تعريف المذاهب للبدعة:
المذهب الحنفي:
قال الإمام العلامة التفتزاني (ت 792هـ) في شرح المقاصد: «ومن الجهل من يجعل كل أمر لم يكن في عهد الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحدثات الأمور" ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل من الدين ما ليس منه»
وقال الإمام الحافظ بدر الدين العيني (ت 855 هـ) في شرحه لصحيح البخاري (ج11/126) عند شرحه لقول عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه: "نعمت البدعة" وذلك عندما جمع الناس في التراويح خلف قارىءٍ وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعًا متفرقين: "والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم البدعة على نوعين، إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة" انتهى.
وقال الحافظ عبد الحق الدهلوي (ت 1052هـ) في شرح المشكاة: "اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة" أهـ
وقال الشيخ ابن عابدين الحنفي (ت 1252هـ) في حاشيته (1/376): "فقد تكون البدعة واجبة كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلّم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب"انتهى.
المذهب المالكي:
قال الإمام الحافظ ابن عبد البر (ت 463هـ) في الاستذكار 2/68 : "وأما قول عمر نعمت البدعة، في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه، فما كان من ذلك في الدين خلافًا للسنة التي مضى عليها العمل فتلك بدعة لا خير فيها وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه، وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة فتلك نعمت البدعة كما قال عمر لأن أصل ما فعله سنة، وكذلك قال عبد الله بن عمر في صلاة الضحى وكان لا يعرفها وكان يقول وللضحى صلاة؟ وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن الجريري عن الحكم عن الأعرج قال سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ونعمت البدعة" اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن العربي المالكي (ت 543هـ) في شرحه على سنن الترمذي:
"اعلموا علمكم الله أن المحدثات على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعاً. ومحدث بحمل النظير على النظير، فهذه سنة الخلفاء، والأئمة الفضلاء، وليس المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة ولا لمعناها، فقد قال تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقال عمر:»نعمت البدعة هذه« وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة". انتهى.
وقال القرافي (ت 648 هـ) في "الفروق" (4/203): "اعلم أنَّ الأصحاب فيما رأيت متَّفقون على إنكار البدع، والحقُّ التفصيل أنَّها خمسة أقسام" أهـ
وقال الإمام الحافظ المفسر أبو عبد الله القرطبي (ت 671هـ) في "أحكام القران"عند قوله تعالى "بديع السموات" 2/84: "وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه اصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري ونعمت البدعة هذه يعني قيام رمضان.
الثانية: كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض رسوله عيه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجوداً كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهي في حيز الذم والإنكار قال معناه الخطابي وغيره. قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره". انتهى
وقال محمد الزرقاني المالكي (ت 1122هـ) في شرحه للموطأ (ج1/238) عند شرحه لقول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: "نعمت البدعة هذه" فسماها بدعة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يسنّ الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق، وهي لغة ما أُحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعًا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى اللّه عليه وسلم، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
وقال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914هـ)المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: "وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام"، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: "فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بـها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة"، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم".اهـ
المذهب الشافعي:
قال الشافعي رضي الله عنه (ت 204هـ): المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267).
وروى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء ج 9 ص76 عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال الامام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"
وقال أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) في كتابه إحياء علوم الدين، كتاب ءاداب الأكل ج2/3 ما نصه: "وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن الأثير (ت 630هـ) في النهاية: «البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح، ومالم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها.. وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثَّل للبدعة الحسنة بقول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة ثم قال: وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وقوله: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.».
وقال: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سنّة، وعلى هذا التأويل يحمل حديث "كل محدثة بدعة" على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة».
وقال العز بن عبد السلام (ت 660هـ) في كتابه "قواعد الأحكام" (ج2/172-174) : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، انتهى.
وقال الإمام الحافظ العلامة أبو شامة المقدسي (ت 665هـ) في (الباعث على إنكار البدع والحوادث):
"فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والآستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا وَهِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى"
وقال أيضًا:
"البدعة: الحدث، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مما فعله، أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير. وفي معنى ذلك: ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وكذا ما اختلفوا فيه، فإن اختلافهم رحمة مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ، وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع. وتعريفه هذا جامعٌ، وليس مانعاً؛ إذ فعلُ الصحابيِّ في عهد التنزيل يُعتبر إحداثاً، فإن أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، صار سُنَّة، وبعد انقطاع الوحي أصبح إحداثهم بدعة حسنة مقيسة على الكتاب والسنة، فيعتبرُ سنة حسنة من وجهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سنَّ سُنَّةً حسنةً ... الحديث. فبهذا تقرَّر بأنه غير مانعٍ لورود ما ذكرنا عليه." أهـ
وقال النووى (ت 676هـ) فى شرحه على صحيح مسلم"(6/154-155): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد: غالب البدع. قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة: نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرّبط وغير ذلك. ومن المباح: التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلَّتها المبسوطة في (تـهذيب الأسماء واللُّغات) فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التّـَراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله: (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـــــــ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ} [الأحقاف،ءاية 25]اهـ
وقال النووي أيضا "في شرحه على صحيح مسلم"(16/226-227) : قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة.اهـ
وقـال الإمام الحافظ تقي الدين السبكي (ت 756هـ): "البدعة فـي الشرع إنما يراد بها الأمر الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيداً، فيقال: بدعة هدى، وبدعة ضلالة". انتهى
وقال الإمام الكرماني (ت 786هـ) في شرحه للبخاري: "البدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وهي خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة. وحديث (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص" أهـ.
وقال الإمام المحدث الفقيه بدر الدين الزركشي (ت 794هـ) في المنثور في القواعد 1/217: "البدعة : قال ابن درستويه هي في اللغة إحداث سنة لم تكن وتكون في الخير والشر ومنه قولهم فلان بدعة إذا كان مجاوزًا في حذقه، وجعل منه ابن فارس في المقاييس قوله تعالى (قل ما كنت بدعًا من الرسل) أي أول. فأما في الشرع فموضوعه للحادث المذموم، وإذا أريد الممدوح قيدت ويكون ذلك مجازًا شرعيًا، حقيقة لغوية، وفي الحديث كل بدعة ضلالة" أهـ
وقال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في الفتح (ج4/298):
قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، المـجلد الثاني، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: "وكل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك" اهـ.
وقال في الفتح أيضًا 13/254: "والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام ". اهـ
وقول الحافظ (عام) أي أنه لا دليل عليه بخصوصه ولكن دل الدليل على أصله.
المذهب الحنبلي:
قال الحافظ الجوزي الحنبلي (ت 597هـ):
"البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: اجمع القرآن. كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال ابن الجوزي: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا مالم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا بفعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فقال: نعمت البدعة هذه". انتهى.
وقال أيضًا في تلبيس إبليس 1/26 : "قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا كما روى أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنهما فلما خرج فرآهم قال نعمت البدعة هذه لأن صلاة الجماعة مشروعة وإنما قال الحسن في القصص نعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مستجابة لأن الوعظ مشروع" أهـ
وقال أيضًا: "ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم، فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة وإن كانت مضادة فهي أعظم، فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له ولهذا استتروا ببدعتهم ولم يكتم أهل السنة مذهبهم فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم". اهـ
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت 709 هـ) في كتابه "المطلع على أبواب المقنع" (ص334) من كتاب الطلاق: "والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة"اهـ.
وقال ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ): «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة»
وقال ابن تيمية (ت 728هـ) في "درء تعارض العقل والنقل" 1/248: "فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: البدعة بدعتان بدعة، خالفت كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول (عمر نعمت البدعة هذه) هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل" اهـ
وقال المباركفوري (1334 هـ) في "تحفة الأحوذي": "والمراد بالبدعة: ما أُحدث ممَّا لا أصل َله في الشريعة يدلُّ عليه، وأمَّا ما كان له أصل من الشَّرْع يدلُّ عليه، فليس ببدعة شَرْعًا". أهـ
المذهب الظاهري:
قال الحافظ علي بن محمد بن حزم (ت 456هـ):
"البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: «نعمة البدعة هذه» وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به". انتهى.
المذهب الحنفي:
قال الإمام العلامة التفتزاني (ت 792هـ) في شرح المقاصد: «ومن الجهل من يجعل كل أمر لم يكن في عهد الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحدثات الأمور" ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل من الدين ما ليس منه»
وقال الإمام الحافظ بدر الدين العيني (ت 855 هـ) في شرحه لصحيح البخاري (ج11/126) عند شرحه لقول عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه: "نعمت البدعة" وذلك عندما جمع الناس في التراويح خلف قارىءٍ وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعًا متفرقين: "والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم البدعة على نوعين، إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة" انتهى.
وقال الحافظ عبد الحق الدهلوي (ت 1052هـ) في شرح المشكاة: "اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة" أهـ
وقال الشيخ ابن عابدين الحنفي (ت 1252هـ) في حاشيته (1/376): "فقد تكون البدعة واجبة كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلّم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب"انتهى.
المذهب المالكي:
قال الإمام الحافظ ابن عبد البر (ت 463هـ) في الاستذكار 2/68 : "وأما قول عمر نعمت البدعة، في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه، فما كان من ذلك في الدين خلافًا للسنة التي مضى عليها العمل فتلك بدعة لا خير فيها وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه، وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة فتلك نعمت البدعة كما قال عمر لأن أصل ما فعله سنة، وكذلك قال عبد الله بن عمر في صلاة الضحى وكان لا يعرفها وكان يقول وللضحى صلاة؟ وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن الجريري عن الحكم عن الأعرج قال سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ونعمت البدعة" اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن العربي المالكي (ت 543هـ) في شرحه على سنن الترمذي:
"اعلموا علمكم الله أن المحدثات على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعاً. ومحدث بحمل النظير على النظير، فهذه سنة الخلفاء، والأئمة الفضلاء، وليس المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة ولا لمعناها، فقد قال تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقال عمر:»نعمت البدعة هذه« وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة". انتهى.
وقال القرافي (ت 648 هـ) في "الفروق" (4/203): "اعلم أنَّ الأصحاب فيما رأيت متَّفقون على إنكار البدع، والحقُّ التفصيل أنَّها خمسة أقسام" أهـ
وقال الإمام الحافظ المفسر أبو عبد الله القرطبي (ت 671هـ) في "أحكام القران"عند قوله تعالى "بديع السموات" 2/84: "وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه اصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري ونعمت البدعة هذه يعني قيام رمضان.
الثانية: كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض رسوله عيه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجوداً كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهي في حيز الذم والإنكار قال معناه الخطابي وغيره. قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره". انتهى
وقال محمد الزرقاني المالكي (ت 1122هـ) في شرحه للموطأ (ج1/238) عند شرحه لقول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: "نعمت البدعة هذه" فسماها بدعة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يسنّ الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق، وهي لغة ما أُحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعًا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى اللّه عليه وسلم، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
وقال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914هـ)المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: "وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام"، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: "فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بـها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة"، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم".اهـ
المذهب الشافعي:
قال الشافعي رضي الله عنه (ت 204هـ): المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267).
وروى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء ج 9 ص76 عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال الامام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"
وقال أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) في كتابه إحياء علوم الدين، كتاب ءاداب الأكل ج2/3 ما نصه: "وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن الأثير (ت 630هـ) في النهاية: «البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح، ومالم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها.. وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثَّل للبدعة الحسنة بقول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة ثم قال: وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وقوله: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.».
وقال: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سنّة، وعلى هذا التأويل يحمل حديث "كل محدثة بدعة" على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة».
وقال العز بن عبد السلام (ت 660هـ) في كتابه "قواعد الأحكام" (ج2/172-174) : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، انتهى.
وقال الإمام الحافظ العلامة أبو شامة المقدسي (ت 665هـ) في (الباعث على إنكار البدع والحوادث):
"فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والآستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا وَهِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى"
وقال أيضًا:
"البدعة: الحدث، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مما فعله، أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير. وفي معنى ذلك: ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وكذا ما اختلفوا فيه، فإن اختلافهم رحمة مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ، وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع. وتعريفه هذا جامعٌ، وليس مانعاً؛ إذ فعلُ الصحابيِّ في عهد التنزيل يُعتبر إحداثاً، فإن أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، صار سُنَّة، وبعد انقطاع الوحي أصبح إحداثهم بدعة حسنة مقيسة على الكتاب والسنة، فيعتبرُ سنة حسنة من وجهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سنَّ سُنَّةً حسنةً ... الحديث. فبهذا تقرَّر بأنه غير مانعٍ لورود ما ذكرنا عليه." أهـ
وقال النووى (ت 676هـ) فى شرحه على صحيح مسلم"(6/154-155): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد: غالب البدع. قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة: نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرّبط وغير ذلك. ومن المباح: التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلَّتها المبسوطة في (تـهذيب الأسماء واللُّغات) فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التّـَراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله: (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـــــــ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ} [الأحقاف،ءاية 25]اهـ
وقال النووي أيضا "في شرحه على صحيح مسلم"(16/226-227) : قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة.اهـ
وقـال الإمام الحافظ تقي الدين السبكي (ت 756هـ): "البدعة فـي الشرع إنما يراد بها الأمر الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيداً، فيقال: بدعة هدى، وبدعة ضلالة". انتهى
وقال الإمام الكرماني (ت 786هـ) في شرحه للبخاري: "البدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وهي خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة. وحديث (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص" أهـ.
وقال الإمام المحدث الفقيه بدر الدين الزركشي (ت 794هـ) في المنثور في القواعد 1/217: "البدعة : قال ابن درستويه هي في اللغة إحداث سنة لم تكن وتكون في الخير والشر ومنه قولهم فلان بدعة إذا كان مجاوزًا في حذقه، وجعل منه ابن فارس في المقاييس قوله تعالى (قل ما كنت بدعًا من الرسل) أي أول. فأما في الشرع فموضوعه للحادث المذموم، وإذا أريد الممدوح قيدت ويكون ذلك مجازًا شرعيًا، حقيقة لغوية، وفي الحديث كل بدعة ضلالة" أهـ
وقال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في الفتح (ج4/298):
قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، المـجلد الثاني، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: "وكل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك" اهـ.
وقال في الفتح أيضًا 13/254: "والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام ". اهـ
وقول الحافظ (عام) أي أنه لا دليل عليه بخصوصه ولكن دل الدليل على أصله.
المذهب الحنبلي:
قال الحافظ الجوزي الحنبلي (ت 597هـ):
"البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: اجمع القرآن. كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال ابن الجوزي: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا مالم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا بفعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فقال: نعمت البدعة هذه". انتهى.
وقال أيضًا في تلبيس إبليس 1/26 : "قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا كما روى أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنهما فلما خرج فرآهم قال نعمت البدعة هذه لأن صلاة الجماعة مشروعة وإنما قال الحسن في القصص نعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مستجابة لأن الوعظ مشروع" أهـ
وقال أيضًا: "ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم، فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة وإن كانت مضادة فهي أعظم، فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له ولهذا استتروا ببدعتهم ولم يكتم أهل السنة مذهبهم فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم". اهـ
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت 709 هـ) في كتابه "المطلع على أبواب المقنع" (ص334) من كتاب الطلاق: "والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة"اهـ.
وقال ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ): «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة»
وقال ابن تيمية (ت 728هـ) في "درء تعارض العقل والنقل" 1/248: "فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: البدعة بدعتان بدعة، خالفت كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول (عمر نعمت البدعة هذه) هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل" اهـ
وقال المباركفوري (1334 هـ) في "تحفة الأحوذي": "والمراد بالبدعة: ما أُحدث ممَّا لا أصل َله في الشريعة يدلُّ عليه، وأمَّا ما كان له أصل من الشَّرْع يدلُّ عليه، فليس ببدعة شَرْعًا". أهـ
المذهب الظاهري:
قال الحافظ علي بن محمد بن حزم (ت 456هـ):
"البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: «نعمة البدعة هذه» وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به". انتهى.