الاثنين، 21 ديسمبر 2015

الرد على أبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي:

من أنفع الرسائل التي وجدت حظها في الانتشار في شبكات التواصل الإجتماعي هذا الموسم من المولد النبوي الشريف (1437هـ) رسالة في تأصيل عمل المولد مفيدة كتبها سماحة الشيخ عبد الرحيم الركيني، واختار لها اسمًا رائعًا: (نعم نحتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم). اشتملت على تأصيل جيد لعمل المولد، موافق لما عليه جمهور علماء المسلمين في هذه المسألة وموافق لما أفتت به غالبية دور الفتوى في الدول العربية والإسلامية. وزيَّنها سمحاته وأضاف عليها لمسة زهدية عندما تناول فيها طرفًا من أحوال السلف الصالح عندما يذكر فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلها مما أورده القاضي عياض في كتابه الذي لا غنى لمسلم عن فوائده "الشفاء"، فجزاه الله تبارك وتعالى عن المسلمين خير الجزاء.
ثم وجدت أن هذه الرسالة قد أحدث ضجة واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي،فرأيت عددًا من الناس الذين يناهضون ذكرى المولد يردون عليها بجهل وتحامل لا يمكن التغافل عنه وتجاهله. ولما رأيت ذلك آليت على نفسي أن أكتب متعقبًا هذه الردود المتهافتة بكل علمية وموضوعية.
وقبل أن ندلج إلى تفاصيل الردود وتفنيدها، أريد أن أشير هنا إلى أمور مهمة وهي:
1/أن طوائف من المتأخرين المنتسبين إلى العلماء، والذين هم بطبيعة الحال عالة على من سبقهم من أهل العلم، بلغ بهم كِبَر النَّفس الناتج من تعظيم أتباعهم من طلبة العلم وعامة الناس لهم، أن جعلهم يظنون أنفسهم أعلم من سلفهم، بل ومن سلف هذه الأمة أصحاب القرون المفضلة، ومن وأئمتها وعلمائها الأكابر. ويظهر هذا جليًّا في تعمدهم تجاهل آراء معتبرة، مسندة بالحجية الكافية، صدرت من علماء هم بمثابة المراجع في هذا المضمار، والتجاسر عليها بالرأي والهوى. وهذا أمر خطير إذا ما سُكت عليه، لأنه يقوض الأساس العلمي الذي تستند عليه الأمة في تأصيل مسائلها المعاصرة. فعندما تجد على سبيل المثال من يضرب بفهم الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ وهو الآن يعيش في سنة 1437هـ، وبينهما أكثر من 12 قرنًا ثم لا يعطي ذلك الإمام الهُمام حقه في العلم والورع والسبق ولا يعطي فهمه حظه من النظر والاعتبار فأي مستقبل ننشد بهذا المسلك الغريب؟! وأي منهجية علمية نتبع في مسائلنا الدينية بعد كل هذه السنين الطويلة التي تفصلنا عن الصدر الأول؟! وأي حق ننشد في ظل هكذا واقع إذا كنا نلِّغب الهوى على الرأي السديد؟ وأي خلل أصابنا لنقدم رأي المفضول على الفاضل، وعلى الفقيه الحجة الإمام الحافظ رأي الجاهل؟!
2/ أن الاختلاف يرجع في أغلب حالاته إلى اختلافٍ في فهم النصوص أكثر من كونه اختلافًا على النص نفسه، لذلك يستعان بفهم السلف للنصوص على تأصيل المسائل المعاصرة، ففي المسائل الدينية يكون للعبارات معانٍ لغوية لا تكون مقصودة عادةً، ويكون لها معانٍ أخرى في اصطلاح العلماء هي المقصودة، ثم إن هذه المعاني نفسها تتغير كثيرًا بمرور الزمان. لذلك يجب الانتباه إلى المعنى أكثر من العبارة.
3/ الفرق الكبير بين الرواية والدراية هو أن الرواية لا تقتضي الفهم، فالرواي في كثير من الحالات ما لم يكن عارفًا بالعربية، متدبرًا فقيهًا شارحًا مطَّلعًا ومصنفًِّا في العلوم يكون كالمسجل. روى ابن عدي في الكامل بسنده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نورٌ يجعله الله تعالى في القلب) وأخرج الخطيب في "نصيحة أهل الحديث" بسنده عن محمد بن عبيد أنه قال: (جاء رجلٌ وافر اللحية إلى الأعمش، فسأله عن مسألة من مسائل الصبيان، يحفظها الصبيان، فالتفت إلينا الأعمش فقال: "انظروا إلى لحيته تحتمل حفظ أربعة الأف حديث، ومسألته مسألة الصبيان")!!، وبسنده أيضًا عن عُبيد الله بن عمرو أنه قال: (جاء رجل إلى الأعمش فسأله عن مسألة وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نعمان قل فيها، فأجابه، فقال الأعمش: من أين قلت هذا؟ فقال: من حديثك الذي حدثتناه، قال: نعم نحن صيادلة وأنتم أطباء").
