مما عمت به البلوى الإدعاء على الناس بالكفر والشرك والبدعة، والحكم على أفعالهم وأقوالهم بالظاهر وهذا خلل كبير. لأن التعويل في التدين إنما على القلب والنية قبل الفعل والقول، ومن المشهور عند الناس قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وفي رواية «إن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أحسابكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنَّن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إلي أتقاكم» وقوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ههنا التقوى ههنا التقوى ههنا) يشير إلى قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم.
فالحكم على أفعال الناس وأقوالهم وسائر أعمالهم مع خفاء النية طامة كبرى. ولو كان التكفير يكون بالظاهر لكان سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه أول الكافرين لأنه نطق بكلمة الكفر! هل قالها ناويًا لها؟ حاشاه رضي الله عنه فقد قالها تحت التعذيب والإكراه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه قرءانًا يتلى إلى الأبد: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
ولو كان الشرك يكون بالظاهر لكانت الملائكة أول المشركين وبأمر الحق المبين سبحانه، لأنها سجدت لآدم عليه السلام، ولكان يعقوب عليه السلام وخالة يوسف وإخوته من المشركين لأنهم سجدوا ليوسف عليه السلام!!!
ليس كل فعل ظاهره عبادة كالقيام والسجود والركوع والطواف يكون بالضرورة عبادة، إذا لابد من وجود نية التعبد. فالذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج ليقال فلان مصلٍّ وفلان صوام وفلان مزكٍ وحاج فلان، كلها لا تعتبر عند الله تبارك وتعالى عبادة، وفي الحديث: "أول الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر: يؤتى بالرجل، أو قال: بأحدهم، فيقول: رب علمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك، فيقال: كذبت، إنما كنت تصلي ليقال قارئ مصلٍّ، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، ثم يؤتى بآخر، فيقول: رب رزقتني مالًا فوصلت به الرحم، وتصدقت به على المساكين، وحملت ابن السبيل رجاء ثوابك وجنتك، فيقال: كذبت، إنما كنت تتصدق وتصلِّ ليقال إنك سمح جوَّاد، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، ثم يجاء بالثالث، فيقول: رب خرجت في سبيلك فقاتلت فيك حتى قتلت مقبلًا غير مدبر رجاء ثوابك وجنتك، فيقال: كذبت، إنما كنت تقاتل ليقال إنك جريء شجاع، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار". أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما.
واليوم إذا وجدت أحدهم يقبِّل رجل أحدهم محبةً فليس هذا كافيا لتقول إنه يسجد لغير الله، وحتى لو سجد لهفليس هذا كافيا لأن تحكم عليه بالشرك إلا أن يكون قد سجد بنية التعبد، أما السجود بغير نية التعبد ففي شريعتنا حرام وليس شركًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها).
وإذا وجدت أحدهم راكعًا يربط حذاءه أو حذاء أحدهم فليس هذا كافيا لتحكم عليه أنه ركع لغير الله تبارك وتعالى، نعم هو من حيث المظهر ركوع لكن من حيث الجوهر ليس فيه نية تعبد.
وإذا وجدت أحدهم يركض حول ميدان "يجكُّ" فلا فليس هذا طواف كالطواف بالكعبة لانتفاء نية التعبد، وهكذا إذا وجدت أحدهم يصلي إلى حائط أو محراب أو حتى إلى الكعبة المشرفة مستقبلها وهي أحجار فلا يعني أنه يعبدها، لأن النية هي عبادة الله تبارك وتعالى. وعندما كان المسلمون يصلون إلى الكعبة قبل فتح مكة، كانت الأصنام داخل الكعبة، وما ضر هذا عبادة المسلمين آنذاك، وهكذا وعلى ذلك فقس.
