ﷺ عَقَّ عن نفسه بعد النبوة صحيح، فقد أخرجه الطبراني في [الأوسط]، وأبوالشيخ في [العقيقة]، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في [مستخرجه]، والضياء المقدسي في [المختارة]، والطحاوي في [مشكل الآثار] وغيرهم من طريق الهيثم بن جميل، ثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه رفعه. ورجاله ثقات، احتج بهم الإمام البخاري في صحيحه سوى الهيثم بن جميل وهو ثقة. قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/329) رقم: (7960)، وابن حبان في «الضعفاء» (2/33)، من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه. كما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/461)، وابن حزم في «المحلى» (8/321)، من طريق ثُمامة بن أنس عن أنس رضي الله عنه. صححه الضياء المقدسي في [المختارة]، وقوى إسناده الحافظ في [الفتح]، والعراقي في [طرح التثريب]، وغيرهم.
ثالثًا: رواية عبد الله بن المُثنى عن عمه ثُمامة كما في هذا الإسناد حجة، فقد احتج بها البخاري في صحيحه، قال الحافظ في [هدي الساري]: «لم أرَ البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثُمامة، فعنده أحاديث، وأخرج له من روايته عن أنس حديثًا توبع فيه عنده».
رابعًا: له شاهد ومتابعة، فقد قال الحافظ في [فتح الباري]: «وأخرجه أبو الشيخ من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة»، وإسماعيل وإن كان فيه ضعف إلا أنه يصلح للمتابعة والشواهد، قال عنه أبو حاتم: «ليس بمتروك، يكتب حديثه»، وقال عنه ابن سعد: «كان له رأي وفتوى، وبصر وحفظ للحديث، فكنت أكتب عنه لنباهته».
خامسًا: لم يجد شيخهم الألباني بُدًّا من تصحيحه، «السلسلة الصحيحة» (6/1/502) برقم: (2726).
سادسًا: للحديث آخر إسناد ضعيف، أخرجه البزار في [مسنده]، وعبد الرزاق في [مصنفه]، وابن عدي في [الكامل]، والبيهقي في [السنن]، وابن المديني في [العلل] وغيرهم من طريق عبد الله بن مُحرَّر عن قتادة عن أنس به. وعبد الله بن محرر ضعيف لكن يصلح للمتابعة لأنهم ما تركوه إلا بسبب هذا الحديث، زعموا أنه تفرد به وأنه باطل ومنكر، قال البزار: «تفرد به عبد الله بن المُحرَّر، وهو ضعيف جدًا إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره»، وقال الذهبي في [الميزان]: «إن هذا الحديث من بلايا ابن مُحرَّر»، وعدّ الذهبي في [تاريخ الإسلام] الحديث من مفاريده، وقال الحافظ عنه: «متروك»، وقال البيهقي: «منكر، وفيه عبد الله بن مُحرَّر ضعيف جدًا»، وقال ابن عبد البر: «وعبد الله بن مُحرَّر ليس حديثه بحجة»، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال: «إنما تركوا عبد الله بن مُحرَّر بسبب هذا الحديث». أمَا وقد ثبت أن الحديث صحيح وله طرق، فيكون هذا الإسناد لعبد الله بن مُحرَّر شاهدًا إضافيًّا ومقويًا لله ، وتبرئة لعبد الله بن مُحرَّر مما نسب إليه من وتفرده بالحديث، ويكون ممن تُكُلِّم فيه بغير حجة.
سابعًا: ذهب السلف إلى العمل بهذا الحديث مما يدل على أنه كان مشهورًا بينهم، فروي عن قتادة أنه كان يفتي به، ذكره ابن عبد البر، وأخرج ابن أبي شيبة في [مصنفه] عن محمد بن سيرين قال: «لو أعلم أنه لم يُعَقَّ عني لعققت عن نفسي»، وأخرج ابن حزم في [المُحلّى] عن الحسن البصري أنه قال: «إذا لم يُعَق عنك فعق عن نفسك، وإن كنت رجلًا»، وغير ذلك.

◾ النبي ﷺ تذاكر سيرة مولده الشريف مع الصحابة رضوان الله عليهم فتأسى المحتفلون بالمولد به ﷺ في ذلك:
ثبت أن النبي ﷺ تذاكر مع أصحابه رضي الله عنهم سيرة مولده الشريف وما حدث فيه من العجائب وهذا يؤصل لمدارسة السيرة في المولد، فقد أخرج أحمد والبزَّار والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي وأبو نُعَيم وغيرهم عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذٰلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذٰلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَينَ، وَإنَّ أُمَّ رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ»

◾ الفرح بقدوم النبي ﷺ إلى الدنيا أولى من الفرح بقدومه من الغزو:
إن إقرار النبي ﷺ التغني وضرب الدف فرحًا بقدومه ﷺ من الغزو يجعل الفرح بقدومه إلى الدنيا بالميلاد أولى وأعظم، وهذا يضاف إلى أدلة مشروعية الاحتفال بمولده ﷺ لكون أن إقرار النبي ﷺ ولو مرة واحدة هو حجة، فقد كان لا يؤخر البيان عن وقته.

◾ تخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ خصوصية نبوية:
خبر تخفيف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ وإعتاقه ثويبة أخرجه الإمام البخاري في صحيحه واستدل به العلماء على عظمة الفرح بمولد النبي ﷺ وفائدته حتى للكافر، فكيف بالمؤمن المحب؟! وعدوا ما حصل لأبي لهب من تخفيف للعذاب في النار من خصائصه ﷺ، قال الإمام الكرماني: «يحتمل أن يكون العمل الصالح والخير الذي يتعلق برسول الله ﷺ مخصوصًا، كما أن أبا طالب أيضًا ينتفع بتخفيف العذاب»، وقال الإمام السُّهَيلي: «يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي ﷺ مخصوصًا من ذلك بدليل قصة أبي طالب حيث خُفف عنه»، وقال الإمام القرطبي: «هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه، والله أعلم».

◾ الاجتماع للمولد ليس مشروعًا فقط بل مستحب:
الاجتماع للمولد ومذاكرة سيرة النبي ﷺ ومناقبه وصفاته وشمائله وسنته وزيادة المعرفة به مؤصل بعدد من الأدلة الواضحة منها ما رواه النسائي بسند صحيح عن سيدنا معاوية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خرج على حلقة -يعني من أصحابه- فقال: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قالوا: «جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ» قال: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَٰلِكَ؟» قالوا: «آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَٰلِكَ»، قال: «أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تَهَمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ».
ومن الأدلة أيضًا عقيقة النبي ﷺ عن نفسه بعد أن بُعث نبيًا وهو حديث صحيح كما تقدَّم. ومنها أيضًا أنه ﷺ أخبر الصحابة رضوان الله عليهم بما حصل في يوم مولده الشريف كخروج النور الذي أضاءت منه قصور الشام كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وغير ذلك من الأدلة الخاصة، ومؤصل أيضًا بالأدلة العامة الحاضة على الاجتماع للذكر مطلقًا كقوله ﷺ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا». قالوا: «وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟» قال: «حَلَقُ الذِّكْرِ» [حسنه الحافظ في تخريج أحاديث المشكاة].

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال نشأ عند الفاطميين:
أولًا: أسس جمهور أهل العلم احتفالهم بالمولد على تأصيل محكم من الكتاب والسنة وأصول الشريعة الغراء وليس مجاراة للفاطميين ولا غيرهم، وهذا كافٍ لقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»[متفق عليه].  
ثانيًا: أول من أقام الاحتفال بالمولد هو الملك المُظَفَّر صاحب إربل، قال الإمام الحافظ السيوطي [في حسن المقصد]: «وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد»، وذكر مثله الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في [الباعث] وغيرهما.  
ثالثًا: حتى لو افترضنا جدلًا أن الفاطميين سبقونا للاحتفال بالمولد فليس في ذلك حجة، لأن العبرة بالتأصيل الشرعي وليس بمن سبق، بل الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لذا صام النبي ﷺ عاشوراء ووافق اليهود على الحق ولم يخالفهم، وأثنى على حلف الفضول وهو حلف في الجاهلية وقال: «لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت»، لما فيه من الخير.

◾ الثاني عشر من ربيع الأول هو تاريخ ميلاد النبي ﷺ الذي عليه العمل والمشهور لدى الجمهور:
المشهور لدى جمهور أهل العلم والمعمول به أن النبي ﷺ ولد يوم الثاني عشر من ربيع الأول لعام الفيل، قال ابن كثير في [البداية والنهاية]: «قيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور»، فهذا هو المشهور والمعمول به وهو كافٍ لتأسيس الاحتفال عليه.

◾ الاختلاط والزحام يمكن تجنبه بحسن تنظيم المولد:
إن احتمال وقوع بعض المخالفات الشرعية في تنظيم المولد عند البعض لا يلغيه. الاختلاط والزحام وبعض المخالفات التي قد تقع في الاحتفال بالمولد لدى البعض بسبب سوء التنظيم ينبغي تجنبها وإنكارها حال وقوعها بدون أن يقتضي ذلك السعي لإنكار الاحتفال نفسه، لأنها أمور عرضية لا تتبع لأصل الاحتفال، مثلما أن الاختلاط والزحام لو وقع في صلاة الجمعة أو العيدين أو مناسبة زواج أو غير ذلك من الأمور المشروعة لكان واجبًا إنكارها بدون أن يقتضي ذلك إنكار صلاة الجمعة أو العيدين أو الزواج أو غيرها من الأمور المشروعة.

◾ بطلان الادعاء بأن مدح النبي ﷺ في المولد يشتمل على غلو:
الغلو هو مجاوزة الحد، ومناقب النبي ﷺ وفضله وقدره العظيم يعجز عن وصفه الواصفون، فإذا كان المادحون مقصرين عن إيفاء النبي ﷺ حقه في المدح فكيف يغلون فيه؟! أما إطراء اليهود والنصارى بإخراج النبي ﷺ من العبودية لله تعالى إلى الألوهية فإن هذا لا يقع من مسلم يشهد الشهادتين لأنه موحِّد. المدح هو رسول المحبين ولقد سبقنا الصحابة رضوان الله عليهم لمدح ميلاد النبي ﷺ، فهذا هو سيدنا العباس رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
وأنت لما [وُلِدت] أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق  
فنحن في ذلك الضِّياء وفي النور وسبل الرشاد نخترق  
وهذا سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
أحسن منك لم ترَ قطُّ عيني  
وأفضل منك لم تلد النساء  
خُلِقتَ مبرءًا عن كل عيب  
كأنك قد خُلِقتَ كما تشاء  
وغير ذلك من مدح الصحابة رضوان الله عليهم لحبيبهم وقرة أعينهم ﷺ.

◾ الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني يقسم البدعة إلى محمودة ومذمومة ويؤصِّل للمولد بأصل ثابت ويستحسن ما يحصل فيه من الشكر والإطعام والصدقة والمديح والإنشاد واللهو المباح:
قال الإمام الحافظ السيوطي رحمه الله في [الحاوي للفتاوي]:
سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه:
«أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى.
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي؟! نبي الرحمة في ذلك اليوم؟! وعلى هذا، فينبغي أن يُتَحرَّى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه.
فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يُفهم به الشكر لله تعالى، من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزُّهدية المحرِّكة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى».

◾ كذبوا فزعموا أنه لا يوجد مُفسِّر ذكر أن فضل الله هو القرآن ورحمته هو سيدنا محمد ﷺ:
وهذا دليل دامغ على فرط جهلهم وجرأتهم على الحق وقولهم على الله ما لا يعلمون. ففي قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس: 58]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَضْلُ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَرَحْمَتُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}» [سورة الأنبياء: 107]. أورده الإمام الحافظ السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، والإمام الحافظ ابن الجوزي في [زاد المسير في علم التفسير]، والإمام العلامة أبو حيان الأندلسي في [البحر المحيط]، وهي كما ترون دعوة صريحة للفرح بإيجاد النبي ﷺ المبعوث رحمة للعالمين.

◾ بطلان الاعتراض على تخصيص يوم للاحتفال بالمولد والمناسبات الإسلامية الأخرى:
يجوز تخصيص الأعمال المشروعة بزمان وكيفية ولا يعتبر ذلك من البدعة في شيء بل هو مشروع ما لم يرد نهي صحيح وصريح كالنهي مثلا عن تخصيص يوم الجمعة أو أيام العيد بصيام، ومما يستدل به على ذلك ما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح أن سيدنا بلالًا رضي الله عنه كان كلما أذَّن صلى ركعتين، وكلما أحدث توضأ وصلى ركعتين، فكان يخصِّص أذانه ووضوءه بركعتين ويلزم نفسه بذلك، فأقره النبي ﷺ وبشَّره بأن هذا العمل أدخله الجنة، ولو كان التخصيص بدعة ضلالة لنهاه النبي ﷺ عن ذلك بدل أن يقره ويبشره بالجنة، فإنه ﷺ لم يكن يقر على باطل ولا يؤخر البيان في حالة الخطأ.
ودليل آخر من قصة الرجل الذي كان يخصِّص صلاته بقراءة سورة الإخلاص فأقرَّه النبي ﷺ على ذلك، وبشَّره بأن حبَّه لسورة الإخلاص أدخله الجنة، والقصة مخرَّجة في صحيح البخاري. وأيضًازفي صيام النبي ﷺ لعاشوراء وحث المسلمين على صيامه دليل على جواز تخصيص الاحتفال بالمناسبات الدينية المباركة شكرًا لله على النعمة واتخاذها أعيادًا مستحبة لا مفروضة كالعيدين. قال الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: «وَعَلَى هَـٰذَا، فِيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمَ بَعَيْنِهِ حَتَّىٰ يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَىٰ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلاحِظْ ذٰلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ».

◾ بطلان الادعاء بضرورة تذكر الوفاة طالما أنها اشتركت مع الميلاد في التاريخ:
أولاً: ذكرى الموت لا تخصم من ذكرى الميلاد، بدليل أن الله عز وجل جمع بينهما في سياق الثناء على الأنبياء عليهم السلام وإظهار نعمته عليهم، فقال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم: 15].
ثانيًا: الموت لم يغيِّب النبي ﷺ، فهو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيٌّ وحاضر، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة: 2-4].
فبنص الآيات هو ﷺ لا يزال ﷺ متصلاً بأمته وسيظل متصلاً بها إلى يوم يبعثون، يهديهم ويعلمهم ويحضُّهم على الخير. فعن مجاهد في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: «من رَدِف الإسلام من الناس كلهم». وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن زيد أنه قال: «هؤلاء كل من كان بعد النبي ﷺ إلى يوم القيامة، كل من دخَل في الإسلام من العرب والعجم».
ولقوله ﷺ: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» [1].
ولقوله ﷺ: «حياتي خير لكم تُحدّثون ويُحدّث لكم، فإذا أنا متُّ كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خيرٍ حمدت الله عليه، وما رأيت من شرٍ استغفرت الله لكم» [2].
ولقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 154]. فإذا كان الشهداء أحياء فكيف بالأنبياء؟ وكيف بسيِّدهم ﷺ وأكرمهم على ربه عز وجل؟! 
ثالثًا: الله تعالى تعبَّدنا في الميلاد بإظهار الفرح والسُّرور، وبشكر الله على هذه النعمة، لذلك شرع لنا العقيقة (السِّماية)، وهي وليمة يُدعى لها الناس شكرًا لله وتعبيرًا عن الفرح والسُّرور. أمَّا في الموت والمصاب فتعبَّدنا بالصبر والاحتساب والاسترجاع، لكن موت الأنبياء والشهداء ليس كموت غيرهم لأنهم أحياء عند ربهم. بل إن الإنسان ليفرح بالموت والشهادة في سبيل الله كما قال الله تعالى عن الشهداء: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة آل عمران: 170]. وهذا هو التحقيق عند أهل التحقيق، فلا يلغي الموتُ الفرحَ بهذه النعمة العظيمة، ولا يعفي عن إظهار الفرح بها وشكر الله عليها، فإنها نعمة باقية.
رابعًا: الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يصومون يوم الإثنين تبرُّكًا بذكرى ميلاد النبي ﷺ لم يتركوا الصيام بعد وفاة النبي ﷺ، ما يؤكد أن احتفالهم بذكرى الميلاد وفرحهم بها لم يتغير بعد وفاته ﷺ، وفعلهم هذا حجة في الفهم الصحيح لهذه المسألة، فإنهم أعلم الناس بدين رسول الله ﷺ بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات والبيهقي والهيثمي وصححاه.
[2] رواه البزار في مسنده، وجود إسناده الحافظ العراقي في [طرح التثريب]، وقال الهيثمي في [المجمع]: رجاله رجال الصحيح.

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يؤدي إلى التشبه بالكفار:
أولاً: لا علاقة بين مسلم يحتفل بذكرى ميلاد النبي ﷺ مستندًا إلى أدلة شرعية محكمة من الكتاب والسُّنة على فهم جمهور أهل العلم المعتبرين وبين من يحتفل بميلاد عيسى عليه السلام على سبيل الاعتياد، بل إن النصراني قد يكون مشركًا بالله ينسب له سبحانه الولد ويؤمن بالثالوث والعياذ بالله.
ثانيًا: المسلم هو أولى الناس بالحق والحكمة، فعندما كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
ثالثًا: عندما قال رسول الله ﷺ: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
رابعًا: عندما وجد النبي ﷺ اليهود يصومون عاشوراء بمناسبة ذكرى إنجاء الله تعالى لموسى عليه السلام من فرعون، وقال: «نحن أولى بموسى منكم» وأمر بصيامه، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
خامسًا: لقد أثنى النبي ﷺ على حلف الفضول الذي حدث في الجاهلية وقال عنه: «لقد شَهِدْتُّ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حُمر النَّعَم، ولو دُعِي به في الإسلام لأجبتُ»، فهل ذمَّه لأنه كان أيام الجاهلية ودعا إليه المشركون؟! بل أثنى عليه وقرَّر أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجابه.
سادسًا: إذًا إذا وافق الحق أهل الكتاب أو حتى أهل الجاهلية لا نخالف بل نكون نحن الأولى، فنحن أحقُّ بالحقِّ أينما وجد لأننا خير أمة أخرجت للناس، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى الناس بها.
سابعًا: التَّشبه ضابطه أن تنوي مشابهة المتشبه به ومحاكاته ومماثلته والاندراج في سياقه، وهذا معدوم في حالة الاحتفال بالمولد لأن النِّية هي إحياء ذكرى النبي ﷺ في نفوس الأمة ونشر المعرفة به ﷺ وبصفاته وشمائله وسيرته وسُنَّته وليس تشبُّهًا بأحد.

◾ المجيزون والمحتفلون بالمولد هم جمهور أهل العلم بينما المعترضون قِلة قليلة ممن تأثروا بابن تيمية في شذوذه على العلماء:
من تواريخ الوفاة يلاحظ أن المعترضين على مشروعية المولد -على قلتهم- هم ممن عاشوا في القرن الثامن الهجري وما تلاه، فالفاكهاني توفي سنة 734هـ، وابن الحاج توفي سنة 737هـ، وأبو إسحاق الشاطبي توفي سنة 790 هـ، ويبدو أنهم تأثروا بابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ في شذوذه على العلماء وجنوحه نحو مخالفة الأكابر من باب خالف تُذكَر محبةً للظهور وطلبًا لرياسة المشيخة كما قرر ذلك الإمام الذهبي في [زَغَل العلم والطَّلب]، وتأثروا به في جرأته على رسول الله ﷺ وآل بيته الطاهرين كما هو مشهور عنه، حتى إنه حرَّم زيارة النبي ﷺ فحِبِس بسبب ذلك وهلك في الحبس. رد الإمام الحافظ السيوطي في رسالتين من كتابه [حسن المقصد في عمل المولد] على كل من ابن الحاج والفاكهاني ردًا محكمًا وأبطل كلامهما في المولد وفنده بما لا مزيد عليه.

◾ استحسان المولد وثناء العلماء عليه:
استحسن المولد جمهور أهل العلم من المذاهب كافة، وفي طليعتهم الإمامان الكبيران الحافظان ابن حجر العسقلاني وجلال الدين السيوطي. كما أثنى العلماء الذين حضروا احتفالات المولد أو أرَّخوا لها ثناءً عظيمًا، وصنَّفوا في المولد تصانيف بديعة، ومن ذلك ثناء الإمام الحافظ أبي شامة المقدسي في [الباعث]، والإمام الحافظ الذهبي في [سير أعلام النبلاء] في ترجمة الملك المظفر أبو سعيد كوكبري صاحب إربل، والإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي في [البداية والنهاية] وغيرهم. وممن أجاز المولد وألف فيه كتبًا تقرأ:
- الإمام الحافظ ابن الجوزي [ت 597هـ]: له مولد بعنوان "العروس"، وقد طبع في مصر.
- الإمام الحافظ أبو الخطاب عمر بن علي بن محمد المعروف بابن دحية الكلبي: له مولد بعنوان "التنوير في مولد البشير النذير".
- الإمام الحافظ أبو العباس العَزَفي: له مولد بعنوان "الدر المنظَّم في مولد النبي المعظَّم".
- الإمام الحافظ ابن كثير صاحب التفسير: له "مولد رسول الله ﷺ" طبع بتحقيق د. صلاح الدين المنجد، وطبعته دار الكتب ببيروت.
- الإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي: له مولد بعنوان "المورد الهَني في المولد السَّني".
- إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري: له مولد بعنوان "عَرف التعريف بالمولد الشريف".
- الإمام الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي: له مولد بعنوان "المورد الصَّادي في مولد الهادي"، وكذلك "جامع الآثار في مولد المختار" و"اللفظ الرَّائق في مولد خير الخلائق".
- الإمام الحافظ شمس الدين السَّخاوي: له مولد بعنوان "الفخر العَلَوِي في المولد النَّبَوي".
- الإمام الحافظ علي زين العابدين السِّمْهُودي: له مولد بعنوان "الموارد الهَنِية في مولد خير البرية".
- الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي: له مصنف بعنوان "حُسن المَقصِد في عمل المَولِد".
- الإمام الحافظ عبد الرحمن بن علي بن محمد الشَّيباني المعروف بابن الديبع.
- الإمام المحدث الفقيه ابن حجر الهَيتَمي: له مولد بعنوان "إتمام النِّعمة على العالَم بمَولِد سيد ولد آدَم".
- الإمام المحدث الفقيه مُلا علي قاري: له مولد بعنوان "المورِد الرَّوي في المولد النَّبوي".
- الإمام المحدث الفقيه محمد عبد الرؤوف المِناوي صاحب "فيض القدير شرح الجامع الصغير".

