الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

ثناء ابن تيمية على الصوفية

هل تعلم أن التصوف من علوم السلف وأنه أقدم في الأمة من علم مصطلح الحديث؟ هذا ابن تيمية شيخ الخوارج يؤرخ لظهور التصوف بهذا المسمى في القرن الثاني الهجري، أحد القرون المفضلة. وإن كان هو من علوم الصدر الأول، من أيام أهل الصفة، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.  

▪تعريف الصوفي عند ابن تيمية في (مجموع الفـتاوى) (11/16):
"هو ـ أي الصوفي ـ في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه. فكان الصديق من أهل هذه الطريق كما يقال: صديقو العلماء وصديقو الأمراء فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين أنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضاً كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده، وقد يكونون من أجلّ الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق من العصر الأول أكمل منه، والصديقون درجات وأنواع ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب عليه وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه" انتهى

▪وتابع ابن تيمية:
"وأول من حمل اسم (صوفي) هو أبو هاشم الكوفي، الذي ولد في الكوفة، وأمضى معظم حياته في الشام، وتوفى عام 160هـ -في القرن الثاني أحد القرون المفضلة- وأول من حدد نظريات التصوف وشرحها هو (ذو النون المصري) تلميذ الإمام (مالك)، وأول من بوبها ونشرها هو(الجنيد) البغدادي" انتهى

ملحوظة: ابوهاشم الكوفي كان معاصراً للامام المجتهد سفيان الثوري الذي توفي عام 155هـ، وقال عنه سفيان الثوري: "لولا أبو هاشم ماعُرِفت دقائق الرياء" .

▪وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (11/6):
"أول ما ظهرت الصوفية من البصرة وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد من أصحاب الحسن -هو الحسن البصري من كبار التابعين- وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية" انتهى

▪وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/282)
"وعبد الواحد بن زيد وإن كان مستضعفاً في الرواية إلا أن العلماء لا يشكون في ولايته وصلاحه ولا يلتفتون إلى قول الجوزجاني فأنه متعنت كما هو مشهور عنه"

▪وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 
(ج 10 ص 516ـ517)
"فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإِبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوِّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف وهذا كثير في كلامهم" انتهى.
والفضيل بن عياض على سبيل المثال من كبار التابعين، روى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

▪وقال ابن تيمية في الفتاوى 
(11/28 - 29)
"لفظ الفقر والتصوف قد أدخل فيه أمور يحبها الله ورسوله فتلك يؤمر بها، وإن سميت فقرا وتصوفا؛ لأن الكتاب والسنة إذا دل على استحبابها لم يخرج ذلك بأن تُسمى باسم أخر. كما يدخل في ذلك أعمال القلوب كالتوبة والصبر والشكر والرضا والخوف والرجاء والمحبة والأخلاق المحمودة"انتهى

▪وقال في مجموع الفتاوى - كتاب التصوف (ج5 ص3)
"و«أولياء الله» هم المؤمنون المتقون، سواء سمي أحدهم فقيراً أو صوفياً أو فقيهاً أو عالماً أو تاجراً أو جندياً أو صانعاً أو أميراً أو حاكماً أو غير ذلك." انتهى

▪وقال ابن تيمية مجموع الفتاوى
(جزء 20 - صفحة 63)
"ثم هم إما قائمون بظاهر الشرع فقط كعموم أهل الحديث والمؤمنين الذين فى العلم بمنزلة العباد الظاهرين فى العبادة وإما عالمون بمعاني ذلك وعارفون به فهم فى العلوم كالعارفين من الصوفية الشرعية فهؤلاء هم علماء أمة محمد المحضة وهم أفضل الخلق وأكملهم وأقومهم طريقة والله أعلم" انتهى

▪وقال في (مجموع الفتاوى) (11/16):
"وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون".

▪وقال في مجموع الفتاوى 
[ جزء 7 – صفحة 190 ]
"فإن أعمال القلوب التى يسميها بعض الصوفية أحوالا ومقامات أو منازل السائرين الى الله أو مقامات العارفين أو غير ذلك كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب وفيها ما أحبه ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب فالأول لابد لكل مؤمن منه ومن اقتصر عليه فهو من الابرار اصحاب اليمين ومن فعله وفعل الثانى كان من المقربين السابقين وذلك مثل حب الله ورسوله بل أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما بل أن يكون الله ورسوله والجهاد فى سبيله أحب إليه من أهله وماله ومثل خشية الله وحده دون خشية المخلوقين ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين والتوكل على الله وحده دون المخلوقين والإنابة إليه مع خشيته كما قال تعالى هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ومثل الحب فى الله والبغض فى الله والموالاة لله والمعاداة لله" انتهى

▪والتصوف تكلم به الامام أحمد ابن حنبل وسفيان الثوري والداراني وغيرهم
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 
(جزء 11 – صفحة 5):
"أما لفظ الصوفية فانه لم يكن مشهورا - لم ينف وجوده لكنه قلل من شهرته الواسعة- فى القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالامام احمد بن حنبل وأبى سليمان الدارانى وغيرهما وقد روى عن سفيان الثورى أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى" انتهى
 
▪وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (جزء 12 – صفحة 36 )
"وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والاثارة من العلم وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا لم يشوبوه بما يخالفه" انتهى

▪وقال في مجموع الفتاوى (11/17).
"طائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا أنهم مبتدعون خارجون عن السنة ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معرفون وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه وقد انتسب إليهم من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم" انتهى

▪ابن تيمية يزكي رجال التصوف ويثني عليهم
قال ابن تيمية يصف الجنيد وعبد القدر الجيلاني بأنهم أئمة الصوفية في مجموع الفتاوى )ص(369/8
"و أما أئمة الصوفية و المشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد و أتباعه و مثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء من أعظم الناس لزوماً للأمروالنهي و توصية بإتباع ذلك، وتحذيرا من المشي مع القدر كما مشى أصاحبهم أولئك و هذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على إتباع المأمور و ترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقاً تخالف ذلك أصلا، لاهو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين و يحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون إتباع الأمر و النهي" انتهى

▪وقال ابن تيميه في مجموع الفتاوى (ج10 -ص 884)
"والشيخ عبد القادر من أعظم شيوخ زمانهم أمرا بالتزام الشرع والأمر والنهى وتقديمه على الذوق، ومن أعظم المشائخ أمرا بترك الهوى"

▪وفي مجموع فتاوي ابن تيمية (ج5 ص321)
"والجنيد وأمثاله أئمة هدى، ومن خالفه في ذلك فهو ضال. وكذلك غير الجنيد من الشيوخ تكلموا فيما يعرض للسالكين وفيما يرونه في قلوبهم من الأنوار وغير ذلك؛ وحذروهم أن يظنوا أن ذلك هو ذات الله تعالى." اهـ.

وقال ابن تيميه في كتابه ( الفرقان ص98) متحدثاً عن الامام الجنيد
مانصه "فان الجنيد قدس الله روحه من أئمة الهدى"

▪وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (جزء 14 - صفحة 355 )
"فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف و المعرفة كان قد اهتدى و نجا وسعد"

▪ابن تيمية يصف أعلام التصوف ورجاله (بمشايخ الاسلام وأئمة الهدى)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوي (ج2 ص452)
"أنهمْ مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الَّذيْن جعلَ اللّهُ تعالَى لهم لسْان صدق في الأمةِ، مثْلَ سعْيد بنُ المسيبِ، والحسْن البصريِّ، وعمرْ بنُ عبد العزيز، ومالْك بنُ أنسْ، والأوزاعي، وإبراهيْم بنْ أدهم، وسفْيان الثوري، والفضيّل بنُ عياض، ومعروف الكرّخْي، والشافعي، وأبي سليْمان، وأحمد بنَ حنبل، وبشرُ الحافي، وعبد اللّهِ بنُ المبارك، وشقيّق البلّخِي، ومن لا يحصَّى كثرة.
إلى مثْلَ المتأخرينَ: مثْلَ الجنيد بن محمد القواريري، وسهَلْ بنُ عبد اللّهِ التسْتري، وعمرُ بنُ عثمان المكي، ومن بعدهم ـ إلى أبي طالبَ المكي إلى مثْل الشيْخ عبد القادرِ الكيلاني، والشّيْخ عدّي، والشيْخ أبي البيْان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجْازِ والشّام والعرْاق، ومصْر والمغرْب وخرّاسْان، من الأوليْنِ والآخريْنِ" اهـ.

▪وقال في مجموع فتاوى ابن تيمية – كتاب السلوك – فصل في تزكية النفس)
"وكذلك ما ذكره معلقا قال: قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوةً إلا بالله. فقال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. فإن هذا من أحسن الكلام، وكان الجنيد ـ رضي الله عنه ـ سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعلميا وتأديبا وتقويما ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعا لا صبرا. فالجنيد أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالاً ينافي الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه."

وقال ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" ص 238:
"فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبدالله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبي العباس ابن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبدالرحمن السلمي وأمثال هؤلاء فحاشا لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات والأرض وانشقاقهما"
وقال أيضًا في نفس الكتاب: 
" فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن وعلوم الباطن ونحو ذلك فهم لا يريدون بذلك ما يناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعا باطنا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ما هو كله تحقيق"

وغير ذلك كثير وكثير، 

فليت مرتزقة وخوارج العصر من التكفيريين في هذه العصور المتأخرة يتركون التكسب والارتزاق من تضليل العوام بالطعن في التصوف وعلومه النفيسة ورجاله الذين هم أئمة الهدى.

أن وجد خلل فهو في التطبيق، وكم من مسلم اليوم لا يشبه فعله دينه، ومع ذلك لا يكون هذا ذريعة للطعن في الإسلام.

💚حب الله تعالى وحب رسوله ﷺ💚

إن حب الله تعالى هو أعظم هبة يجود بها الله تبارك وتعالى على عبده، لأنه يقوم عليه كمال العبودية لله عز وجل ومنتهى الصدق والإخلاص وتمام الرضا عنه سبحانه القائل في كتابه العزيز: 
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)
[سورة البقرة: 165]

                💕💕💕

ومن أحب شيئًا مدحه ولهج بذكره واشتاق للقائه، فإذا كملت المحبة لم يغفل عنه، ورغب عن كل شئ لأجله، وضحى بنفسه فداء له ولم يطِب له عيش إلا في معيته.

وبطبيعة الحال، لن نحب شيئا كما ينبغي ما لم نعرفه، فالجهل عدو الحب الكامل. لذلك لن نحب الله كما ينبغي إلا بالعلم والمعرفة به سبحانه، فكلما ازداد المسلم معرفة بالله ازداد حبًّا له جل ثناؤه.

ومن أحب الله تبارك وتعالى ظهرت عليه ثمار المحبة فيحبه الله تعالى، ومن أحبه الله تعالى أكرمه وبجَّله وأغدق عليه من كل عطاء ولم يحرمه نوالًا.

ومن ثمار هذه المحبة دوام الذكر وكمال الطاعة وسلوك السبيل الذي يقرب ويوصل إلى الله تعالى مهما كانت وعورته والمشقة المترتبة عليه. فينتج عن ثمار التوفيق في العبادة أن يحب الله تعالى عبده ويجعله من أوليائه ويخصه بعطائه سبحانه، لذلك جاء في القرءان العظيم إشارات إلى أنه سبحانه يحب المتقين، والصابرين، والمحسنين، والمتوكلين، والتوابين والمتطهرين.

وجاء في الحديث القدسي: 
(ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه). أخرجه البخاري 

                💕💕💕

ومحبة الخلق لله عز وجل تكون على مراتب ودرجات، حسب التقوى والمعرفة بالله، أعلاها محبة النبي ﷺ لله تعالى، فهو أعرف الخلق بالله وأتقاهم له وأشدهم حبًا له، لذلك عندما سألته السيدة عائشة رضوان الله عليها عن قيامه ﷺ من الليل حتى تتورم قدماه وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أجابها عن منتهى المحبة والذوق: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!

              💕💕💕

ومحبة الله تعالى لخلقه تكون على مراتب ودرجات، حسب تقواهم ومعرفتهم بالله، أعلاها محبة الله تعالى لحبيبه المصطفى 
ﷺ،.أعرف الخلق بالله وأتقاهم له، وهو تمام قوله تعالى: 
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات: 13]

وعن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله وما برأ وما 
ذرأ نفسًا أكرم عليه من سيدنا محمد ﷺ، وما أقسم الله بعمر أحد غيره: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).

                💕💕💕

وقد أمر الله تعالى بمحبة حبيبه المصطفى أكثر من أي شئ حتى النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وقرنها بمحبته سبحانه فقال جل ثناؤه:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
[سورة التوبة: 24]

وقال النبي ﷺ: 
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، أول هذه الثلاثة:
(أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما) متفق عليه.

فقرن حب الحق سبحانه مع حبه هو ﷺ، ذلك لأن حب رسول الله ﷺ هو من حب الله تعالي..

لماذا كان حب النبي ﷺ هو من حب اللهم تعالى؟
 
▪لأنه رسول الله..
▪ولأن الله أمر بحبه..
▪ولأننا ما أحببناه إلا لله وامتثالًا لأمر الله..
▪ولأن الله تبارك اسمه قد حاز له من الجمال والكمال ما يجعل قلوب المؤمنين تطير إليه ﷺ على أجنحة الحب الشديد.

               💕💕💕

ومحبته ﷺ شرط للإيمان بالله تعالى، فلا إيمان لمن لا يحب رسول الله ﷺ، ولن يقبل الله قادمًا إليه إلا من باب حبيبه المصطفى ﷺ، مهما زعم من محبته لله وصلته به والإخلاص له، فقد قال تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
[سورة آل عمران: 31]

وقال تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
[سورة اﻷنبياء؛ 107]

فمن حُرم محبته ﷺ حُرم من رحمة لله للعالمين

             💕💕💕

والمحبة شعور قلبي يخالج الوجدان ويولد الشوق والهيمان. كمحبة سيدنا ثوبان رضي الله عنه التي جعلت جسمه ينتحل ولونه يصفر لفراق النبي ﷺ وكاد ان يموت من الشوق الشديد والوحشة لفراق حبيبه ﷺ لولا أن تداركته عناية الله فأنزل فيه قرءان يتلى.

وتحصل المحبة بزيادة المعرفة بقدر النبي ﷺ وعظمته، فمن لم يعرف قدر صاحب الشفاعة العظمى، يوم (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا)، حين ينشغل الكل بنفسه فيقول: نفسي.. نفسي إلا هو ﷺ يقول: أمتي.. أمتي..
▫صاحب لواء الحمد..
▫صاحب المقام المحمود..
▫إمام المتقين.. وإمام الأنبياء والمرسلين..
▫الذي يصلي عليه الحق سبحانه ملائكته..
▫الذي رآى ربه يوم عرج به إلى الحضرة العرشية في الإسراء والمعراج..
▫الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم..
▫الذي هو أولى بنا من أنفسنا..
▫خير خلق الله أجمعين..

من لم يعرف له قدره العظيم لم يحبه كما ينبغي، لأنه يجهل الكثير عن جماله وجلاله، وخصائصه الفريدة، وأوصافه الباهرة وشمائله النادرة، وسنته الشريفة، وما خصه به ربه من فضل ومكانة، وحب الصحابة رضوان الله عليهم الشديد له.

              💕💕💕

وقد جعل النبي ﷺ الشوق إلى رؤيته للذين جاءوا بعده ولم يروه علامة على شدة محبته ﷺ، فقال فيما يرويه الإمام مسلم في صحيحه: (إن من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم أن لو رآني بأهله وماله).
 
فالمحبة هي كلمة السر للنجاة من كل كرب والفوز العظيم بمعية من لا تستحق أن تكون معهم إلا بحبك لهم، فقد روى البخاري ومسلم في الصحيح أن أعرابيًا سأل النبي ﷺ عن الساعة، فقال له النبي ﷺ: ماذا أعددت لها؟
فقال: لا شيء، إلا أني أحب الله وسوله.
فقال له النبي ﷺ: أنت مع من أحببت.

فقال سيدنا أنس رضي الله عنه راوي الحديث: 
(فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)

            🌷🌷🌷🌷🌷

ولأن يعمر الله قلبك بحبه جل ثناؤه، وحب حبيبه ﷺ، لهو أوسع باب لطاعة الله تعالى وامتثال أوامره واجتناب نواهيه واتباع سنة رسوله الخاتم ﷺ، والفوز والفلاح والنجاح.

اللهم ارزقنا محبتك.. ومحبة حبيبك ﷺ.. ومحبة عبادك الصالحين.. ومحبة كل شئ يقرب إلى حبك إنك سميع مجيب.

          💚💕💕💕💚

ما هو الدليل على محبة النبي ﷺ: الشوق أم الطاعة؟!

لاشك أن المؤمن يطيع الله ورسوله وإلا لما صح إيمانه، فهو يطيعه في الأمر بمحبة الله ورسوله، وفي أركان الإسلام، وفي أركان الإيمان، وفي العبادات والمعاملات، وغيرها من شرائع الإسلام، لكن طاعة العباد في ذلك تتفاوت حسب إيمانهم وعزائمهم ودرجة تقواهم، لكن لابد لهم من طاعة، وإلا لما كانوا مؤمنين أصلا.

لكن هل تمام الطاعة وكمال الاتباع هي الدليل على المحبة؟‼
ليس بالضرورة، فكل مؤمن مثلًا يحب الله عز وجل بلا شك، ومع ذلك فهناك مؤمنون يعصونه باقتراف بعض الذنوب، بل كان هناك مدمن خمر على عهد النبي ﷺ -والخمر هي أم الكبائر- وكان كثيرًا ما يؤتى به فيجلد. وذات يوم سبه أحد الحاضرين وقال: «ما أكثر ما يؤتى بك!» 
فقال النبي ﷺ: «لا تسبوه، فوالله إني قد علمت أنه يحب الله ورسوله»[رواه البخاري]
فرغم عصيانه وإدمانه لأم الكبائر فقد شهد له رسول الله ﷺ بحب الله ورسوله ﷺ، ويالها من شهادة تؤكد أن تمام الطاعة ليس شرطًا للمحبة، وكم من منافق كان يطيع رسول الله ﷺ في ظاهره ويبغضه في باطنه! وكم من عاصٍ ومبتلى وهو يسأل الله كل حين أن يتوب عليه.
                  🌴🌴🌴
وقد يكون العصيان في بعض الأحيان أبلغ دليل على المحبة، فإذا كنت ومحبوبك في خطر وأمرك حبيبك أن تتركه وتنجو فهل سيهون عليك أن تفعل؟! بل ستبقى معه وتخالفه إن كان حبه متمكنًا من قلبك.

النبى صلى ﷺ فى مرضه الاخير أمر سيدنا أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة، ثم شعر النبى ﷺ يومًا من نفسه بخفة وعافية فدخل إلى المسجد فلما شعر أبو بكر رضي الله عنه بنهمة رسول الله ﷺ تراجع عن الإمامة، فأشار إليه النبي ﷺ أن أثبت مكانك، فلم يثبت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وتراجع وصلى النبى ﷺ بالناس إمامًا وصلى سيدنا أبو بكر بصلاة النبي ﷺ، وبعد الصلاة قال له النبي ﷺ: «ما منعك يا أبا بكر أن تثبت إذ أمرتك؟»، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: «ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله»، فتبسم النبى ﷺ ولم ينكر عليه.
وأيضًا عندما أصرَّ المشركون في صلح الحديبية على النبي ﷺ أن يمحو من المعاهدة عبارة «رسول الله»، قال النبي ﷺ لسيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: «أمحها يا علي»، فأبي سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه أن يمحوها وقال: «لا والله لا أمحوك أبدًا»، وما قال ذلك إلا محبة وغيرة على جناب النبي ﷺ. 

                    ☘☘☘

إن المحبة عاطفة قلبية صادقة، الدليل عليها الشوق إلى لقاء المحبوب، لذلك أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ قوله: 
«إن من أشد أمتي لي 💕 حبًّا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم أن لو رآني بأهله وماله»‼
يتخلى عن كل ما يملك من الدنيا لأجل أن يلقى محبوبه ﷺ ويراه، وفي هذا دليل صريح من الحضرة المحمدية على أن علامة حب النبي ﷺ هي شدة الشوق لرؤية الجميل الجليل النبيل ﷺ. 
               ☘☘☘
والمحبة درجات، فكلما تصاعدت وتجذرت في قلب المحب كلما زاد صدقه لمحبوبه وإخلاصه، وطاعته، والإستعداد للتضحية من أجله. فلذلك المحبة أصل وأساس والطاعة فرع منها وليس العكس، وعندما سأل أعرابي النبي ﷺ عن القيامة قائلًا: «يا رسول الله متى الساعة؟» 
فتعجب النبي من جرأة السائل وقال له: «ويحك، وماذا أعددت لها؟!» 
فقال: «والله ما أعددت لها من شيء يا رسول الله غير أني أحب الله وسوله»‼
فسُرَّ النبي ﷺ وتهلل وقال له: «أنت مع من أحببت»، وفي رواية: «المرء مع من أحب»[متفق عليه]
لم يقل له: "لن تنفعك المحبة لأن أعمالك وطاعتك قليلة كما تقول"، بل بشره بأنه سيكون في معية الله عز وجل ورسوله ﷺ بفضل هذه المحبة، ويالها من معية.

وقد فرح الصحابة رضوان الله عليهم ببشارة النبي ﷺ تلك فرحًا شديدًا، فقال راوي الحديث سيدنا ﺃﻧﺲ رضي الله عنه: 
”ﻓﻤﺎ ﻓﺮﺣﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻹ‌ﺳﻼ‌ﻡ ﻓﺮﺣًﺎ ﺃﺷﺪ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﻓﺈﻧﻚ ﻣﻊ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺖ». ﻗﺎﻝ ﺃﻧﺲ: ﻓﺄﻧﺎ ﺃﺣﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﻭﻋﻤﺮ ﻓﺄﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﺃﻛﻮﻥ ﻣﻌﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺃﻋﻤﻞ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻬﻢ“.

فالمحبة هي الأساس والطاعة ثمرة من ثمارها، وهذا يفسر لنا لماذا أن الإسلام أوجب علينا محبة الله عز وجل وحبيبه المصطفى ﷺ أكثر من كل شيء حتى النفس! لأن ذلك هو السبيل الممهد إلى الصدق والإخلاص والتضحية وحسن الطاعة. 
                   ☘☘☘
أما قوله تعالى: {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ}[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٣١]
فيستدل به في غير موضعه، وفيه عدة مسائل منها:
▪ذكر المفسرون أن الآية نزلت في وفد النصارى الذين قدموا إلى النبي ﷺ من نجران، فأمره الله عز وجل إن كان الذي يَقولونه في عيسى من عظيم القول إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فليتبعوا رسوله سيدنا محمدًا ﷺ.
▪الإتباع هنا بمعنى التصديق والإيمان بالرسالة والدخول في دين الإسلام.
▪الآية تتناول الذين يزعمون ويدَّعون محبة الله، وليس محبة رسول الله ﷺ.
▪هذه الآية أصل كبير في أن النبي ﷺ هو باب الله عز وجل، فلو سلك الخلق إلى الله كل طريق وطرقوا له كل باب فلن يُفتح لهم حتى يأتوا من خلف النبي ﷺ كما جاء في الأثر الذي أوره ابن القيم في [جلاء الأفهام]، قال الجنيد رحمه الله تعالى، يقول الله عز وجل لرسوله ﷺ: «وعزتي وجلالي، لو أتوني من كل طريق، أو استفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك»، وقال أيضا في [طريق الهجرتين]: وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه: «الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي ﷺ فإن الله عز وجل يقول: {وعزتي و جلالي لو أتوني من كل طريق، واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك»، ولذا أخرج الإمام أحمد والبيهقي بسند حسن عن النبي ﷺ قوله: «لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»

المفارقات العجيبة في الدعوة الوهابية

من المفارقات العجيبة في الدعوة الوهابية، التي تمثل الشكل المعاصر للخوارج، والتي كفر مؤسسها كل أهل الجزيرة العربية تقريبًا إلا من تبعه، تكفيرًا عامًا وتكفير لمعينين، وأدعى عليهم بالشرك وعبادة غير الله عز وجل، وقالتهم ونكل بهم. ويرى أنصاره اليوم أنه إمام مجدد وأنه كان محقًا في دعوته، معيدًا للتوحيد رايته وللإسلام مجده، وبعيدًا عن الخلفيات السياسية ذات العلاقة بتأسيس هذه الحركة، والصراع بين الإمبراطوريتين الإسلامية والبريطانية آنذاك، نجد أن هنالك استغفال عظيم وقفز رهيب على أمور أولية! خاصة عندما تقرأ تاريخ نجد لابن بشر أو ابن غنام، وأنهم كيف كانوا يعاملون المسلمين آنذاك معالمة المشركين الكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم كانوا يطلقون إسم (مسلمين) على أنفسهم فقط، أما غيرهم فمشركون يجوز قتلهم إذا لم يدخلوا في الدعوة الوهابية، ويجوز سبي نسائهم، وسلب ممتلكاتهم كغنائم، وتخريب زرعهم، والتنكيل بهم وما إلى ذلك.

المفارقة العجيبة الأولى في أن محمد بن عبد الوهاب هذا ليس نبيًا! وليس رسولًا! وليس معصومًا! وليس مؤيدًا بوحي من السماء كالنبي صلى الله عليه وسلم! فكيف له أن يتقمص شخصية النبي الرسول المعصوم المؤيد من السماء بالوحي ليحكم على الناس بالشرك والكفر ثم يستحل دمائهم وعروضهم وأموالهم، ويسمى قتالهم غزوات؟!!! من أين أعطى نفسه هذه القداسة والعصمة الرسالية؟! أليس وارد أنه كان على خطأ؟! وأن خصومه على صواب؟! هل هو معصوم؟! هل ينزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي؟ هل يرى في منامه رؤيا الأنبياء؟! هو بشر عادي، وقدراته أكثر من عادية، بل وروي أن أهله كانوا يتوسمون فيه الزيغ والضلال والإنحراف في الرأي! بل ويعترف على نفسه بالبلادة والغباء عندما يقول: (لقد طلبت العلم واعتقد من عرفني أن لي معرفة وأنا ذلك الوقت لا أعرف معني لا إله إلا الله ولا أعرف دين الإسلام) يعني كالحمار يحمل أسفارًا، ثم يقول: (ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخبر الذي منَّ الله به) هل هبط بهذا الخبر جبريل عليه السلام؟! هل كلمك الله كفاحًا به؟! هو فهم لمسألة من مسائل الدين الخطأ فيها وارد جدًا، ثم يقول: (وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه أن أحدا عرف ذلك فقد كذب وافترى) هل لأنهم لم يوافقوك الرأي فهذا يعني أنهم لا يعرفون معني لا إله إلا الله ومعنى الإسلام؟! ألا يجوز -بل هو الحق لأنك لا تدري وأنت تطلب العلم الصواب من الخطأ- أنك أنت الذي لم تزل لا تعرف معنى لا إله إلا الله؟! ما الذي يجعل فهمك صحيح وفهمهم خطأ؟! بل وأين فهمك أنت في فهم كل من سبقك من الأئمة والعلماء المعتبرين؟! هل هو فهم جديد لنج ليس له حضور في تصانيف الثقات من علماء الأمة على مر العصور بما فيها عصرك؟!

هنا تلاحظون أنه يتحدث كأنه معصوم عن الخطأ والزلل، وأن غيره على ضلال، في حين أنه بشر عادي يجوز عليه الخطأ، بل هو على خطأ لا محالة كما سيتبين لاحقًا.

المفارقة العجيبة الثانية هي أن الناس الذين استهدفهم محمد بن عبد الوهاب بدعوته من أهل الجزيرة العربية ليسوا مشركين ولا كفارًا، بل مسلمون يشهدون الشهادتين، ويقيمون أركان الدين، ولا يختلفون كثيرًا عن غيرهم من المسلمين في أقطار المعمورة، في العراق وفي الشام وفي اليمن، وفي كل أرجاء الإمبراطورية الإسلامية! فكيف يجعلهم كالكفار الأوائل الذين ينكرون البعث والنشور وينكرون وجود الله عز وجل؟ أو يجعلهم كالمشركين الأوائل الذين لا يشهدون لله بالوحدانية أبدًا، ولهم آلهة، سواء أكانت أصنامًا أو أوثانًا، [ومعترفووووووووووووووووووووون] بأنهم يعبدون أصنامهم، أو يعبدون عيسى عليه السلام، أو عزيرًا عليه السلام، أو الملائكة، أو الجن، أو غير ذلك. ويعتقدون أن هذه آلهة مع الله عز وجل، وإعترافاتهم في ذلك [وااااااضحة وصرررررريحة]، يعني ما ناكرين ولا داسين المسألة، (قالوا [نعبد] أصنامًا فنظل لها عاكفين)، (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا أتنهانا أن [نعبد] ما يعبد آباؤنا)، (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما [يعبد] آباؤنا؟)، (ما [نعبدهم] إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، (واذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا إلا اساطير الأولين) وغيرها، وكلها إعترافات صريحة بالكفر والشرك وعبادة غير الله!!! فكيف تساويهم بمن يشهد لله عز وجل بالوحدانية، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج بيت الله عز وجل وغير ذلك من الشعائر؟! إن من كان يظهر الإسلام من المنافقين ويضمر الكفر كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نفاقهم لكنه تستر عليهم ولم يحاكمهم بالنفاق، فكيف وأنت لست بنبي، ولا برسول، ولا بمعصوم، ولا بمؤيد بالوحي؟ تخرجهم من الملة وتنكل بهم مع ما يظهرونه من إسلام؟!!! ما هذه الجسارة؟!

ولتبرير خطئه، زعم أنهم يشهدون الشهادتين لكنهم يفعلون أفعالًا شركية، كالطواف بالقبور، ودعاء الأولياء، والذيح لهم، ... إلى غير ذلك. ومن قرر لك أن هذه أفعال شركية؟! طبعًا هو يتبنى تقسم ابن تيمية [للتوحيد] إلى ثلاث أقسام، وهي بدعة من البدع لم يسبقه إليها عالم معتبر من علماء السلف، ومن بين هذه الأقسام المبتدعة ما يعرف بتوحيد وشرك الإلهية أو الألوهية، وفهمه له أن تصرف عبادة لغير الله، لكن المعلوم بداهة أن أي عمل لا يكون عبادة إلا إذا كان بنية التعبد، وهذا في غاية البداهة لأن الأعمال بالنيات، فحتى لو صلت صلاة كاملة لكن خوفًا من الحاكم أو رياءًا فإن هذه الصلاة لا يمكن أن تكون عبادة صحيحة لأن نيتها مشوبة. فكيف له أن يجعل الطواف بالقبور ودعاء الأولياء والذبح لهم وغيرها أفعالًا شركية بدون ملاحظة النية عند العمل؟ فهذه الأفعال التي يسميها شركية، إذا فعلها الشخص على سبيل التعبد فهنا يكون قد جعل لله ندًا وشريكًا وآلهة تعبد من دون الله، لكن المسلمين لا يفعلون ذلك على سبيل التعبد، وإنما على سبيل التبرك، والتوسل، والأخذ بالأسباب!! فأيَّا كان اتفاقه معهم أو اختلافه فإنهم لا يمكن أن يكونوا مشركين لأسباب بسيطة جدًا، وهي أنهم:
- لا يفعون ذلك بنية العبادة
- ولا ينظرون إلى الأنبياء والأولياء كآلهة، بل يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فمعبودهم واحد، أما الإدعاء عليهم بقوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فهؤلاء أولًا معترفون بعبادة غير الله (ما نعبدهم)، ثانيأ أنهم مشركوا أهل الكتاب، يدل على ذلك سياق الآيات وطبيعة الحال، فهم عبدة مريم وموسى عليه السلام، يظنون أنهم آلهة مع الله عز وجل، وأن عبادتهم لها تقربهم من الإله الأكبر، وهذه هي عقيدة الثالوث والعياذ بالله تعالى.
- لهم أدلتهم الشرعية من الكتاب والسنة التي تجيز لهم ذلك التبرك والتوسل والإستعانة والإستغاثة بالأحياء والأموات، القريبين والبعيدين، وأن ذلك لا يقدح في عقيدتهم طالما أنهم يؤمنون بأن القادر هو الله عز وجل وأنه يجري قدرته على خلقه، تمامًا مثلما يجري الشفاء على يد الطبيب، وأنه أمام قدرة الله عز وجل ليس هنالك حدود، ينفع بالحي وكما ينفع بالميت، يغيث بالحي كما يغيث بالميت، ولهم أدلتهم الشرعية في ذلك، وهي أدلة صحيحة ومعتبرة شرعًا.
- ولا يعترفون بأنهم أشركوا بالله شيئًا، بل إن قلبهم عامر بالتوحيد واعتقاد أن الله عز وجل هو الذي أكرم هؤلاء الأنبياء والأولياء بالبركة والصلاح والجاه عنده عز وجل والقدرة على نفع الناس بإذن الله، لقربهم منه!

وأيًا كان اتفاقه معهم في أدلتهم الشرعية، أو اختلافه فهل هم كالذين يثبتون لله الشريك والند، ويعترفون بعبادة غير الله لينزل عليهم آيات المشركين والكفار الأوائل؟!
ومن أين أتت القداسة لفهمه هو لنصوص الكتاب والسنة؟ والعصمة ليعتبر أنه مصيب في رأيه وأن غيره مخطئ لا محالة مشرك مرتد حلال المال والدم؟! ألا يجوز أنه مخطيء في ما ذهب إليه؟ بل هو كذلك بلا شك!
فبغض النظر عن إتفاقه معهم أو اختلافه فإنه ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي، المعصوم من الخطأ في الدين ليعتبر أنه محق وأنهم خطأ، لذلك فكان الأولى طالما أنهم استعصموا بأدلتهم الشرعية أن يتركهم وشأنهم وأمرهم إلى الله عز وجل.

المفارقة العجيبة الثالثة أن الإختلاف بين العلماء حاصل منذ قديم الزمان، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عهد الصحابة رضوان الله عليهم، في كل مسائل الدين، وكان جُلُّ اختلافهم ليس في النص نفسه وبقدر ما كان في فهم النص، لأن الفهوم تتباين، والحق تتعدد أوجهه ومع ذلك لم يصر طرف على حمل الطرف الآخر على رأيه، أقصى ما يفعله هو أن يبدي وجهة نظره فإن قبل بها خصمه فذا، وإلا عذره طالما أن أدلته وجيهة، فلماذا هو يصر على أن الحق معه وهو في الحقيقة شاذ على جمهور أهل العلم في مسائل أصلية وفرعية ومن شذ شذ في النار، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فضلا عن أن يصر على رأيه بما يخول له قتل خصمه؟! أمعصوم هو؟

المفارقة العجيبة الرابعة، ما الذي يجعل الأمة بكثرة علمائها المعتبرين على مر العصور أن تختزل الصواب في شخص أو شخصين أو ثلاثة؟! في محمد بن عبد الوهاب، وفي ابن تيمية الذي أخذ عنه محمد بن عبد الوهاب معظم تنظيراته، وابن القيم الذي تتلمذ على ابن تيمية!؟! أليست هذه مجازفة كبرى أن نرهن الأمة برأي أشخاص ليسو بأنبياء ولا رسلًا ولا معصومين ولا مؤيدين بالوحي السماوي؟ بل شاذون ومتفردون على جماهير أهل العلم من السلف والخلف؟! أليس السلامة فيما توافق عليه علماء الأمة؟

مفارقات عجيبة، لا يقبلها المنطق السليم

الأحد، 7 سبتمبر 2025

في الذكر الجماعي

قال الإمام النووي في [الأذكار]:
«اعلم أنه كما يُستحبُ الذِّكرُ يُستحبُ الجلوسُ في حِلَقِ أَهلِهِ، وقد تظاهرتُ الأدلةُ على ذلك، ويكفي في ذلك حديثُ ابن عمرَ، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قالوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ".
ولا تكون الحلقة إلا من جماعة، لذلك يستحب أن تكون الحلقة مغلقة.
ومن بركة هذا الذكر أن الملائكة تحفهم إلى السماء. قال الإمام النووي: «وروينا في: صحيح مسلم، أيضاً [رقم: ٢٧٠٠] ، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أنهما شهدا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قال: "لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُون اللَّهَ تَعالى إلا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَليهِمْ السَّكِينَةُ، وَذَكَرََهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيمَنْ عِنْدَهُ"»

وقالرأيضا: «وروينا في: صحيح مسلم، [رقم: ٢٧٠١] ، عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: خرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: "ما أجْلَسَكُم"؟ قالوا: جلسنا نذكُر الله تعالى، ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام، ومَنَّ به علينا؛ قال: "آلله ما أجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ"؟ [قالوا: واللَّهِ ما أجلسنا إلاّ ذاك؛ قال:] "أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ، فأخْبَرَنِي أنَّ الله تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ"»

فالذكر  الجماعي ثوابه عظيم، يكفي أن يباهي الله به الملائكة. 

الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم

الباب الثالث عشر في أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم. 
نقلا عن سبل الرشاد للصالحي. 

قال الحافظ أبو الخير السخاوي - رحمه الله تعالى- في فتاويه: عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم بعمل الولائم البديعة المشتملة على الأمور المبهجة الرفيعة ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. انتهى.

وقال الإمام الحافظ أبو الخير بن الجزري - رحمه الله تعالى- شيخ القراء: من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام.

قلت: وأول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكوبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد.

قال الحافظ عماد الدين ابن كثير - رحمه الله تعالى- في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا- رحمه الله تعالى- وأكرم مثواه. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب بن دحية- رحمه الله تعالى- كتابا له في المولد سماه: «التنوير في مولد البشير النذير » فأجازه بألف دينار.