لذلك يجب العناية بالفقهاء والشراح والمفكرين ومدارسة كتبهم وصرف الانتباه تلقاءهم أكثر من العكوف على النصوص وفهمها على ظاهرها، لأن اللغة العربية حمالة أوجه، مفعمة بالمعاني المجازية والصور البيانية، والنص بدون فهم سليم يكون قليل النفع هذا إن لم يكن ضارًّا.
4/ عند بسط الحجة والدليل، يكون رأي الجمهور دائمًا هو الأرجح، وهو الأسلم للمقلِّد غير المتمكن من النظر في الأدلة الشرعية. فليس كل الناس بوسعه أن يكون فقيهًا وعالم دين ومتمكنًا من النظر في الأدلة الشرعية والترجيح بينها، فهناك الطبيب، والجزار، الحلاق، والميكانيكي، .. إلخ وغيرهم من أصحاب المهن، الذين لا يجدون متسعًا للتبحر في العلوم الشرعية لأسباب كثيرة قد يكون منها النشأة والتعليم ونمط الحياة وطبيعة العمل والدور الذي يلعبونه في الحياة،لكنهم مأمورون بتعلم القدر الذي يصح به تدينهم وعباداتهم ومعاملاتهم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، دون الخوض في الأدلة الشرعية، تكفيهم الأحكام، ولنا في سيرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه الأسوة الحسنة.
5/ يجوز أن يقع للحق أكثر من وجه، ولعل أظهر مثال على هذا هو قوله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: (لا يصلين أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة)، فتخوَّف ناس فوت الوقت فصلُّوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال فما عنَّف واحدًا من الفريقين. لذلك فعلى المسلم أن يوسِّع فكره ليستوعب أن الحق يمكن أن يكون معه ومع غيره في آن واحد، وإن بدا الاختلاف ظاهرًا.
6/ من أظهر صور البدع في هذا الزمان تصوير الإسلام على أنه دين جامد فظٌّ غليظ غير قادر على مواكبة عجلة الحياة ولا مسايرة التطور، وغير صالح إلا في أمكنة وأزمنة معينة، وأبشع هذه البدع الضلالات التي يتغافل العلماء التشنيع عليها الإدعاء على الناس بالكفر والشرك والبدعة، فكل هذه الأمور المحدثة لم تشتد إلا في عصور متأخرة.
بعد إيضاح هذه الأمور المهمة نعرج على الردود. وسأتناول الردود التي تستحق النظر، بذكرها ونسبتها إلى صاحبها المنسوبة إليه.
(1) "الردود السلفية على الأجوبة الركينية" لأبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي:
1. في انتساب الرد أو صاحبه إلى السلف نظر، فإن السلفية المعاصرة تنتسب إلى فكر ابن عبد الوهاب النجدي وأحمد بن تيمية الحرَّاني، وكلاهما من المتأخرين، فابن تيمية عاش في القرن الثامن الهجري، وابن عبد الوهاب عاش في القرن الثاني عشر الهجري، ولا علاقة لكليهما بالسلف الصالح، الذين هم أصحاب القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. ومن ناحية أخرى فإن السلف ليس مذهبًا يُنتسب إليه بقدر ما هو حقبة زمنية مباركة أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكى أهلها بصيغة العموم. والأئمة الأربعة الأعلام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم الذين عاشوا في هذه الحقبة المباركة هم سلف بلا شك،لكن لم تكن سلفيتهم هي المذهب، بل كان لكل واحد منهم مذهبه الفقهي الخاص الذي ربما خالف فيه الآخرين في بعض المسائل، فانتبه إلى الفرق بين المذهب، وبين السلفية كحقبة زمانية.
2. اعترض على تفسير قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فقال: " هذا القول قد حكاه عنه السيوطي في الدر المنثور ونسبه لأبي الشيخ وحكاه ابن الجوزي، فهذه الحكاية عن ابن عباس لاتكفي وحدها فلابد من ثبوت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما بالسند الصحيح ."
