الاثنين، 21 ديسمبر 2015

الرد على بدر بن محمد البدر العنزي، عضو الدعوة والإرشاد بحفر الباطن

من أنفع الرسائل التي وجدت حظها في الانتشار في شبكات التواصل الإجتماعي هذا الموسم من المولد النبوي الشريف (1437هـ) رسالة في تأصيل عمل المولد مفيدة كتبها سماحة الشيخ عبد الرحيم الركيني، واختار لها اسمًا رائعًا: (نعم نحتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم). اشتملت على تأصيل جيد لعمل المولد، موافق لما عليه جمهور علماء المسلمين في هذه المسألة وموافق لما أفتت به غالبية دور الفتوى في الدول العربية والإسلامية. وزيَّنها سمحاته وأضاف عليها لمسة زهدية عندما تناول فيها طرفًا من أحوال السلف الصالح عندما يذكر فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلها مما أورده القاضي عياض في كتابه الذي لا غنى لمسلم عن فوائده "الشفاء"، فجزاه الله تبارك وتعالى عن المسلمين خير الجزاء.
ثم وجدت أن هذه الرسالة قد أحدث ضجة واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي،فرأيت عددًا من الناس الذين يناهضون ذكرى المولد يردون عليها بجهل وتحامل لا يمكن التغافل عنه وتجاهله. ولما رأيت ذلك آليت على نفسي أن أكتب متعقبًا هذه الردود المتهافتة بكل علمية وموضوعية.
وقبل أن ندلج إلى تفاصيل الردود وتفنيدها، أريد أن أشير هنا إلى أمور مهمة وهي:
1/أن طوائف من المتأخرين المنتسبين إلى العلماء، والذين هم بطبيعة الحال عالة على من سبقهم من أهل العلم، بلغ بهم كِبَر النَّفس الناتج من تعظيم أتباعهم من طلبة العلم وعامة الناس لهم، أن جعلهم يظنون أنفسهم أعلم من سلفهم، بل ومن سلف هذه الأمة أصحاب القرون المفضلة، ومن وأئمتها وعلمائها الأكابر. ويظهر هذا جليًّا في تعمدهم تجاهل آراء معتبرة، مسندة بالحجية الكافية، صدرت من علماء هم بمثابة المراجع في هذا المضمار، والتجاسر عليها بالرأي والهوى. وهذا أمر خطير إذا ما سُكت عليه، لأنه يقوض الأساس العلمي الذي تستند عليه الأمة في تأصيل مسائلها المعاصرة. فعندما تجد على سبيل المثال من يضرب بفهم الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ وهو الآن يعيش في سنة 1437هـ، وبينهما أكثر من 12 قرنًا ثم لا يعطي ذلك الإمام الهُمام حقه في العلم والورع والسبق ولا يعطي فهمه حظه من النظر والاعتبار فأي مستقبل ننشد بهذا المسلك الغريب؟! وأي منهجية علمية نتبع في مسائلنا الدينية بعد كل هذه السنين الطويلة التي تفصلنا عن الصدر الأول؟! وأي حق ننشد في ظل هكذا واقع إذا كنا نلِّغب الهوى على الرأي السديد؟ وأي خلل أصابنا لنقدم رأي المفضول على الفاضل، وعلى الفقيه الحجة الإمام الحافظ رأي الجاهل؟!
2/ أن الاختلاف يرجع في أغلب حالاته إلى اختلافٍ في فهم النصوص أكثر من كونه اختلافًا على النص نفسه، لذلك يستعان بفهم السلف للنصوص على تأصيل المسائل المعاصرة، ففي المسائل الدينية يكون للعبارات معانٍ لغوية لا تكون مقصودة عادةً، ويكون لها معانٍ أخرى في اصطلاح العلماء هي المقصودة، ثم إن هذه المعاني نفسها تتغير كثيرًا بمرور الزمان. لذلك يجب الانتباه إلى المعنى أكثر من العبارة.
3/ الفرق الكبير بين الرواية والدراية هو أن الرواية لا تقتضي الفهم، فالرواي في كثير من الحالات ما لم يكن عارفًا بالعربية، متدبرًا فقيهًا شارحًا مطَّلعًا ومصنفًِّا في العلوم يكون كالمسجل. روى ابن عدي في الكامل بسنده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نورٌ يجعله الله تعالى في القلب) وأخرج الخطيب في "نصيحة أهل الحديث" بسنده عن محمد بن عبيد أنه قال: (جاء رجلٌ وافر اللحية إلى الأعمش، فسأله عن مسألة من مسائل الصبيان، يحفظها الصبيان، فالتفت إلينا الأعمش فقال: "انظروا إلى لحيته تحتمل حفظ أربعة الأف حديث، ومسألته مسألة الصبيان")!!، وبسنده أيضًا عن عُبيد الله بن عمرو أنه قال: (جاء رجل إلى الأعمش فسأله عن مسألة وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نعمان قل فيها، فأجابه، فقال الأعمش: من أين قلت هذا؟ فقال: من حديثك الذي حدثتناه، قال: نعم نحن صيادلة وأنتم أطباء").
لذلك يجب العناية بالفقهاء والشراح والمفكرين ومدارسة كتبهم وصرف الانتباه تلقاءهم أكثر من العكوف على النصوص وفهمها على ظاهرها، لأن اللغة العربية حمالة أوجه، مفعمة بالمعاني المجازية والصور البيانية، والنص بدون فهم سليم يكون قليل النفع هذا إن لم يكن ضارًّا.
4/ عند بسط الحجة والدليل، يكون رأي الجمهور دائمًا هو الأرجح، وهو الأسلم للمقلِّد غير المتمكن من النظر في الأدلة الشرعية. فليس كل الناس بوسعه أن يكون فقيهًا وعالم دين ومتمكنًا من النظر في الأدلة الشرعية والترجيح بينها، فهناك الطبيب، والجزار، الحلاق، والميكانيكي، .. إلخ وغيرهم من أصحاب المهن، الذين لا يجدون متسعًا للتبحر في العلوم الشرعية لأسباب كثيرة قد يكون منها النشأة والتعليم ونمط الحياة وطبيعة العمل والدور الذي يلعبونه في الحياة،لكنهم مأمورون بتعلم القدر الذي يصح به تدينهم وعباداتهم ومعاملاتهم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، دون الخوض في الأدلة الشرعية، تكفيهم الأحكام، ولنا في سيرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه الأسوة الحسنة.
5/ يجوز أن يقع للحق أكثر من وجه، ولعل أظهر مثال على هذا هو قوله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: (لا يصلين أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة)، فتخوَّف ناس فوت الوقت فصلُّوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال فما عنَّف واحدًا من الفريقين. لذلك فعلى المسلم أن يوسِّع فكره ليستوعب أن الحق يمكن أن يكون معه ومع غيره في آن واحد، وإن بدا الاختلاف ظاهرًا.
6/ من أظهر صور البدع في هذا الزمان تصوير الإسلام على أنه دين جامد فظٌّ غليظ غير قادر على مواكبة عجلة الحياة ولا مسايرة التطور، وغير صالح إلا في أمكنة وأزمنة معينة، وأبشع هذه البدع الضلالات التي يتغافل العلماء التشنيع عليها الإدعاء على الناس بالكفر والشرك والبدعة، فكل هذه الأمور المحدثة لم تشتد إلا في عصور متأخرة.

الآن ندلف إلى الرد على المعترض.
1. قال: " أولاً: هل استدل أحد من الأئمة بهذه الآيات على مشروعية المولد؟! ، وهل فسر أحد من المفسرين المعتبرين هذه الآيات بهذا التفسير الذي ذكرته!؟"
قلت: فسرها بهذا المعنى ابن الجوزي في زاد المسير، وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط والسيوطي في الدر المنثور. وإذا كان الله قد نبه إلى الفرح بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه الذي اجتمع فيه فضل الله (وكان فضل الله عليك عظيمًا) ورحمته (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، والقرءان الذي نزل عليه والإسلام الذي دعا إليه، كان المولد خير وسيلة للتذكير بمآثر هذا النبي العظيم وإحياء سيرته وبيان أخلاقه وأوصافه وشمائله.
