الخميس، 14 ديسمبر 2023

مشروعية استخدام الدُّفِّ للرجال

الملخص:
الطَّار هو الدُّف، وهو مباح للرجال والنساء استماعًا وضربًا، وهذا هو مذهب الجمهور، ودلت عليه النصوص وأقوال العلماء كما سيأتي. ومن زعم أنه خاص بالنساء دون الرجال فعليه إيراد الدليل الصحيح الصريح على التخصيص للنساء ليكون ضربه من الرجال تشبهًا بالنساء لأن ضابط التشبه هو التخصيص بالدليل الصحيح الصريح أو بالعرف السائد، أما دليل التخصيص فلا يوجد وأما العرف فيختلف من مكان لآخر، والدف يستعمله الرجال في كثير من الدول العربية والإسلامية بما فيها المملكة العربية السعودية بدون أن يرى ذلك تشبهًا أو أمرًا خارمًا للمروءة طالما استخدم في المديح النبوي والأناشيد الدينية والغناء المباح. 

وكان الدُْفُّ يستخدم في الجاهلية في الرقص والغناء الذي ربما لازمه فسق وشرب خمر وأمور مذمومة، ثم استخدم في الإسلام لأمور حسنة كإشهار الزواج الشرعي وإظهار الفرح والسرور بالزواج والختان وقدوم الغائب والأعياد، ثم توسع استخدامه ليشمل مدح رسول الله ﷺ و إظهار تعظيمه والفرح به ﷺ. 

التأصيل الشرعي:
استند الجمهور على عدد من الأدلة المحكمة منها ما أخرجه مسلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»، وفي رواية للنسائي بنفس الإسناد: أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بالدف وتغنيان ورسول الله ﷺ مَسْجيٌ بثوبه فكشف عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»، وهُنَّ أيام مِنَى ورسول الله ﷺ يومئذ بالمدينة»، 
ولقوله ﷺ: «فصل ما بين الحلال والحرام الصوتُ وضَربُ الدُّف» [رواه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم في المستدرك، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص صحيح، وحسنه الترمذي]. 
ولما رواه أبو داود فِى سننه أن امرأة أتت النبِىّ ﷺ فقالت: «يا رسول الله إنِى نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف»، قال: «أَوفِى بنذرك». 
ولما رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: «يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدُّف وأتغنى»، فقال لها رسول الله ﷺ: «إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا»، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله ﷺ: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدُّف» 
وغير ذلك مما يدل على إباحة ضرب الدفِّ على الأصل، لاختلاف المواضع التي ضُرِب فيها وأقر ذلك رسول الله ﷺ، إذ رضي النبي ﷺ أن يُضرَب في بيته الشريف بل ونهى سيدنا أبا بكر رضي الله عنه أن يمنع ضربه، وأقر ضربه وفاءً بالنذر في حضور جمع من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يوفى نذر بحرام. وإنما عارض سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ضرب الدف في بيت رسول الله ﷺ لأول وهلة، وخافت الجارية من سيدنا عمر رضى الله عنه عندما دخل لشدة سيدنا عمر رضى الله عنه في الحق، ولارتباط الدفِّ في الجاهلية بالغناء والرقص وشرب الخمر ومظاهر الفسق، وإنما جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق ويعدل بالمباحات التي كان يساء استخدامها في الجاهلية إلى مقاصد حسنة تنفع الناس، حصل ذلك مع الشعر مثلا فصار يُمدَح به رسول الله ﷺ ويُنافَح به عن الله ورسوله ﷺ، ومع الرُّقى فأجاز كل ما لم يكن به شرك، وهاهو يحصل مع الدفِّ. 
إذًا هو بهذه الأدلة مباح على الأصل وليس كرخصة مقيدة بزمان أو مكان أو جنس لأن ما يخص الجنس يحدده العرف ما لم يرد فيه نص صحيح وصريح، فعندما لم يرد نص صحيح وصريح في التخصيص بقي على أصله من الإباحة. 
ويرقى المباح إلى درجة المندوب الذي يثاب فاعله إذا اتصل ببر وخير كإشهار الزواج إعلاءً لشريعة الإسلام، والختان فرحًا وسرورًا بالنعمة، وأعظم من ذلك أن يتصل بمدح رسول الله ﷺ وإظهار تعظيمه والفرح بعودته وسلامته، فإن المباح يصير مندوبًا وعبادة يثاب فاعلها بالنية الصالحة وحسن المقصد، 
قال البيهقي: «يشبه أن يكون ﷺ إنما أذن لها في الضرب -أي بالدف- لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله ﷺ، ورجوعه سالمًا لا أنه يَجِب بالنذر».
فتعقَّبه الحافظ في [الفتح ١١/ ٥٨٨] فقال: «إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل، وأكلة السحور للتقوي على صيام النهار، فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبى ﷺ سالمًا معنى مقصود يحصل به الثواب».
وقال الإمام الخطابي: «ضرب الدفِّ ليس مما يعدُّ في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح لسلامة مقدم رسول الله ﷺ حين قدم من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين، صار فعله كبعض القرب، ولهذا استحب ضرب الدف في النكاح لما فيه من إظهاره والخروج به عن معنى السفاح الذي لا يظهر، ومما يشبه هذا المعنى قول النبي ﷺ في هجاء الكفار: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل"» 