بل إن الشريعة الغراء نبهت إلى ترك تفتيش النوايا والتجسس والبحث عن الزلات والعثرات والفضائح، وفي الأمور القلبية كالإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والصدق والنفاق لا يُحكم على الأفعال والأقوال إلا أن يعترف الفاعل بنيته، لذلك قال المشركون من أهل الكتاب: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" معترفين بعبادة غير الله تعالى، وقال الكافرون: "قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون" معترفين بالكفر، وحكى الله تبارك وتعالى حال المنافقين فقال سبحانه: "وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" معترفين على أنفسهم بالنفاق. أما غير الإعتراف فليس لك على أحد من سبيل، ألا أن تدعي أنك مطَّلع على نوايا الناس.
ولعله من أشهر ما في هذا الباب حديث سيدنا أسامة رضي الله عنهما المشهور، قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ من جُهَيْنَةَ، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: "لا إله إلا الله"، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). رواه البخاري ومسلم
وفي رواية الأعمش: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا.
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" رواه مسلم
وهذا بليغ في هذا المعنى، لذلك فإننا لسنا معنيين بتفتيش نوايا الناس فضلًا عن الإدعاء عليهم بما نتوهمه ومحاكمتهم على ذلك، بل نعاملهم بما ظهر وإن أشكل علينا شيء سألناهم وقبلنا إجابتهم وأمرهم إلى الله تعالى، وليس أدل على ذلك من حال المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يعاملهم بما تكنه صدورهم إلا بوحي من الله تبارك وتعالى وإن كان يعرف نفاقهم ويعرفهم كأشخاص.
والشواهد على ما ذكرنا فيما تقدم من معانٍ كثيرة في الشريعة الغراء، نذكر طرفًا منها:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله. فاذا قالوها فقد عصموا دمائهم و اموالهم) رواه البخاري
فالشهادة عاصمة للدماء والأموال إلا بحق الله الذي يقوم به الحاكم، مثل حد القتل أو زنا المحصن والسرقة وهكذا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا واكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري ومسلم
ونبهت الشريعة الغراء أيضَا على فتن التكفير والتشريك والغلو، وأن المسلم يجب إلا يقع فيها وأن ينتبه إلى خطر الدنيا والتنافس عليها ففيه الهلاك، فعن عقبة بن عامر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبليس يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكنه سيرضى بدون ذلك منكم، بالمحقرات من أعمالكم وهي الموبقات". أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم خلق الله تبارك وتعالى، الذي أخبر بالفتن إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وأخبر عن أحوال يوم القيامة يقرر أنه لا يخاف الشرك على أمته وإنما يخاف عليها من الدنيا والتنافس عليها!
فمن أسس دعوته على نبذ الشرك وإغفال الدنيا فهي دعوة ضلال، وكأنما يدعي أنه أعلم بالأمة من رسولها، وهذا تعسف بما لا يخفى.
ثم يحذر المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة تحذيرًا بليغًا من التكفير والتشريك والإدعاء على الناس وجدالهم بالباطل وما يؤدي إليه ذلك من فتن وسفك دم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما " رواه مسلم
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه وكان ردئاً للإسلام، غيَّره إلى ما شاء الله فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك. قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي).
أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبزار وحسنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن زل فلا تقطعوا عنه آمالكم، وأما جدال منافق بالقرآن، فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالِمِه، وأما دنيا تقطع أعناقكم، فمن جعل الله في قلبه غنى فهو الغني" أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي: رجل يتأول القرآن، يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره) أخرجه الطبراني في الأوسط
وقال صلى الله عليه وسلم: (أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فاتهموها على أنفسكم) أخرجه البيهقي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ) رواه مسلم
وإن حرمة المسلم عند الله لعظيمه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق".
أخرجه البيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه، وفيهما ولا تنافسوا، ولا تهاجروا، ولا تقاطعوا" أخرجه البخاري ومسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حرامًا) متفق عليه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) رواه البخاري ومسلم
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه مسلم
فليتنا نعي.. والواقع يشهد على البلوى التي نعيشها بالفهم السقيم لنصوص الكتاب والسنة
اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد