الأصل في الذكر الإكثار لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا}، وقول النبي ﷺ لسيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه في الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ: «ما شئت، وإن زدت فهو أفضل» حسن رواه الترمذي.
وفي الدليلين لم يرد تقييد للذكر وهو متروك لاستطاعة الذاكر وتحصيله وتجربته.
لكن هناك سر في الذكر بأعداد مخصوصة، أشارت السنة إلى ذلك لما ورد في السنة المطهرة من تخصيص كالتثليث في قراءة المعوذات مثلا، والاستغفار مائة مرة، والتسبيح ٣٣، والتحميد ٣٣ والتكبير ٣٤، الأمثلة كثيرة جدا. ومنها ما يكون بالإلهام أَو رؤيا المنام والتجربة. والإلهام والتجربة فيما أباحه وأطلقه الشرع مؤصل، ومن ذلك حديث سيدنا أبي سعيد الخدري في الرقية بالفاتحة للديغ فإن أبا سعيد ألهم الرقية بالفاتحة إلهامًا وأقره النبي ﷺ وشفي المريض، وإلى يومنا هذا تستخدم بعد أن جربت ونجحت.
أخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والطبراني والسيوطي وصححه عن السيدة صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وبين يديَّ أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال: «ما هذا يا بنت حيي؟» قلت: «أسبح بهن»، قال: «قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا»، قلت: «علمني يا رسول الله»، قال: «قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء». أقرها ولم ينكر عليها، لا التسبيح بالنوى ولا تخصيص عدد، لكنه علمها ما يزيد من نفعها خاصة وهي ربة منزل لها شؤون منزلية قد لا يناسب حالها الانقطاع للتسبيح في كل وقت. طبعا لا يخفى أنه يمكن تكرار قول: «سبحان عدد ما خلق الله» مرات ومرات وتخصيصه بعدد.
وخصص الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، ووذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وذكر أيضا عن سلمة بن شبيب قال: كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ.
ومن الطرائف أن هذا التخصيص وقع لمراجع المعترضين أنفسهم، قال ابن القيم كما في مدارج السالكين (1/447):
«ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- شديد اللهج بها جدا.
وقال لي يوما: لهذين الاسمين -وهما الحي القيوم- تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سُنَّة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه». اهـ
الشاهد:
قول ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين» يستفاد منه أن السالك إلى الله تعالى إذا جرَّب نوعًا من الأذكار، وإن لم يكن هذا الذكر مأثورا بلفظه، أو مأثورًا بلفظه ولكنه غير مأثور بذلك العدد، أو تلك الهيئة، ووجد بعد التجربة نفعا لذلك الذكر، كصلاح قلبه، وإقباله على الطاعة، وتوبته من معاصي كان يقارفها، فلا حرج عليه في المداومة على ذلك، بل ولا حرج عليه في أن يدل طلابه وأحبابه على ذلك الخير الذي فتح الله به عليه، كما فعل ابن تيمية مع تلميذه ابن القيم.
فلاحظ أخي أن ابن تيمية:
1- قيد هذا الذكر بعدد،
2- وقيده بزمن،
3- وأثبت له ثمرة،
4- وحث على المواظبة عليه بقوله (من واظب عليه).
ابن تيمية وابن القيم ليسا مرجعية دينية يعتد بها لكن استشهدنا بهما لأنهما معتبران عند المعترض.