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يفرِّق المسلمين:
المولد يجمع المسلمين حول القائد الأعظم ﷺ بما يوحِّد الأمة ويزيد من ارتباطها برسولها ﷺ ورسالته الخالدة. كيف لا وجمهور أهل العلم من كافة المذاهب استحسنوا الاحتفال بالمولد لما فيه من البِّر والخير وجمع الكلمة ونشر المحبة وبذل المعروف على الفقراء والمساكين، والأُمَّة لا تجتمع على ضلالة. ولكن الذي يفرق المسلمين حقًّا هو الشذوذ على جماعتهم والتشنج في الإنكار عليهم باعتراضات واهية لا يسندها منطق ولا دليل، ولا تعبر إلا عن جفوة لرسول الله ﷺ ورغبة في التقليل من شأنه وإعانة للغافلين على زيادة الغفلة.

◾ الهوى والانتصار للرأي بالباطل وراء التشنج في إنكار المولد:
ومن المعلوم أن الخلاف قد يقع بين العلماء حول فهم مسألة أو نصّ شرعي لاختلاف وجهات النظر، وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا ويمكن التوفيق بينهما. وقد يتعذر التوفيق بينهما فيُرَجَّح عندئذ فهم جمهور العلماء لأنهم بمثابة المجلس الاستشاري الأعلى والهيئة العلمية الشرعية العليا في الأمة. لكن عندما تصرّ الأقلية المخالفة على رأيها وعلى تخطئة أكثرية العلماء وتتشنج في الإنكار عليهم، فهذا يكون إلا بدافع الهوى والانتصار للرأي ولو بالباطل، فالقاعدة الأصولية تقول: «لا يُنكر المُختلَف فيه، وإنما يُنكر المُجمَع عليه»، فطالما أن المجيزين للمولد علماء معتبرون، بل جمهور أهل العلم المعتبرين وأكابرهم من كافة المذاهب، مدجَّجين بالأدلة الشرعية المتينة التي يتسلَّحون بمثلها في كثير من المسائل الخلافية، لم يكن هناك مجال للإنكار عليهم والإصرار على ذلك إلا من باب الهوى والجفاء لصاحب الميلاد سيدنا محمد ﷺ، وإلا فيعتبر المعترضون أنها مسألة خلافية كألوف المسائل الخلافية بين العلماء.

الأربعاء، 31 يناير 2024

🌒 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج على المشهور

قال الإمام الحافظ السيوطي [توفي ٩١١ هـ]: «وتعيَّينُ الإسراء والمعراج بالسابع والعشرين من شهر رجب حكاه كثيرٌ من الأئمة واختاره جماعةٌ من المحققين، وهو ما جرى عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا»[الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا]

وقال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي [توفي ٥٠٥هـ]: «ليلة سبع وعشرين منه -رجب- وهي ليلة المعراج»[إحياء علوم الدين]

وقال الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي [توفي ٥٩٧هـ] عن الإسراء والمعراج: «وقد كان في ليلة سبع وعشرين من رجب»[الوفا بتعريف فضائل المصطفى]

وقال الإمام المؤرخ عماد الدين الأصفهاني [توفي ٥٩٧هـ]: «ذكر يوم الفتح وهو سابع عشري رجب واتفق فتح البيت المقدس في يوم كان في مثل ليلته منه المعراج»[الفتح القسي في القدسي]

وهو اختيار الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي [توفي ٦٠٠هـ]، قال الحافظ ابن كثير [توفي ٧٧٤هـ]: «كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سُرور المقدسي في سيرته»[البداية والنهاية]

وقال الإمام أبو القاسم الملاحي محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج الغافقي الأندلسي [توفي ٦١٩هـ]: «ليلة سبع وعشرين من رجب الفرد، وهي ليلة المعراج»[لمحات الأنوار] 

وقال العلامة المؤرخ الإمام أبو المحاسن بهاء الدين ابن شداد
[المتوفى: 632هـ]:
«وكان تسلمه -الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي- القدس قدس الله روحه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلة كانت المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد. فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم! وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى»
[النوادر السلطانية]

وقال الإمام الحافظ محيي الدين يحيى النووي [توفي ٦٧٦هـ]: «ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، ليلة سبع وعشرين من رجب»[روضة الطالبين وعمدة المفتين]

وقال قاضي القضاة الإمام شمس الدين ابن خِلِّكَان [توفي ٦٨١هـ]: «وكان تسلمه -بيت المقدس- في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم»[وفيات الأعيان]

وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي [توفي ٧٦٨هـ]: «وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون، السابع والعشرين من رجب المعظم، وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال»[مرآة الجنان]

وجزم به الحافظُ سراج الدين البلقيني [توفي ٨٠٥هـ] في فقال: «ليلة الإسراء بمكة، بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، ليلةَ سبع ٍ وعشرين من شهر رجب»[محاسن الاصطلاح].

الأحد، 24 ديسمبر 2023

أحاديث في أهمية الصلاة على النبي ﷺ لقبول الدعاء

عن فُضالة بن عُبَيْد رضي الله عنه أن النبي ﷺ سمع رجلًا يدعو في صلاته فلم يصلِّ على النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: «عَجِل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي ﷺ، ثم ليدْعُ بَعْدُ بما شاء» [رواه ابو داود والنسائي والترمذي وصححه].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ”كنت أصلَّي والنبي ﷺ وأبو بكر وعمر معه، فلما جلستُ بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي ﷺ: «سَلْ تُعْطَه، سَلْ تُعْطَه»“[أخرجه الترمذي وصححه]

وأخرج أحمد والبراز وأبو يعلى والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة وغيرهم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تجعلوني كَقَدَحِ الرَّاكب، فإن الرَّاكب يملأ قَدَحه ثم يضعه ويرفع متاعه، فإن احتاج إلى شرابه شربه، أو الوضوء توضأ به، وإلا أَهْراقه -أي أراقه- ولكن اجعلوني في أول الدعاءِ وأوسطه وآخره» وفي رواية لرُزَين بن معاوية وابن الأثير عن سيدنا عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعدُ حتى يُصلَّى عليَّ، فلا تجعلوني كَغُمَرِ الراكب -قِداحه الصغيرة- صلوا عليَّ أول الدعاء وأوسطه وآخره»
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «الدعاء كله محجوب حتى يكون أوله ثناء على الله عز، وجل، وصلاة على النبي ﷺ، ثم يدعو، يستجاب لدعائه»[رواه النسائي]

وعن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: «إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلِّي على نبيك ﷺ» [رواه الترمذي، وقال ابن كثير: إسناده جيد]
والحق كما قال النبي ﷺ يجري على لسان سيدنا عمر وقلبه، وهو وإن كان موقوفًا على سيدنا عمر رضي الله عنه إلا إن له حكم المرفوع، قال الحافظ العراقي:
«وهو وإن كان موقوفًا عليه فمثله لا يُقال من قِبَل الرأي، وإنما هو أمر توقيفي فحكمه حكم المرفوع». وقال القاضي أبو بكر بن العربي: «ومثل هذا إذا قاله عمر لا يكون إلا توقيفًا لأنه لا يُدْرَكُ بنظر»

وروى الطبراني في الأوسط والبيهقي في شُعَب الإيمان عن سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم وجهه قال: «كل دعاء محجوبٌ حتى يُصلَّى على النبي ﷺ وآله»، وفي رواية:
«ما من دعاء إلا بينه وبين الله حجاب حتى يُصلَّى على محمد ﷺ وعلى آل محمد ﷺ، فإذا صلي على النبي ﷺ انخرق الحجاب، واستجيب الدعاء، وإذا لم يصل على النبي ﷺ، لم يستجب الدعاء»، ورواه بقي بن مخلد عن سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم وجهه، والديلمي في مسند الفردوس عن سيدنا أنس رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي ﷺ.

وعن سيدنا عبد الله مسعود رضي الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئًا فليبدأ بمدحه و الثناء عليه بما هو أهله، ثم يصلِّي على النبي ﷺ ثم ليسأل فإنه أجدر أن ينجح»[رواه الطبراني]

وروي عن النبي ﷺ قوله: «الدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرَدُّ»[أورده القاضي عياض في الشفاء، والقسطلاني في مسالك الحنفا]
وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: «من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي ﷺ، وليسأل حاجته، وليختم بالصلاة على النبي ﷺ، فإن الصلاة على النبي مقبولة، والله أكرم أن يرد ما بينهما»[رواه النميري والقسطلاني في مسالك الحنفا]
قوله ﷺ: «الدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرَدُّ»
قال السخاوي: «لم اقف على تخريحه»،
قال الركينية: يشهد له ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وصححه وابن حبان عنه ﷺ: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرَدُّ» وذلك لاشتمالهما على ذكر النبي ﷺ في الشهادتين.
وهو مما تم تصحيحه بطرق الكشف، قال الإمام الحافظ القسطلاني في [مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على المصطفى]: (حكاه الفكهاني عن بعضهم أنه قال: "رأيت النبي ﷺ فيما يرى النائم فقلت: يا رسول الله أنت قلت: «ما مِن عبدين متحابَّين في الله تعالى يلتقيان فيُصافحُ أحدُهما صاحبه» فقال النبي ﷺ: «إلا لم يفترقا حتى يُغفرَ لهما ذنوبُهما ما تقدم منها وما تأخر، والدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرد»") اهـ
وهذا مثال على تصحيح الأحاديث بطرق الكشف وهي عزيزة على غير المتصلين بالحضرة المحمدية لذلك قد ينكرونها.

قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله في [الأذكار]: «أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله ﷺ، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة مرفوعة»
وقال ابن عطاء البغدادي: «للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح، فأركانه حضورُ القلب والرِّقة والإستكانة والخشوع وتعلقُ القلب بالله وقَطْعُه الأسباب، وأجنحته الصِّدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على -سيدنا- محمد ﷺ»
ابن عطاء: هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي البغدادي توفي ٣٠٩هـ

وذكر ابن القيم في [جلاء الافهام] أن الصلاة على النبي ﷺ لها ثلاث مراتب:
«إحداها: أن يُصلى عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى لقول النبي ﷺ: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليُصلِّ على النبي ﷺ ثم ليدع بعد بما شاء"
والمرتبة الثانية: أن يُصلى عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلى عليه في أوله وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما"
الرد على المعترضين:
اعترض البعض على القول بوجوب الصلاة على النبي ﷺ لقبول الدعاء رغم الأخبار الصحيحة والصريحة في ذلك، ورغم عمل السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم بذلك، وادعوا أن الدليل على صحة زعمهم أن النبي ﷺ لم يلتزم بذلك في كل دعائه، فيجاب عليهم من وجوه:
    1.النبي ﷺ هو من أمر بذلك، وهذا تشريع صريح ومقدم على الفعل الضمني، ويؤيده عمل الصحابة رضوان عليهم والحث عليه وعمل السلف الصالح.
    2.هذه خصوصية، فالنبي ﷺ لا يحتاج أن يصلي على نفسه لأن الأمر بالصلاة عليه موجه إلينا نحن الذي ينبغي أن لا نغفل عن رسول الله ﷺ.
    3.دعاء الأنبياء أصلا مجاب دعك من دعاء سيد الأنبياء والرسل عليهم السلام وإمامهم ﷺ.
    4.الأخبار صحيحة وصريحة في أن من لا يصلي على النبي ﷺ في دعائه يظل الدعاء معلقا بين السماء والأرض وما كان هذا شأنه من الدعاء في ينجز، فيجب الصلاة على النبي ﷺ لنيل المبتغى.

▪️وادعوا أيضًا بقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٨٦] وأجيب عنه بأنه من العام المخصوص فممن لا يستجاب دعاؤهم من كان مأكله حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، وكذا من دعا بإثم أو قطيعة رحم وهكذا. ويقول العارفون:  الكاف في (سألك) هي كاف الصلة بمعنى من سأل الله تعالى من بابك فكنت حاضرا في قلبه.
▪️وادعوا أيضا بقوله ﷺ: «واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»[متفق عليه] ويجاب عليه بأن الحجاب المراد هو حجاب الغفلة الذي يزول بالظلم الواقع على الإنسان فيحصل حضور القلب والخشوع في الدعاء وإلا فإن لإجابة الدعاء شروطًا منها مثلا ألا يكون في إثم أو حرام، وأن يدعو الداعي وهو موقن بالإجابة وغير ذلك مما قد يفسد دعاء المظلوم، ويؤيده ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»، وخص هذه الثلاثة للتمثيل والمقصود بالاستجابة حضور القلب والخشوع هو من أسباب القبول المهمة التي تتحقق في حالة الظلم والسفر وحنان الوالد لولده، ولا يقتضي ذلك مطلق الاستجابة لما تقدم من الموانع التي قد تفسد الدعاء. وعليه فإن الصلاة على النبي ﷺ لا يستغني عنها المظلوم أو المسافر أو الوالد لولده.
▪️وادعوا أيضًا بأن الله قد يجيب دعاء اليهود والنصارى مع أنهم لا يصلون على النبي ﷺ ويجاب عليه أن المسألة المذكورة إنما في ديننا وشريعتنا وليس في شريعة اليهود أو النصارى.

الخميس، 14 ديسمبر 2023

تحسين قصة الغزالة او الظبية

قصة الغزالة او الظبية رويت بعدة طرق عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وعن سادتنا أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، ويزيد بن أرقم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم تقوي بعضها بعضا، وأخرجها الطبراني وأبو نعيم والمنذري والقاضي عياض في الشفاء، وابن كثير في البداية والنهاية والقسطلاني في المواهب اللدنية وغيرهم.
وليس في إسنادها متهم أو متروك ولذا فالحديث حسن بمجموع الطرق، وقد نحا إلى ذلك البيهقي فذكرها بأسانيد حسان عنده وقواها بأخرى ضعيفة، والسخاوي في تعقبه لما نسب لابن كثير من ذكره أنها بلا أصل، قال الإمام الحافظ القسطلاني في المواهب اللدنية:
«ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي»
ولعل ابن كثير يقصد حديث تسليم الغزالة على النبي ﷺ، بدليل أنه أورد حديث الغزالة بطرقه المختلفة في البداية والنهاية ولم يتعقب أسانيد بعضها. قال العلماء (تسليم الغزالة) يقصد به (استسلام الغزالة) وهو الحديث المذكور الذي رواه الطبراني وأبو نعيم والمنذري وغيرهم، ووهم ابن كثير فظنه حديث منفصل لم يجد له أصلا.
ومع أن الحديث روي من عقدة طرق يقوي بعضها بعضًا إلا أن شهرته تغني عن الإسناد، فكم من حديث مشهور عملت به الأمة ولا عزال تعمل به مع أنه لا يعرف له إسنادًا كحديث: «لا وصية لوارث»
ولا يقدح في أحاديث المعجزات غرابتها لأن المعجزات بطبيعة الحال لابد فيها من عجب وغرابة. فلا يقال فيها: أنه منكر أو غريب، وقد تقدم ذكر أحاديث صحاح في معجزات النبي ﷺ مع الجمادات والأحجار والإشجار والإبل والذئاب والطيور وغيرها.

الأسانيد:
جاء في البداية والنهاية لابن كثير:
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، ثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، ثنا عبد الكريم بن هلال الجعفي عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: مر رسول الله ﷺ على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فسطاط.
فقالت: يا رسول الله إني أخذت ولي خشفان فاستأذن لي أرضعهما وأعود إليهم.
فقال: « أين صاحب هذه؟ »
فقال القوم: نحن يا رسول الله.
قال: خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وترجع إليكم.
فقالوا: من لنا بذلك؟
قال: « أنا ».
فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم رسول الله - ﷺ - فقال: « أين أصحاب هذه؟ »
فقالوا: هو ذا نحن يا رسول الله.
فقال: « تبيعونيها؟ »
فقالوا: هي لك يا رسول الله.
فقال: « خلوا عنها ».
فأطلقوها فذهبت.

وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي - من أصله - ثنا أحمد بن موسى بن أنس بن نصر بن عبيد الله بن محمد بن سيرين بالبصرة، ثنا زكريا بن يحيى بن خلاد، ثنا حبان بن أغلب بن تميم، ثنا أبي عن هشام بن حبان، عن الحسن، عن ضبة بن محصن، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: بينا رسول الله ﷺ في حجر من الأرض إذا هاتف يهتف: يا رسول الله، يا رسول الله.
قال: « فالتفت فلم أر أحدا »
قال: « فمشيت غير بعيد، فإذا الهاتف يا رسول الله، يا رسول الله، قال: « التفت فلم أر أحدا » وإذا الهاتف يهتف بي، فاتبعت الصوت وهجمت على ظبية مشدودة الوثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس.
فقالت الظبية: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني قبل ولي خشفان في هذا الجبل فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي.
قال: « وتفعلين؟ »
قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل.
فأطلقها رسول الله - ﷺ -، فمضت فأرضعت الخشفين وجاءت.
قال: فبينا رسول الله ﷺ يوثقها إذا انتبه الأعرابي.
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أصبتها قبيلا فلك فيها من حاجة؟
قال: قلت: « نعم ».
قال: هي لك، فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجليها في الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

قال أبو نعيم: وقد رواه آدم ابن أبي إياس فقال: حدثني حبي الصدوق نوح بن الهيثم عن حبان بن أغلب، عن أبيه، عن هشام بن حبان ولم يجاوزه به.

وقد رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة من حديث إبراهيم بن مهدي عن ابن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن هشام بن حبان، عن الحسن بن ضبة ابن أبي سلمة به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة، أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا أحمد بن حازم ابن أبي عروة الغفاري، ثنا علي بن قادم، ثنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية، عن أبي سعيد قال: مر النبي ﷺ بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله خلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني.
فقال رسول الله ﷺ: « صيد قوم، وربيطة قوم ».
قال: فأخذ عليها فحلفت له.
قال: فحلها فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها فربطها رسول الله ﷺ، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له فحلها.
ثم قال رسول الله ﷺ: « لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا ».

قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنا أبو علي حامد بن محمد الهروي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو حفص عمر بن علي، ثنا يعلى بن إبراهيم الغزالي، ثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن يزيد بن أرقم قال: كنت مع النبي ﷺ في بعض سكك المدينة.
قال: فمررنا بخباء أعرابي فإذا بظبية مشدودة إلى الخباء.
فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي اصطادني، وإن لي خشفين في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية.
فقال لها رسول الله ﷺ: « إن تركتك ترجعين؟ »
قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار.
قال: فأطلقها رسول الله ﷺ فلم تلبث أن جاءت تلمض فشدها رسول الله ﷺ إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة.
فقال له رسول الله ﷺ: « أتبيعنيها؟ »
قال: هي لك يا رسول الله.
فأطلقها رسول الله ﷺ.
قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ورواه أبو نعيم: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن مطر، ثنا بشر بن موسى فذكره.

قلت: وفي بعضه نكارة والله أعلم.
َ
وقد ذكرنا في باب تكثيره عليه السلام اللبن: حديث تلك الشاة التي جاءت وهي في البرية فأمر رسول الله ﷺ الحسن بن سعيد مولى أبي بكر أن يحلبها فحلبها، وأمره أن يحفظها فذهبت وهو لا يشعر.
فقال رسول الله ﷺ: « ذهب بها الذي جاء بها ».
وهو مروي من طريقين عن صحابيين كما تقدم، والله أعلم.

تعليق الركينية:
وفي قوله: «قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي..» ما يدل على أن البيهقي لا يرى ضعف الوجه الأول.

