قال الله سبحانه وتعالى:
(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) صدق الله العظيم.
قال الكلبي:
نزلت في ثوبان، مولى رسول الله ﷺ، وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يُعرف في وجهه الحزن، فقال له رسول الله ﷺ: "يا ثوبان ما غير لونك؟" فقال: "يا رسول الله ما بي من ضُر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أرك أبداً"
وأخرج الحافظ أبو نعيم بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وأهلي وولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد رسول الله ﷺ شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية.
الله!
إنه حب رسول الله ﷺ الذي أودع الله فيه من الكمال والجمال والجلال ما لم يودع في أحد من خلقه، كيف لا وهو أكرم خلق الله على الله، عن ابن عباس أنه قال: "ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)
إنه حب الجميل الجليل، خَلقًا، وخُلقًا، فأسر حبه قلوب العاشقين المرهفة، الذين أظهر الله لهم من أسرار كماله وجماله وجلاله ﷺ ما يدهش العقول، ومن الحب ما قتل ومنه ما أوهن الجسم وانتحل.
فبشرى لمحبي هذا النبي العظيم ﷺ، فإن الله تبارك وتعالى قد أوجب محبته على جميع المؤمنين، وارتضى لهم أن تكون محبته على أسمى درجة ليكمل الإيمان، أن تكون محبته أعظم من محبة النفس.
النفس؟! نعم النفس، ولا شيء دون النفس!
فقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" أخرجه الإمام أحمد.
سبحان الله!
وأي حب عرفه الناس أكثر من حب النفس؟!
إن هذا الحب الفطري يتجلى في أحلك المواقف، كما ذكره الله تبارك وتعالى في سورة عبس إذ قال سبحانه:
(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [37])
ففي كرب يوم القيامة العظيم، الكل يقول نفسي نفسي، حتى الأنبياء والرسل عليهم السلام!
الكل همته نفسه، ونسي كل شيء إلا نفسه!
وإنه لشيء عجيب، أن يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نحب النبي ﷺ أكثر من النفس، وأكثر من أي شيء آخر،
قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [24])
فلماذا كل هذا الحب العظيم؟
الأسرار في ذلك أكثر من أن تحصى، لكن مما علم فلأن النبي ﷺ أرحم وأشفق وأرفق بنا من نفوسنا، أليس هو الرحمة للعالمين؟
قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 107]
وأولى بنا من نفوسنا وألطف؟
قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]
وأحرص على نجاتنا وأدرى بأنفسنا من أنفسنا؟
فقد قال رسول الله ﷺ:
«مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ -أي يبعدهن- عنها، وأنا آخذ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وأنتم تَفَلَّتُونَ من يدي» أخرجه مسلم
إن الله تبارك وتعالى أوجب محبة حبيبه ﷺ أكثر من أي شيء آخر حتى النفس، لأن محبة رسول الله ﷺ هي من محبة الله تبارك وتعالى، والذي يحب رسول الله ﷺ أكثر من النفس فسيكون أقدر الناس وآهلهم على طاعة الله تبارك وتعالى فيما شرع، واتباع النبي ﷺ بصدق وإخلاص وتفاني فيما أمر، ويكون أكثر الناس استعدادًا للتضحية وبذل النفس في سبيل الله تعالى بلا تردد أو تواني.
وإن الإيمان بالله تبارك وتعالى الذي ينشد كل مؤمن زيادته له حلاوة وطعم يذاق، وليس على وجه الكون حلاوة ألذ من حلاوة وطعم الإيمان. فكيف السبيل إلى هذه الحلاوة وتلك اللذة التي ليس لها مثيل؟
أرشدنا حضرة النبي ﷺ إليها في حديث شريف، بيَّن فيه أن أهم شروط الحصول على هذه اللذة الفريدة: (أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما)،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار." أخرجه البخاري ومسلم
فصلِّ اللهم وسلم وبارك وعظَّم ومجَّد وأكرم على هذا النبي الرؤوف الرحيم، الكريم الحليم، الجميل، الجليل، الذي بهر سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه حسنه فأنشد:
وأحسن منك لم تر قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءًا من كل عيب *** كأنك قد خُلِقْتَ كما تشاء
ما علامة محبته ﷺ؟
إن المحبة بالأساس أمر قلبي ينتج عن معرفة المحبوب وجماله، كريم شيمه، وسجاياه وخصاله، ومن أحب شيئًا أكثر من مدحه، ولهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستوحش من فراقه.
