الأحد، 1 مارس 2020

لماذا نحتفل بذكرى الإسراء والمعراج؟

ما هي الذكرى؟ هي التفكر والتدبر في التاريخ لاستلهام الدروس والعبر، وهي من خصائص المؤمنين أولي الأبصار وأولي الألباب الممدوحين في كتاب الله عز وجل حيث قال سبحانه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ؟ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، وقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، فقال أحد السلف: "من وجد للذكرى في قلبه موقعًا فليعلم أنه مؤمن". وفي التاريخ تذكير بنعم الله ووآلائه وفضله، وفيه ذكر آياته الكبرى كما قال تعالى لموسى عليه السلام: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي ذكِّر قومك بفضله تعالى ونعمه عليهم وإنجائهم من فرعون وملأه وبمعجزة فلق البحر لهم.
وتمر علينا ذكرى الإسراء والمعراج وما فيها من العجائب والحكم والعبر والآيات، ولعل من إشارات ذلك أن الحق سبحانه وتعالى استهل كلامه عنها بـ"سبحان" فقال تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا). وأعظم ما في هذه الذكرى العجيبة هو خرق الحجاب وشهود المخلوق للخالق عز وجل ممثلًا في سيدنا محمد ﷺ وما يدل عليه ذلك من العظمة والتفرد والخصوصية التي حظي بها نبيُّنا ﷺ، فإن موسى عليه السلام طلب الرؤية فقال له الله تعالى: (لَن تَرَانِي)، بينما رآه النبي ﷺ في تلك الليلة كما في صحيح مسلم: "رأيتُ نورًا"، وقال رسول الله ﷺ: "رأيت ربي عز وجل" أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي ﷺ رأى ربه بعينه، وأخرج النسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أتعجبون أن تكون الخُلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد ﷺ؟ِ"، وعن أنس رضي الله عنه قال: "أن محمدًا ﷺ رأى ربه عز وجل"، وروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي قلت للإمام أحمد بن حنبل إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قولها؟ قال بقول النبي ﷺ "رأيت ربي"، وقول النبي ﷺ أكبر من قولها، وكان الإمام أحمد ممن يثبت الرؤية، وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله (ولقد رآه نزلة أخرى): "قد رأى النبي ﷺ ربه عز وجل". وفي هذه الذكرى أيضًا إشارة إلى تميز البصر المحمدي الخاص عن بصر عامة الناس، فالإسراء كان ليلًا، وفي السابع والعشرين من رجب كما ذهب إلى ذلك الجمهور، وهي ليلة مظلمة، ومع ذلك حكى ما حكى من عجائب ما رآه في الملك والملكوت، ووصف قافلة قريش وما حصل لها وكأن ذلك كان نهارًا! حكى كل ذلك ولم يُروَ في أحاديث الإسراء أنه ﷺ كان يحمل قنديلًا أو مصباحًا! ولا غرو، فخصوصية البصر المحمدي ثابته، ففي صحيح البخاري قال ﷺ: «أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري»! فمن مثله ﷺ يرى من خلفه كما يرى من أمامه؟!
إن المؤمنين أولي الألباب الذين تعرضوا لنفحات شهر رجبٍ المبارك، أحد الأشهر الحرم ذات الثواب المضاعف، عليهم أن يغتنموا ذكرى هذه الليلة التي أسري فيها برسول الله ﷺ روحًا وجسدًا من أول بيت وضع للناس إلى ثاني بيت، إلى المسجد الأقصى فأمَّ أنبياء الله جميعًا إشارة إلى سيادته عليهم، ثم عرج به إلى السماء العلية لشهود ربه جلَّ وعلا ثم عاد وفراشه لم يفقد دفئه. أحيوها بذكر الله عز وجل والثناء عليه وحمده وشكره على ما منَّ به علينا من نعمة الإتباع لهذا النبي العظيم ﷺ، وبتدارس تلك الذكرى العظيمة والاعتبار بما فيها من الحكم والآيات والعجائب. احتفلوا بهذه الليلة الكبرى لأنها تستحق، فعجائبها لا تحصى ولا تعد، فاقت عجائب غيرها من معجزات الأنبياء والقصص القرءاني، وليس في الاحتفال بها بدعة، لأن البدعة عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف تنقسم إلى حسنة سيئة، والبدعة الحسنة هي ما كان لها أصل من الدين يدل عليها، وقد تقدم في هذا المقال التأصيل لهذه الذكرى. 
واللبيب يدرك إن السنن الحسنة دائمًا ما ترتبط بواقع الناس في كل عصر وبحاجات الأمة المتجددة، فما جُمع القرءان إلا عندما خِيف على القراء الهلاك، وما نقِّط المصحف إلا عندما دخل الأعاجم في الإسلام وخِيف على القرءان اللحن، والآن لم يُندب مثل هذه الاحتفال إلا لأن الناس انشغلت وبعدت وتكاثرت عليها المُلهيات في الفضائيات والإنترنت والهواتف المحمولة والحياة العصرية، فيحسن عندئذٍ تذكيرها بأيام الله متى ما كان إلى ذلك من سبيل. وبهذا الفهم تقبَّلت الأمة أمورًا دينية كثيرة لم تكن في صدر الإسلام الأول كصلاة التهجد في في العشر الأواخر من رمضان في جماعة، وكالأسابيع الدعوية، والمؤتمرات الإسلامية، والمسابقات الدينية، بل وحتى نيل الدرجات العلمية الغربية في الدراسات الإسلامية، كالدكتوراة، والماجستير، والبكالريوس والدبلوم وغير ذلك.
إن كانت دوامة الحياة المادية المعاصرة قد جرفتنا فلتكن هذه الذكرى فرصة لأن نستريح من عناء ذلك التفكير المادي الدخيل ونسرح في عالم عجائب قدرة الله، ونحكي لأطفالنا قصص وعجائب الإسراء والمعراج، فنحبب إليهم سيرة المصطفى ﷺ، ونكلمهم عن عظمة نبيهم ﷺ الذي عرج به إلى العرش المجيد وعاد في كسر من الثانية!! لنوسع مداركهم بأن هذا الكون هو خلق عظيم، وفيه سكان عظماء، ففي كل سماء أنبياء وملائكة وأرواح، وشؤون وحضرات، وأن المسافة بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. أخرجوهم من ضيق المادة إلى سعة المعنى، فالإيمان ليس ماديات، الإيمان ينفذ إلى ما وراء المادة، إلى الإيمان بالغيب، وهذا ما يمير المؤمن من الكافر.