وجاء في مجمع الزوائد:
 باب حديث الظبية
14087- عن أنس بن مالك قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قد صادوا ظبية فشدوها إلى عمود فسطاط فقالت‏:‏ يا رسول الله إني وضعت ولدين خشفين فاستأذن لي أن أرضعهما ثم أعود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خلوا عنها حتى تأتي خشفيها فترضعهما وتأتي إليكما‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومن لنا بذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أنا‏"‏‏.‏ فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏تبيعوها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله هي لك، فخلوا عنها فأطلقوها فذهبت‏.‏
رواه الطبراني في الأوسط وفيه صالح المري وهو ضعيف‏.‏

14088- وعن أم سلمة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء فإذا مناد يناديه‏:‏ يا رسول الله فالتفت فلم ير أحداً ثم التفت فإذا ظبية موثوقة فقالت‏:‏ ادن مني يا رسول الله، فدنا منها فقال‏:‏ ‏"‏حاجتك‏؟‏‏"‏‏.‏ فقالت‏:‏ إن لي خشفين في هذا الجبل فخلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وتفعلين‏؟‏‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل‏.‏ فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها، وانتبه الأعرابي فقال‏:‏ ألك حاجة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم تطلق هذه‏"‏‏.‏ فأطلقها فخرجت تعدو وهي تقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏.‏
رواه الطبراني وفيه أغلب بن تميم وهو ضعيف‏

تعليق الركينية:
وهو ينجبر بمجموع الطرق
قال الإمام الحافظ القسطلاني في المواهب اللدنية:
«ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي، وتسبيح الحصى، رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر، وتسليم الغزالة رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والبيهقي، في دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: إنهما لم يكونا متواترين، فلعلهما استغنا بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك» انتهى 

تعليق الركينية:
والكلام المنسوب لابن كثير فعن ما يروى من سلام الظبية على النبي ﷺ وليس عن حادثة إرضاع الظبية بدليل أنه أخرج حديثها في البداية والنهاية ولم يتعقب كثيرا من طرقه. 
قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية:
«"ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" في كتاب المقاصد الحسنة، "عن ابن كثير، أنه لا أصل له، وإن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، لفظ السخاوي، حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية، وليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، "ثم قال شيخنا" تلو هذا: "لكنه" أي الكلام في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوّى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر، الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر" الكبير في الأصول لابن الحاجب، "والله أعلم، انتهى" فهما أمران كلاهما له، وهذا مفرداته ضعيفة، فيجير بعضها بعضًا، وتسليمها عليه، أي: قولها السلام عليك يا رسول الله مثلًا، وهذا لم يرد، كما قال ابن كثير خلاف ما يعطيه تصرف المصنف أنه قاله في الكلام. "وفي شرح مختصر ابن الحاجب، للعلامة ابن السبكي: وتسبيح الحصى, رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر" الغفاري", وقد تقدَّم" وتسليم الغزالة، مجاز عن الكلام؛ إذ هو الذي رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني" وكذا الطبراني عن أم سلمة, "والبيهقي" عن أبي سعيد الخدري "في دلائل النبوة" لهما، وكذا رواه البيهقي في السنن عن أبي سعيد, "ونحن نقول فيهما: إنهما وإن لم يكونا اليوم متواترين فلعلهما استغنا بنقل غيرهما" عنهما، وهو القرآن متواترًا، كما قاله ابن الحاجب جوابًا لقول الشيعة: كيف ينقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواته, "أو لعلهما تواترا إذ ذاك", ثم انقطع التواتر بعد، "انتهى". قال الحافظ: والذي أقوله: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأمَّا من حيث الرواية، فليست على حد سواء، وقد مرت عبارته بتمامها في تسبيح الحصى.» 

وجاء في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للمرتضى الزبيدي: 
«وأما حديث الظبية: فأخرجه البيهقي من طرق وضعفه جماعة من الأئمة وذكره عياض في الشفاء، ورواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه مجاهيل عن حبيب بن محصن عن أم سلمة الحديث بطوله، وفيه: قالت يا رسول الله صادني هذا الأعرابي، ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع... إلخ، ورواه الطبراني بنحوه، والمنذري في الترغيب والترهيب من باب الزكاة، وقال الحافظ ابن كثير: إنه لا أصل له، وقال الحافظ السخاوي: لكنه ورد في الجملة عدة أحاديث يقوى بعضها بعضا أوردها الحافظ ابن حجر في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر. انتهى.

في تخصيص الأوراد بأعداد غير مأثورة

الأصل في الذكر الإكثار لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا}، وقول النبي ﷺ لسيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه في الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ: «ما شئت، وإن زدت فهو أفضل» حسن رواه الترمذي. 
وفي الدليلين لم يرد تقييد للذكر وهو متروك لاستطاعة الذاكر وتحصيله وتجربته. 

لكن هناك سر في الذكر بأعداد مخصوصة، أشارت السنة إلى ذلك لما ورد في السنة المطهرة من تخصيص كالتثليث في قراءة المعوذات مثلا، والاستغفار مائة مرة، والتسبيح ٣٣، والتحميد ٣٣ والتكبير ٣٤، الأمثلة كثيرة جدا. ومنها ما يكون بالإلهام أَو رؤيا المنام والتجربة. والإلهام والتجربة فيما أباحه وأطلقه الشرع مؤصل، ومن ذلك حديث سيدنا أبي سعيد الخدري في الرقية بالفاتحة للديغ فإن أبا سعيد ألهم الرقية بالفاتحة إلهامًا وأقره النبي ﷺ وشفي المريض، وإلى يومنا هذا تستخدم بعد أن جربت ونجحت.
أخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والطبراني والسيوطي وصححه عن السيدة صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وبين يديَّ أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال: «ما هذا يا بنت حيي؟» قلت: «أسبح بهن»، قال: «قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا»، قلت: «علمني يا رسول الله»، قال: «قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء». أقرها ولم ينكر عليها، لا التسبيح بالنوى ولا تخصيص عدد، لكنه علمها ما يزيد من نفعها خاصة وهي ربة منزل لها شؤون منزلية قد لا يناسب حالها الانقطاع للتسبيح في كل وقت. طبعا لا يخفى أنه يمكن تكرار قول: «سبحان عدد ما خلق الله» مرات ومرات وتخصيصه بعدد.
وخصص الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، ووذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وذكر أيضا عن سلمة بن شبيب قال: كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ.

ومن الطرائف أن هذا التخصيص وقع لمراجع المعترضين أنفسهم، قال ابن القيم كما في مدارج السالكين (1/447):
«ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- شديد اللهج بها جدا.
وقال لي يوما: لهذين الاسمين -وهما الحي القيوم- تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سُنَّة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه». اهـ
الشاهد:
قول ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين» يستفاد منه أن السالك إلى الله تعالى إذا جرَّب نوعًا من الأذكار، وإن لم يكن هذا الذكر مأثورا بلفظه، أو مأثورًا بلفظه ولكنه غير مأثور بذلك العدد، أو تلك الهيئة، ووجد بعد التجربة نفعا لذلك الذكر، كصلاح قلبه، وإقباله على الطاعة، وتوبته من معاصي كان يقارفها، فلا حرج عليه في المداومة على ذلك، بل ولا حرج عليه في أن يدل طلابه وأحبابه على ذلك الخير الذي فتح الله به عليه، كما فعل ابن تيمية مع تلميذه ابن القيم.
فلاحظ أخي أن ابن تيمية: 
1- قيد هذا الذكر بعدد، 
2- وقيده بزمن، 
3- وأثبت له ثمرة، 
4- وحث على المواظبة عليه بقوله (من واظب عليه).

ابن تيمية وابن القيم ليسا مرجعية دينية يعتد بها لكن استشهدنا بهما لأنهما معتبران عند المعترض.

مشروعية استخدام الدُّفِّ للرجال

الملخص:
الطَّار هو الدُّف، وهو مباح للرجال والنساء استماعًا وضربًا، وهذا هو مذهب الجمهور، ودلت عليه النصوص وأقوال العلماء كما سيأتي. ومن زعم أنه خاص بالنساء دون الرجال فعليه إيراد الدليل الصحيح الصريح على التخصيص للنساء ليكون ضربه من الرجال تشبهًا بالنساء لأن ضابط التشبه هو التخصيص بالدليل الصحيح الصريح أو بالعرف السائد، أما دليل التخصيص فلا يوجد وأما العرف فيختلف من مكان لآخر، والدف يستعمله الرجال في كثير من الدول العربية والإسلامية بما فيها المملكة العربية السعودية بدون أن يرى ذلك تشبهًا أو أمرًا خارمًا للمروءة طالما استخدم في المديح النبوي والأناشيد الدينية والغناء المباح. 

وكان الدُْفُّ يستخدم في الجاهلية في الرقص والغناء الذي ربما لازمه فسق وشرب خمر وأمور مذمومة، ثم استخدم في الإسلام لأمور حسنة كإشهار الزواج الشرعي وإظهار الفرح والسرور بالزواج والختان وقدوم الغائب والأعياد، ثم توسع استخدامه ليشمل مدح رسول الله ﷺ و إظهار تعظيمه والفرح به ﷺ. 

التأصيل الشرعي:
استند الجمهور على عدد من الأدلة المحكمة منها ما أخرجه مسلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»، وفي رواية للنسائي بنفس الإسناد: أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بالدف وتغنيان ورسول الله ﷺ مَسْجيٌ بثوبه فكشف عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»، وهُنَّ أيام مِنَى ورسول الله ﷺ يومئذ بالمدينة»، 
ولقوله ﷺ: «فصل ما بين الحلال والحرام الصوتُ وضَربُ الدُّف» [رواه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم في المستدرك، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص صحيح، وحسنه الترمذي]. 
ولما رواه أبو داود فِى سننه أن امرأة أتت النبِىّ ﷺ فقالت: «يا رسول الله إنِى نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف»، قال: «أَوفِى بنذرك». 
ولما رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: «يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدُّف وأتغنى»، فقال لها رسول الله ﷺ: «إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا»، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله ﷺ: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدُّف» 
وغير ذلك مما يدل على إباحة ضرب الدفِّ على الأصل، لاختلاف المواضع التي ضُرِب فيها وأقر ذلك رسول الله ﷺ، إذ رضي النبي ﷺ أن يُضرَب في بيته الشريف بل ونهى سيدنا أبا بكر رضي الله عنه أن يمنع ضربه، وأقر ضربه وفاءً بالنذر في حضور جمع من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يوفى نذر بحرام. وإنما عارض سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ضرب الدف في بيت رسول الله ﷺ لأول وهلة، وخافت الجارية من سيدنا عمر رضى الله عنه عندما دخل لشدة سيدنا عمر رضى الله عنه في الحق، ولارتباط الدفِّ في الجاهلية بالغناء والرقص وشرب الخمر ومظاهر الفسق، وإنما جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق ويعدل بالمباحات التي كان يساء استخدامها في الجاهلية إلى مقاصد حسنة تنفع الناس، حصل ذلك مع الشعر مثلا فصار يُمدَح به رسول الله ﷺ ويُنافَح به عن الله ورسوله ﷺ، ومع الرُّقى فأجاز كل ما لم يكن به شرك، وهاهو يحصل مع الدفِّ. 
إذًا هو بهذه الأدلة مباح على الأصل وليس كرخصة مقيدة بزمان أو مكان أو جنس لأن ما يخص الجنس يحدده العرف ما لم يرد فيه نص صحيح وصريح، فعندما لم يرد نص صحيح وصريح في التخصيص بقي على أصله من الإباحة. 
ويرقى المباح إلى درجة المندوب الذي يثاب فاعله إذا اتصل ببر وخير كإشهار الزواج إعلاءً لشريعة الإسلام، والختان فرحًا وسرورًا بالنعمة، وأعظم من ذلك أن يتصل بمدح رسول الله ﷺ وإظهار تعظيمه والفرح بعودته وسلامته، فإن المباح يصير مندوبًا وعبادة يثاب فاعلها بالنية الصالحة وحسن المقصد، 
قال البيهقي: «يشبه أن يكون ﷺ إنما أذن لها في الضرب -أي بالدف- لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله ﷺ، ورجوعه سالمًا لا أنه يَجِب بالنذر».
فتعقَّبه الحافظ في [الفتح ١١/ ٥٨٨] فقال: «إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل، وأكلة السحور للتقوي على صيام النهار، فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبى ﷺ سالمًا معنى مقصود يحصل به الثواب».
وقال الإمام الخطابي: «ضرب الدفِّ ليس مما يعدُّ في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح لسلامة مقدم رسول الله ﷺ حين قدم من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين، صار فعله كبعض القرب، ولهذا استحب ضرب الدف في النكاح لما فيه من إظهاره والخروج به عن معنى السفاح الذي لا يظهر، ومما يشبه هذا المعنى قول النبي ﷺ في هجاء الكفار: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل"» 