أما المدح والثناء وكثرة ذكر المحبوب فقد أشار الله تبارك وتعالى إليه في قوله: (أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا) حيث كان العرب في الجاهلية يعتزون جدًا بآبائهم ويفخرون بهم فخرًا شديدًا ويكثرون من ذكر مناقبهم وأمداحهم.
وأما الشوق إلى لقاء المحبوب فتعج به أشعار الجاهلية وأشعار الحب العذري والغزل العفيف.
هذا يكون بالنسبة للمحبوب العادي، فكيف يكون الأمر في محبوب أحب إلى النفس من النفس؟!
لابد أن ذلك يكون مضاعفًا أضعافًا كثيرة، ومن يجهل ذلك لا يعذر المحبين لرسول الله ﷺ عندما يبالغون في كثرة الصلاة عليه وذكر صفاته وشمائله،
وعندما يبالغون في مدحه والثناء عليه وإبراز جميل شيمه وسجاياه ﷺ،
وعندما يذوبون شوقًا إلى لقائه منامًا ويقظة كما بشرت بذلك الأحاديث الشريفة. قال رسول الله ﷺ:
(من رأني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) أخرجه البخاري
ولما كان الشوق إلى رسول الله ﷺ يتضمن مكنون الحب حتى لو لم يتمكن المحب من التعبير عنه، أشار رسول الله ﷺ إلى أن المشتاقين إليه هم أهل محبته الحقيقيون، وأن أكبر علامة على المحبة هي الشوق إلى رؤيته ﷺ،
قال رسول الله ﷺ:
"من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" أخرجه مسلم
وفي رواية: "متى ألقى إخوانى؟! قالوا ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابى، وإخوانى الذين آمنوا بى ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق" أخرجه أبو يعلى والإمام أحمد
وهذا صريح في أن الشوق إلى رؤيته هو دليل شدة المحبة، فوصف المشتاقين إليه بأنهم أكثر الناس حبًّا له ﷺ، وأنه ﷺ يبادلهم هذا الشوق كرمًا منه وفضلًا، فيا عظمة المحبين بذلك الوصل من سيدنا محمد ﷺ.
نعم إن المحب لمن يحب مطيع، لكن المحبة تتدرج في قلب المحب صعودًا كلما ازداد معرفةً بمحبوبه، إلى أن تكمل وتبلغ المرحلة التي يكون فيها هواه تبعًا لما جاء به المحبوب.
لذلك لا نقول إن علامة المحبة الطاعة للمحبوب، لأن الطاعة الكاملة للمحبوب وحسن الإتباع له ينتجان عندما تستكمل المحبة وتطغى على كل قلبه، ولعل هذا من مراد الله تبارك وتعالى في أن يأمرنا بأن تكون محبة النبي ﷺ أعظم من محبتنا لأنفسنا حتى نرقى بذلك إلى درجة أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به المعصوم ﷺ.
والدليل على هذا المعنى أن النبي ﷺ شهد لمدمن خمر بمحبته لله ولرسوله، فعن عمر رضي الله عنه أن رجلًا كان يلقب حمارًا، وكان يهدي لرسول الله ﷺ العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه جاء به إلى رسول الله ﷺ، فيقول: يا رسول الله، أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله ﷺ على أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجيء به يومًا إلى رسول الله ﷺ، وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «لا تلعنوه؛ فإنه يحب الله ورسوله». أخرجه البخاري وأبو يعلى وغيرهما.
فلو كان اقتراف كبيرة كشرب الخمر، بل إدمانها ينفي عن المؤمن محبته لله ولرسوله ﷺ لما شهد له رسول الله ﷺ.
ومعلوم أن كل مؤمن يحب الله ورسوله ومع ذلك فقد قال رسول الله ﷺ:
(كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالمعصية ووقوع الخطأ من المؤمن لا يقتضيان انتفاء المحبة عنه.
يقول العارفون إن شفاعة المحبة أضمن من شفاعة العمل، أي أن النجاة يوم القيامة بالمحبة أضمن من النجاة بالعمل الصالح، وذلك لأن العمل له آفات كثيرة كالرياء والعجب والمن والأذى وغير ذلك، أما المحبة إن صدقت فلا آفة لها.
وعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال: متى الساعة؟
قال: "وماذا أعددت لها؟"
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ،
فقال: "أنت مع من أحببت".
قال سيدنا أنس رضي الله عنه:
فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) أخرجه البخاري ومسلم
أنظر كيف أن المحبة كفيلة بأن تجعلك في معية النبي ﷺ وصحابته وإن لم تعمل بالعمل الذي يؤهلك لهذه المعية السامية.
ومما تقدم يتبين أن المحبة أمر قلبي عاطفي علامته الشوق إلى رؤية المحبوب ﷺ وليس كمال الإتباع إلا عندما تتمكن من القلب، وذلك لأن المحبة أصلًا هي من الإيمان، والإيمان من الركن الأول من أركان الدين، وما سواه من الأعمال الصالحة يأتي في بقية الأركان.
أما قوله تبارك وتعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم) فإنه يشير إلى أن محبة الله تبارك وتعالى لا تدرك إلا بواسطة النبي ﷺ، فكل من يزعم محبة الله تبارك وتعالى فعليه أن يؤمن برسالة سيدنا محمد ﷺ ويتبع دينه ويأتي من ورائه، وقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"
أحوال السلف الصالح في محبتهم لرسول الله ﷺ:
لقد كان السلف الصالح يحبون النبي ﷺ لدرجة عجيبة، فكانوا يكثرون الصلاة عليه بشكل عجيب. أخرج الترمذي بسنده وصححه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟
قال: "ما شئت"
قال: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذًا تكفى همك، ويغفر ذنبك"
وذكر القاضي عياض في "الشفا":
▪أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للنبي ﷺ: (لأنت أحب إلي من نفسي)، وعنه رضي الله عنه أنه قال للعباس رضي الله عنه: "أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب لأن ذلك أحب إلى رسول الله ﷺ"
▪وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ﷺ).
▪وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت:
(ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله ﷺ وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم، ويقول: "هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل رب قبضي إليك" حتى يغلبه النوم).
▪وعن ابن إسحاق أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله ﷺ فقالت:
"ما فعل رسول الله ﷺ؟"
قالوا: "خيرًا، هو بحمد الله كما تحبين" قالت: "أرنيه حتى أنظر إليه" فلما رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"
▪وسئل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمإ"
▪وعن زيد بن أسلم قال: خرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحًا في بيت وإذا عجوز تنقش صوفًا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار *** صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار *** يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
تعني النبي ﷺ، فجلس عمر رضي الله عنه يبكي.
▪وروي أن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خدرت رِجلَه فقيل له اذكر أحب الناس إليك يزل عنك فصاح "يا محمداه" فانتشرت وانبسطت.
▪ولما احتضر سيدنا بلال رضي الله عنه نادت امرأته: "واحزناه" فقال: "واطرباه، غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه"
▪ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: "اكشفي لي قبر رسول الله ﷺ"، فكشفته لها فبكت حتى ماتت.
▪ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: "أنشدك الله، يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟" فقال زيد: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا"
▪وورد أن ابن عمر رضي الله عنهما وقف على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله فاستغفر له وقال: "كنت والله ما علمتُ صوَّامًا، قوَّامًا، تحب الله ورسوله"
ومحبته وتعظيمه ﷺ في حياته كمحبته وتعظيمه بعد وفاته، قال إسحاق التجيبي:
▪كان أصحاب النبي ﷺ بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا وكذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا وتوقيرًا.
▪ومن محبته ﷺ محبة كل ما يحبه ﷺ من آله بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم فمن أحب شيئا أحب من يحب، وقد قال ﷺ في الحسن والحسين: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، وفي رواية في الحسن (اللهم إني أحبه فأحب من يحبه)، وقال: (من أحبهما فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغضهما فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله).
▪وقال: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فيحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه).
▪وقال في فاطمة رضي الله عنها: (إنها بضعة مني، يغضبني ما يغضبها).
▪وقال لعائشة رضي الله عنها في أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أحبه فإني أحبه).
▪وقال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم).