قلت: ذكره أيضًا أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط قال: "وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم".
وهذا أكثر من كافٍ للاستدلال، ابتداءًا لأن المعنى صحيح، فالخلاف ليس في الشق الأول المتعلق بالفضل، وإنما في الشق الثاني المتعلق بالرحمة، ومن غيره صلى الله عليه وسلم أشتهر بالرحمة للعالمين؟ (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107] وهذا أعلى درجات التفسير: تفسير القرءان بالقرءان. ثم إن الله تعالى لم يقل: (قل بفضل الله ورحمته) ليشير إلى صفة الرحمة الإلهية، بل قال: (قل بفضل الله وبرحمته) ففصل بين فضله وبين رحمته بالباء إشارة إلى رحمة أخرى هي الرحمة المخلوقة المتمثلة فيه صلى الله عليه وسلم، ثم ندب الفرح بها فقال (فبذلك فليفرحوا)،فوافق ذلك المعنى المروي عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأثر، وحيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فضل الله عليه عليه عظيمًا وحوى قلبه القرءان الكريم والرحمة فيكون الفرح به صلى الله عليه وسلم فرح بهما في ذاته الشريفة.
لكن ما الداعي لكل هذا النكير ؟!! ألأن الله تبارك وتعالى أمرنا في الآية بأن نفرح به صلى الله عليه وسلم؟! أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز عن هذا الرسول العظيم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)؟! أمثله صلى الله عليه وسلم يُغفل عنه ولا يُفرح به؟ أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؟! أمثله لا يُعتنى به؟! فالأولى أن يرسل المعترض اعتراضاته هذي إلى أصحاب أمهات التفاسير وإلى ابن الجوزي وأبو حيان الأندلسي والسيوطي الحفاظ الكبار الذين أخرجوا هذا الأثر في تفاسيرهم!!!  وليرسل نسخة من اعتراضاته هذي إلى المفسرين المعاصرين الذين يفسرون بالهوى والرأي فقط وكانت تفاسيرهم سببًا في بلوى التكفير والتشريك والتبديع، ومع ذلك ما رأينا أحدًا قام عليهم كما يقوم الآن!!!. ثم إن كثيرًا من كبار المفسرين يروون الإسرائيليات رغم انقطاع السند إلى بني إسرائيل، ويروون الضعيف، فما بالك إذا كان المعنى صحيح والأثر أخرجه كبار الحفاظ وأهل الإتقان ولم ينكره عليهم أحد؟!
ثم قال: " لابد أن يجمع المخالف بين القول الذي نسبه لابن عباس رضي الله عنهما وبين أقوال السلف الأخرى التي تدورعلى تفسير فضل الله بالإسلام ورحمته بالقرآن بما فيهم ابن عباس رضي الله عنه".
قلت: من الذي أوجب عليه هذا؟ ومع ذلك فإن الإسلام والقرءان كلها متمثلة في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فهو رسول الله الذي بُعث بالإسلام وهو صاحب القرءان الذي عليه نزل.
ثم قال: " ما الدليل على تفسير الفرح بما ادعيته؟ فإن خرجت من الأول وأسندته بسند صحيح عن ابن عباس طولبت بالثاني وهو تفسير الفرح بالاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام."
قلت: إن صفا أن الدين أمر بالإهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم والعناية به إلى أقصى حد ممكن، ويظهر ذلك من رفع ذكره بين أتباعه، فلا إسلام إلا بعد قول "محمد رسول الله"، ولا أذان بدون ذكره، ولا إقامة، ولا صلاة، وأمر الله تبارك وتعالى بمحبته صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، وبتعزيره وتوقيره وكمال الأدب معه، وجعل إساءة الأدب معه تحبط العمل كما يحبطه الشرك والكفر والنفاق، وأمر بكثرة الصلاة عليه، وبالفرح به، .. إلخ. فإن صفا له صلى الله عليه وسلم ذلك كان كل ما يعين عليه مستحبًا ومستحسنًا، وليس أظهر من ذكرى المولد باعثًا على ذلك في هذا العصر، الذي تشاغل فيها الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3. ثم اعترض على مفهوم البدعة. قال: "تعريفه للبدعة وهو قوله المحدث وهو المنهي عنه شرعاً، فهذا التعريف لم يسنده إلى عالم من العلماء."