خلاصة الحكم:
ذهب الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة إلى الإباحة بدون فرق بين رجال أو نساء، روي هذا عن المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، والقول بأن جوازه خاصٌّ بالنساء دون الرجال مردود  لانعدام دليل التخصيص من الشرع أو العرف، وليس في ضرب الجواري أو النساء كما ورد في الأحاديث دليل على التخصيص فإن النساء يصنعن الطعام عادة بدون أن يكون صنع الطعام خاصًّا بهن، والرجال يقاتلون في الحرب عادة بدون أن يكون القتال خاصًّا بهم، وهكذا، فهناك أمور كثيرة مشتركة بين الرجال والنساء، إنما يكون التخصيص بالدليل الذي يثبت للنساء ما يُحرِّم على الرجال شرعًا كالحرير مثلًا، أو عرفًا، فأما ما كان بالعرف فإنه يختلف من مكان إلى آخر بحسب المجتمع وعرفه السائد، وإذا ما انتفى دليل التخصيص بقي الحكم على أصله من الإباحة. 
قال الخطيب في مغني المحتاج:
«ولا فرق في الجواز بين الذكور والإناث كما يقتضيه إطلاق الجمهور خلافا للحليمي في تخصيصه له بالنساء»

وقال الإمام الحافظ تقِىّ الدين السبكِىّ الشافعي المتوفى سنة [٧٥٦هـ]:
(قد روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبِى معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضِى الله عنها فِى حديثها الطويل الذِى قالت فيه دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أبمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»اهـ وفِى حديث أبِى معاوية عن هشام بهذا الإسناد: «جاريتان تلعبان بدف». ورواه النسائِىّ من حديث الزهرِىّ عن عروة وفيه: «جاريتان تضربان بالدُّف وتغنيان ورسول الله ﷺ مسجًّى بثوبه فكشف عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»اهـ هِى أيامُ مِنًى ورسول الله ﷺ يومئذٍ بالمدينة، فضربَتِ الجاريتان بالدف عند رسول الله ﷺ وهو يسمع اهـ وقوله ﷺ: «دعهما يا أبا بكر» من أقوَى دليل على حل الضرب بالدف ولهذا نحن نوافق من صحح حلّه مطلقًا فِى العرس والختان وغيرهما. والجمهور لم يفرقوا بين الرجال والنساء وفَرْقُ الحليمِىّ ضعيف لأن الأدلة لا تقتضيه)

وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في [التحفة]: «ولا فرق بين ضربه من رجل أو امرأة، وقول الحليمي يختص حله بالنساء رده السبكي». 

وقال العلامة الدسوقي المالكي: «قال أصبغ: لا يكون الدف إلا للنساء ولا يكون عند الرجال»، ثم قال: «وكل من تقدم النقل عنه يعني من المالكية وغيرهم من الأئمة الأربعة غير هؤلاء الذين ذكرناهم أطلقوا القول ولم يفصلوا بين الجلاجل وغيره وبين النساء والرجال».

وفي مذهب الحنابلة قولان، الجواز والكراهة:
قال في [كشاف القناع] للبهوتي الحنبلي:
«ويكره الضرب بالدف للرجال مطلقا، قاله في الرعاية، وقال الموَفَّق: ضرب الدف مخصوص بالنساء، قال في الفروع -يعني ابن مفلح: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب التسوية»
قال في الإنصاف: «ظاهر قوله: "والضرب عليه بالدف" أنه سواء كان الضارب رجلا، أو امراة، قال فى الفروع: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب: التسوية. قيل له –أي الإمام أحمد فى رواية المروذي– ما ترى الناس اليوم، تحرك الدف فى إملاك، أو بناء، بلا غناء؟ فلم يكره ذلك» 
وقال في غاية المنتهى لمرعي الكرمي الحنبلي: «يسن إعلان نكاح وضرب فيه بدف مباح لنساء ولرجال» 
وقد أجازه للنساء والرجال من الوهابية المتأخرين ابن عثيمين، قال في [الشرح الممتع]:
«وقوله: (للنساء) ظاهره أنه لا يسن للرجال، لكن قال في الفروع: وظاهر الأخبار، ونص الإمام أحمد أنه لا فرق بين النساء والرجال، وأن الدف فيه للرجال كما هو للنساء؛ لأن الحديث عام: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال» أي الدف، ولما فيه من الإعلان، وإن كان الغالب أن الذي يفعل ذلك النساء، والذين قالوا بتخصيصه بالنساء وكرهوه للرجال، يقولون: لأن ضرب الرجال بالدف تشبه بالنساء؛ لأنه من خصائص النساء، وهذا يعني أن المسألة راجعة للعرف، فإذا كان العرف أنه لا يضرب بالدف إلا النساء، فحينئذ نقول: إما أن يكره، أو يحرم تشبه الرجال بهن، وإذا جرت العادة بأنه يُضرب بالدف من قبل الرجال والنساء فلا كراهة؛ لأن المقصود الإعلان، وإعلان النكاح بدفِّ الرجال أبلغ من إعلانه بدفِّ النساء؛ لأن النساء إذا دففن فإنما يدففن في موضع مغلق، حتى لا تظهر أصواتهن، والرجال يدفون في موضع واضح بارز، فهو أبلغ في الإعلان، وهذا ظاهر نص الإمام أحمد -رحمه الله- وكلام الأصحاب حتى [المنتهى] الذي هو عمدة المتأخرين في مذهب الإمام أحمد، ظاهره العموم وأنه لا فرق بين الرجال والنساء في مسألة الدف» 
وسئل: «هل يجوز الدف للرجال في العرضة؟ 
الشيخ: لا بأس به؛ لأن في أيام العيد رخص في اللهو» [الباب المفتوح ٧١]
وسئل: «فضيلة الشيخ! ما حكم استعمال الدف في العَرْضات والمناسبات للرجال؟
الجواب: أما الدف فلا بأس به للرجال عند قدوم غائب كبير، أو لمناسبات كالأعياد وشبهِها»[الباب المفتوح ١١٧] 
وقال: «الدف مما جاءت به السنة في أيام الأعراس، ومما أبيح للرجال والنساء في أيام الأعياد، وفي مسألة العرس للنساء فقط, ومن العلماء من قال: للنساء والرجال لكننا لا نفتح الباب في هذه المسألة» [الباب المفتوح ٢٢٣] 

أما الأحناف فقد ذهبوا لكراهته كراهة تحريم، جاء في [رد المحتار] لابن عابدين الحنفي: «ضرب الدف فيه –أي العرس- خاص بالنساء.... وهو مكروه للرجال على كل حال للتشبه بالنساء».
علله بالتشبه وليس له في ذلك حجة لانتفاء الدليل على التخصيص كما تقدم.

ملاحظة:
ابن عثيمين ليس مرجعية دينية يعتد بها لكن أوردنا كلامه بأنه معتبر عند المعترض.

الأحد، 10 ديسمبر 2023

تخريج وتحسين حديث مجيء السيدة فاطمة عليها السلام للنبي ﷺ بكسرة خبز لم يأكل النبي ﷺ قبلها بثلاث أيام

تخريج وتحسين حديث مجيء السيدة فاطمة عليها السلام للنبي ﷺ بكسرة خبز لم يأكل النبي ﷺ قبلها بثلاث أيام

(١) أخرجه الإمام أحمد في الزهد:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ هِشَامٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» 
وإسناده حسن
▪️عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان، البصري، أبو سهل، ثقة.
الجرح والتعديل:
أبو حاتم الرازي: صدوق صالح الحديث
أبو عبد الله الحاكم النيسابوري: ثقة مأمون
أحمد بن صالح الجيلي: ثقه
ابن حجر العسقلاني: صدوق ثبت في شعبة
الذهبي: الحافظ، حجة
شعبة بن الحجاج: ثبت
علي بن المديني: ثبت في شعبة
محمد بن سعد كاتب الواقدي: ثقة إن شاء الله
محمد بن عبد الله بن نمير: ثقه
يحيى بن معين : وثقه، وقال في رواية ابن محرز: والله ثقة
▪️عمار بن عمارة هو أبو هاشم عمار بن عمارة الزعفراني البصري
الرتبة : صدوق حسن الحديث

الجرح والتعديل:
أبو حاتم الرازي: صالح، ما أرى بحديثه بأسا
ابن حجر العسقلاني: لا بأس به
الذهبي: ثقة
محمد بن إسماعيل البخاري: فيه نظر
هشام بن عبد الملك الطيالسي: ثقة
يحيى بن معين: ثقة
يعقوب بن سفيان الفسوي: ثقة

وأخرجه في المسند مختصرًا:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» 

(٢) وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ جَاءَتْ بِكَسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ؟»، قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
إسناده حسن 
▪️أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي: ثقة ثبت 