2. قال: " هل الاحتفال بالمولد عبادة أم عادة؟
إن قلت: عبادة.
فقد رددت كلام الله ، قال تعالى (اليوم أكملت لكمـ دينكمـ وأتممت عليكمـ نعمتي)
الشريعة كاملة من عند الله فليست بحاجة إلى تكميل من البشر ،
والأصل في باب العبادات التوقيف فمن قال: إن هذه العبادة مشروعة فعليه أن يأتي بالدليل الشرعي الدال على مشروعيتها وإلا فهي مردودة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام(مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
رواه البخاري(٢٦٩٧) ومسلم(١٧١٨)
وإن قلت: إن الاحتفال به عادة لا عبادة.
يرد عليك بقول النبي عليه الصلاة والسلام
(مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري(٢٦٩٧) ومسلم(١٧١٨)"
قلت: هذا التعليق يدل على جهل الرجل جهلًا مركبًا، ولا أدرى كيف صار عضوًا الدعوة والإرشاد؟ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، لكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص. إن تقسيم أحكام الشريعة إلى عادة وعبادة تقسيم مبتدع فاسد، لإنك إن سئلت عن الطعام والشراب، هل هو عادة أم عبادة؟ فلن تستطيع الإجابة لأنه ليس عبادة بالمطلق ولا عادة بالمطلق، إن قلت عبادة بالمطلق كان الكفار والدواب وكل ما يأكل ويشرب عابدًا لله تعالى به، وإن قلت عادة فجاز لك أن تأكل الخنزير والميتة وتشرب الخمر وكل مسكر، وهكذا لا يقوله به عاقل.
قسم أهل العلم أحكام الشريعة للأحكام الخمسة المعروفة: الحلال والمستحب والحرام والمكروه والمباح وهي تستوعب كل الأحكام، فمن الطعام ما هو حلال كالأنعام ومستحب كالتمر والزيتون وكل ما رود في القرءان الكريم والسنة المطهرة، والحرام كلحم الخنزير والميتة، والمكروه كالبصل والثوم والكراث، ومباح كسائر الطعام الذي لم يرد فيه نهي أو تحريم.
أما كلامه عن الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم) فإنها لم تكن آخر ما نزل من الكتاب العزيز ولا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات، ومعلوم أن نطقه وحي: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)، وفعله وتقريره كلها سنن. ثم إن الذي اكتمل بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم هو أركان الدين وأصوله، وبقيت فروع لم يزل الباب فيها مفتوحًا إلى يوم القيامة بأمر الشارع سبحانه وتعالى، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بالعض على سنة الخلفاء الراشدين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بالنواجذ، فلو كان الدين اكتمل بانتقاله بالمعنى السطحي فما الحاجة إلى سنة الخلفاء الراشدين؟!بل إنه صلى الله عليه وسلم مضى إلى أبعد من ذلك فحث المسلمين على السنن الحسنة بشكل عام كما سيأتي إن شاء الله. النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح باب الإجتهاد إلى يوم القيامة، وجعل للمجتهد المصيب أجران وللمخطيء أجر واحد، ولم يفسر الآيات المقطعة في بداية السور، ولم يفسر الإعجاز العلمي كله في القرءان الكريم والسنة المطهرة، وذكر أن القرءان لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة، .. إلخ وغير ذلك مما يشير إلى مرونة هذه الرسالة الخاتمة وصلاحها لكل زمان ومكان.
16. اعترض على فهم البدعة فقال: " واضح من كلامه أنه لا يعرف ما هو تعريف البدعة ، وهذا ليس بغريب على أصحاب الجهل المركب.
البدعة لغة: مأخوذة من البَدع ، وهو الاختراع على غير مثال سابق.
واصطلاحاً: إحداث عبادة قولية أو فعلية أو عقيدة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى.
وأما حديث: (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)
رواه الدارقطني في سننه(٤٣٩٦) عن مكحول عن أبي ثعلبة رضي الله عنه ، ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة ، وقد أعله الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (٢/١٥٠).
والحديث ليس فيه دلالة على مشروعية المولد ، كما ادعى الركيني ، وهذا من عجيب صنيعه ،
الحديث فيه بيان أن المسكوت عنه مباح ، والمباح نوعان ، كما هو معلوم في علم الأصول ،
النوع الأول: مباح باقٍ على إباحته.
والنوع الثاني: مباح غير باقٍ على إباحته.
وهو ما خرج عن الإباحة بسبب من الأسباب
والموالد فيها تشبه بالكفار ، لأن النصارى يحتفلون بعيد عيسى عليه السلام ، والتشبه بالكفار محرم.
فالحديث ليس فيه ما يؤيد كلام الركيني."
قلت: ويظهر الكاتب جهله التام بالبدعة عند السلف وجمهور علماء المسلمين.
قال الإمام الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله تعالى: " المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267)."
و روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء عنه أيضًا رحمه الله تعالى قوله: "البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال الامام أبو سليمان الخطَّابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنيًّا على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"أهـ.
قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في الفتح (ج4/298): (قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة).أهـ
أما كلامه عن المباح فحديث الدارقطني حسن، قال الحافظ في الفتح: "ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن ينسى شيئا ثم تلا هذه الآية وما كان ربك نسيا، وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي وآخر من حديث بن عباس أخرجه أبو داود"، وحسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه وقال: "هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين، قال: وحكي عن بعضهم أنه قال: ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة.
قال ابن السمعاني: فمن عمل بهذا الحديث، فقد حاز الثواب، وأمن العقاب؛ لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث" انتهى.
فالحديث ثابت يصلح للاحتجاج. فكيف يقول: "والحديث ليس فيه دلالة على مشروعية المولد، كما ادعى الركيني ، وهذا من عجيب صنيعه"؟!!! فكل مباح هو مشروع لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
3. أنكر وجود البدعة الحسنة، فقال: " ليس في الشرع بدعة حسنة وبدعة سيئة
بل كل بدعة ضلالة ، كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال:( فإن كل بدعة ضلالة)
رواه أحمد(١٧١٤٢) وأبو داود(٤٦٠٧)وصححه الترمذي(٢٦٧٦) وابن حبان(٥) والحاكم(١/٩٧)
ولفظة (كل) من ألفاظ العموم كما هو المعلوم في علم أصول الفقه.
وقال ابن عمر رضي الله عنها ( كل بدعة ضلالة وإن رأها الناس حسنة) رواه ابن بطة في الإبانة(١٢٠)
وقال الإمام الشاطبي في الإعتصام(١/٤٩):
قال ابن الماجشون سمعت مالكاً يقول من ابتدع في الاسلام بدعة يراها حسنه فقد زعم أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – خان الرسالة لأن الله يقول: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.اهـ
قال العلامة الفوزان في عقيدة التوحيد(٢١٧):
من قسّم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ،
فهو مخطئ ومخالف لقوله عليه الصلاة والسلام
(فإن كل بدعة ضلالة) لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حكم على البدع كلها بأنها ضلالة.اهـ"
قلت: أولًا أهل العلم على أن البدعة مقسمة إلى محمودة ومذمومة بدليل قول سيدنا عمر عن صلاة التراويح "نعمت البدعة" فلو كانت كل بدعة ضلالة لما أثنى رضي الله عنه على بدعة أبدًا. ونقل هذا الرأي عن جمهور من أهل العلم على رأسهم الإمام الشافعي والإمام الخطابي والإمام أبو شامة المقدسي والإمام النووي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي والإمام ابن رجب الحنبلي والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام بدر الدين العيني والإمام الونشريسي والإمام السيوطي ، وخلق كثير.
روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء ج 9 ص76 عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
قال الامام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) َرحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"أهـ
و قال الإمام الحافظ العلامة أبو شامة المقدسي [ت 665هـ] في (الباعث على إنكار البدع والحوادث):
"فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والآستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا وَهِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى"أهـ.
قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي في كتابه "المطلع على أبواب المقنع" (ص334) من كتاب الطلاق: "والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة"اهـ.
قال ابن رجب الحنبلي: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة»

وفي هذا بيان لتعريف البدعة ومفهومها عند السلف وأهل العلم، ولا اعتبار بجهلاء هذا العصر كالفوزان الذي ما كان له أن يحشره بين هذه الكوكبة من أهل العلم.
4. اعترض على حديث "من سن في الإسلام سنة حسنة"، فنورد له ما قال الإمام الحافظ النووي في شرحه على صحيح مسلم:" قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة."اهـ
5. اعترض على تعظيم القرءان لميلاد الأنبياء فقال: " (والسلام علي يوم ولدت) أي أن الله تعالى سلم عيسى عليه السلام من الشيطان يوم ولادته."
قلت: ذكر ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير: " وقال الحسن البصري: التقى يحيى وعيسى، فقال يحيى لعيسى: أنتَ خير مني، فقال عيسى ليحيى: بل أنت خير مني، سلَّم الله عليك، وأنا سلَّمتُ على نفسي. وقال سعيد بن جبير مثله، إِلا أنه قال: أثنى الله عليك، وأنا أثنيت على نفسي. وقال سفيان بن عيينه: أوحش ما يكون الإِنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسّلامة في المواطن الثلاثة."
فانظر إلى أن السلام من الله تعالى في هذا اليوم كرامة وتعظيم.
17. واعترض على تاريخ الميلاد فقال: " أين السند الصحيح في مولده عليه الصلاة والسلام؟! ، من المعلوم أن أهل العلم تنازعوا في مولده عليه الصلاة والسلام
قيل: التاسع من ربيع الأول ، وقيل الثاني عشر
وقيل غير ذلك.
وأول من خصص مولده بالثاني عشر وأشهره بين الناس هم الفاطميون الشيعة."
قلت: هذا كله هراء كما هو معلوم، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وقيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبى شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الأاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث ، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور."
6. اعترض على تخصيص يوم الأثنين بالتعظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه بمناسبة ذكرى ميلاده، فقال: " ما وجه التعظيم في الحديث؟! ، النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه كان يصوم يوم اثنين لعدة أسباب ، لأنه يوم ولد فيه ويوم بعث فيه ويوم أنزل فيه الوحي."
قلت: في إجابته قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الميلاد لأنه كان سابق لنزول القرءان، ثم اختار الله تبارك وتعالى أن يوافق نزول القرءان يوم الميلاد، واختار تبارك والتعالى الذي لا يسأل عما يفعل أن يوافق هذا اليوم أحداث عظيمة كالإسراء والمعراج والهجرة ودخول المدينة والإنتقال إلى الرفيق الأعلى وعرض الأعمال، أكل هذا سدى ومحض صدفة؟ فأي تعظيم بعد هذا؟!! مالكم كيف تحكمون؟!
قال: " فليس في الحديث دلالة على مشروعية الاحتفال المولد.
النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه كان يصوم يوم الإثنين ولم يخبر أنه كان يحتفل به ، كما يدعي الركيني."
قلت: إذا كان الحافظ أصل لمشروعية الاحتفال بالمولد من حديث صيام يوم عاشوراء، ألا يكون صيام يوم الأثنين الموافق للميلاد أصلًا؟!
قال: " قال تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
فعلامة محبة النبي عليه الصلاة والسلام باتباع سنته ، لا بالإعراض عنها واتباع البدع."
قلت: المحبة أمر قلبي، وهي أصل والإتباع فرعها، لأن المخالفة والمعصية لا تقتضي عدم الإتباع، ألم تر أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ومع ذلك فإن كل مؤمن يحب الله تبارك وتعالى وإن زنى وإن سرق. وفي الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لمدمن خمر ومقترف كبيرة أنه يحب الله ورسوله.
والآية لم تقل: (قل إن كنتم تحبون رسول الله) بل قالت: (قل إن كنتم تحبون الله)، فهي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو واسطة الخلق إلى الله تعالى، فإن الله لن يحب أحدًا حتى يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم ويجيب دعوته.
أما علامة صدق المحبة فالشوق لأن المحبة أمر قلبي. وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "إن من أشد أمتي لي حبًّا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله). أخرج مسلم.
7. اعترض على الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، فقال: " حديث أنس ، ليس فيه دلالة على مشروعية الإحتفال بالمولد ، كما يدعي الركيني.
الحديث استدل به أهل العلم على جواز أن يعق المرء عن نفسه إذا لم يعق عنه والده."
الحديث صحيح صححه الهيثمي في المجمع، وحتى الألباني في "الصحيحة".
أما دلالته على تشريع الإحتفال بالمولد، فقد قال الإمام الحافظ السيوطي: "وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات" أهـ [حسن المقصد في عمل المولد]
8. اعترض على تأصيل المولد من حديث صيام عاشوراء، فقال: " ما وجه الدلالة من صيام يوم عاشوراء بمشروعية الإحتفال بالمولد؟!
ثم صيام يوم عاشوراء صامه النبي عليه الصلاة والسلام وأمر بصيامه ،
والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى
قال سبحانه تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)."
قلت: والله هذا جهل مركب، نكتفي فيه بذكر كلام الحافظ ابن حجر حيث قال: (وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه . فهذا ما يتعلق بأصل عمله .
وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة") أهـ [حسن المقصد في عمل المولد]
9. اعترض على الاجتماع للعلم والذكر في ساحات المولد، فقال: " سبحان الله ما هذا الخلط العجيب ، فإن احداث البدع في المساجد ليس من حلق الذكر ، كما يدعي هذا الصوفي."
قلت: وصف صوفي الذي أراد به ازدراء سماحة الشيخ عبد الرحيم الركيني هو في الأصل مدح، يكفي أنه وصف به الزهاد والصالحين على مر التاريخ ووصف به الحافظ العلامة الكبير أبو نعيم الأصبهاني الصوفي، صاحب الحلية.
أما كلامه عن البدع فإنه لا يفهمها، ويلزمه مراجعة ما كتبنا ليعرف معناها عند السلف.
10. اعترض على المدائح التي تقال في الموالد فقال: " حسان رضي الله عنه شعره في مدح الإسلام والذب عن النبي عليه الصلاة والسلام والرد على المشركين ، وكان بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام وليس في شعره غلو ولا إطراء
بخلاف أشعار أصحاب الموالد فإن في أشعارهم من المحظورات الشرعية الشيء الكثير."
قلت: أطراه صلى  الله عليه وسلم الصحابة وأثنى عليهم، لكن المعترضين لا يفهمون هذه الأشعار ويحكمون عليها بالظاهر، واللغة العربية لغة بيان ومجاز وحمالة أوجه، لا تستقيم إلا لذوي الذوق السليم.
11. اعترض على الدف فقال: " ولم يأتِ في شيء من الروايات (أن صوت الدف يهز ويرز في المسجد النبوي) هذا شيء جاء به الركيني من جيبه."
قلت: إذا كان الدف حرام حرمة أصلية لما جاز أن يضرب في عيد ولا في عرس، أما أن صوف الدف يهز ويرز في المسجد النبوي لأن المسجد النبوي آنذام تفصله عن الحجرات أمتار قليلة.
12. اعترض على ذكر أحوال السلف عندما يذكر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما وجه الدلالة من هذه الآثار على مشروعية الإحتفال بالمولد ، ومَن قال بهذا القول قبلك من أهل العلم المعتبرين؟!
لاشك أنه لا أحد.
لأنه لم يثبت أبداً عن أحد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم الاحتفال بالمولد (ولو كان خيراً لسبقونا إليه)."
قلت: وجه الدلالة العناية بالنبي صلى الله عليه وسلم والاهتمام به ومحبتهم له بحيث إذ ذكر بكوا وتأثروا، فهؤلاء هم، فكيف حالنا نحن؟ أليس في تجاهلنا للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم تأثرنا عند ذكره دليل على التقصير الكبير في حقه صلى الله عليه وسلم؟ ؟! أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز عن هذا الرسول العظيم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)؟! أمثله صلى الله عليه وسلم يُغفل عنه ولا يُفرح به؟ أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؟! أمثله لا يُعتنى به؟!
أما الكلام عن لو كان خيرًا لسبقنا إليه الصحابة فإن أهل العلم قرروا أن الترك لا يقتضي المنع والنهي، هل نقول عن تنقيط المصحف وتشكيله وكتابة علامات الوقف عليه وتلوينه لتبيين أحكام التجويد وغير ذلك من الأمور الحسنة "أنحن أشد توقيرًا وتعظيمًا للقرءان من الصحابة"؟!! الأمر ليس له علاقة بذلك بقدر ما له علاقة بالحاجة إلى ذلك، فعندما دخل الأعاجم في دين الله أفواجًا وخُشي على القرءان من اللحن والغلط، احتيج إلى هذه البدع الحسنة، وعلى ذلك فقس الإحتفاء بميلاده صلى الله عليه وسلم.
13. اعترض على إيراد كلام ابن تيمية في الثناء على المحتفلين بالمولد بحسن مقصد، فقال: " بأن ما نقله عن شيخ الإسلام فيه بتر لكلامه ، وبتر النصوص عادة من عادات أهل الأهواء."
قلت: هذا من سوء الظن والتحامل، وذلك لأن المستشهد بنص عادةً ما يركز على موضع الإستدلال.

فيظهر مما تقدم أنها ردود متهافتة لا تستحق الزمن الذي تقرأ فيه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرد على أبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي:

من أنفع الرسائل التي وجدت حظها في الانتشار في شبكات التواصل الإجتماعي هذا الموسم من المولد النبوي الشريف (1437هـ) رسالة في تأصيل عمل المولد مفيدة كتبها سماحة الشيخ عبد الرحيم الركيني، واختار لها اسمًا رائعًا: (نعم نحتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم). اشتملت على تأصيل جيد لعمل المولد، موافق لما عليه جمهور علماء المسلمين في هذه المسألة وموافق لما أفتت به غالبية دور الفتوى في الدول العربية والإسلامية. وزيَّنها سمحاته وأضاف عليها لمسة زهدية عندما تناول فيها طرفًا من أحوال السلف الصالح عندما يذكر فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلها مما أورده القاضي عياض في كتابه الذي لا غنى لمسلم عن فوائده "الشفاء"، فجزاه الله تبارك وتعالى عن المسلمين خير الجزاء.
ثم وجدت أن هذه الرسالة قد أحدث ضجة واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي،فرأيت عددًا من الناس الذين يناهضون ذكرى المولد يردون عليها بجهل وتحامل لا يمكن التغافل عنه وتجاهله. ولما رأيت ذلك آليت على نفسي أن أكتب متعقبًا هذه الردود المتهافتة بكل علمية وموضوعية.
وقبل أن ندلج إلى تفاصيل الردود وتفنيدها، أريد أن أشير هنا إلى أمور مهمة وهي:
1/أن طوائف من المتأخرين المنتسبين إلى العلماء، والذين هم بطبيعة الحال عالة على من سبقهم من أهل العلم، بلغ بهم كِبَر النَّفس الناتج من تعظيم أتباعهم من طلبة العلم وعامة الناس لهم، أن جعلهم يظنون أنفسهم أعلم من سلفهم، بل ومن سلف هذه الأمة أصحاب القرون المفضلة، ومن وأئمتها وعلمائها الأكابر. ويظهر هذا جليًّا في تعمدهم تجاهل آراء معتبرة، مسندة بالحجية الكافية، صدرت من علماء هم بمثابة المراجع في هذا المضمار، والتجاسر عليها بالرأي والهوى. وهذا أمر خطير إذا ما سُكت عليه، لأنه يقوض الأساس العلمي الذي تستند عليه الأمة في تأصيل مسائلها المعاصرة. فعندما تجد على سبيل المثال من يضرب بفهم الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ وهو الآن يعيش في سنة 1437هـ، وبينهما أكثر من 12 قرنًا ثم لا يعطي ذلك الإمام الهُمام حقه في العلم والورع والسبق ولا يعطي فهمه حظه من النظر والاعتبار فأي مستقبل ننشد بهذا المسلك الغريب؟! وأي منهجية علمية نتبع في مسائلنا الدينية بعد كل هذه السنين الطويلة التي تفصلنا عن الصدر الأول؟! وأي حق ننشد في ظل هكذا واقع إذا كنا نلِّغب الهوى على الرأي السديد؟ وأي خلل أصابنا لنقدم رأي المفضول على الفاضل، وعلى الفقيه الحجة الإمام الحافظ رأي الجاهل؟!
2/ أن الاختلاف يرجع في أغلب حالاته إلى اختلافٍ في فهم النصوص أكثر من كونه اختلافًا على النص نفسه، لذلك يستعان بفهم السلف للنصوص على تأصيل المسائل المعاصرة، ففي المسائل الدينية يكون للعبارات معانٍ لغوية لا تكون مقصودة عادةً، ويكون لها معانٍ أخرى في اصطلاح العلماء هي المقصودة، ثم إن هذه المعاني نفسها تتغير كثيرًا بمرور الزمان. لذلك يجب الانتباه إلى المعنى أكثر من العبارة.
3/ الفرق الكبير بين الرواية والدراية هو أن الرواية لا تقتضي الفهم، فالرواي في كثير من الحالات ما لم يكن عارفًا بالعربية، متدبرًا فقيهًا شارحًا مطَّلعًا ومصنفًِّا في العلوم يكون كالمسجل. روى ابن عدي في الكامل بسنده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نورٌ يجعله الله تعالى في القلب) وأخرج الخطيب في "نصيحة أهل الحديث" بسنده عن محمد بن عبيد أنه قال: (جاء رجلٌ وافر اللحية إلى الأعمش، فسأله عن مسألة من مسائل الصبيان، يحفظها الصبيان، فالتفت إلينا الأعمش فقال: "انظروا إلى لحيته تحتمل حفظ أربعة الأف حديث، ومسألته مسألة الصبيان")!!، وبسنده أيضًا عن عُبيد الله بن عمرو أنه قال: (جاء رجل إلى الأعمش فسأله عن مسألة وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نعمان قل فيها، فأجابه، فقال الأعمش: من أين قلت هذا؟ فقال: من حديثك الذي حدثتناه، قال: نعم نحن صيادلة وأنتم أطباء").
لذلك يجب العناية بالفقهاء والشراح والمفكرين ومدارسة كتبهم وصرف الانتباه تلقاءهم أكثر من العكوف على النصوص وفهمها على ظاهرها، لأن اللغة العربية حمالة أوجه، مفعمة بالمعاني المجازية والصور البيانية، والنص بدون فهم سليم يكون قليل النفع هذا إن لم يكن ضارًّا.
4/ عند بسط الحجة والدليل، يكون رأي الجمهور دائمًا هو الأرجح، وهو الأسلم للمقلِّد غير المتمكن من النظر في الأدلة الشرعية. فليس كل الناس بوسعه أن يكون فقيهًا وعالم دين ومتمكنًا من النظر في الأدلة الشرعية والترجيح بينها، فهناك الطبيب، والجزار، الحلاق، والميكانيكي، .. إلخ وغيرهم من أصحاب المهن، الذين لا يجدون متسعًا للتبحر في العلوم الشرعية لأسباب كثيرة قد يكون منها النشأة والتعليم ونمط الحياة وطبيعة العمل والدور الذي يلعبونه في الحياة،لكنهم مأمورون بتعلم القدر الذي يصح به تدينهم وعباداتهم ومعاملاتهم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، دون الخوض في الأدلة الشرعية، تكفيهم الأحكام، ولنا في سيرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه الأسوة الحسنة.
5/ يجوز أن يقع للحق أكثر من وجه، ولعل أظهر مثال على هذا هو قوله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: (لا يصلين أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة)، فتخوَّف ناس فوت الوقت فصلُّوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال فما عنَّف واحدًا من الفريقين. لذلك فعلى المسلم أن يوسِّع فكره ليستوعب أن الحق يمكن أن يكون معه ومع غيره في آن واحد، وإن بدا الاختلاف ظاهرًا.
6/ من أظهر صور البدع في هذا الزمان تصوير الإسلام على أنه دين جامد فظٌّ غليظ غير قادر على مواكبة عجلة الحياة ولا مسايرة التطور، وغير صالح إلا في أمكنة وأزمنة معينة، وأبشع هذه البدع الضلالات التي يتغافل العلماء التشنيع عليها الإدعاء على الناس بالكفر والشرك والبدعة، فكل هذه الأمور المحدثة لم تشتد إلا في عصور متأخرة.
بعد إيضاح هذه الأمور المهمة نعرج على الردود. وسأتناول الردود التي تستحق النظر، بذكرها ونسبتها إلى صاحبها المنسوبة إليه.
(1) "الردود السلفية على الأجوبة الركينية" لأبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي:
1. في انتساب الرد أو صاحبه إلى السلف نظر، فإن السلفية المعاصرة تنتسب إلى فكر ابن عبد الوهاب النجدي وأحمد بن تيمية الحرَّاني، وكلاهما من المتأخرين، فابن تيمية عاش في القرن الثامن الهجري، وابن عبد الوهاب عاش في القرن الثاني عشر الهجري، ولا علاقة لكليهما بالسلف الصالح، الذين هم أصحاب القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. ومن ناحية أخرى فإن السلف ليس مذهبًا يُنتسب إليه بقدر ما هو حقبة زمنية مباركة أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكى أهلها بصيغة العموم. والأئمة الأربعة الأعلام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم الذين عاشوا في هذه الحقبة المباركة هم سلف بلا شك،لكن لم تكن سلفيتهم هي المذهب، بل كان لكل واحد منهم مذهبه الفقهي الخاص الذي ربما خالف فيه الآخرين في بعض المسائل، فانتبه إلى الفرق بين المذهب، وبين السلفية كحقبة زمانية.
2. اعترض على تفسير قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فقال: " هذا القول قد حكاه عنه السيوطي في الدر المنثور ونسبه لأبي الشيخ وحكاه ابن الجوزي، فهذه الحكاية عن ابن عباس لاتكفي وحدها فلابد من ثبوت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما بالسند الصحيح ."
قلت: ذكره أيضًا أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط قال: "وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم".
وهذا أكثر من كافٍ للاستدلال، ابتداءًا لأن المعنى صحيح، فالخلاف ليس في الشق الأول المتعلق بالفضل، وإنما في الشق الثاني المتعلق بالرحمة، ومن غيره صلى الله عليه وسلم أشتهر بالرحمة للعالمين؟ (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107] وهذا أعلى درجات التفسير: تفسير القرءان بالقرءان. ثم إن الله تعالى لم يقل: (قل بفضل الله ورحمته) ليشير إلى صفة الرحمة الإلهية، بل قال: (قل بفضل الله وبرحمته) ففصل بين فضله وبين رحمته بالباء إشارة إلى رحمة أخرى هي الرحمة المخلوقة المتمثلة فيه صلى الله عليه وسلم، ثم ندب الفرح بها فقال (فبذلك فليفرحوا)،فوافق ذلك المعنى المروي عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأثر، وحيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فضل الله عليه عليه عظيمًا وحوى قلبه القرءان الكريم والرحمة فيكون الفرح به صلى الله عليه وسلم فرح بهما في ذاته الشريفة.
لكن ما الداعي لكل هذا النكير ؟!! ألأن الله تبارك وتعالى أمرنا في الآية بأن نفرح به صلى الله عليه وسلم؟! أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز عن هذا الرسول العظيم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)؟! أمثله صلى الله عليه وسلم يُغفل عنه ولا يُفرح به؟ أليس هو تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؟! أمثله لا يُعتنى به؟! فالأولى أن يرسل المعترض اعتراضاته هذي إلى أصحاب أمهات التفاسير وإلى ابن الجوزي وأبو حيان الأندلسي والسيوطي الحفاظ الكبار الذين أخرجوا هذا الأثر في تفاسيرهم!!!  وليرسل نسخة من اعتراضاته هذي إلى المفسرين المعاصرين الذين يفسرون بالهوى والرأي فقط وكانت تفاسيرهم سببًا في بلوى التكفير والتشريك والتبديع، ومع ذلك ما رأينا أحدًا قام عليهم كما يقوم الآن!!!. ثم إن كثيرًا من كبار المفسرين يروون الإسرائيليات رغم انقطاع السند إلى بني إسرائيل، ويروون الضعيف، فما بالك إذا كان المعنى صحيح والأثر أخرجه كبار الحفاظ وأهل الإتقان ولم ينكره عليهم أحد؟!
ثم قال: " لابد أن يجمع المخالف بين القول الذي نسبه لابن عباس رضي الله عنهما وبين أقوال السلف الأخرى التي تدورعلى تفسير فضل الله بالإسلام ورحمته بالقرآن بما فيهم ابن عباس رضي الله عنه".
قلت: من الذي أوجب عليه هذا؟ ومع ذلك فإن الإسلام والقرءان كلها متمثلة في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فهو رسول الله الذي بُعث بالإسلام وهو صاحب القرءان الذي عليه نزل.
ثم قال: " ما الدليل على تفسير الفرح بما ادعيته؟ فإن خرجت من الأول وأسندته بسند صحيح عن ابن عباس طولبت بالثاني وهو تفسير الفرح بالاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام."
قلت: إن صفا أن الدين أمر بالإهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم والعناية به إلى أقصى حد ممكن، ويظهر ذلك من رفع ذكره بين أتباعه، فلا إسلام إلا بعد قول "محمد رسول الله"، ولا أذان بدون ذكره، ولا إقامة، ولا صلاة، وأمر الله تبارك وتعالى بمحبته صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، وبتعزيره وتوقيره وكمال الأدب معه، وجعل إساءة الأدب معه تحبط العمل كما يحبطه الشرك والكفر والنفاق، وأمر بكثرة الصلاة عليه، وبالفرح به، .. إلخ. فإن صفا له صلى الله عليه وسلم ذلك كان كل ما يعين عليه مستحبًا ومستحسنًا، وليس أظهر من ذكرى المولد باعثًا على ذلك في هذا العصر، الذي تشاغل فيها الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3. ثم اعترض على مفهوم البدعة. قال: "تعريفه للبدعة وهو قوله المحدث وهو المنهي عنه شرعاً، فهذا التعريف لم يسنده إلى عالم من العلماء."
قلت: يعني أن المحدثة تكون في الأمور المنهي عنها، ذلك لأن حديث العفو قسم الأمر الرباني إلى فرائض وحدود ومنهيات ومباحات، ولا يتصور أن تكون المحدثة في الفرائض ولا في الحدود لأنها محكمة، ولا في المباحات فدل على أنها في المنهيات. ويعضد هذا المعنى أن بدعة الخوارج كانت في التكفير والتقتيل وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.  إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه) أخرجه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) أخرجه الشيخان.
ثم قال: " هذا التعريف من هذا الخَلَفِي يبطل فائدة جميع الأحاديث التي جاءت محذرةً عن البدع والمحدثات على وجه العموم"
قلت: بل جاء ليصحح المفهوم فيها ليوافق ما عليه جمهور أهل العلم.
قال الإمام الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله تعالى: " المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267)."
و روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء عنه أيضًا رحمه الله تعالى قوله: "البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال الامام أبو سليمان الخطَّابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى في شرح سنن أبي داود "معالم السنن": "وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنيًّا على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة"أهـ.
قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في الفتح (ج4/298): (قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة).أهـ
4. ثم اعترض على استدلال سماحة الشيخ بحديث "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها" الحديث، قال: " هذا تناقض منك لأنك سابقاً استدللت بقوله تعالى:"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" فالآية عندك نطقت بمشروعية المولد ثم استدللت بالحديث والحديث سكت عن مشروعية المولد!!!!"
قلت: إنما هو التحامل على سماحته ليس إلا، فكم من عمل يكون مباحًا ثم يوافق في نفس الوقت عملًا آخر في حكم آخر من أحكام الشريعة، فالأكل والشرب في غير ما سرف أمر مباح، لكنه في الفطور للصائم يكون واجبًا إذا غربت الشمس، ومستحبًّا صبيحة عيد الفطر لكسر الصيام، وهكذا.
ثم قال: (بهذا الجهل الفاضح نسبت للشريعة القصور والنقصان فإنها سكتت عن أمر شرعي مرغوب فيه والله تعالى يقول:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وقال عليه الصلاة والسلام " إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به و ليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه")
قلت: هنا أماط المعترض اللثام عن جهله بشكل واضح وجلي لأنه خلط بين بيان الشريعة لنعمة الرسالة المحمدية متمثلة في العلم والقرءان والإسلام والرحمة كلها مجتمعة في الذات الشريفة، وبين سكوتها عن وسيلة التعبير عن هذا الفرح وذلك السرور بهذه النعمة. لذلك فإن الإحتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف هو من المباحات التي تدخل في باب الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم وشكر الله على نعمته.
قال: "تفسيرك للسكوت الوارد في الحديث بالأمور الشرعية التعبدية تفسير باطل لأن الله أكمل لنا الدين كما تقدم في الفقرة السابقة، وإليك ماذكره البيهقي تحت هذا الحديث فقد قال :(باب مَا لَمْ يُذْكَرْ تَحْرِيمُهُ وَلاَ كَانَ فِى مَعْنَى مَا ذكِرَ تَحْرِيمُهُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ) ."
قلت: بل هذا جهل مركب، لأنه من المعلوم الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم) لم تكن هي آخر ما نزل من الكتاب العزيز ولا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات، ومعلوم أن نطقه وحي: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)، وفعله وتقريره كلها سنن. ثم إن الذي اكتمل بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم هو أركان الدين وأصوله، وبقيت فروع لم يزل الباب فيها مفتوحًا إلى يوم القيامة بأمر الشارع سبحانه وتعالى، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بالعض على سنة الخلفاء الراشدين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بالنواجذ، فلو كان الدين اكتمل بانتقاله بالمعنى السطحي فما الحاجة إلى سنة الخلفاء الراشدين؟!بل إنه صلى الله عليه وسلم مضى إلى أبعد من ذلك فحث المسلمين على السنن الحسنة بشكل عام كما سيأتي إن شاء الله. النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح باب الإجتهاد إلى يوم القيامة، وجعل للمجتهد المصيب أجران وللمخطيء أجر واحد، ولم يفسر الآيات المقطعة في بداية السور، ولم يفسر الإعجاز العلمي كله في القرءان الكريم والسنة المطهرة، وذكر أن القرءان لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة، .. إلخ وغير ذلك مما يشير إلى مرونة هذه الرسالة الخاتمة وصلاحها لكل زمان ومكان.
ثم قال: " لابد أن تعلم أيها الخَلَفِي أن أمور التحليل والتحريم لايقال فيها عن شئ:" سكت عنه الشرع" إلا بعد ألا نجد دلالته من الكتاب والسنة فقد تكون الدلالة نصية وقد تكون بطريق العموم وقد تكون بطريق الفحوى والتنبيه وقد تكون بدلالة المخالفة وقد تكون بطريق القياس، فحينئذ نقول سكت عنه الشرع، أما بدعة المولد فقد شملتها عمومات كثيرة من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا إذا كان الإحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم سكت عنه الشرع فلماذا لم تسكت عنه أنت ؟! ."
قال: هنا يكرر المعترض إظهار جهله بالدين، لأن المسكوت عنه هو المباح عند أهل العلم، وهو أحد أقسام الشريعة الخمسة، فالأمر إما أن يكون حلالاً أو مستحبًّا أو محرمًّا أو مكروهًا أو مباحًا. فمن زعم أنه ورد نص بتحريم المولد أو النهي عنه فليورده، أما أن ينهى عنه بفهم سقيم للبدعة فهذا لا يسمى نهيًا بل يسمى جهلًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن محرم الحلال  كمحل الحرام). رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.
5. ثم اعترض على حديث "السنة الحسنة" فقال: " تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة فيقال: ما ضابط البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟ فإن قلت الحسنة ما أمر بها الشرع والسيئة ما نهى عنها الشرع قيل لك: هل المولد أمر به الشرع؟ فإن قلت: نعم نقول لك :هات الدليل، وسيعود الحوار معك إلى ما سبق تقريره ."
قلت: هذا الإعتراض يدل على أن المعترض لا يفهم معنى البدعة ولا حتى كلام أهل مذهبه فيها. قال ابن رجب الحنبلي: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة». وقال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: ("وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام"، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: "فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بـها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة"، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم").اهـ وعليه فإن الضابط في البدعة هو أن تعرض على قواعد الشرع ويستخرج لها الأصل في الشريعة وأي أصل أعظم من قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وقوله تعالى: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون).
قال الإمام الحافظ العلامة أبو شامة المقدسي [ت 665هـ] في (الباعث على إنكار البدع والحوادث):
"فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والآستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا وَهِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى"أهـ
ثم قال: "معنى عمل به بعده: لم يسبقه عليها أحد من العالمين" هذا التفسير باطل لا دليل عليه بل معنى قوله:"من سن سنة حسنة" أي من بادر إلى تنفيذ العمل المشروع المأمور به في الكتاب والسنة فالسن في الحديث سن العمل تنفيذاً وليس سن العمل تشريعاً، والدليل على هذا ما جاء في قصة هذا الحديث،  فقد روى مسلم عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال:( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ « (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِى فِى الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ». قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً ....)، فكيف يقال (لم يسبقه عليها أحد من العالمين) فهل هذا الرجل الذي تصدق ما سبقه عليها أحد من العالمين؟!"
قلت: وهذا كلام مردود عليه بما قاله الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم"(16/226-227) : "قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة." اهـ
ثم قال: " احتجاجه بصلاة التراويح احتجاج لا دليل له فيه فإن صلاة التراويح فعلها النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث ليالٍ ثم تركها خشيت أن تفرض علينا وهذه العلة قد زالت بعد موته عليه الصلاة والسلام، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة التراويح مارواه البخاري وغيره من طريق عائشة رضي الله عنها:" أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ". وروى البخاري أيضاً من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه".  وقد  حمل العلماء قول عمر في هذا الحديث "نعم البدعة هذه " على البدعة في اللغة وليست البدعة في الشرع، قال ابن عبدالبر:" لم يسن عمر من ذلك إلا ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبه ويرضاه ولم يمنع من المواظبة إلا خشية أن تفرض على أمته، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم ".
قلت: هذا كلام لا قيمة له في هذا السياق لأن الجميع يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ التراويح فوق ثلاث ليال، ولم يواظب عليها عقب صلاة العشاء ولم يصلها عشرين ركعة، فمتى ما أتى آخر وصلاها على هذه الهيئة كانت صلاته بالضرورة بدعة، لكنها تكون بدعة حسنة لوجود الأصل الذي يدل عليها، لذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة" واحتج الإمام الشافعي وأهل العلم بذلك.
لكن أين الجزء المفقود في هذا السياق؟! أين صلاة التهجد؟ فهل هذه الأخرى صلاها سيدنا عمر رضي الله عنه؟! بل لم تكون معروفة في عهده بدليل قوله رضي الله عنه: (والتي ينامون عنها خير من التي يقومون) أي أنهم يقومون أول الليل وينامون آخر الليل. فصلاة التهجد بدعة لم تثبت بالكيفية التي تصلى بها اليوم في الحرمين الشريفين، لكنها بدعة حسنة للأصول الحاضة عليها في الشريعة.
6. ثم اعترض على تناول الرسالة لتعظيم القرءان الكريم لميلاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التساليم. فقال: "هل فهم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعون وتابعو التابعين هذا الاستدلال أو لم يفهموه؟ فإن قلت بالثاني فقد ضللت الضلال المبين، وإن قلت بالأول قيل لك:هل عملوا به أو لم يعملوا به؟ فإن قلت:"لم يعملوا به" فقد ضللت الضلال المبين، وإن قلت:"عملوا به" نقول لك: كتب السنة بين أيدينا فأين هذا الاحتفال فيها؟"
قلت: إنهم لا شك فهموه وعلموه وعملوا به وإن اختلفت الوسيلة، بدليل أنهم أول من صام يوم الأثنين عندما علموا أنه ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتقاعسوا عنه لإدراكهم أهميته وعظمته.
ثم قال: " قال تعالى عن يحيى عليه السلام:"وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ " وقال عن عيسى عليه السلام:"وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ" فلماذا لم تعظم يوم مماتهم وتقيم مأتما والعلة واحدة؟! "
قلت: الله تعالى تعبدنا في الميلاد بالبشارة قال تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وإظهار الفرح والسرور. لذلك فإن المولود في شريعتنا تذبح له الولائم ويدعى الناس ويظهر الفرح والسرور ويبارك عليه. أما في الوفاة فإن الله تعبدنا بالصبر والاحتساب، فكلا الأمرين من الله تعالى.
7. ثم اعترض على تاريخ الاحتفال.
قلت: المشهور عند الجمهور أنه في ثاني عشر ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وقيل: لثنتى عشرة خلت منه، نصَّ عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبى شيبة في "مصنفه" عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الأاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث ، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور."
8. ثم اعترض على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم ميلاده بصيامه يوم الأثنين. قال: "لماذا لا تكتفي بما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس لك فيه أسوة؟"
قلت: لماذا لم يكتفِ سيدنا عمر وأكابر الصحابة بترك النبي صلاة التراويح في جماعة؟ ربما يقول قائل لأنه بعد أن انتقل صلى الله عليه وسلم أُمن أن تفرض، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه سينتقل إلى الرفيق الأعلى، ومع ذلك ما وصاهم حين تركها، ولا وهو فراش الموت أن يصلوها بعد أن ينتقل. فدل على أنها حجة داحضة، بل إن فعله صلى الله عليه وسلم تتعدد فيه الفوائد، فشرَّع الصيام يوم الأثنين،ونبَّه إلى أهمية ذكرى نعمة الله تبارك وتعالى بمولده صلى الله عليه وسلم، وأصَّل لكل نشاط يلحقه وفاته صلى الله عليه وسلم يكون هدفه تعظيم ذكرى الميلاد.
ثم قال: " أأنت أعلم أم الصحابة رضي الله عنهم؟ أأنت أشد توقيراً وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم أم الصحابة؟ فلماذا لم يفعلوا هذه الموالد السنوية البدعية؟ قال الله تعالى:" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"
قال: الثابت عند أهل العلم أن الترك لا يقتضي التحريم ولا النهي، هذا كافٍ، لكن فات على المعترض أنه قاس مع الفارق الكبير، فمن نحن ومن هم؟ هم أصحابه، يرونه، ويجالسونه، ويستفتونه، وربما ينزل الوحي في حضرتهم، فهل تقارنهم بالذين ءامنوا به ولم يروه؟ الذين يحتاجون إلى من يذكرهم بسيرته كلما حان حين، ويصفه لهم ويحدثهم عن أخلاقه وشمائله؟ الفرق كبير. هل نقول عن تنقيط المصحف وتشكيله وكتابة علامات الوقف عليه وتلوينه لتبيين أحكام التجويد وغير ذلك من الأمور الحسنة "أنحن أشد توقيرًا وتعظيمًا للقرءان من الصحابة"؟!! الأمر ليس له علاقة بذلك بقدر ما له علاقة بالحاجة إلى ذلك، فعندما دخل الأعاجم في دين الله أفواجًا وخُشي على القرءان من اللحن والغلط، احتيج إلى هذه البدع الحسنة، وعلى ذلك فقس الإحتفاء بميلاده صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: " أنت قصرت على حد فهمك فاحتفلت به سنوياً والحديث دل على احتفال أسبوعي."
قلت: بل إن المحتلفين استفادوا من الذكرى في التذكير بمآثر النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته، وهذا مطلوب شرعًا، فكما أن المسلم يعبد الله تعالى في سائر الأيام لكن عبادته تشتد في رمضان، فكذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والعناية به، تكون في سائر الأيام وتشتد في ذكرى مولده، وهذا أمر بدهي بسيط.
ثم قال: " الرسول عليه الصلاة والسلام قد صام في هذا اليوم وأما أنت فقد زدت رقصا وتواجدا وحلوة وراية  وغير ذلك مما يفعل في ساحة المولد ونسبت هذا إلى الشرع العظيم"
قلت: الأصل في الأشياء الإباحة كما قرر أهل العلم.
9. ثم اعترض على أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة.
قلت: حاول أن يضعف الأثر بكل ما أوتي من قوة انتصارًا لباطله، وأطنب في ذكر الرواية الضعيفة من طريق عبد الله بن محرر، أخرج الطبراني في الأوسط قال: حدثنا أحمد قال: نا الهيثم قال: نا عبد الله -بن المثنى- عن ثمامة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما بعث نبيًّا. قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل، وهو ثقة، وأخرجه الطحاوي في المشكل وابن حزم في المحلى والضياء في المختارة، وحتى الألباني حسنَّه في الصحيحة. وعندما عجز قال: " وإن صح فليس فيه حجة لهذا الخَلَفِي فلايدل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك شكراً لله ولا احتفالاً بمولده وإنما تكلم الفقهاء على هذا الحديث في باب العقيقة هل تعاد أو لا، وأشار بعضهم أن هذا خاصٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان فعل النبي عليه الصلاة والسلام شكراً لله أو احتفالاً بمولده لمّا تكلم هذا الجمع الغفير على ضعف الحديث ونكارته ولهذا قال البيهقي:"حديث منكر وأما ذكره هذا الخلفي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع الصحابة للطعام فهذا من كيسه."
قلت: كيف لا يدل ذلك على أنه شكرٌ لله واحتفال بالمولد وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعمره فوق الثلاث والخمسين سنة، والعقيقة بالأصل هي شكر لله تبارك وتعالى على نعمة الميلاد. أما الذي خص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فعليه بدليل التخصيص، أما الحديث عن الحديث فالثابت أنه لا غبار عليه.
10. ثم اعترض على تأصيل سماحة الشيخ لعمل المولد من حديث صيام عاشوراء. قال: " ما زال هذا الرجل يتخبط ويعمل عقله في مخالفة سير السلف الصالح والأئمة المهديين، فما أعجب هذا الفهم المنكوس المردود! إذ الواجب علينا أن نفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صلوات الله وسلامه عليه صام عاشوراء فكان صيامه سنة، وصام يوم مولده فكان حري بك أن تدعو الناس إلى الصيام، ولكنك لم تفعل بل عكست الحديث واستدللت به على الأكل والشرب والرقص والطرب، فتأمل في هذا التناقض الذي وقع فيه هذا الخلفي ومن نحا نحوه، وما أوقع القوم ما أوقعهم فيه إلا إعمال عقولهم وتكالبهم على القصعة والثريد."