قلت: يعني أن المحدثة تكون في الأمور المنهي عنها، ذلك لأن حديث العفو قسم الأمر الرباني إلى فرائض وحدود ومنهيات ومباحات، ولا يتصور أن تكون المحدثة في الفرائض ولا في الحدود لأنها محكمة، ولا في المباحات فدل على أنها في المنهيات. ويعضد هذا المعنى أن بدعة الخوارج كانت في التكفير والتقتيل وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.  إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه) أخرجه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) أخرجه الشيخان.
ثم قال: " هذا التعريف من هذا الخَلَفِي يبطل فائدة جميع الأحاديث التي جاءت محذرةً عن البدع والمحدثات على وجه العموم"
قلت: بل جاء ليصحح المفهوم فيها ليوافق ما عليه جمهور أهل العلم.
قال الإمام الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله تعالى: " المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267)."
و روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء عنه أيضًا رحمه الله تعالى قوله: "البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال الامام أبو سليمان الخطَّابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنيًّا على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"أهـ.
قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في الفتح (ج4/298): (قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة).أهـ
4. ثم اعترض على استدلال سماحة الشيخ بحديث "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها" الحديث، قال: " هذا تناقض منك لأنك سابقاً استدللت بقوله تعالى:"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" فالآية عندك نطقت بمشروعية المولد ثم استدللت بالحديث والحديث سكت عن مشروعية المولد!!!!"
قلت: إنما هو التحامل على سماحته ليس إلا، فكم من عمل يكون مباحًا ثم يوافق في نفس الوقت عملًا آخر في حكم آخر من أحكام الشريعة، فالأكل والشرب في غير ما سرف أمر مباح، لكنه في الفطور للصائم يكون واجبًا إذا غربت الشمس، ومستحبًّا صبيحة عيد الفطر لكسر الصيام، وهكذا.
ثم قال: (بهذا الجهل الفاضح نسبت للشريعة القصور والنقصان فإنها سكتت عن أمر شرعي مرغوب فيه والله تعالى يقول:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وقال عليه الصلاة والسلام " إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به و ليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه")
قلت: هنا أماط المعترض اللثام عن جهله بشكل واضح وجلي لأنه خلط بين بيان الشريعة لنعمة الرسالة المحمدية متمثلة في العلم والقرءان والإسلام والرحمة كلها مجتمعة في الذات الشريفة، وبين سكوتها عن وسيلة التعبير عن هذا الفرح وذلك السرور بهذه النعمة. لذلك فإن الإحتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف هو من المباحات التي تدخل في باب الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم وشكر الله على نعمته.
قال: "تفسيرك للسكوت الوارد في الحديث بالأمور الشرعية التعبدية تفسير باطل لأن الله أكمل لنا الدين كما تقدم في الفقرة السابقة، وإليك ماذكره البيهقي تحت هذا الحديث فقد قال :(باب مَا لَمْ يُذْكَرْ تَحْرِيمُهُ وَلاَ كَانَ فِى مَعْنَى مَا ذكِرَ تَحْرِيمُهُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ) ."
قلت: بل هذا جهل مركب، لأنه من المعلوم الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم) لم تكن هي آخر ما نزل من الكتاب العزيز ولا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات، ومعلوم أن نطقه وحي: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)، وفعله وتقريره كلها سنن. ثم إن الذي اكتمل بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم هو أركان الدين وأصوله، وبقيت فروع لم يزل الباب فيها مفتوحًا إلى يوم القيامة بأمر الشارع سبحانه وتعالى، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بالعض على سنة الخلفاء الراشدين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بالنواجذ، فلو كان الدين اكتمل بانتقاله بالمعنى السطحي فما الحاجة إلى سنة الخلفاء الراشدين؟!بل إنه صلى الله عليه وسلم مضى إلى أبعد من ذلك فحث المسلمين على السنن الحسنة بشكل عام كما سيأتي إن شاء الله. النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح باب الإجتهاد إلى يوم القيامة، وجعل للمجتهد المصيب أجران وللمخطيء أجر واحد، ولم يفسر الآيات المقطعة في بداية السور، ولم يفسر الإعجاز العلمي كله في القرءان الكريم والسنة المطهرة، وذكر أن القرءان لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة، .. إلخ وغير ذلك مما يشير إلى مرونة هذه الرسالة الخاتمة وصلاحها لكل زمان ومكان.