قال سبط بن الجوزي - رحمه الله تعالى- في مرآة الزمان: حكى من حضر سماط المظفر في بعض المولد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف قرص ومائة ألف زبدية أي من طعام، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم. وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة. فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار وكان يفتك من الفرنج في كل سنة بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، وهذا كله سوى صدقات السر.

وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه [ ص: 363 ] كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم. قالت: فعاتبته في ذلك فقال: ألبس ثوبا بخمسة دراهم وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين.

وقد أثنى عليه الأئمة، منهم الحافظ أبو شامة شيخ النووي في كتابه «الباعث على إنكار البدع والحوادث » وقال: مثل هذا الحسن يندب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه.

قال ابن الجوزي : لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان وإدعام أهل الإيمان.

وقال العلامة ابن ظفر - رحمه الله تعالى-: بل في الدر المنتظم: وقد عمل المحبون للنبي صلى الله عليه وسلم فرحا بمولده الولائم-، فمن ذلك ما عمله بالقاهرة المعزية من الولائم الكبار الشيخ أبو الحسن المعروف بابن قفل قدس الله تعالى سره، شيخ شيخنا أبي عبد الله محمد بن النعمان، وعمل ذلك قبل جمال الدين العجمي الهمذاني وممن عمل ذلك على قدر وسعه يوسف الحجار بمصر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحرض يوسف المذكور على عمل ذلك.

قال: وسمعت يوسف بن علي بن زريق الشامي الأصل المصري المولد الحجار بمصر في منزله بها حيث يعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام منذ عشرين سنة وكان لي أخ في الله تعالى يقال له الشيخ أبو بكر الحجار فرأيت كأنني وأبا بكر هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم جالسين، فأمسك أبو بكر لحية نفسه وفرقها نصفين وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم كلاما لم أفهمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا له: لولا هذا لكانت هذه في النار. ودار إلي وقال: لأضربنك.

وكان بيده قضيب فقلت: لأي شيء يا رسول الله؟ فقال: حتى لا تبطل المولد ولا السنن. قال يوسف : فعملته منذ عشرين سنة إلى الآن. قال: وسمعت يوسف المذكور يقول: سمعت أخي أبا بكر الحجار يقول: سمعت منصورا النشار يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول لي: قل له لا يبطله. يعني المولد ما عليك ممن أكل وممن لم يأكل. قال: وسمعت شيخنا أبا عبد الله بن أبي محمد النعمان يقول: سمعت الشيخ أبا موسى الزرهوني يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فذكرت له ما يقوله الفقهاء في عمل الولائم في المولد فقال صلى الله عليه وسلم: «من فرح بنا فرحنا به » .

وقال الشيخ الإمام العلامة نصير الدين المبارك الشهير بابن الطباخ في فتوى بخطه: إذا أنفق المنفق تلك الليلة وجمع جمعا أطعمهم ما يجوز إطعامه وأسمعهم ما يجوز سماعه ودفع للمسمع المشوق للآخرة ملبوسا، كل ذلك سرورا بمولده صلى الله عليه وسلم فجميع ذلك جائز ويثاب [ ص: 364 ] فاعله إذ أحسن القصد، ولا يختص ذلك بالفقراء دون الأغنياء، إلا أن يقصد مواساة الأحوج فالفقراء أكثر ثوابا، نعم إن كان الاجتماع كما يبلغنا عن قراء هذا الزمان من أكل الحشيش واجتماع المردان وإبعاد القوال إن كان بلحية وإنشاد المشوقات للشهوات الدنيوية وغير ذلك من الخزي والعياذ بالله تعالى فهذا مجمع آثام.

وقال الشيخ الإمام جمال الدين بن عبد الرحمن بن عبد الملك الشهير بالمخلص الكتاني - رحمه الله تعالى- مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبجل مكرم، قدس يوم ولادته وشرف وعظم، وكان وجوده صلى الله عليه وسلم مبدأ سبب النجاة لمن اتبعه وتقليل حظ جهنم لمن أعد لها لفرحه بولادته صلى الله عليه وسلم وتمت بركاته على من اهتدى به، فشابه هذا اليوم يوم الجمعة من حيث إن يوم الجمعة لا تسعر فيه جهنم، هكذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم فمن المناسب إظهار السرور وإنفاق الميسور وإجابة من دعاه رب الوليمة للحضور.

وقال الإمام العلامة ظهير الدين جعفر التزمنتي - رحمه الله تعالى-: هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح مع تعظيمهم وحبهم له إعظاما ومحبة لا يبلغ جمعنا الواحد منهم ولا ذرة منه، وهي بدعة حسنة إذا قصد فاعلها جمع الصالحين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام للفقراء والمساكين، وهذا القدر يثاب عليه بهذا الشرط في كل وقت، وأما جمع الرعاع وعمل السماع والرقص وخلع الثياب على القوال بمروديته وحسن صوته فلا يندب بل يقارب أن يذم، ولا خير فيما لم يعمله السلف الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها » .

وقال الشيخ نصير الدين أيضا: ليس هذا من السنن، ولكن إذا أنفق في هذا اليوم وأظهر السرور فرحا بدخول النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود واتخذ السماع الخالي عن اجتماع المردان وإنشاد ما يثير نار الشهوة من العشقيات والمشوقات للشهوات الدنيوية كالقد والخد والعين والحاجب، وإنشاد ما يشوق إلى الآخرة ويزهد في الدنيا فهذا اجتماع حسن يثاب قاصد ذلك وفاعله عليه، إلا أن سؤال الناس ما في أيديهم بذلك فقط بدون ضرورة وحاجة سؤال مكروه، واجتماع الصلحاء فقط ليأكلوا ذلك الطعام ويذكروا الله تعالى ويصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاعف لهم القربات والمثوبات.

وقال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه: «الباعث على إنكار البدع والحوادث » قال الربيع: قال الشافعي - رحمه الله تعالى ورضي عنه-: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواحد من هذا. [ ص: 365 ]

فهي محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر - رضي الله تعالى عنه- في قيام رمضان نعمت البدعة هذه. يعني أنها محدثة لم تكن. وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.

قلت: وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على قيام شهر رمضان وفعله هو صلى الله عليه وسلم واقتدى به فيه بعض أصحابه ليلة أخرى. ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالمسجد جماعة، لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع وفعله والحث عليه والترغيب فيه. والله تعالى أعلم.

فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي. وذلك نحو بناء المنابر والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى. ومن أحسن ما ابتدع في زماننا هذا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة «إربل » جبرها الله تعالى، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله وشكر الله تعالى على ما من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيرهم رحمهم الله تعالى.

وقال الشيخ الإمام العلامة صدر الدين موهوب بن عمر الجزري الشافعي رحمه الله تعالى: هذه بدعة لا بأس بها ولا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في إظهار السرور والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 366 ]

وقال في موضع آخر: هذا بدعة، ولكنها بدعة لا بأس بها، ولكن لا يجوز له أن يسأل الناس بل إن كان يعلم أو يغلب على ظنه أن نفس المسؤول تطيب بما يعطيه فالسؤال لذلك مباح أرجو أن لا ينتهي إلى الكراهة.

وقال الحافظ- رحمه الله تعالى-: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما

ثبت في الصحيحين من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى. فقال: «أنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه .

فيستفاد من فعل ذلك شكرا لله تعالى على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات والسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي الكريم نبي الرحمة في ذلك اليوم؟

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم حتى نقلوه إلى أي يوم من السنة. وفيه ما فيه.

فهذا ما يتعلق بأصل عمل المولد.

الاثنين، 25 أغسطس 2025

خطأ إقحام العوام في النقاشات الدينية

خطورة الفتوى والقول على الله بغير علم:
لكل من تكلم في مشروعية المولد هل أنت عالم متخصص في الدين لتفتي على حكم مشروعية المولد؟ أم أنت في درجة الأئمة والعلماء المعتبرين ودور الفتوى التي أفتت بجوازه؟
إعلم هداك الله أن الكلام في الدين بدون علم كبيرة من الكبائر، قال تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}، وقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} 
الفتوى هي توقيع عن رب العالمين كما قال ابن القيم رحمه الله: المفتي موقّع عن رب العالمين. فكيف يُعقل لمن لم يتأهل أن يوقّع عن الله وهو لا يعرف أصول الحكم الشرعي؟ العالم وحده يتحمل مسؤولية الفتوى إذا أخطأ، فعلى العامي عدم التدخل فيما لا يحسن من علم شرعي حتى لا يحرم ما أحل الله ويحرم ما أحل الله بغير علم.
يجب احترام التخصص في العلوم الشرعية:
العلماء يتكلمون عن قواعد وأصول لا يدركها العوام، فالعالم عندما يفتي أو يقرر مسألة دينية فإنه لا يعتمد على رأي مجرد، بل على:
▪️نصوص من القرآن والسنة.
▪️معرفة التفسير وأسباب النزول 
▪️معرفة علوم الحديث والجرح والتعديل والعلل
▪️معرفة اللغة العربية وأصولها وإعراب القرآن الكريم.
▪️معرفة الناسخ والمنسوخ.
▪️معرفة المطلق والمقيد
▪️معرفة قواعد أصول الفقه.
▪️معرفة مقاصد الشريعة.
وغيرها من العلوم المنخصصة
والعوام يجهلون بطبيعة الحال هذه العلوم ، فكيف يعترضون على الأئمة والعلماء المعتبرين؟

يجب احترام التخصص الشرعي، فكما لا يحق لغير الطبيب أن يُجري عملية جراحية، ولا لغير المهندس أن يضع مخطط بناء، فكذلك الدين علم له أدواته وقواعده (اللغة، أصول الفقه، الحديث، التفسير… إلخ). فالعوام لا يملكون هذه الأدوات، فيكون دخولهم في تفاصيل الأدلة واستنباط الأحكام عبثًا وخوضًا في غير تخصصهم.
لا لتطاول العوام على العلماء:
العامي غير المتخصص في العلوم الشرعية غير مكلف بالنظر في الأدلة الشرعية، بل غير مؤهل للنظر فيها ومناقشتها. والطامة الكبرى وقمة العبث والفوضى العلمية هي مطالبته للغير بالدليل وهو غير مؤهل للنظر في الأدلة. لذا لا يسعه إلا إلى الرجوع للعلماء الثقاة أهل الذكر ولا يجتهد بنفسه بغير علم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، وقال تعالى: {وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلࣰا}، والرد إلى الله ورسوله لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون. واجبهم سؤال العلماء الثقاة الموافقين لجمهور أهل العلم الذين تلقتهم الأمة بالقبول لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وبراءتهم أمام الله تكون باتباع من أفتى لهم من العلماء المعتبرين أو الجهات الرسمية، 
جاء رجل إلى الإمام الشافعي يناقشه في مسألة، فقال له الشافعي: «أأنت من أصحاب الحديث؟» 
قال: لا.
قال: «أفأنت من أصحاب الفقه؟» 
قال: لا.
فقال الشافعي: «إذن: أنا أتكلم معك في علم لا تحسنه، فإياك أن تعترض عليّ».
وقال الإمام الشعبي [ت 103هـ] : «إنما هلكتم حين تركتم أخذ العلم عن أهله، وأخذتموه عن صغاركم» [رواه أبو نعيم في الحلية].

السبت، 9 أغسطس 2025

لفظ الاستغاثة في حديث الشفاعة الكبرى

عن حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأتِيَ يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ». وَقالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]
وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الشَّمسَ لَتَدنو حتى يَبلُغَ العَرَقُ نِصفَ آذانِهم، فبينَما هم كذلك استَغاثوا بآدَمَ، فيقولُ: لستُ صاحِبَ ذاك، ثم بموسى عليه السَّلامُ فيقولُ كذلك، ثم بمُحمَّدٍ ﷺ ويَشفَعُ لِيُقضى بين الخَلْقِ، فيَمشي حتى يأخُذَ بحَلقَةِ الجَنَّةِ، فيومَئذٍ يَبعَثُه اللهُ مَقامًا مَحمودًا يَحمَدُه أهلُ الجَمعِ كُلُّهم.» [أخرجه بن منده في الإيمان]
وعن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّمسَ لتدنو حتّى يبلُغَ العَرَقُ نصفَ الأُذنِ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: لست صاحبَ ذلك، ثمَّ بموسى عليه السَّلامُ، فيقولُ: كذلك، ثمَّ بمحمَّدٍ، فيشفعُ بين الخلقِ، فيمشي حتّى يأخذَ بحلقةِ الجنَّةِ، فيومئذٍ يبعثه اللهُ مقامًا محمودًا»[أخرجه بن جرير الطبري في تفسيره]
وعليه فيجوز الاستغاثة بالخلق على سبيل التسبب إذ أن المغيث حقيقة هو الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله

الخميس، 31 يوليو 2025

حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة هل يدخل هذا التعامل في الربا؟ لا، لا يدخل فيه

🟤 حكم تحويل الرصيد البنكي إلى نقد مقابل عمولة، هل يدخل هذا التعامل في الربا؟

الجواب:
من يعرف النظام المالي والمصرفي الحديث يدرك تمامًا هذا النوع من المعاملة جائز شرعًا، ولا يدخل في باب الربا، وإنما هو من باب بيع المنافع أو الجعالة على فعل مباح، وبيان ذلك كما يلي:

أولًا: تحرير محل النزاع
المعاملة محل السؤال هي أن شخصًا يملك رصيدًا في حسابه البنكي، فيطلب من آخر أن يسلمه نقدًا (كاش) مقابل تحويل ذلك الرصيد إليه، على أن يأخذ المحوِّل نسبة معلومة (كـ5% مثلًا) من المبلغ كأجر على هذه الخدمة.
وهذه الصورة ليست من باب بيع النقد بالنقد حتى يقال: يشترط التماثل والتقابض، بل هي من باب أداء خدمة بأجر معلوم.