خلاصة الحكم:
ذهب الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة إلى الإباحة بدون فرق بين رجال أو نساء، روي هذا عن المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، والقول بأن جوازه خاصٌّ بالنساء دون الرجال مردود  لانعدام دليل التخصيص من الشرع أو العرف، وليس في ضرب الجواري أو النساء كما ورد في الأحاديث دليل على التخصيص فإن النساء يصنعن الطعام عادة بدون أن يكون صنع الطعام خاصًّا بهن، والرجال يقاتلون في الحرب عادة بدون أن يكون القتال خاصًّا بهم، وهكذا، فهناك أمور كثيرة مشتركة بين الرجال والنساء، إنما يكون التخصيص بالدليل الذي يثبت للنساء ما يُحرِّم على الرجال شرعًا كالحرير مثلًا، أو عرفًا، فأما ما كان بالعرف فإنه يختلف من مكان إلى آخر بحسب المجتمع وعرفه السائد، وإذا ما انتفى دليل التخصيص بقي الحكم على أصله من الإباحة. 
قال الخطيب في مغني المحتاج:
«ولا فرق في الجواز بين الذكور والإناث كما يقتضيه إطلاق الجمهور خلافا للحليمي في تخصيصه له بالنساء»

وقال الإمام الحافظ تقِىّ الدين السبكِىّ الشافعي المتوفى سنة [٧٥٦هـ]:
(قد روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبِى معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضِى الله عنها فِى حديثها الطويل الذِى قالت فيه دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أبمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»اهـ وفِى حديث أبِى معاوية عن هشام بهذا الإسناد: «جاريتان تلعبان بدف». ورواه النسائِىّ من حديث الزهرِىّ عن عروة وفيه: «جاريتان تضربان بالدُّف وتغنيان ورسول الله ﷺ مسجًّى بثوبه فكشف عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»اهـ هِى أيامُ مِنًى ورسول الله ﷺ يومئذٍ بالمدينة، فضربَتِ الجاريتان بالدف عند رسول الله ﷺ وهو يسمع اهـ وقوله ﷺ: «دعهما يا أبا بكر» من أقوَى دليل على حل الضرب بالدف ولهذا نحن نوافق من صحح حلّه مطلقًا فِى العرس والختان وغيرهما. والجمهور لم يفرقوا بين الرجال والنساء وفَرْقُ الحليمِىّ ضعيف لأن الأدلة لا تقتضيه)

وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في [التحفة]: «ولا فرق بين ضربه من رجل أو امرأة، وقول الحليمي يختص حله بالنساء رده السبكي». 

وقال العلامة الدسوقي المالكي: «قال أصبغ: لا يكون الدف إلا للنساء ولا يكون عند الرجال»، ثم قال: «وكل من تقدم النقل عنه يعني من المالكية وغيرهم من الأئمة الأربعة غير هؤلاء الذين ذكرناهم أطلقوا القول ولم يفصلوا بين الجلاجل وغيره وبين النساء والرجال».