هل كلمة عشق تلائم الكلام عن محبته ﷺ؟
نعم، بل إن كلمة عشق هل أكثر كلمة يمكن أن تعبر عن المبالغة في محبة النبي ﷺ، فقد قال أهل اللغة العربية والمعاجم: العشق هو فرط الحب، وهو الحب الشديد، وقيل هو عُجْب المحب بالمحبوب، كما في لسان العرب وغيره.
وسئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشْقِ أَيّهما أَحمد؟ فقال الحُب لأن العِشْقَ فيه إِفراط.
وسمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إِذا قطعت، والعَشَقَةُ شجرة تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ عن الزجاج.
وقال صاحب تاج العروس:
قد ألّف الرّئيسُ ابنُ سينا في العِشْقِ رسالةً وبسَط فيها معْناه وقال: إنّه لا يخْتَصّ بنوْع الإنْسان بل هوَ سارٍ في جَميع الموْجودات: من الفلَكِيّاتِ والعُنْصُريّات والنّباتات والمعْدِنيّات والحَيوانات، وأنّه لا يُدرَك معْناه ولا يُطَّلَع عليه، والتّعْبير عنه يَزيدُه خَفاء، وهو كالحُسْنِ لا يُدرَكُ ولا يُمكن التّعْبير عنه وكالوَزْن في الشِّعرِ وغيرِ ذلِك مما يُحالُ فيه على الأذْواقِ السّليمة والطِّباع المُسْتَقيمة.
ومع كون أن الحب يمكن أن يكون في الخير والشر فإن هناك دائمًا استعمالات مجازية، عفيفة، يعرفها أهل الذوق السليم، والعشق كذلك والهوى وغيرها من عبارات الغرام. فالهوى عند أهل اللغة والمعاجم هو الميل مع الشهوة، وهو ظاهر في قوله تعالى: (ولا تتبع الهوى) وقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، لكنه عند أهل الذوق والروق والأدب والسمو هو منتهى الميل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به).
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يغرق قلوبنا في بحر محبته، ومحبته حبيبه ﷺ ويرزقنا رؤيته منامًا ويقظة في الدنيا، ومعيته في الآخرة، إنه سميع مجيب.
اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية، وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد
(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) صدق الله العظيم.
قال الكلبي:
نزلت في ثوبان، مولى رسول الله ﷺ، وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يُعرف في وجهه الحزن، فقال له رسول الله ﷺ: "يا ثوبان ما غير لونك؟" فقال: "يا رسول الله ما بي من ضُر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أرك أبداً"
وأخرج الحافظ أبو نعيم بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وأهلي وولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد رسول الله ﷺ شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية.
الله!
إنه حب رسول الله ﷺ الذي أودع الله فيه من الكمال والجمال والجلال ما لم يودع في أحد من خلقه، كيف لا وهو أكرم خلق الله على الله، عن ابن عباس أنه قال: "ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)
إنه حب الجميل الجليل، خَلقًا، وخُلقًا، فأسر حبه قلوب العاشقين المرهفة، الذين أظهر الله لهم من أسرار كماله وجماله وجلاله ﷺ ما يدهش العقول، ومن الحب ما قتل ومنه ما أوهن الجسم وانتحل.
فبشرى لمحبي هذا النبي العظيم ﷺ، فإن الله تبارك وتعالى قد أوجب محبته على جميع المؤمنين، وارتضى لهم أن تكون محبته على أسمى درجة ليكمل الإيمان، أن تكون محبته أعظم من محبة النفس.
النفس؟! نعم النفس، ولا شيء دون النفس!
فقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" أخرجه الإمام أحمد.
سبحان الله!
وأي حب عرفه الناس أكثر من حب النفس؟!
إن هذا الحب الفطري يتجلى في أحلك المواقف، كما ذكره الله تبارك وتعالى في سورة عبس إذ قال سبحانه:
(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [37])
ففي كرب يوم القيامة العظيم، الكل يقول نفسي نفسي، حتى الأنبياء والرسل عليهم السلام!
الكل همته نفسه، ونسي كل شيء إلا نفسه!