ثانيًا: الرصيد البنكي ليس عين المال، وإنما هو مجرد حق مالي
الرصيد البنكي ليس عين النقد، وإنما هو حق ثابت في ذمة البنك، والدليل على ذلك أنك لا تستطيع أن تمسك الرصيد بيدك، بل هو معلومة في النظام المصرفي تفيد أن لك مبلغًا في ذمة البنك.
والفقهاء قرروا أن الحقوق المالية يجوز التصرف فيها بطرق متعددة، ومنها الإنابة والوكالة، مع أجر أو بدون أجر.

ثالثًا: الواقع أن صاحب الكاش يؤدي خدمة نيابة عن البنك
في النظام المصرفي السليم، البنوك هي التي تتكفّل بتحويل الأرصدة إلى نقد عبر الصرافات الآلية، وتأخذ على ذلك عمولة معلومة. فإذا تعطّلت هذه الخدمة، وصار أفراد المجتمع يقومون بها، فإنهم يقومون بعمل هو في أصله من مسؤولية البنك، ويجوز لهم أخذ الأجرة عليه.

رابعًا: هذه المعاملة داخلة في باب الجعالة، أو الإجارة على عمل مباح
الذي يدفع لك النقد مقابل أن تحول له الرصيد، لم يبع لك نقدًا بنقد، بل استأجرك على أن توفر له خدمة: وهي تمكينه من النقد، عبر سحب رصيده أو مقابل نقل ملكيته. فهي من باب الجعالة: (من يأتي بكذا فله كذا)، أو الإجارة على المنافع: (أنت توصل لي الكاش، ولك أجر معلوم).

خامسًا: نسبة العمولة لا تجعلها ربا، بل تعكس تفاوت الجهد والمخاطرة
توفير الكاش، خصوصًا في بيئات تعاني من أزمة سيولة، يتطلب:
▪️مجهودًا كبيرًا في جمعه من مصادر متعددة
▪️مخاطر أمنية في حفظه ونقله
▪️ترتيبًا وعدًّا وتغليفًا بدقة
▪️التزامًا بتسليم المبلغ في وقت ومكان معين
▪️دعك من المجهود والوقت وخدمة الإنترنت وجهاز الموبايل الضروري لإجراء المعاملة

وهذه التكاليف تختلف باختلاف المبلغ، لذا من الطبيعي أن تتناسب الأجرة مع الجهد والمخاطرة، وهذا أصل معتبر في باب الإجارات والجعالات، وقد قرر الفقهاء أن الأجرة يجوز أن تكون نسبة من المال إذا لم تكن المعاملة محرّمة في أصلها.

سادسًا: القياس على ربا الفضل أو النسيئة قياس مع الفارق
من قاس هذه المعاملة على ربا الفضل أو النسيئة في بيع الذهب بالذهب أو الدراهم بالدراهم، فقد أخطأ من جهتين:
1. أن الرصيد البنكي ليس مالًا عينًا، بل هو حق مالي، فلا ينطبق عليه شرط التماثل والتقابض.

2. أن النقد الورقي المعاصر ليس جنسًا ربويًا حقيقيًا، لأنه لا يُقتنى لذاته، بل هو أداة تبادل وليس سلعة في نفسه، والربا يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، والعلة هنا مفقودة.

سابعًا: لو عاد النظام المصرفي إلى كفاءته، لما ظهرت هذه الخدمة
وهذا أقوى دليل على أن ما يحدث هو بديل عن خدمة تعطّلت، وليس نشاطًا تجاريًا ربوياً، لأن الناس لا يلجؤون إلى هذه المعاملة إلا عند فقدان القدرة على السحب المباشر. فلو توفرت السيولة في البنوك لما احتاج أحد إلى تحويل الرصيد مقابل عمولة، وهو ما يدل أن محل المعاملة هو الخدمة، لا المال في ذاته.

وعليه فإن هذه المعاملة جائزة شرعًا، وهي من باب بيع المنافع أو الجعالة، ولا تدخل في باب الربا، لأن الربا لا يكون إلا في بيع مال ربوي بجنسه مع تأجيل أو زيادة، ولا يوجد شيء من ذلك هنا.

⚠️ تنبيه مهم: لا يجوز استغلال حوجة الناس برفع العمولة إلى نسبة مجحفة
وإن كنا قد بيّنا جواز هذه المعاملة من حيث الأصل الشرعي، إلا أننا نُذكّر بأن الإسلام لا يُبيح استغلال حاجة الناس وضعفهم. فالأصل أن تكون العمولة مقابلة عادلة للخدمة والمجهود المبذول، لا أن تُحوّل إلى باب من أبواب أكل أموال الناس بالباطل.
وقد نص العلماء على أن: «كل معاملة وإن كانت جائزة في أصلها، إذا دخلها ظلم أو استغلال أو تغرير، صارت محرّمة لما شابها من المفاسد.» 
وقد قال النبي ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»[رواه أحمد وغيره]، وقال أيضًا: «من لا يَرحم لا يُرحم»[متفق عليه].
فعلى من يقدّم هذه الخدمة أن يتقي الله تعالى، وأن يتعامل برحمة وعدل وتقدير حقيقي للمجهود، دون استغلال ظروف الناس المعيشية، فالدين ليس فقط أحكامًا، بل هو أخلاق وقيم ومروءة.

السبت، 14 سبتمبر 2024

الرد على رسالة: الاحتفال بالمولد النبوي شبهات وردود

◾ صلاحية الإسلام:
من المعلوم أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وفيه ضمن تعاليمه الشرعية من المرونة ما يستوعب المستجدات العصرية في حياة الناس، كيف لا وهو الدين الخاتم الذي ليس بعده دين. ولا يخفى أن قوّة التديُّن وشدّة العناية بالدين تضعف كُلّما مرّت السنين وبَعُد التاريخ من صدر الإسلام، ما يوجب اتخاذ تدابير معاصرة لتعويض النقص وسدّ الخلل، وهي مسائل معاصرة يجتهد فيها العلماء والرُّوَّاد من أهل كل زمان، وقد وفّر لهم الدين المساحة الكافية للتحرك من خلال المرونة في الاستجابة لتحديات العصر بدون حرج. لذا فإن الذين يتجاهلون مرونة الإسلام ويدفعون الناس للتدين وفقًا لنمط الحياة في العصور الأولى بدون مراعاة للواقع وتحدياته فإنهم جهلة وأدعياء وإن تلبّسوا بلباس العلماء.

◾ أكثرية العلماء تمثل المجلس الاستشاري العلمي الأعلى في الأمة:  
من المعلوم أن الدين يُؤخذ عن العلماء المُعتبرين المشهورين بالعلم والعمل، الذين تخصَّصوا في العلوم الشرعية وتَأهَّلوا لتبليغ الرسالة المحمدية. وعندما يُقال إن هذا الأمر عليه أكثر العلماء أو أجازه جمهور أهل العلم فيجب الانتباه والاكتراث، لأن العبرة ليست بالكثرة المطلقة وإنما بكثرة العلماء المتخصِّصين في الدين، فالقِلَّة التي تُخالفهم ليست معصومة في فهمها للدين ونصوصه لترجيح كفّتها ولكن جماعة العلماء معصومة من الضلال لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

◾ تصحيح مفهوم البدعة وفقًا لما عليه جمهور العلماء: 
البدعة هي إحداث شيء جديد غير مسبوق، وهذا المُحدَث لا بد له من حالين:  
١/ أن يكون موافقًا لتعاليم الإسلام، كتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل تيسيرًا على العوام والأعاجم، وهذا بطبيعة الحال شيء محمود.  
٢/ أن يكون مخالفًا لتعاليم الإسلام كتكفير المسلمين ورميهم بالشرك آخذين في الاعتبار نهي النبي ﷺ عن ذلك ووعيده لفاعله، وهذا مذموم بلا شك.  
لذا فالبدعة فيها المحمود وفيها المذموم كما قرر ذلك جمهور أهل العلم وعلى رأسهم الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة المتبوعين المتوفى في القرن الثالث الهجري سنة ٢٠٤هـ، أحد قرون السلف الصالح. قال النبي ﷺ: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ» ويفهم منه: (أنَّ مَن أحدث في ديننا ما هو منه، وله أصل في الشريعة يدل عليه فليس برَدّ). قال ابن رجب الحنبلي في [جامع العلوم والحِكم]: «والمراد بالبدعة ما أُحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدلّ عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة». لذا فما كان له أصل في الشريعة يدل عليه كان بدعة حسنة، وما كان بخلاف ذلك كان بدعة سيئة. 

◾ أقسام الدليل الشرعي الذي تُعرف به البدعة:
الأدلة الشرعية التي تميز البدعة الحسنة من السيئة تنقسم إلى قسمين:  
١/ دليل خاص: وهو النص الوارد في موضوع معين، كبيان النبي ﷺ مثلًا أنه يصوم يوم الإثنين لأنه اليوم الذي وُلِد فيه، فهذا دليل خاص على عناية النبي ﷺ بذكرى ميلاده الشريف.  
٢/ دليل عام: وهو نص عام تندرج تحته مواضيع غير محددة وغير محصورة كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [سورة المائدة: ٢]، فلم يُفصّل البر ولا التقوى ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل بر وتقوى، وكقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج: ٧٧]، لم يُفصِّل الخير ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل يرى الناس أنه خير، وكقول النبي ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواه مسلم]، لم يُفصِّل النفع ليندرج تحت هذا الأصل كل عمل ينفع الناس.

◾ أبجديات الاستدلال في علم الأصول:  
من أبجديات علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الاستدلال يعتمد على استخراج الشاهد، وهو الجزء من النص الذي يُستَدلّ به على الحكم الشرعي. ولا يُشترط التطابق التام بين النص والمسألة المُستدَلّ عليها، بل يكفي أن يكون في النص ما يدل على الحكم بوجه من الوجوه. 

◾ عبارة (كل) لا تقتضي الشمول: 
قوله ﷺ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» لا يقتضي أن كل البدع مذمومة لأن عبارة (كل) لا تقتضي الشمول ولا تعنيه دائمًا، كما قال الله تعالى عن ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [سورة الأحقاف: ٢٥] فهل دمرت العرش والكرسي والقلم واللوح والجنان والنيران والسماوات والأرض؟! فهذه أشياء بلا خلاف. وقال الله تعالى عن الملك: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [سورة الكهف: ٧٩] فهل كان يأخذ كل السفن بما فيها المخروقة والمعيبة؟! لا، بل كان يأخذ السفن السليمة فقط، لأجل خرق سيدنا الخضر عليه السلام سفينة المساكين حتى لا يأخذها الملك. هذا النوع من الكُلِيَّة يُعرَف عند العلماء بالكُلِيَّة المنخرقة أو العام المخصوص، حيث يُطلَق الكل ويُراد الجزء، فأُطلِق لفظ البدعة وأُريد البدعة المذمومة، والتقدير: (كل بدعة بلا أصل يدل عليها هي بدعة ضلالة). ويؤيد هذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح: «نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، فكيف يمدح البدعة لو كانت كل بدعة ضلالة بالمعنى الحرفي والسطحي للمتطرفين؟! كيف يمدح البدعة الضلالة وهو الذي يجري الحق على لسانه وقلبه كما قال النبي ﷺ؟!