(٣) وأخرجه ابن الأعرابي في معجمه:
نا أَبُو رِفَاعَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا هَاشِمٌ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَبَزَتْ فَاطِمَةُ قُرْصَةً، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِكِسْرَةٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا فَاطِمَةُ؟»، قَالَتْ: «خَبَزْتُ قُرْصَةً فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ مِنْهَا بِكِسْرَةٍ»، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
▪️أبو رفاعة هو عبد الله بن محمد العدوى، البصري، القرشي، ثقة

(٤) وأخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع:
حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَارَةَ أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، حَدَّثَهُ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ بِكُسَيْرَةِ خُبْزٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الْكُسِيرَةُ يَا فَاطِمَةُ؟» قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ بِهَذِهِ الْكُسِيرَةِ»، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ بَطْنَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»

(٥) وأخرجه ابو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي ﷺ:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي أَبِي زُرْعَةَ، نَا أَبُو زَرْعَةَ ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نَا أَبُو هَاشِمٍ عَمَّارُ بْنُ عُمَارَةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ ، فَقَالَ لَهَا: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذِهِ الْكِسْرَةُ ؟» قَالَتْ: «قُرْصًا خَبَزْتُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى آتِيَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ هَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
إسناده حسن 
▪️عبد الله بن محمد الرازي: ثقة
▪️ابو زعة: إمام حافظ مشهور، ثقة ثبت

(٦) وأخرجه الطبراني في الكبير:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ سُورَةَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالا: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَاءَتْ بِكَسْرَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى آتِيَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»

الخميس، 7 ديسمبر 2023

أخبار في تعامل النبي ﷺ مع البعير

بسم الله الرحمن الرحيم 
(١) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسْنُون عليه -أي يحملون عليه الماء- وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: «إنه كان لنا جمل نسني عليه وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل». فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا» فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي ﷺ نحوه. فقالت الأنصار: «يا رسول الله إنه قد صار مثل الكَلْب الكَلِب -أي المسعور- وإنا نخاف عليك صولته». فقال: «ليس عليَّ منه بأس». فلما نظر الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذلَّ ما كانت قط حتى أدخله في العمل. فقال له أصحابه: «يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك».
فقال: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مَفْرِق رأسه قَرحةً تتفجَّر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلَحِسته ما أدَّت حقَّه» [أخرجه الإمام أحمد] 
قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه»

(٢) وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله ﷺ خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدِّث به أحدًا من الناس، وكان أَحَبُّ ما استتر به رسول الله ﷺ لحاجته ‏هَدَفًا ‏أَوْ ‏حَائِشَ نَخْلٍ، قال: فدخل حائطًا لرجل الأنصار فإذا جملٌ، فلما رأى النبي ﷺ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي ﷺ فمسح ذِفْرَاهُ فسكت، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟»، فجاء فتى من الأنصار فقال: «لي يا رسول الله».
فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» [رواه ابو داود]. 

(٣) وفي رواية للإمام أحمد أخرجها بإسناده مرة عن يزيد ومرة عن ‏بَهْزٍ ‏وَعَفَّانٍ عن سيدنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أخبر به أحدًا أبدًا، وكان رسول الله ﷺ أحَبُّ ما استتر به في حاجته هَدَفٌ أو حَائِشُ نخل، فدخل يوما حائطًا من حِيطَانِ الأنصار فأتى جمل قد أتاه فجَرْجَرَ وذرفت عيناه». وقال ‏بَهْزٌ ‏ ‏وَعَفَّانُ: «فلما رأى رسول الله حَنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله ﷺ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ فسكن، فقال: "من صاحب الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: "هو لي يا رسول الله". فقال: "أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّككها الله لك إنه، شكا إليَّ أنك تُجِيعه وَتُدْئِبُهُ"». 
الهَدَفٌ: ما ارتفع من الأرض مما يستر الإنسان. 
حَائِشُ النخل: النخل الملتف المجتمع كأنه لالتفافه يحوش بعضه بعضًا وهو ساتر لقضاء الحاجة.
فَجَرْجَر: من الجرجرة وهي تردد الصوت في حلق البعير. 
حَنَّ: رَجَّعَ صوته وبكى بكاء الإبل فقدًا لولدها
سَرَاتَهُ: ظهره
ذِفْرَاهُ: أعلى رقبة البعير إلى أصل أذنيه. 
تُدْئِبُهُ: من الدأب، أي تكثر عليه العمل وتنهكه.

(٤) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من سفر حتى إذا دُفِعنا إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شدَّ عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعًا مِشْفَرِه إلى الأرض حتى برك بين يديه.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «هاتوا خِطًاما» فخطمه ودفعه إلى صاحبه.
قال: ثم التفت إلى الناس فقال: «إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس» [أخرجه الإمام أحمد]

(٥) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء قوم إلى رسول الله فقالوا: «يا رسول الله إن لنا بعيرًا قد ندَّ -أي تمرَّد علينا- في حائط». فجاء إليه رسول الله ﷺ فقال: «تعال»، فجاء مطأطئا رأسه حتى خَطَمه، وأعطاه أصحابه. فقال له أبو بكر الصديق: «يا رسول الله كأنه علم أنك نبي». فقال رسول الله ﷺ: «ما بين لابَتَيها أحدٌ إلا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس» [أخرجه الطبراني]
اللَّابة: الحَرَّة من الأرض، لابَتَيها: حرَّتي المدينة المنورة، أو السموات والأرض. 

(٦) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما -هاجا وتمرَّدا- فأدخلهما حائطًا فسد عليهما الباب، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأراد أن يدعو له، والنبي قاعد معه نفر من الأنصار.
فقال: «يا نبي الله إني جئت في حاجة، فإن فَحْلَين لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطًا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله لي». فقال لأصحابه: «قوموا معنا»، فذهب حتى أتى الباب فقال: «افتح»، فأشفق الرجل على النبي ﷺ، فقال: «إفتح»، ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريبًا من الباب فلمَّا رأى رسول الله ﷺ سجد له. فقال رسول الله: «إئتِ بشيء أشدُّ رأسه وأمكِّنك منه»، فجاء بخطام فشدَّ رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدًا. فقال للرجل: «إئتني بشيء أشدُّ رأسه» فشدَّ رأسه وأمكنه منه.
فقال: «إذهب فإنهما لا يعصيانك».
فلما رأى أصحاب رسول الله ﷺ ذلك قالوا: «يا رسول الله، هذان فحلان سجدا لك، أفلا نسجد لك؟»، قال: «لا آمر أحدًا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [رواه الطبراني، وأبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في دلائله]، وأبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه من شيوخ الحاكم توفي سنة ٣٨٩هـ. 

(٧) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: انطلقنا مع رسول الله ﷺ إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط فإذا نحن بناضِحٍ -البعير الذي يستعمل في نقل الماء- فلما أقبل الناضح رفع رأسه فبَصُر برسول الله ﷺ فوضع جِرانَه -أسفل عنقه- على الأرض. فقال أصحاب رسول الله ﷺ: «فنحن أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة». فقال: «سبحان الله! أدون الله؟ ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله، ولو أمرت أحدًا أن يسجد لشيء من دون الله عز وجل لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في دلائله]

(٨) وعن أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له. فقال أصحابه: «يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك!». فقال: «اعبدوا ربَّكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبلٍ أصفر إلى جبلٍ أسود، ومن جبلٍ أسود إلى جبل أبيضٍ كان ينبغي لها أن تفعَلَه» [رواه الإمام أحمد].

(٩) وعن يعلى بن سِيَابَةَ رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ في مسير له فأراد أن يقضي حاجته فأمر وَدْيَتَيْنِ -نخلتين صغيرتين- فانضمت إحداهما إلى الأخرى، ثم أمرهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعير فضرب بجِرانِه إلى الأرض ثم جَرْجَرَ -بكى بكاء البعير- حتى ابتلَّ ما حوله. فقال رسول الله ﷺ: « أتدرون ما يقول البعير؟ إنه يزعُم أن صاحبه يريد نحره». فبعث إليه رسول الله ﷺ فقال: «أواهبه أنت لي؟»
فقال: «يا رسول الله، مالي مال أحبَّ إليَّ منه»، فقال: «استوصِ به معروفًا»، فقال: «لَا جَرَمَ لا أُكْرِمُ مَالًا لِي كَرَامَتُهُ يا رسول الله».
قال: وأتى على قبر يعذب صاحبه، فقال: «إنه يعذَّب في غير كبير»، فأمر بجريدة فوضعت على قبره وقال: «عسى أن يخفف عنه ما دامت رطبة» [رواه الإمام أحمد]

(١٠) وعن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله ﷺ: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يُسْنَى عليه -يُحمَل عليه الماء- فلما رآه البعير جَرْجَرَ ووضع جِرَانَهُ، فوقف عليه النبي ﷺ فقال: «أين صاحب هذا البعير؟»
فجاء، فقال له: «بِعْنِيهِ»
فقال: «لا، بل أهبه لك».
فقال: «لا، بل بِعْنِيهِ».
قال: «لا بل نهبه لك، إنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره».
قال: «أمَا إذ ذكرتَ هذا من أمره، فإنه شكا لكثرة العمل، وقلة العلف فأحسنوا إليه».
قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فنام رسول الله ﷺ فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: «هي شجرة غَشِيَتْهُ ربها عز وجل في أن تسلم على رسول الله ﷺ فأذن لها».
قال: فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جِنَّةٌ فأخذ النبي ﷺ بِمَنْخَرِهِ فقال: «أخرج إني محمد رسول الله».
قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته امرأة بجَزَر ‏وَلَبَنٍ، فأمرها أن ترد الجَزَر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي، فقالت: «والذي بعثك بالحق ما رأينا منه رَيْبًا بعدك» [رواه الإمام أحمد]
الجَزَر: ما يَصلُحُ لأَن يُذبح من الشَّاءِ

(١١) وفي رواية أخرى عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت من رسول الله ﷺ ثلاثًا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة، معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله، هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال: «ناولينيه» فرفعته إليه، فجعلته بينه وبين وَاسِطَةِ الرَّحل، ثم فَغَرَ فاه فنفث فيه ثلاثًا، وقال: «بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله» ثم ناولها إياه، فقال: «ألقينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل»، قال: فذهبنا ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان، معها شياه ثلاث، فقال: «ما فعل صبيك؟» فقالت: «والذي بعثك بالحق، ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة، فَاجْتَرِرْ هذه الغنم».
قال: «انزل فخذ منها واحدة، ورد البقية» قال: وخرجنا ذات يوم إلى الْجَبَّانَةِ، حتى إذا برزنا قال: «انظر ويحك، هل ترى من شيء يواريني؟» قلت: «ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك». قال: «فما قربها؟» قلت: «شجرة مثلها، أو قريب منها».
قال: «فاذهب إليهما، فقل: إن رسول الله ﷺ يأمركما أن تجتمعا بإذن الله» قال: فاجتمعتا، فبرز لحاجته، ثم رجع، فقال: «اذهب إليهما، فقل لهما: إن رسول الله ﷺ يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها» قال: وكنت معه جالسًا ذات يوم إذ جاء جمل يُخَبِّبُ، حتى ضرب ‏بِجِرَانِهِ بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: «ويحك، انظر لمن هذا الجمل؟ إن له لشأنا» قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: «ما شأن جملك هذا؟» فقال: «وما شأنه؟»، قال: «لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونَضَحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره، ونقسِّم لحمه»، قال: «فلا تفعل، هبه لي، أو بعنيه» فقال: «بل هو لك يا رسول الله».
قال: فوسَّمه بسِمَة الصدقة، ثم بعث به. [أخرجه الإمام أحمد]
ففغر فاه: فتح فمه.
يُخَبِّبُ: أتى مسرعًا
ضرب ‏بِجِرَانِهِ: برك وجعل أسفل عنقه بالأرض. 
نَضَحنا عليه: استعملناه في السقاية 
وسمه بسمة الصدقة: علمه بعلامة إبل الصدقة.