وإنه لشيء عجيب، أن يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نحب النبي ﷺ أكثر من النفس، وأكثر من أي شيء آخر،
قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [24])
فلماذا كل هذا الحب العظيم؟
الأسرار في ذلك أكثر من أن تحصى، لكن مما علم فلأن النبي ﷺ أرحم وأشفق وأرفق بنا من نفوسنا، أليس هو الرحمة للعالمين؟
قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 107]
وأولى بنا من نفوسنا وألطف؟
قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]
وأحرص على نجاتنا وأدرى بأنفسنا من أنفسنا؟
فقد قال رسول الله ﷺ:
«مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ -أي يبعدهن- عنها، وأنا آخذ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وأنتم تَفَلَّتُونَ من يدي» أخرجه مسلم
إن الله تبارك وتعالى أوجب محبة حبيبه ﷺ أكثر من أي شيء آخر حتى النفس، لأن محبة رسول الله ﷺ هي من محبة الله تبارك وتعالى، والذي يحب رسول الله ﷺ أكثر من النفس فسيكون أقدر الناس وآهلهم على طاعة الله تبارك وتعالى فيما شرع، واتباع النبي ﷺ بصدق وإخلاص وتفاني فيما أمر، ويكون أكثر الناس استعدادًا للتضحية وبذل النفس في سبيل الله تعالى بلا تردد أو تواني.
وإن الإيمان بالله تبارك وتعالى الذي ينشد كل مؤمن زيادته له حلاوة وطعم يذاق، وليس على وجه الكون حلاوة ألذ من حلاوة وطعم الإيمان. فكيف السبيل إلى هذه الحلاوة وتلك اللذة التي ليس لها مثيل؟
أرشدنا حضرة النبي ﷺ إليها في حديث شريف، بيَّن فيه أن أهم شروط الحصول على هذه اللذة الفريدة: (أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما)،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار." أخرجه البخاري ومسلم
فصلِّ اللهم وسلم وبارك وعظَّم ومجَّد وأكرم على هذا النبي الرؤوف الرحيم، الكريم الحليم، الجميل، الجليل، الذي بهر سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه حسنه فأنشد:
وأحسن منك لم تر قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءًا من كل عيب *** كأنك قد خُلِقْتَ كما تشاء
ما علامة محبته ﷺ؟
إن المحبة بالأساس أمر قلبي ينتج عن معرفة المحبوب وجماله، كريم شيمه، وسجاياه وخصاله، ومن أحب شيئًا أكثر من مدحه، ولهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستوحش من فراقه.
أما المدح والثناء وكثرة ذكر المحبوب فقد أشار الله تبارك وتعالى إليه في قوله: (أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا) حيث كان العرب في الجاهلية يعتزون جدًا بآبائهم ويفخرون بهم فخرًا شديدًا ويكثرون من ذكر مناقبهم وأمداحهم.
وأما الشوق إلى لقاء المحبوب فتعج به أشعار الجاهلية وأشعار الحب العذري والغزل العفيف.
هذا يكون بالنسبة للمحبوب العادي، فكيف يكون الأمر في محبوب أحب إلى النفس من النفس؟!
لابد أن ذلك يكون مضاعفًا أضعافًا كثيرة، ومن يجهل ذلك لا يعذر المحبين لرسول الله ﷺ عندما يبالغون في كثرة الصلاة عليه وذكر صفاته وشمائله،
وعندما يبالغون في مدحه والثناء عليه وإبراز جميل شيمه وسجاياه ﷺ،
وعندما يذوبون شوقًا إلى لقائه منامًا ويقظة كما بشرت بذلك الأحاديث الشريفة. قال رسول الله ﷺ:
(من رأني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) أخرجه البخاري
ولما كان الشوق إلى رسول الله ﷺ يتضمن مكنون الحب حتى لو لم يتمكن المحب من التعبير عنه، أشار رسول الله ﷺ إلى أن المشتاقين إليه هم أهل محبته الحقيقيون، وأن أكبر علامة على المحبة هي الشوق إلى رؤيته ﷺ،
قال رسول الله ﷺ:
"من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" أخرجه مسلم
وفي رواية: "متى ألقى إخوانى؟! قالوا ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابى، وإخوانى الذين آمنوا بى ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق" أخرجه أبو يعلى والإمام أحمد
وهذا صريح في أن الشوق إلى رؤيته هو دليل شدة المحبة، فوصف المشتاقين إليه بأنهم أكثر الناس حبًّا له ﷺ، وأنه ﷺ يبادلهم هذا الشوق كرمًا منه وفضلًا، فيا عظمة المحبين بذلك الوصل من سيدنا محمد ﷺ.
نعم إن المحب لمن يحب مطيع، لكن المحبة تتدرج في قلب المحب صعودًا كلما ازداد معرفةً بمحبوبه، إلى أن تكمل وتبلغ المرحلة التي يكون فيها هواه تبعًا لما جاء به المحبوب.
لذلك لا نقول إن علامة المحبة الطاعة للمحبوب، لأن الطاعة الكاملة للمحبوب وحسن الإتباع له ينتجان عندما تستكمل المحبة وتطغى على كل قلبه، ولعل هذا من مراد الله تبارك وتعالى في أن يأمرنا بأن تكون محبة النبي ﷺ أعظم من محبتنا لأنفسنا حتى نرقى بذلك إلى درجة أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به المعصوم ﷺ.
والدليل على هذا المعنى أن النبي ﷺ شهد لمدمن خمر بمحبته لله ولرسوله، فعن عمر رضي الله عنه أن رجلًا كان يلقب حمارًا، وكان يهدي لرسول الله ﷺ العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه جاء به إلى رسول الله ﷺ، فيقول: يا رسول الله، أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله ﷺ على أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجيء به يومًا إلى رسول الله ﷺ، وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «لا تلعنوه؛ فإنه يحب الله ورسوله». أخرجه البخاري وأبو يعلى وغيرهما.
فلو كان اقتراف كبيرة كشرب الخمر، بل إدمانها ينفي عن المؤمن محبته لله ولرسوله ﷺ لما شهد له رسول الله ﷺ.
ومعلوم أن كل مؤمن يحب الله ورسوله ومع ذلك فقد قال رسول الله ﷺ:
(كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالمعصية ووقوع الخطأ من المؤمن لا يقتضيان انتفاء المحبة عنه.
يقول العارفون إن شفاعة المحبة أضمن من شفاعة العمل، أي أن النجاة يوم القيامة بالمحبة أضمن من النجاة بالعمل الصالح، وذلك لأن العمل له آفات كثيرة كالرياء والعجب والمن والأذى وغير ذلك، أما المحبة إن صدقت فلا آفة لها.
وعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال: متى الساعة؟
قال: "وماذا أعددت لها؟"
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ،
فقال: "أنت مع من أحببت".
قال سيدنا أنس رضي الله عنه:
فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) أخرجه البخاري ومسلم
أنظر كيف أن المحبة كفيلة بأن تجعلك في معية النبي ﷺ وصحابته وإن لم تعمل بالعمل الذي يؤهلك لهذه المعية السامية.
ومما تقدم يتبين أن المحبة أمر قلبي عاطفي علامته الشوق إلى رؤية المحبوب ﷺ وليس كمال الإتباع إلا عندما تتمكن من القلب، وذلك لأن المحبة أصلًا هي من الإيمان، والإيمان من الركن الأول من أركان الدين، وما سواه من الأعمال الصالحة يأتي في بقية الأركان.
أما قوله تبارك وتعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم) فإنه يشير إلى أن محبة الله تبارك وتعالى لا تدرك إلا بواسطة النبي ﷺ، فكل من يزعم محبة الله تبارك وتعالى فعليه أن يؤمن برسالة سيدنا محمد ﷺ ويتبع دينه ويأتي من ورائه، وقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"
أحوال السلف الصالح في محبتهم لرسول الله ﷺ:
لقد كان السلف الصالح يحبون النبي ﷺ لدرجة عجيبة، فكانوا يكثرون الصلاة عليه بشكل عجيب. أخرج الترمذي بسنده وصححه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟
قال: "ما شئت"
قال: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذًا تكفى همك، ويغفر ذنبك"
وذكر القاضي عياض في "الشفا":
▪أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للنبي ﷺ: (لأنت أحب إلي من نفسي)، وعنه رضي الله عنه أنه قال للعباس رضي الله عنه: "أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب لأن ذلك أحب إلى رسول الله ﷺ"
▪وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ﷺ).
▪وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت:
(ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله ﷺ وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم، ويقول: "هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل رب قبضي إليك" حتى يغلبه النوم).
▪وعن ابن إسحاق أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله ﷺ فقالت:
"ما فعل رسول الله ﷺ؟"
قالوا: "خيرًا، هو بحمد الله كما تحبين" قالت: "أرنيه حتى أنظر إليه" فلما رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"
▪وسئل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمإ"
▪وعن زيد بن أسلم قال: خرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحًا في بيت وإذا عجوز تنقش صوفًا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار *** صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار *** يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
تعني النبي ﷺ، فجلس عمر رضي الله عنه يبكي.
▪وروي أن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خدرت رِجلَه فقيل له اذكر أحب الناس إليك يزل عنك فصاح "يا محمداه" فانتشرت وانبسطت.
▪ولما احتضر سيدنا بلال رضي الله عنه نادت امرأته: "واحزناه" فقال: "واطرباه، غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه"
▪ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: "اكشفي لي قبر رسول الله ﷺ"، فكشفته لها فبكت حتى ماتت.
▪ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: "أنشدك الله، يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟" فقال زيد: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا"
▪وورد أن ابن عمر رضي الله عنهما وقف على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله فاستغفر له وقال: "كنت والله ما علمتُ صوَّامًا، قوَّامًا، تحب الله ورسوله"
ومحبته وتعظيمه ﷺ في حياته كمحبته وتعظيمه بعد وفاته، قال إسحاق التجيبي:
▪كان أصحاب النبي ﷺ بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا وكذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا وتوقيرًا.
▪ومن محبته ﷺ محبة كل ما يحبه ﷺ من آله بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم فمن أحب شيئا أحب من يحب، وقد قال ﷺ في الحسن والحسين: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، وفي رواية في الحسن (اللهم إني أحبه فأحب من يحبه)، وقال: (من أحبهما فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغضهما فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله).
▪وقال: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فيحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه).
▪وقال في فاطمة رضي الله عنها: (إنها بضعة مني، يغضبني ما يغضبها).
▪وقال لعائشة رضي الله عنها في أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أحبه فإني أحبه).
▪وقال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم).
هل كلمة عشق تلائم الكلام عن محبته ﷺ؟
نعم، بل إن كلمة عشق هل أكثر كلمة يمكن أن تعبر عن المبالغة في محبة النبي ﷺ، فقد قال أهل اللغة العربية والمعاجم: العشق هو فرط الحب، وهو الحب الشديد، وقيل هو عُجْب المحب بالمحبوب، كما في لسان العرب وغيره.
وسئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشْقِ أَيّهما أَحمد؟ فقال الحُب لأن العِشْقَ فيه إِفراط.
وسمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إِذا قطعت، والعَشَقَةُ شجرة تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ عن الزجاج.
وقال صاحب تاج العروس:
قد ألّف الرّئيسُ ابنُ سينا في العِشْقِ رسالةً وبسَط فيها معْناه وقال: إنّه لا يخْتَصّ بنوْع الإنْسان بل هوَ سارٍ في جَميع الموْجودات: من الفلَكِيّاتِ والعُنْصُريّات والنّباتات والمعْدِنيّات والحَيوانات، وأنّه لا يُدرَك معْناه ولا يُطَّلَع عليه، والتّعْبير عنه يَزيدُه خَفاء، وهو كالحُسْنِ لا يُدرَكُ ولا يُمكن التّعْبير عنه وكالوَزْن في الشِّعرِ وغيرِ ذلِك مما يُحالُ فيه على الأذْواقِ السّليمة والطِّباع المُسْتَقيمة.
ومع كون أن الحب يمكن أن يكون في الخير والشر فإن هناك دائمًا استعمالات مجازية، عفيفة، يعرفها أهل الذوق السليم، والعشق كذلك والهوى وغيرها من عبارات الغرام. فالهوى عند أهل اللغة والمعاجم هو الميل مع الشهوة، وهو ظاهر في قوله تعالى: (ولا تتبع الهوى) وقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، لكنه عند أهل الذوق والروق والأدب والسمو هو منتهى الميل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به).
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يغرق قلوبنا في بحر محبته، ومحبته حبيبه ﷺ ويرزقنا رؤيته منامًا ويقظة في الدنيا، ومعيته في الآخرة، إنه سميع مجيب.
اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية، وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد