الجمعة، 2 أكتوبر 2015

مناظرة سيدنا عبد الله بن عباس للخوارج - نفس الآفة في خوارج العصر: سوء فهم كتاب الله تعالى

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لَمَّا خرجت الحَرُوريَّة - الذين خرجوا على سيدنا علي- اعتَزلُوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف، فقلت لعلي -رضي الله عنه وكرم الله وجهه: يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم.
 قال: إني أخافهم عليك.
 قلت:   كلاَّ إن شاء الله، فلَبِستُ أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، وترجَّلتُ، ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكُلون -هكذا في مُعظَم الروايات، وفيه رواية: وهم قائلون- في نحر الظهيرة.
 فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟
قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسنَ ما يكون من الحُلَل ونزلت: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾.
 قالوا: فما جاء بك؟
قلت لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ، لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.
 فقال بعضهم: لا تُخاصِموا قريشًا فإن الله يقول: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾.
قال ابن عباس: وما أتيت قومًا قطُّ أشد اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى مَن حضر.
 فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول.
قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وابن عمِّه.

قالوا: ثلاث.
قلت: ما هن؟
قال: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ ﴾، ما شأن الرجال والحكم؟
قلت: هذه واحدة.
 قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم.
قلت: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟
قالوا: ومَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين!
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت لهم: أرأيتَكُم إن قرأت عليكم من كتاب الله تعالى وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما يردُّ قولكم، أترجعون؟
قالوا: نعم.
قلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله تعالى، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله  تعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾.
وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟
قالوا: بلى بل هذا أفضل.
وقال في المرأة وزوجها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟
قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم.
خرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قلت: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾.
فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض.
أفخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
وأمَّا قولكم: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: «اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله»، فوالله لَرَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار.
(أخرجه النسائي في "الكبرى"، والبيهقي في "الكبرى"، وعبدالرزاق في "مصنفه"، والطبراني في "الكبير"، والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الهيثمي في "مجمع الزوائد").