◾ مشروعية المولد هو مذهب جمهور أهل العلم:
جمهور أهل العلم من كافة المذاهب، ودور الفتوى في العالم الإسلامي أفتوا بمشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف استنادًا إلى أصول شرعية معتبرة وأدلة محكمة، وهذا كافٍ ووافٍ، فالقِلَّة القليلة المعترضة لا تبلغ في العلم ولا جلالة القدر معشار الأغلبية المحتفلة، طبعًا ولا تتمتع بالعصمة لترجح رأيها على رأي جمهور أهل العلم، بل العصمة مع جمهور العلماء لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وبهذا تسقط الدعوى الواهية بأن الاحتفال بالمولد "بدعة" لكونه لم يكن موجودًا في القرون الثلاثة الأولى، ولكون النبي ﷺ قال: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، فالعبرة بالأصل الشرعي الذي يقوم عليه الاحتفال وليس بإقامته في عصور من العصور من عدم إقامته لأن الدافع وراء الكثير من الأمور المستحدثة هو الحاجة والتي تختلف باختلاف العصور. 

◾ البدعة الحسنة سُنَّة:
قول النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، لَا يُنْقَصُ ذَٰلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم]، يعتبر من الأصول العامة العظيمة التي يُستدل بها على مشروعية كثير من الأعمال الدينية المعاصرة، فالنبي ﷺ لم يفصِّل السُّنن الحسنة بل ترك الباب مفتوحًا لتندرج تحت هذا الأصل كل مُحدثة محمودة، بل وجعلها سُنَّة ووصفها بالحُسن كما قال الإمام ابن الأثير في [النهاية]: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سُنَّة»، فقد نسبها النبي ﷺ للإسلام وسمَّاها (سُنَّة حسنة) فقال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً».

◾ الفرق كبير بين سَنِّ سُنَّة وإحياءِ سُنَّة:
السُّنَّة في حديث السُّنَّة الحسنة المشهور ليس المقصود بها إحياء سُنَّة متروكة من سُنن النبي ﷺ، فالسَّنُّ شيء والإحياء شيء آخر تمامًا، بدليل أن النبي ﷺ بالمقابل وفي نفس الحديث ذمَّ السُّنَّة القبيحة المضافة للإسلام وسمَّاها (السُّنَّة السيئة) فقال: «وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً»، فإذا كان المقصود بسَنِّ السُّنَّة إحياءُ سُنَّة ميتة فهل في الإسلام سُنن سيئة لإحيائها؟! قطعًا لا يوجد، فدلَّ على أن المقصود بالسُّنَّة معناها اللغوي المعروف وهو إحداث أمور في الإسلام جديدة إما محمودة أو مذمومة يسير عليها الناس من بعد، وليس المقصود إحياءَ سُنَّة من سنن النبي ﷺ المهجورة المرغب في إحيائها بقوله ﷺ: «من أحيا سنَّةً من سنَّتي قد أميتت بعدي فإنَّ لَه منَ الأجرِ مثلَ أجورِ من عملَ بِها من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شيئًا» [رواه البغوي في شرح السنة]، فهذا شيء وذاك شيء آخر. 

◾ السُّنَّة التقريرية خير شاهد على البدعة الحسنة:
السُّنَّة التقريرية هي إقرار النبي ﷺ عملًا قام به أحد الصحابة رضي الله عنهم بدون أن يسبقه إليه النبي ﷺ أو يطلبه منه، والعمل بهذا الوصف مُحدث، لكن النبي ﷺ كان يقر المحمود الموافق لتعاليم الإسلام وله في الشريعة ما يدل عليه كقول الصحابي في الصلاة: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ» [رواه البخاري]، وكان يرفض ولا يقبل المخالف لتعاليم الإسلام وليس له في الشريعة ما يدل عليه كالشَّفاعة مثلًا في المخزومية التي سرقت، وكقتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله. ولو كان المقصود بقوله ﷺ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ما فهمه المتطرفون من ظاهر النص أن كل المحدثات مذمومة، لما أقر النبي ﷺ عملًا لم يسبق هو إليه ولم يطلبه، بل لكان الأولى أن يرفضه وينهى عن العودة لمثله في المستقبل، وهذا لم يحدث، بل صارت السُّنة التقريرية أصلًا عظيمًا من أصول الدين وقسمًا عظيمًا من أقسام السُّنة، ما يثبت أن المحدثات من الأمور فيها المحمود وهي البدع الحسنة وفيها المذموم وهي البدع الضلالة، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا.

◾ صلاة التراويح من الأمثلة الواقعية على البدعة الحسنة:
إن صلاة التراويح التي أمر بها سيدنا عمر رضي الله عنه كانت تختلف عن صلاة القيام التي صلاها النبي ﷺ لثلاث أيام من رمضان ثم تركها خشية أن تُفرض، فقد كانت صلاة النبي ﷺ آخر الليل وقريب الفجر كما روى سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وبعدد قليل من الركعات لا يزيد عن عشر ركعات من غير الوتر، بينما كانت صلاة التراويح في عهد سيدنا عمر تُقام أول الليل، وبعشرين ركعة، وبإمامين أحدهما للرجال والثاني للنساء، وبالمئين من القرآن، ولطول الشهر الفضيل ولكل عام. وهي بهذه الهيئة تختلف عن الصلاة التي صلاها النبي ﷺ، ولا يمكن اعتبارها سُنَّة من هذا الوجه، لكن يمكن اعتبارها أصلًا يدل مشروعيتها وتدخل به في باب البدع الحسنة، ويؤيد ذلك قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» [رواه البخاري]، مقرًا أنها بدعة حسنة فقد مدحها كبدعة وليس كسُنَّة نبوية، فالسُّنة النبوية لا يمكن أن توصف بالبدعية، لا لغويًا ولا شرعيًا لأنها الأصل والمصدر الثاني للتشريع.

◾ الدافع وراء البدع الحسنة هو الحاجة والضرورة العصرية:
الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لجمع القرآن، واستحسان جمهور علماء المسلمين لإقامة الموالد هو الحاجة والضرورة العصرية. فإن جمع القرآن وتنقيط المصحف وضبطه بالتشكيل وترقيم آياته وأحزابه وأجزائه وصفحاته وبيان مواضع الوقف والوصل وعلامات التجويد وغيرها من الأمور المحدثة التي أضيفت إلى كتاب الله والمصدر الأول للتشريع لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يأمر بها، ومع ذلك هي ليست بدعًا ضلالات لأنها تندرج تحت الدليل العام: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، والدليل العام: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. فهي خير وبر وتقوى دعت إليها ضرورة الخشية على القرآن من الضياع، وكثرة دخول الأعاجم في الإسلام والحاجة للتيسير. والاحتفال بالمولد النبوي الشريف لا يختلف عن ذلك، فهو أيضًا وسيلة معاصرة فيها من الخير والبر ما فيها للتعبير عن الفرح بنعمة ميلاد النبي ﷺ ومساعدة الأجيال المتأخرة على زيادة الاهتمام به ﷺ والتعرف عليه بما يثمر عن محبته وتعظيمه وتوقيره في عصور كثرت فيها الغفلة وضعف فيها الدين وزاد فيها الانشغال عن رسول الله بما كاد أن يفصل الرأس من الجسد، في حين أن قوة الصلة بين الأمة ونبيها ﷺ مطلب شرعي أساسي يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان.

◾ بطلان الاحتجاج بما روي عن الإمام مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}:
أولاً: ما روي عن الإمام مالك في هذه الآية لا يثبت لضعف عبد الملك بن حبيب السلمي، والمتهم بالكذب فهو ساقط في الاحتجاج. 
ثانيًا: حتى لو افترضنا جدلًا ثبوت الرواية فليس فيها حجة لأن الإسلام لم يكتمل بنزول هذه الآية، فقد نزلت بعدها آيات وسورة، والنبي ﷺ ما توفي بعد نزول هذه الآية بل عاش أيامًا يتكلم ويفعل ويقرر وكل ذلك سُنَّة نبوية ودين، والاجتهاد في الدين لم يتوقف عند نزول هذه الآية ولن يتوقف إلى قيام الساعة، وهو متجدد ويغطي المسائل المستحدثة.
ثالثًا: ثبت أن إحداث وسائل جديدة مؤصَّلة شرعيا لتحقيق مقاصد الشريعة هو من صميم الدين وأحد مظاهر مرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

◾ فساد تصنيف الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة:
إن تقسيم الأحكام الشرعية إلى عادة وعبادة بهذا الإطلاق تقسيم فاسد ومبتدع. فإن سئلت عن الطعام أو الشراب، أهما عادة أم عبادة؟ ماذا ستقول؟ إن قلت عبادة كنت مخطئًا لأن الكافر بقولك هذا عابد لله، بل وأفضل عبادة من المسلم لقول النبي ﷺ: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد»، وإن قلت عادة فقد أخطأت أيضًا لأنك بذلك نفيت وألغيت أحكام الشريعة المتعلقة بالطعام والشراب، وجوزت بذلك أكل الخنزير والميتة والدم وما أهل به لغير الله، وأبحت شرب الخمر، وغير ذلك، فيظهر بذلك فساد هذا التقسيم.
لذلك قسم أهل العلم الشريعة إلى الأحكام الخمسة المعروفة: الحلال والمستحب والحرام والمكروه والمباح، وهي تستوعب كل الأحكام. فمن الطعام ما هو حلال كبهيمة الأنعام، ومنه ما هو مستحب كالتمر والزيتون وكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومنه ما هو حرام كلحم الخنزير والميتة، ومنه ما هو مكروه كالبصل والثوم والكراث، ومنه مباح كسائر الطعام الذي لم يرد فيه نص. وللطعام والشراب آداب شرعية أيضًا كالبسملة، وتناول الطعام مما يليك، والشرب جالسًا، وعدم التنفس في الإناء، وفيه سنن مثل لعق الأصابع بعد الأكل، والأكل بثلاثة أصابع، والشرب على ثلاث دفعات، وعدم عيب الطعام، وغير ذلك، وكل ذلك دين. لذلك قسم العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة: المحرمة والمكروهة والواجبة والمستحبة والمباحة، وهو تقسيم يستوعب أقسام البدعة بشقيها الحسنة والسيئة.

◾ الذكرى من الأمور الثابتة التي دعت إليها الشريعة الغراء:
المولد جوهره ذكرى حيث يتناول سيرة النبي ﷺ من قبل ولادته، مرورًا بطفولته، ونبوته وبعثته ودعوته وإسرائه ومعراجه وهجرته وأوصافه وشمائله وخصائصه وكثير مما يجهله الناس عن رسولهم ﷺ. وقد مدح الله تعالى الذكرى وحضَّ عليها فقال تعالى: {.. وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة إبراهيم: 5]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات: 55]. فمن لم تنفعه الذكرى فكأنه أحمق أو غير مؤمن.

◾ صيام يوم الإثنين من الحجج القوية على مشروعية المولد:
إن مداومة النبي ﷺ لصيام يوم الإثنين شكرًا لله تعالى على نعمة ميلاده سُنَّة مؤكدة ودليل صحيح وصريح وأصل عظيم من أصول مشروعية المولد النبوي الشريف لأنه يلفت النظر لنعمة الميلاد العظيمة التي يغفل عنها الكثيرون حتى بعض الذين يصومون يوم الإثنين من أمته. وقد أشار النبي ﷺ للحكمة من الصيام بوضوح وجلاء بقوله ﷺ: «فِيهِ وُلِدْتُ»، وهنا بيت القصيد وموضع الشاهد وعين الاستدلال. ومن عظمة هذه المناسبة أن اختار الله تعالى ذلك اليوم لنزول القرآن العظيم فقال ﷺ: «وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ». أما كونه ﷺ شكر الله تعالى على هذه النعمة بالصيام فلا يستلزم أن يحتفل الجميع بالصيام فقط لأن العلة الأساسية هي لفت النظر للنعمة بما يوجب شكرها والاكتراث لأمرها، ولأن الشكر قد يكون بالسجود أو الصلاة أو الذبح أو النذر أو الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة، فالشكر حمدٌ مقرون بعمل. ولأن الصيام قد لا يتيسر لجميع المسلمين كالمرضى وكبار السن والأطفال والحوامل وغيرهم من ذوي الأعذار الشرعية، لكن من حق الجميع أن يفرحوا بميلاد الرحمة المهداة والنعمة المسداة ﷺ، ولذا شرع لهم رسول الله ﷺ الذبح وإطعام الطعام بحديث عقيقته عن نفسه ﷺ وهو حديث صحيح.