وفي مذهب الحنابلة قولان، الجواز والكراهة:
قال في [كشاف القناع] للبهوتي الحنبلي:
«ويكره الضرب بالدف للرجال مطلقا، قاله في الرعاية، وقال الموَفَّق: ضرب الدف مخصوص بالنساء، قال في الفروع -يعني ابن مفلح: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب التسوية»
قال في الإنصاف: «ظاهر قوله: "والضرب عليه بالدف" أنه سواء كان الضارب رجلا، أو امراة، قال فى الفروع: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب: التسوية. قيل له –أي الإمام أحمد فى رواية المروذي– ما ترى الناس اليوم، تحرك الدف فى إملاك، أو بناء، بلا غناء؟ فلم يكره ذلك» 
وقال في غاية المنتهى لمرعي الكرمي الحنبلي: «يسن إعلان نكاح وضرب فيه بدف مباح لنساء ولرجال» 
وقد أجازه للنساء والرجال من الوهابية المتأخرين ابن عثيمين، قال في [الشرح الممتع]:
«وقوله: (للنساء) ظاهره أنه لا يسن للرجال، لكن قال في الفروع: وظاهر الأخبار، ونص الإمام أحمد أنه لا فرق بين النساء والرجال، وأن الدف فيه للرجال كما هو للنساء؛ لأن الحديث عام: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال» أي الدف، ولما فيه من الإعلان، وإن كان الغالب أن الذي يفعل ذلك النساء، والذين قالوا بتخصيصه بالنساء وكرهوه للرجال، يقولون: لأن ضرب الرجال بالدف تشبه بالنساء؛ لأنه من خصائص النساء، وهذا يعني أن المسألة راجعة للعرف، فإذا كان العرف أنه لا يضرب بالدف إلا النساء، فحينئذ نقول: إما أن يكره، أو يحرم تشبه الرجال بهن، وإذا جرت العادة بأنه يُضرب بالدف من قبل الرجال والنساء فلا كراهة؛ لأن المقصود الإعلان، وإعلان النكاح بدفِّ الرجال أبلغ من إعلانه بدفِّ النساء؛ لأن النساء إذا دففن فإنما يدففن في موضع مغلق، حتى لا تظهر أصواتهن، والرجال يدفون في موضع واضح بارز، فهو أبلغ في الإعلان، وهذا ظاهر نص الإمام أحمد -رحمه الله- وكلام الأصحاب حتى [المنتهى] الذي هو عمدة المتأخرين في مذهب الإمام أحمد، ظاهره العموم وأنه لا فرق بين الرجال والنساء في مسألة الدف» 
وسئل: «هل يجوز الدف للرجال في العرضة؟ 
الشيخ: لا بأس به؛ لأن في أيام العيد رخص في اللهو» [الباب المفتوح ٧١]
وسئل: «فضيلة الشيخ! ما حكم استعمال الدف في العَرْضات والمناسبات للرجال؟
الجواب: أما الدف فلا بأس به للرجال عند قدوم غائب كبير، أو لمناسبات كالأعياد وشبهِها»[الباب المفتوح ١١٧] 
وقال: «الدف مما جاءت به السنة في أيام الأعراس، ومما أبيح للرجال والنساء في أيام الأعياد، وفي مسألة العرس للنساء فقط, ومن العلماء من قال: للنساء والرجال لكننا لا نفتح الباب في هذه المسألة» [الباب المفتوح ٢٢٣] 

أما الأحناف فقد ذهبوا لكراهته كراهة تحريم، جاء في [رد المحتار] لابن عابدين الحنفي: «ضرب الدف فيه –أي العرس- خاص بالنساء.... وهو مكروه للرجال على كل حال للتشبه بالنساء».
علله بالتشبه وليس له في ذلك حجة لانتفاء الدليل على التخصيص كما تقدم.

ملاحظة:
ابن عثيمين ليس مرجعية دينية يعتد بها لكن أوردنا كلامه بأنه معتبر عند المعترض.