ثم قال: " لابد أن تعلم أيها الخَلَفِي أن أمور التحليل والتحريم لايقال فيها عن شئ:" سكت عنه الشرع" إلا بعد ألا نجد دلالته من الكتاب والسنة فقد تكون الدلالة نصية وقد تكون بطريق العموم وقد تكون بطريق الفحوى والتنبيه وقد تكون بدلالة المخالفة وقد تكون بطريق القياس، فحينئذ نقول سكت عنه الشرع، أما بدعة المولد فقد شملتها عمومات كثيرة من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا إذا كان الإحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم سكت عنه الشرع فلماذا لم تسكت عنه أنت ؟! ."
قال: هنا يكرر المعترض إظهار جهله بالدين، لأن المسكوت عنه هو المباح عند أهل العلم، وهو أحد أقسام الشريعة الخمسة، فالأمر إما أن يكون حلالاً أو مستحبًّا أو محرمًّا أو مكروهًا أو مباحًا. فمن زعم أنه ورد نص بتحريم المولد أو النهي عنه فليورده، أما أن ينهى عنه بفهم سقيم للبدعة فهذا لا يسمى نهيًا بل يسمى جهلًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن محرم الحلال  كمحل الحرام). رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.
5. ثم اعترض على حديث "السنة الحسنة" فقال: " تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة فيقال: ما ضابط البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟ فإن قلت الحسنة ما أمر بها الشرع والسيئة ما نهى عنها الشرع قيل لك: هل المولد أمر به الشرع؟ فإن قلت: نعم نقول لك :هات الدليل، وسيعود الحوار معك إلى ما سبق تقريره ."
قلت: هذا الإعتراض يدل على أن المعترض لا يفهم معنى البدعة ولا حتى كلام أهل مذهبه فيها. قال ابن رجب الحنبلي: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة». وقال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: ("وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام"، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: "فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بـها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة"، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم").اهـ وعليه فإن الضابط في البدعة هو أن تعرض على قواعد الشرع ويستخرج لها الأصل في الشريعة وأي أصل أعظم من قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وقوله تعالى: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون).
قال الإمام الحافظ العلامة أبو شامة المقدسي [ت 665هـ] في (الباعث على إنكار البدع والحوادث):
"فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والآستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا وَهِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى"أهـ
ثم قال: "معنى عمل به بعده: لم يسبقه عليها أحد من العالمين" هذا التفسير باطل لا دليل عليه بل معنى قوله:"من سن سنة حسنة" أي من بادر إلى تنفيذ العمل المشروع المأمور به في الكتاب والسنة فالسن في الحديث سن العمل تنفيذاً وليس سن العمل تشريعاً، والدليل على هذا ما جاء في قصة هذا الحديث،  فقد روى مسلم عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال:( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ « (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِى فِى الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ». قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً ....)، فكيف يقال (لم يسبقه عليها أحد من العالمين) فهل هذا الرجل الذي تصدق ما سبقه عليها أحد من العالمين؟!"
قلت: وهذا كلام مردود عليه بما قاله الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم"(16/226-227) : "قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة." اهـ
ثم قال: " احتجاجه بصلاة التراويح احتجاج لا دليل له فيه فإن صلاة التراويح فعلها النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث ليالٍ ثم تركها خشيت أن تفرض علينا وهذه العلة قد زالت بعد موته عليه الصلاة والسلام، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة التراويح مارواه البخاري وغيره من طريق عائشة رضي الله عنها:" أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ". وروى البخاري أيضاً من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه".  وقد  حمل العلماء قول عمر في هذا الحديث "نعم البدعة هذه " على البدعة في اللغة وليست البدعة في الشرع، قال ابن عبدالبر:" لم يسن عمر من ذلك إلا ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبه ويرضاه ولم يمنع من المواظبة إلا خشية أن تفرض على أمته، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم ".
قلت: هذا كلام لا قيمة له في هذا السياق لأن الجميع يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ التراويح فوق ثلاث ليال، ولم يواظب عليها عقب صلاة العشاء ولم يصلها عشرين ركعة، فمتى ما أتى آخر وصلاها على هذه الهيئة كانت صلاته بالضرورة بدعة، لكنها تكون بدعة حسنة لوجود الأصل الذي يدل عليها، لذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة" واحتج الإمام الشافعي وأهل العلم بذلك.
لكن أين الجزء المفقود في هذا السياق؟! أين صلاة التهجد؟ فهل هذه الأخرى صلاها سيدنا عمر رضي الله عنه؟! بل لم تكون معروفة في عهده بدليل قوله رضي الله عنه: (والتي ينامون عنها خير من التي يقومون) أي أنهم يقومون أول الليل وينامون آخر الليل. فصلاة التهجد بدعة لم تثبت بالكيفية التي تصلى بها اليوم في الحرمين الشريفين، لكنها بدعة حسنة للأصول الحاضة عليها في الشريعة.
6. ثم اعترض على تناول الرسالة لتعظيم القرءان الكريم لميلاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التساليم. فقال: "هل فهم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعون وتابعو التابعين هذا الاستدلال أو لم يفهموه؟ فإن قلت بالثاني فقد ضللت الضلال المبين، وإن قلت بالأول قيل لك:هل عملوا به أو لم يعملوا به؟ فإن قلت:"لم يعملوا به" فقد ضللت الضلال المبين، وإن قلت:"عملوا به" نقول لك: كتب السنة بين أيدينا فأين هذا الاحتفال فيها؟"
قلت: إنهم لا شك فهموه وعلموه وعملوا به وإن اختلفت الوسيلة، بدليل أنهم أول من صام يوم الأثنين عندما علموا أنه ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتقاعسوا عنه لإدراكهم أهميته وعظمته.
ثم قال: " قال تعالى عن يحيى عليه السلام:"وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ " وقال عن عيسى عليه السلام:"وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ" فلماذا لم تعظم يوم مماتهم وتقيم مأتما والعلة واحدة؟! "
قلت: الله تعالى تعبدنا في الميلاد بالبشارة قال تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وإظهار الفرح والسرور. لذلك فإن المولود في شريعتنا تذبح له الولائم ويدعى الناس ويظهر الفرح والسرور ويبارك عليه. أما في الوفاة فإن الله تعبدنا بالصبر والاحتساب، فكلا الأمرين من الله تعالى.
7. ثم اعترض على تاريخ الاحتفال.
قلت: المشهور عند الجمهور أنه في ثاني عشر ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وقيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبى شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الأاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث ، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور."
8. ثم اعترض على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم ميلاده بصيامه يوم الأثنين. قال: "لماذا لا تكتفي بما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس لك فيه أسوة؟"
قلت: لماذا لم يكتفِ سيدنا عمر وأكابر الصحابة بترك النبي صلاة التراويح في جماعة؟ ربما يقول قائل لأنه بعد أن انتقل صلى الله عليه وسلم أُمن أن تفرض، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه سينتقل إلى الرفيق الأعلى، ومع ذلك ما وصاهم حين تركها، ولا وهو فراش الموت أن يصلوها بعد أن ينتقل. فدل على أنها حجة داحضة، بل إن فعله صلى الله عليه وسلم تتعدد فيه الفوائد، فشرَّع الصيام يوم الأثنين،ونبَّه إلى أهمية ذكرى نعمة الله تبارك وتعالى بمولده صلى الله عليه وسلم، وأصَّل لكل نشاط يلحقه وفاته صلى الله عليه وسلم يكون هدفه تعظيم ذكرى الميلاد.
ثم قال: " أأنت أعلم أم الصحابة رضي الله عنهم؟ أأنت أشد توقيراً وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم أم الصحابة؟ فلماذا لم يفعلوا هذه الموالد السنوية البدعية؟ قال الله تعالى:" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"
قال: الثابت عند أهل العلم أن الترك لا يقتضي التحريم ولا النهي، هذا كافٍ، لكن فات على المعترض أنه قاس مع الفارق الكبير، فمن نحن ومن هم؟ هم أصحابه، يرونه، ويجالسونه، ويستفتونه، وربما ينزل الوحي في حضرتهم، فهل تقارنهم بالذين ءامنوا به ولم يروه؟ الذين يحتاجون إلى من يذكرهم بسيرته كلما حان حين، ويصفه لهم ويحدثهم عن أخلاقه وشمائله؟ الفرق كبير. هل نقول عن تنقيط المصحف وتشكيله وكتابة علامات الوقف عليه وتلوينه لتبيين أحكام التجويد وغير ذلك من الأمور الحسنة "أنحن أشد توقيرًا وتعظيمًا للقرءان من الصحابة"؟!! الأمر ليس له علاقة بذلك بقدر ما له علاقة بالحاجة إلى ذلك، فعندما دخل الأعاجم في دين الله أفواجًا وخُشي على القرءان من اللحن والغلط، احتيج إلى هذه البدع الحسنة، وعلى ذلك فقس الإحتفاء بميلاده صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: " أنت قصرت على حد فهمك فاحتفلت به سنوياً والحديث دل على احتفال أسبوعي."