◾ بطلان الاعتراض على حديث عقيقة النبي ﷺ عن نفسه:
حديث: «عقَّ رسول الله ﷺ عن نفسه بعد أن بُعِث نبيًّا» حديث صحيح لا مطعن فيه من عدة وجوه:
أولًا: من أبجديات علم الحديث أنه لا يُحكم على الحديث من إسناد أو طريق واحدة، فلابد من جمع كل الطرق والأسانيد الأخرى للحكم على الحديث، فإن الأسانيد الأخرى حتى لو كان فيها ضعف فقد تقوي بعضها بعضًا وترقى بالحديث الضعيف إلى رتبة الحسن وبالحسن إلى الصحيح.
ثانيًا: حديث أن النبي ﷺ عَقَّ عن نفسه بعد النبوة صحيح، فقد أخرجه الطبراني في [الأوسط]، وأبوالشيخ في [العقيقة]، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في [مستخرجه]، والضياء المقدسي في [المختارة]، والطحاوي في [مشكل الآثار] وغيرهم من طريق الهيثم بن جميل، ثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه رفعه. ورجاله ثقات، احتج بهم الإمام البخاري في صحيحه سوى الهيثم بن جميل وهو ثقة. قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/329) رقم: (7960)، وابن حبان في «الضعفاء» (2/33)، من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه. كما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/461)، وابن حزم في «المحلى» (8/321)، من طريق ثُمامة بن أنس عن أنس رضي الله عنه. صححه الضياء المقدسي في [المختارة]، وقوى إسناده الحافظ في [الفتح]، والعراقي في [طرح التثريب]، وغيرهم.
ثالثًا: رواية عبد الله بن المُثنى عن عمه ثُمامة كما في هذا الإسناد حجة، فقد احتج بها البخاري في صحيحه، قال الحافظ في [هدي الساري]: «لم أرَ البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثُمامة، فعنده أحاديث، وأخرج له من روايته عن أنس حديثًا توبع فيه عنده».
رابعًا: له شاهد ومتابعة، فقد قال الحافظ في [فتح الباري]: «وأخرجه أبو الشيخ من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة»، وإسماعيل وإن كان فيه ضعف إلا أنه يصلح للمتابعة والشواهد، قال عنه أبو حاتم: «ليس بمتروك، يكتب حديثه»، وقال عنه ابن سعد: «كان له رأي وفتوى، وبصر وحفظ للحديث، فكنت أكتب عنه لنباهته».
خامسًا: لم يجد شيخهم الألباني بُدًّا من تصحيحه، «السلسلة الصحيحة» (6/1/502) برقم: (2726).
سادسًا: للحديث آخر إسناد ضعيف، أخرجه البزار في [مسنده]، وعبد الرزاق في [مصنفه]، وابن عدي في [الكامل]، والبيهقي في [السنن]، وابن المديني في [العلل] وغيرهم من طريق عبد الله بن مُحرَّر عن قتادة عن أنس به. وعبد الله بن محرر ضعيف لكن يصلح للمتابعة لأنهم ما تركوه إلا بسبب هذا الحديث، زعموا أنه تفرد به وأنه باطل ومنكر، قال البزار: «تفرد به عبد الله بن المُحرَّر، وهو ضعيف جدًا إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره»، وقال الذهبي في [الميزان]: «إن هذا الحديث من بلايا ابن مُحرَّر»، وعدّ الذهبي في [تاريخ الإسلام] الحديث من مفاريده، وقال الحافظ عنه: «متروك»، وقال البيهقي: «منكر، وفيه عبد الله بن مُحرَّر ضعيف جدًا»، وقال ابن عبد البر: «وعبد الله بن مُحرَّر ليس حديثه بحجة»، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال: «إنما تركوا عبد الله بن مُحرَّر بسبب هذا الحديث». أمَا وقد ثبت أن الحديث صحيح وله طرق، فيكون هذا الإسناد لعبد الله بن مُحرَّر شاهدًا إضافيًّا ومقويًا لله ، وتبرئة لعبد الله بن مُحرَّر مما نسب إليه من وتفرده بالحديث، ويكون ممن تُكُلِّم فيه بغير حجة.
سابعًا: ذهب السلف إلى العمل بهذا الحديث مما يدل على أنه كان مشهورًا بينهم، فروي عن قتادة أنه كان يفتي به، ذكره ابن عبد البر، وأخرج ابن أبي شيبة في [مصنفه] عن محمد بن سيرين قال: «لو أعلم أنه لم يُعَقَّ عني لعققت عن نفسي»، وأخرج ابن حزم في [المُحلّى] عن الحسن البصري أنه قال: «إذا لم يُعَق عنك فعق عن نفسك، وإن كنت رجلًا»، وغير ذلك.

◾ النبي ﷺ تذاكر سيرة مولده الشريف مع الصحابة رضوان الله عليهم فتأسى المحتفلون بالمولد به ﷺ في ذلك:
ثبت أن النبي ﷺ تذاكر مع أصحابه رضي الله عنهم سيرة مولده الشريف وما حدث فيه من العجائب وهذا يؤصل لمدارسة السيرة في المولد، فقد أخرج أحمد والبزَّار والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي وأبو نُعَيم وغيرهم عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذٰلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذٰلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَينَ، وَإنَّ أُمَّ رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ»

◾ الفرح بقدوم النبي ﷺ إلى الدنيا أولى من الفرح بقدومه من الغزو:
إن إقرار النبي ﷺ التغني وضرب الدف فرحًا بقدومه ﷺ من الغزو يجعل الفرح بقدومه إلى الدنيا بالميلاد أولى وأعظم، وهذا يضاف إلى أدلة مشروعية الاحتفال بمولده ﷺ لكون أن إقرار النبي ﷺ ولو مرة واحدة هو حجة، فقد كان لا يؤخر البيان عن وقته.

◾ تخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ خصوصية نبوية:
خبر تخفيف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب فرحه بميلاد النبي ﷺ وإعتاقه ثويبة أخرجه الإمام البخاري في صحيحه واستدل به العلماء على عظمة الفرح بمولد النبي ﷺ وفائدته حتى للكافر، فكيف بالمؤمن المحب؟! وعدوا ما حصل لأبي لهب من تخفيف للعذاب في النار من خصائصه ﷺ، قال الإمام الكرماني: «يحتمل أن يكون العمل الصالح والخير الذي يتعلق برسول الله ﷺ مخصوصًا، كما أن أبا طالب أيضًا ينتفع بتخفيف العذاب»، وقال الإمام السُّهَيلي: «يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي ﷺ مخصوصًا من ذلك بدليل قصة أبي طالب حيث خُفف عنه»، وقال الإمام القرطبي: «هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه، والله أعلم».

◾ الاجتماع للمولد ليس مشروعًا فقط بل مستحب:
الاجتماع للمولد ومذاكرة سيرة النبي ﷺ ومناقبه وصفاته وشمائله وسنته وزيادة المعرفة به مؤصل بعدد من الأدلة الواضحة منها ما رواه النسائي بسند صحيح عن سيدنا معاوية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خرج على حلقة -يعني من أصحابه- فقال: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قالوا: «جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ» قال: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَٰلِكَ؟» قالوا: «آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَٰلِكَ»، قال: «أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تَهَمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ».
ومن الأدلة أيضًا عقيقة النبي ﷺ عن نفسه بعد أن بُعث نبيًا وهو حديث صحيح كما تقدَّم. ومنها أيضًا أنه ﷺ أخبر الصحابة رضوان الله عليهم بما حصل في يوم مولده الشريف كخروج النور الذي أضاءت منه قصور الشام كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وغير ذلك من الأدلة الخاصة، ومؤصل أيضًا بالأدلة العامة الحاضة على الاجتماع للذكر مطلقًا كقوله ﷺ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا». قالوا: «وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟» قال: «حَلَقُ الذِّكْرِ» [حسنه الحافظ في تخريج أحاديث المشكاة].

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال نشأ عند الفاطميين:
أولًا: أسس جمهور أهل العلم احتفالهم بالمولد على تأصيل محكم من الكتاب والسنة وأصول الشريعة الغراء وليس مجاراة للفاطميين ولا غيرهم، وهذا كافٍ لقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»[متفق عليه].  
ثانيًا: أول من أقام الاحتفال بالمولد هو الملك المُظَفَّر صاحب إربل، قال الإمام الحافظ السيوطي [في حسن المقصد]: «وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد»، وذكر مثله الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في [الباعث] وغيرهما.  
ثالثًا: حتى لو افترضنا جدلًا أن الفاطميين سبقونا للاحتفال بالمولد فليس في ذلك حجة، لأن العبرة بالتأصيل الشرعي وليس بمن سبق، بل الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لذا صام النبي ﷺ عاشوراء ووافق اليهود على الحق ولم يخالفهم، وأثنى على حلف الفضول وهو حلف في الجاهلية وقال: «لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت»، لما فيه من الخير.

◾ الثاني عشر من ربيع الأول هو تاريخ ميلاد النبي ﷺ الذي عليه العمل والمشهور لدى الجمهور:
المشهور لدى جمهور أهل العلم والمعمول به أن النبي ﷺ ولد يوم الثاني عشر من ربيع الأول لعام الفيل، قال ابن كثير في [البداية والنهاية]: «قيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور»، فهذا هو المشهور والمعمول به وهو كافٍ لتأسيس الاحتفال عليه.

◾ الاختلاط والزحام يمكن تجنبه بحسن تنظيم المولد:
إن احتمال وقوع بعض المخالفات الشرعية في تنظيم المولد عند البعض لا يلغيه. الاختلاط والزحام وبعض المخالفات التي قد تقع في الاحتفال بالمولد لدى البعض بسبب سوء التنظيم ينبغي تجنبها وإنكارها حال وقوعها بدون أن يقتضي ذلك السعي لإنكار الاحتفال نفسه، لأنها أمور عرضية لا تتبع لأصل الاحتفال، مثلما أن الاختلاط والزحام لو وقع في صلاة الجمعة أو العيدين أو مناسبة زواج أو غير ذلك من الأمور المشروعة لكان واجبًا إنكارها بدون أن يقتضي ذلك إنكار صلاة الجمعة أو العيدين أو الزواج أو غيرها من الأمور المشروعة.

◾ بطلان الادعاء بأن مدح النبي ﷺ في المولد يشتمل على غلو:
الغلو هو مجاوزة الحد، ومناقب النبي ﷺ وفضله وقدره العظيم يعجز عن وصفه الواصفون، فإذا كان المادحون مقصرين عن إيفاء النبي ﷺ حقه في المدح فكيف يغلون فيه؟! أما إطراء اليهود والنصارى بإخراج النبي ﷺ من العبودية لله تعالى إلى الألوهية فإن هذا لا يقع من مسلم يشهد الشهادتين لأنه موحِّد. المدح هو رسول المحبين ولقد سبقنا الصحابة رضوان الله عليهم لمدح ميلاد النبي ﷺ، فهذا هو سيدنا العباس رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
وأنت لما [وُلِدت] أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق  
فنحن في ذلك الضِّياء وفي النور وسبل الرشاد نخترق  
وهذا سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح ميلاد رسول الله ﷺ فيقول:  
أحسن منك لم ترَ قطُّ عيني  
وأفضل منك لم تلد النساء  
خُلِقتَ مبرءًا عن كل عيب  
كأنك قد خُلِقتَ كما تشاء  
وغير ذلك من مدح الصحابة رضوان الله عليهم لحبيبهم وقرة أعينهم ﷺ.

◾ الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني يقسم البدعة إلى محمودة ومذمومة ويؤصِّل للمولد بأصل ثابت ويستحسن ما يحصل فيه من الشكر والإطعام والصدقة والمديح والإنشاد واللهو المباح:
قال الإمام الحافظ السيوطي رحمه الله في [الحاوي للفتاوي]:
سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه:
«أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى.
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي؟! نبي الرحمة في ذلك اليوم؟! وعلى هذا، فينبغي أن يُتَحرَّى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه.
فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يُفهم به الشكر لله تعالى، من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزُّهدية المحرِّكة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى».

◾ كذبوا فزعموا أنه لا يوجد مُفسِّر ذكر أن فضل الله هو القرآن ورحمته هو سيدنا محمد ﷺ:
وهذا دليل دامغ على فرط جهلهم وجرأتهم على الحق وقولهم على الله ما لا يعلمون. ففي قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس: 58]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَضْلُ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَرَحْمَتُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}» [سورة الأنبياء: 107]. أورده الإمام الحافظ السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، والإمام الحافظ ابن الجوزي في [زاد المسير في علم التفسير]، والإمام العلامة أبو حيان الأندلسي في [البحر المحيط]، وهي كما ترون دعوة صريحة للفرح بإيجاد النبي ﷺ المبعوث رحمة للعالمين.