(١٢) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله ﷺ في غزاة، فأبطأ بي جملي، فأتى علي رسول الله ﷺ فقال لي: «يا جابر!» قلت: «نعم»، قال: «ما شأنك؟» قلت: «أبطأ بي جملي وأعيا، فتخلفت» فنزل فَحَجَنَهُ بِمِحْجَنِهِ، ثم قال: «إركب» فركبت، فلقد رأيتني أَكُفُّهُ عن رسول الله ﷺ -أي حتى لا يتقدم على رسول الله من السرعة بعد أن كان بطيئًا. [رواه مسلم] .
وفي رواية للبخاري قال جابر رضي الله عنه: فما زال الجمل بين يدي الإبل قدامها يسير، فقال لي ﷺ: «كيف ترى بعيرك؟» قلت: «بخير، قد أصابته بركتك». 
قال الحافظ في الفتح: «آل أمر جمل جابر هذا لما تقدَّم له من بركة النبي ﷺ إلى مآل حسن، فرأيت في ترجمة جابر من [تاريخ ابن عساكر] بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال: "فأقام الجمل عندي زمان النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، فعجز، فأتيت به عمر، فعرف قصته، فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففُعِل به ذلك إلى أن مات"»
#التأصيل #البعير #الخصائص #الدلائل #المعجزات #الشجر #البشرية #الرقم_١

تصحيح مفهوم البدعة والإحداث في الدين

الإحداث في الدين هو إضافة ما ليس من الدين إلى الدين، وهذا مرفوض، قال النبي  ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فالدين لا يقبل الإحداث فيه لأنه أصلًا واسع ومرن بما يناسب حاجة الناس في كل زمان ومكان، كيف لا وهو الدين الخاتم. لكن تعتبر الأدلة العامة كقوله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقوله ﷺ: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل»، والقياس على أدلة موجودة، تعتبر أصولًا شرعية معتبرة يندرج تحتها ما لا يحصى من أعمال الخير والبر والمنفعة التي قد لا تجد لها دليلًا مخصصًا، لذلك لا تعتبر بدعات أو محدثات أمور لأن لها أصلًا في الدين يدل عليها، فهي من الدين. وعلى هذا الرأي جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا، وعلى هذا يقوم الاجتهاد في الدين، عندما لا يتوفر دليل مخصَّص.

الجمعة، 24 نوفمبر 2023

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن:
روى أصحاب السنن عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: «أقضي بكتاب الله»، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: «فبسنة رسول الله ﷺ»، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ﷺ، ولا في كتاب الله؟» قال: «أجتهد رأيي، ولا آلو» فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله».
وهو حديث مشهور جدا تلقاه علماء الأمة وفقهائها بالقبول واحتجوا به على الاجتهاد في الدين لمن تأهّل، واستدلوا به على القياس على أدلة الكتاب والسنة في المسائل التي لم يرد فيها دليل صريح، واستشهدوا به كثيرا في تصانيفهم. وقد كان سيدنا معاذ من أعلم وأفقه الصحابة رضوان الله عليهم، وقال رسول الله ﷺ: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وقال ﷺ: «يأتي معاذ بن جبل يوم القيامة أمام العلماء»، والعلم بالحلال والحرام يقتضي سعة في العلم والفهم والإحاطة بالأحكام لأجل ذلك بعثه رسول الله ﷺ رسولًا له إلى اليمن يعلم الناس الدين، وبسؤاله له ﷺ وإجابته رضي الله عنه تبين لنا نحن أمة رسول الله ﷺ كيف يكون اختيار الدعاة إلى الله عز وجل من حيث التأهل لأداء مهمة الدعوة إلى الله خاصة في جانب الحكمة، إذ أن الدعوة مشروطة بالحكمة {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، فتجلت حكمته في الاجتهاد على أصول الكتاب والسنة فيما لم يرد فيه نص. وللحديث شواهد كما في الصحيحين عن ‌عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، ولما كان لا اجتهاد مع نص دل ذلك على أنه اجتهاد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله ﷺ أو خلفاء رسول الله ﷺ.
وأخرج البيهقي في سننه عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضى به قضى به بينهم، فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي ﷺ فيه سنة فان علمها قضى بها وان لم يعلم، خرج فسأل المسلمين فقال: «اتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفى سنة رسول الله ﷺ فلم أجد في ذلك شيئا فهل تعلمون ان نبي الله ﷺ قضى في ذلك بقضاء؟» فربما قام إليه الرهط فقالوا: «نعم قضى فيه بكذا وكذا» فيأخذ بقضاء رسول الله ﷺ، قال جعفر: وحدثني غير ميمون: «أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا ﷺ، وإن أعياه ذك دعا رؤس المسلمين وعلماء هم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به»
قلت: ما يتوفر لأمير المؤمنين من العلماء من الصحابة للشورى قد لا يتوفر للقضاة في الأمصار كما أخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن الشعبي قال: لما بعث عمر -رضي الله عنه- شريحًا على قضاء الكوفة قال له: «انظر، ما تبيَّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله ﷺ، وما لم يتبيَّن لك فيه السنة فاجتهد رأيك». 
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من عرض له منه قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه ﷺ، فإن جاءه أمره ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فليقر ولا يستحي»
قلت: وإن معاذًا لمن الصالحين الذين يقضى بقضائهم لكونه من أعلم الصحابة رضوان عليهم خاصة في الحلال والحرام. 

وأخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن عبد الله بن أبي يزيد قال: «رأيت ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله ﷺ قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله ﷺ وقاله أبو بكر أو عمر قال به، وإلا اجتهد رأيه». 

وأخرج البيهقي في سننه عن مسلمة بن مخلد أنه قام على زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: «يا ابن عم، أكرهنا على القضاء» فقال: «زيد اقض بكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي ﷺ، فإن لم يكن في سنة النبي ﷺ فادع أهل الرأي ثم اجتهد واختر لنفسك ولا حرج»، 
وغير ذلك من الشواهد. 

فالحديث صحيح درايةً، خاصة وأن الصحابي الذي هو محور الأمر رمز للعلم والفتوى في الأمة، لكن تُكُلِّم في إسناده من جهة الرواية، قالوا إسناده ضعيف لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو، قالوا مجهول. وقد قوَّاه وقال بصحته غير واحد من أهل العلم منهم الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في "السنن" بإيراد الشواهد، والإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، والإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" وإمام الحرمين الجويني في "البرهان"، والإمام الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره" وجوَّد إسناده،  والإمام الحافظ الشوكاني في جزء مفرد خصصه لدراسة هذا الحديث، أشار إليه هو في "فتح القدير"، ونقل الحافظ في "التلخيص" عن أبي العباس ابن القاص الفقيه الشافعي تصحيحه، وكذلك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، وابن القيم في "إعلام الموقعين"، وخلق كثير من أهل العلم الذين لا يجتمعون على ضلالة.
وأجابوا عن دعوى جهالة الحارث بن عمرو بأنه ليس بمجهول العين لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: «إنه ابن أُخي المغيرة بن شعبة»، ولا بمجهول الوصف لأنه من كبار التابعين، وثقه ابن حبان ولم ينقل أهل الشأن جرحًا مفسرًا في حقه، والشيوخ الذين روى عنهم هم أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولًا، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة لكثرتهم، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحدًا، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والصدق بالمحل الذي لا يخفى، وقد خرج الإمام البخاري الذي اشترط في جامعه الصحة حديث عروة البارقي: «سمعت الحي يحدثون عن عروة»، ولم يكن ذلك الحديث في المجهولات، وغير ذلك كما قال الإمام مالك في "القسامة": «أخبرني رجل من كبراء قومه»، وفي "صحيح مسلم" «عن ابن شهاب حدثني رجال عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمثل حديث معمر: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط"». 

وقال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": «إن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها».

وقال شمس الحق في "عون المعبود": «وللحديث شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، أخرجها البيهقي في "سننه" عقب تخريج هذا الحديث تقوية له».

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": «فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم. وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذَّاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك. كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. ‏قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله ﷺ "لا وصية لوارث"، وقوله في البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته"، وقوله "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع"، وقوله "الدية على العاقلة"، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما نقلها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له»
فشهرته كما قال الأئمة والحفاظ تغني عن الإسناد وهذا معلوم عن الحديث المشهور، فضلا عن أن كثرة الشواهد عليه ترقيه لدرجة لا ينزل فيها عن رتبة الحسن، هذا إن لم يكن صحيحًا لغيره. فالحديث صحيح دراية رواية وقد جزم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني بصحته ووروده في الصحاح على ما توفرت لديه من نسخها آنذاك. 

هذا الحديث العظيم والأصل الكبير في الفقه والفتيا قد يكون مثالا على الغلو في علم مصطلح الحديث الذي هو علم حادث في الأمة لم يكن على عهد النبي ﷺ، فهو من البدع الحسنات،  الغاية منه ضبط المنسوب إلى سنة رسول الله ﷺ وليس نفيها أو بترها، لذا ينبغي تقديم روح العلم والغاية منه على مجرد تطبيق القواعد الحديثية فإن هناك كثير من القرائن عند اصطحابها ترجح الكفة عند الظنون إذ أن هذا العلم فيه كثير من الظنيات التي يحترز بها فالكذاب مثلا قد لا يكذب في كل ما يقول بدليل قول رسول الله ﷺ عن الشيطان: «صدقك وهو كذوب»، والصدوق الذي يخطئ مؤكد أنه لا يخطئ في كل شيء، وكذلك الصدوق الذي يهم فإنه بلا شك لا يهم في كل شيء وإلا تركوه، وهكذا.