قلت: بل إن المحتلفين استفادوا من الذكرى في التذكير بمآثر النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته، وهذا مطلوب شرعًا، فكما أن المسلم يعبد الله تعالى في سائر الأيام لكن عبادته تشتد في رمضان، فكذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والعناية به، تكون في سائر الأيام وتشتد في ذكرى مولده، وهذا أمر بدهي بسيط.
ثم قال: " الرسول عليه الصلاة والسلام قد صام في هذا اليوم وأما أنت فقد زدت رقصا وتواجدا وحلوة وراية  وغير ذلك مما يفعل في ساحة المولد ونسبت هذا إلى الشرع العظيم"
قلت: الأصل في الأشياء الإباحة كما قرر أهل العلم.
9. ثم اعترض على أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة.
قلت: حاول أن يضعف الأثر بكل ما أوتي من قوة انتصارًا لباطله، وأطنب في ذكر الرواية الضعيفة من طريق عبد الله بن محرر، أخرج الطبراني في الأوسط قال: حدثنا أحمد قال: نا الهيثم قال: نا عبد الله -بن المثنى- عن ثمامة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما بعث نبيًّا. قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل، وهو ثقة، وأخرجه الطحاوي في المشكل وابن حزم في المحلى والضياء في المختارة، وحتى الألباني حسنَّه في الصحيحة. وعندما عجز قال: " وإن صح فليس فيه حجة لهذا الخَلَفِي فلايدل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك شكراً لله ولا احتفالاً بمولده وإنما تكلم الفقهاء على هذا الحديث في باب العقيقة هل تعاد أو لا، وأشار بعضهم أن هذا خاصٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان فعل النبي عليه الصلاة والسلام شكراً لله أو احتفالاً بمولده لمّا تكلم هذا الجمع الغفير على ضعف الحديث ونكارته ولهذا قال البيهقي:"حديث منكر وأما ذكره هذا الخلفي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع الصحابة للطعام فهذا من كيسه."
قلت: كيف لا يدل ذلك على أنه شكرٌ لله واحتفال بالمولد وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعمره فوق الثلاث والخمسين سنة، والعقيقة بالأصل هي شكر لله تبارك وتعالى على نعمة الميلاد. أما الذي خص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فعليه بدليل التخصيص، أما الحديث عن الحديث فالثابت أنه لا غبار عليه.
10. ثم اعترض على تأصيل سماحة الشيخ لعمل المولد من حديث صيام عاشوراء. قال: " ما زال هذا الرجل يتخبط ويعمل عقله في مخالفة سير السلف الصالح والأئمة المهديين، فما أعجب هذا الفهم المنكوس المردود! إذ الواجب علينا أن نفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صلوات الله وسلامه عليه صام عاشوراء فكان صيامه سنة، وصام يوم مولده فكان حري بك أن تدعو الناس إلى الصيام، ولكنك لم تفعل بل عكست الحديث واستدللت به على الأكل والشرب والرقص والطرب، فتأمل في هذا التناقض الذي وقع فيه هذا الخلفي ومن نحا نحوه، وما أوقع القوم ما أوقعهم فيه إلا إعمال عقولهم وتكالبهم على القصعة والثريد."
قلت: هذا القول الشطط من الجهل أجارنا الله تعالى واتباع الهوى. أنسي هذا الرجل أن هذه المسألة قد سبق إليها بالقول الإمام الحجة الحافظ ابن حجر العسقلاني؟ قال الحافظ: " وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة" أهـ ذكره الحافظ السيوطي في كتابه "حسن المقصد في عمل المولد"
11. ثم اعترض على أن ساحة المولد مملوءة بالذكر وحلق العلم التي تتناول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال: " العلم والذكر إذا كان الاجتماع لهما بالطريقة المشروعة التي سلكها سلفنا الصالح فهذا أمر مطلوبٌ ومشروعٌ وأما الاجتماع لإحداث بدعة لم يفعلها السلف فهذا أمر مرفوض مردود، فساحة المولد يا هذا مشتملة على  مدائح شركية وترنمات بدعية واختلاط بين الرجال والنساء"
قلت: تقدم بيان البدعة ورأي أهل العلم الثقات فيها. وقد نبَّه سماحته على تجنب الإختلاط وهذا أمر حسن، أما الكلام عن شركية المدائح فهذه من طوام الخوارج في كل عصر، حيث يكفرون الناس ويشرِّكونهم بظاهر الأقوال والأفعال، وهذه بدعة ضلالة ليس عليها سلف هذه الأمة، لأن الإيمان والإخلاص أمور قلبية مدارها على النية، لا يُطَّلع عليها إلا بالإعتراف إذ لا يطَّلع على النوايا إلا الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى)، و عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ من جُهَيْنَةَ، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: "لا إله إلا الله"، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). رواه البخاري ومسلم، وفي رواية الأعمش: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا.
إن الله لم يتعبدنا بتفتيش نوايا الناس والحكم عليهم، بل تعبدنا بأن نعاملهم بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله. فاذا قالوها فقد عصموا دمائهم و اموالهم) رواه البخاري، ولذلك فمن أشكل عليه فهم معنى ورد في مدحة زهدية فقبل المسارعة إلى الحكم على نية راويها ليته يستفسره عن المعنى، عله يفهمه.
12. ثم تعقب كلام سمحاته عن مدح الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بكلام فيه خروج عن الموضوع، وقد تمت الإجابة عليه في نقاط سابقة.
13. ثم تعقب كلام سمحاته عن ضرب الدف. قال: ("أما ضرب الدف فقد ورد في العيد والعرس وثبت للجواري "الفتيات الصغار").
قلت: لو كان ضرب الدف حرام حرمة أصلية فإنه لا يحل في عيد ولا عرس، أما تخصيصه تقييده على الجواري فيحتاج إلى دليل.
ثم قال: " وقد ورد في الحديث أن الجارية قالت:" وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ" فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، وقد أخفى الخلفي على قارئه نص الحديث "
قلت: هذا من سوء الظن بالمسلمين، فإن المستدل بنص عادةً ما يكون حريصًا على إظهار وجه الدلالة، فيركز النص إلى حيث يريد. أما في موضوع علم الغيب، فالعلم غيب وشهادة هو لله، لأن الله تعالى هو العليم الحكيم، هو سبحانه يطلع من يشاء على ما يشاء من علمه: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)، وقد أطلع الله تبارك وتعالى أنبياءه ورسله وملائكته على غيوب كثيرة، وخص حبيبه صلى الله عليه وسلم بغيوب أجل وأعظم، فهو الذي أخبر هذه الأمة بما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي في صحيح البخاري من حديث سيدنا عمر رضي الله عنه.
14. ثم علق على أحوال السلف عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكلام خارج موضوع الرسالة يريد أن يبث به رسائله إلى القارئ، وهذه عدم موضوعية ظاهرة.
15. ثم اعترض على إيراد سماحته كلام ابن تيمية المنسوب إليه في المولد. قال: "هذا الرجل إما جاهل بمدلولات الألفاظ وبكلام أهل العلم وإما ملبس، فكلام شيخ الإسلام عن الفاعل لا عن الفعل، فالسؤال المطروح عن فعل المولد لا عن أحوال الفاعلين ونياتهم فاترك التلبيس"
قلت: بل الجاهل هو المعترض نفسه، فإذا لم يكن الفعل مشروعًا لا يستحق الفاعل عليه الأجر العظيم بحسن المقصد، فإنك لن تثاب على شرب الخمر بحسن المقصد. ويبدو أن سمحاته أورد كلام ابن تيمية كشاهد للمعترضين من كلام مشائختهم. لكن الثابت أن كلام السلف في البدعة وتفصيلها أغنى عما يقوله ابن تيمية لأنه من المتأخرين الذين لا يمكن أن يقدموا على السلف، خاصة إذا ثبت أنه استتيب استتابة شرعية سنة 707هـ في مسائل عقدية (مسألة الإستواء، والنزول، ومعاني القرءان) بحضور القضاة الأربعة وولي الأمر، وتاب ورجع وكتب توبته بخط يده كما أثبت ذلك الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة وابن شاكر الكتبي في تاريخه وغيرهم. وقد ذمه تلميذه الذهبي بعد أن كان قد أكثر من مدحه، لكن بعد أن صحبه سنين متطاولة عرف عيوبه، قال في "زغل العلم والطلب": " وقد تعبتُ في وزنه وفتَّشتُه حتى مللتُ في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخرَّه بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذَّبوه وكفَّروه، إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار. فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله تعالى المسامحة".

هذا ما كان من الرد على صاحب "الردود السلفية على الأجوبة الركينية"، أبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي. وفي رسالة أخرى نرد على معترض آخر.