◾ بطلان الاعتراض على تخصيص يوم للاحتفال بالمولد والمناسبات الإسلامية الأخرى:
يجوز تخصيص الأعمال المشروعة بزمان وكيفية ولا يعتبر ذلك من البدعة في شيء بل هو مشروع ما لم يرد نهي صحيح وصريح كالنهي مثلا عن تخصيص يوم الجمعة أو أيام العيد بصيام، ومما يستدل به على ذلك ما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح أن سيدنا بلالًا رضي الله عنه كان كلما أذَّن صلى ركعتين، وكلما أحدث توضأ وصلى ركعتين، فكان يخصِّص أذانه ووضوءه بركعتين ويلزم نفسه بذلك، فأقره النبي ﷺ وبشَّره بأن هذا العمل أدخله الجنة، ولو كان التخصيص بدعة ضلالة لنهاه النبي ﷺ عن ذلك بدل أن يقره ويبشره بالجنة، فإنه ﷺ لم يكن يقر على باطل ولا يؤخر البيان في حالة الخطأ.
ودليل آخر من قصة الرجل الذي كان يخصِّص صلاته بقراءة سورة الإخلاص فأقرَّه النبي ﷺ على ذلك، وبشَّره بأن حبَّه لسورة الإخلاص أدخله الجنة، والقصة مخرَّجة في صحيح البخاري. وأيضًازفي صيام النبي ﷺ لعاشوراء وحث المسلمين على صيامه دليل على جواز تخصيص الاحتفال بالمناسبات الدينية المباركة شكرًا لله على النعمة واتخاذها أعيادًا مستحبة لا مفروضة كالعيدين. قال الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: «وَعَلَى هَـٰذَا، فِيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمَ بَعَيْنِهِ حَتَّىٰ يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَىٰ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلاحِظْ ذٰلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ».

◾ بطلان الادعاء بضرورة تذكر الوفاة طالما أنها اشتركت مع الميلاد في التاريخ:
أولاً: ذكرى الموت لا تخصم من ذكرى الميلاد، بدليل أن الله عز وجل جمع بينهما في سياق الثناء على الأنبياء عليهم السلام وإظهار نعمته عليهم، فقال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم: 15].
ثانيًا: الموت لم يغيِّب النبي ﷺ، فهو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيٌّ وحاضر، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة: 2-4].
فبنص الآيات هو ﷺ لا يزال ﷺ متصلاً بأمته وسيظل متصلاً بها إلى يوم يبعثون، يهديهم ويعلمهم ويحضُّهم على الخير. فعن مجاهد في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: «من رَدِف الإسلام من الناس كلهم». وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن زيد أنه قال: «هؤلاء كل من كان بعد النبي ﷺ إلى يوم القيامة، كل من دخَل في الإسلام من العرب والعجم».
ولقوله ﷺ: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» [1].
ولقوله ﷺ: «حياتي خير لكم تُحدّثون ويُحدّث لكم، فإذا أنا متُّ كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خيرٍ حمدت الله عليه، وما رأيت من شرٍ استغفرت الله لكم» [2].
ولقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 154]. فإذا كان الشهداء أحياء فكيف بالأنبياء؟ وكيف بسيِّدهم ﷺ وأكرمهم على ربه عز وجل؟! 
ثالثًا: الله تعالى تعبَّدنا في الميلاد بإظهار الفرح والسُّرور، وبشكر الله على هذه النعمة، لذلك شرع لنا العقيقة (السِّماية)، وهي وليمة يُدعى لها الناس شكرًا لله وتعبيرًا عن الفرح والسُّرور. أمَّا في الموت والمصاب فتعبَّدنا بالصبر والاحتساب والاسترجاع، لكن موت الأنبياء والشهداء ليس كموت غيرهم لأنهم أحياء عند ربهم. بل إن الإنسان ليفرح بالموت والشهادة في سبيل الله كما قال الله تعالى عن الشهداء: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة آل عمران: 170]. وهذا هو التحقيق عند أهل التحقيق، فلا يلغي الموتُ الفرحَ بهذه النعمة العظيمة، ولا يعفي عن إظهار الفرح بها وشكر الله عليها، فإنها نعمة باقية.
رابعًا: الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يصومون يوم الإثنين تبرُّكًا بذكرى ميلاد النبي ﷺ لم يتركوا الصيام بعد وفاة النبي ﷺ، ما يؤكد أن احتفالهم بذكرى الميلاد وفرحهم بها لم يتغير بعد وفاته ﷺ، وفعلهم هذا حجة في الفهم الصحيح لهذه المسألة، فإنهم أعلم الناس بدين رسول الله ﷺ بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات والبيهقي والهيثمي وصححاه.
[2] رواه البزار في مسنده، وجود إسناده الحافظ العراقي في [طرح التثريب]، وقال الهيثمي في [المجمع]: رجاله رجال الصحيح.

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يؤدي إلى التشبه بالكفار:
أولاً: لا علاقة بين مسلم يحتفل بذكرى ميلاد النبي ﷺ مستندًا إلى أدلة شرعية محكمة من الكتاب والسُّنة على فهم جمهور أهل العلم المعتبرين وبين من يحتفل بميلاد عيسى عليه السلام على سبيل الاعتياد، بل إن النصراني قد يكون مشركًا بالله ينسب له سبحانه الولد ويؤمن بالثالوث والعياذ بالله.
ثانيًا: المسلم هو أولى الناس بالحق والحكمة، فعندما كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
ثالثًا: عندما قال رسول الله ﷺ: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
رابعًا: عندما وجد النبي ﷺ اليهود يصومون عاشوراء بمناسبة ذكرى إنجاء الله تعالى لموسى عليه السلام من فرعون، وقال: «نحن أولى بموسى منكم» وأمر بصيامه، هل كان هذا تشبُّهًا بأهل الكتاب أم حق وافق؟!
خامسًا: لقد أثنى النبي ﷺ على حلف الفضول الذي حدث في الجاهلية وقال عنه: «لقد شَهِدْتُّ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حُمر النَّعَم، ولو دُعِي به في الإسلام لأجبتُ»، فهل ذمَّه لأنه كان أيام الجاهلية ودعا إليه المشركون؟! بل أثنى عليه وقرَّر أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجابه.
سادسًا: إذًا إذا وافق الحق أهل الكتاب أو حتى أهل الجاهلية لا نخالف بل نكون نحن الأولى، فنحن أحقُّ بالحقِّ أينما وجد لأننا خير أمة أخرجت للناس، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى الناس بها.
سابعًا: التَّشبه ضابطه أن تنوي مشابهة المتشبه به ومحاكاته ومماثلته والاندراج في سياقه، وهذا معدوم في حالة الاحتفال بالمولد لأن النِّية هي إحياء ذكرى النبي ﷺ في نفوس الأمة ونشر المعرفة به ﷺ وبصفاته وشمائله وسيرته وسُنَّته وليس تشبُّهًا بأحد.

◾ المجيزون والمحتفلون بالمولد هم جمهور أهل العلم بينما المعترضون قِلة قليلة ممن تأثروا بابن تيمية في شذوذه على العلماء:
من تواريخ الوفاة يلاحظ أن المعترضين على مشروعية المولد -على قلتهم- هم ممن عاشوا في القرن الثامن الهجري وما تلاه، فالفاكهاني توفي سنة 734هـ، وابن الحاج توفي سنة 737هـ، وأبو إسحاق الشاطبي توفي سنة 790 هـ، ويبدو أنهم تأثروا بابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ في شذوذه على العلماء وجنوحه نحو مخالفة الأكابر من باب خالف تُذكَر محبةً للظهور وطلبًا لرياسة المشيخة كما قرر ذلك الإمام الذهبي في [زَغَل العلم والطَّلب]، وتأثروا به في جرأته على رسول الله ﷺ وآل بيته الطاهرين كما هو مشهور عنه، حتى إنه حرَّم زيارة النبي ﷺ فحِبِس بسبب ذلك وهلك في الحبس. رد الإمام الحافظ السيوطي في رسالتين من كتابه [حسن المقصد في عمل المولد] على كل من ابن الحاج والفاكهاني ردًا محكمًا وأبطل كلامهما في المولد وفنده بما لا مزيد عليه.

◾ استحسان المولد وثناء العلماء عليه:
استحسن المولد جمهور أهل العلم من المذاهب كافة، وفي طليعتهم الإمامان الكبيران الحافظان ابن حجر العسقلاني وجلال الدين السيوطي. كما أثنى العلماء الذين حضروا احتفالات المولد أو أرَّخوا لها ثناءً عظيمًا، وصنَّفوا في المولد تصانيف بديعة، ومن ذلك ثناء الإمام الحافظ أبي شامة المقدسي في [الباعث]، والإمام الحافظ الذهبي في [سير أعلام النبلاء] في ترجمة الملك المظفر أبو سعيد كوكبري صاحب إربل، والإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي في [البداية والنهاية] وغيرهم. وممن أجاز المولد وألف فيه كتبًا تقرأ:
- الإمام الحافظ ابن الجوزي [ت 597هـ]: له مولد بعنوان "العروس"، وقد طبع في مصر.
- الإمام الحافظ أبو الخطاب عمر بن علي بن محمد المعروف بابن دحية الكلبي: له مولد بعنوان "التنوير في مولد البشير النذير".
- الإمام الحافظ أبو العباس العَزَفي: له مولد بعنوان "الدر المنظَّم في مولد النبي المعظَّم".
- الإمام الحافظ ابن كثير صاحب التفسير: له "مولد رسول الله ﷺ" طبع بتحقيق د. صلاح الدين المنجد، وطبعته دار الكتب ببيروت.
- الإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي: له مولد بعنوان "المورد الهَني في المولد السَّني".
- إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري: له مولد بعنوان "عَرف التعريف بالمولد الشريف".
- الإمام الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي: له مولد بعنوان "المورد الصَّادي في مولد الهادي"، وكذلك "جامع الآثار في مولد المختار" و"اللفظ الرَّائق في مولد خير الخلائق".
- الإمام الحافظ شمس الدين السَّخاوي: له مولد بعنوان "الفخر العَلَوِي في المولد النَّبَوي".
- الإمام الحافظ علي زين العابدين السِّمْهُودي: له مولد بعنوان "الموارد الهَنِية في مولد خير البرية".
- الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي: له مصنف بعنوان "حُسن المَقصِد في عمل المَولِد".
- الإمام الحافظ عبد الرحمن بن علي بن محمد الشَّيباني المعروف بابن الديبع.
- الإمام المحدث الفقيه ابن حجر الهَيتَمي: له مولد بعنوان "إتمام النِّعمة على العالَم بمَولِد سيد ولد آدَم".
- الإمام المحدث الفقيه مُلا علي قاري: له مولد بعنوان "المورِد الرَّوي في المولد النَّبوي".
- الإمام المحدث الفقيه محمد عبد الرؤوف المِناوي صاحب "فيض القدير شرح الجامع الصغير".

◾ بطلان الادعاء بأن الاحتفال بالمولد يفرِّق المسلمين:
المولد يجمع المسلمين حول القائد الأعظم ﷺ بما يوحِّد الأمة ويزيد من ارتباطها برسولها ﷺ ورسالته الخالدة. كيف لا وجمهور أهل العلم من كافة المذاهب استحسنوا الاحتفال بالمولد لما فيه من البِّر والخير وجمع الكلمة ونشر المحبة وبذل المعروف على الفقراء والمساكين، والأُمَّة لا تجتمع على ضلالة. ولكن الذي يفرق المسلمين حقًّا هو الشذوذ على جماعتهم والتشنج في الإنكار عليهم باعتراضات واهية لا يسندها منطق ولا دليل، ولا تعبر إلا عن جفوة لرسول الله ﷺ ورغبة في التقليل من شأنه وإعانة للغافلين على زيادة الغفلة.

◾ الهوى والانتصار للرأي بالباطل وراء التشنج في إنكار المولد:
ومن المعلوم أن الخلاف قد يقع بين العلماء حول فهم مسألة أو نصّ شرعي لاختلاف وجهات النظر، وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا ويمكن التوفيق بينهما. وقد يتعذر التوفيق بينهما فيُرَجَّح عندئذ فهم جمهور العلماء لأنهم بمثابة المجلس الاستشاري الأعلى والهيئة العلمية الشرعية العليا في الأمة. لكن عندما تصرّ الأقلية المخالفة على رأيها وعلى تخطئة أكثرية العلماء وتتشنج في الإنكار عليهم، فهذا يكون إلا بدافع الهوى والانتصار للرأي ولو بالباطل، فالقاعدة الأصولية تقول: «لا يُنكر المُختلَف فيه، وإنما يُنكر المُجمَع عليه»، فطالما أن المجيزين للمولد علماء معتبرون، بل جمهور أهل العلم المعتبرين وأكابرهم من كافة المذاهب، مدجَّجين بالأدلة الشرعية المتينة التي يتسلَّحون بمثلها في كثير من المسائل الخلافية، لم يكن هناك مجال للإنكار عليهم والإصرار على ذلك إلا من باب الهوى والجفاء لصاحب الميلاد سيدنا محمد ﷺ، وإلا فيعتبر المعترضون أنها مسألة خلافية كألوف المسائل الخلافية بين العلماء.