قلت: هذا القول الشطط من الجهل أجارنا الله تعالى واتباع الهوى. أنسي هذا الرجل أن هذه المسألة قد سبق إليها بالقول الإمام الحجة الحافظ ابن حجر العسقلاني؟ قال الحافظ: " وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة" أهـ ذكره الحافظ السيوطي في كتابه "حسن المقصد في عمل المولد"
11. ثم اعترض على أن ساحة المولد مملوءة بالذكر وحلق العلم التي تتناول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال: " العلم والذكر إذا كان الاجتماع لهما بالطريقة المشروعة التي سلكها سلفنا الصالح فهذا أمر مطلوبٌ ومشروعٌ وأما الاجتماع لإحداث بدعة لم يفعلها السلف فهذا أمر مرفوض مردود، فساحة المولد يا هذا مشتملة على  مدائح شركية وترنمات بدعية واختلاط بين الرجال والنساء"
قلت: تقدم بيان البدعة ورأي أهل العلم الثقات فيها. وقد نبَّه سماحته على تجنب الإختلاط وهذا أمر حسن، أما الكلام عن شركية المدائح فهذه من طوام الخوارج في كل عصر، حيث يكفرون الناس ويشرِّكونهم بظاهر الأقوال والأفعال، وهذه بدعة ضلالة ليس عليها سلف هذه الأمة، لأن الإيمان والإخلاص أمور قلبية مدارها على النية، لا يُطَّلع عليها إلا بالإعتراف إذ لا يطَّلع على النوايا إلا الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى)، و عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ من جُهَيْنَةَ، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: "لا إله إلا الله"، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). رواه البخاري ومسلم، وفي رواية الأعمش: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا.
إن الله لم يتعبدنا بتفتيش نوايا الناس والحكم عليهم، بل تعبدنا بأن نعاملهم بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله. فاذا قالوها فقد عصموا دمائهم و اموالهم) رواه البخاري، ولذلك فمن أشكل عليه فهم معنى ورد في مدحة زهدية فقبل المسارعة إلى الحكم على نية راويها ليته يستفسره عن المعنى، عله يفهمه.
12. ثم تعقب كلام سمحاته عن مدح الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بكلام فيه خروج عن الموضوع، وقد تمت الإجابة عليه في نقاط سابقة.
13. ثم تعقب كلام سمحاته عن ضرب الدف. قال: ("أما ضرب الدف فقد ورد في العيد والعرس وثبت للجواري "الفتيات الصغار").
قلت: لو كان ضرب الدف حرام حرمة أصلية فإنه لا يحل في عيد ولا عرس، أما تخصيصه تقييده على الجواري فيحتاج إلى دليل.
ثم قال: " وقد ورد في الحديث أن الجارية قالت:" وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ" فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، وقد أخفى الخلفي على قارئه نص الحديث "
قلت: هذا من سوء الظن بالمسلمين، فإن المستدل بنص عادةً ما يكون حريصًا على إظهار وجه الدلالة، فيركز النص إلى حيث يريد. أما في موضوع علم الغيب، فالعلم غيب وشهادة هو لله، لأن الله تعالى هو العليم الحكيم، هو سبحانه يطلع من يشاء على ما يشاء من علمه: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)، وقد أطلع الله تبارك وتعالى أنبياءه ورسله وملائكته على غيوب كثيرة، وخص حبيبه صلى الله عليه وسلم بغيوب أجل وأعظم، فهو الذي أخبر هذه الأمة بما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي في صحيح البخاري من حديث سيدنا عمر رضي الله عنه.
14. ثم علق على أحوال السلف عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكلام خارج موضوع الرسالة يريد أن يبث به رسائله إلى القارئ، وهذه عدم موضوعية ظاهرة.
15. ثم اعترض على إيراد سماحته كلام ابن تيمية المنسوب إليه في المولد. قال: "هذا الرجل إما جاهل بمدلولات الألفاظ وبكلام أهل العلم وإما ملبس، فكلام شيخ الإسلام عن الفاعل لا عن الفعل، فالسؤال المطروح عن فعل المولد لا عن أحوال الفاعلين ونياتهم فاترك التلبيس"
قلت: بل الجاهل هو المعترض نفسه، فإذا لم يكن الفعل مشروعًا لا يستحق الفاعل عليه الأجر العظيم بحسن المقصد، فإنك لن تثاب على شرب الخمر بحسن المقصد. ويبدو أن سمحاته أورد كلام ابن تيمية كشاهد للمعترضين من كلام مشائختهم. لكن الثابت أن كلام السلف في البدعة وتفصيلها أغنى عما يقوله ابن تيمية لأنه من المتأخرين الذين لا يمكن أن يقدموا على السلف، خاصة إذا ثبت أنه استتيب استتابة شرعية سنة 707هـ في مسائل عقدية (مسألة الإستواء، والنزول، ومعاني القرءان) بحضور القضاة الأربعة وولي الأمر، وتاب ورجع وكتب توبته بخط يده كما أثبت ذلك الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة وابن شاكر الكتبي في تاريخه وغيرهم. وقد ذمه تلميذه الذهبي بعد أن كان قد أكثر من مدحه، لكن بعد أن صحبه سنين متطاولة عرف عيوبه، قال في "زغل العلم والطلب": " وقد تعبتُ في وزنه وفتَّشتُه حتى مللتُ في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخرَّه بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذَّبوه وكفَّروه، إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار. فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله تعالى المسامحة".

هذا ما كان من الرد على صاحب "الردود السلفية على الأجوبة الركينية"، أبي عبد الله حسن بن عطاء الله النفيعي. وفي رسالة أخرى نرد على معترض آخر.

الجمعة، 18 ديسمبر 2015

المولد في دور الفتوى والمؤسسات الشرعية والرسمية والشعبية حول العالم الإسلامي

هيئة علماء السودان - دائرة الفتوى - فتوى شرعية نمرة هـ/ع/س/146/2015: "الاحتفال به وبمولده صلى الله عليه وسلم أمر مستحسن شرعًا لأنه إحياء لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب، والفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور به في قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) [يونس: 58]. وقد فرح أبو لهب بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخفف ذل عنه العذاب كل يوم اثنين. وعلى أن كثير من العلماء نص على ذلك ومنهم العلامة ابن حجر والإمام السيوطي، والشيخ زروق، وابن حمدون، وابن عباد، وابن حجر الهيتمي وغيرهم." دار الإفتاء المصرية - فتوى رقم 140 طلب رقم 1186: "والاحتفال بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم- هو الاحتفاء به، والاحتفاء به -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر مقطوع بمشروعيته؛ لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، فقد علِم الله -سبحانه وتعالى- قدرَ نبيه، فعرَّف الوجودَ بأسره- باسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته، فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحُجَّته. وقد دَرَجَ سلفُنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفال بمولد الرسول الأعظم -صلوات الله عليه وسلامه- بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من إطعام الطعام، وتلاوة القرآن، والأذكار، وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما نص على ذلك غيرُ واحد من المؤرخين مثل الحافظَين ابن الجوزي وابن كثير، والحافظ ابن دِحية الأندلسي، والحافظ ابن حجر، وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى." أهـ الهيئة العامة للشئون الإسلامية والأوقاف بالإمارات - فتوى رقم 1489: "ذهب جماهير العلماء إلى مشروعية الاحتفال بالمولد، وأنه صورة من صور شكر الله تعالى على ما أنعم الله به علينا من بعثة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم." أهـ دار الإفتاء الأردنية - فتوى رقم 653: "الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أسلوب حضاري للتعبير عن المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتزاز بقيادته، والالتزام بشريعته، ويجب أن يكون خالياً من المخالفات الشرعية، ويُكتفى فيه بذكر السيرة العطرة، والشمائل الكريمة، والحث على التمسك بالدين." أهـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت - فتوى رقم 10528: "الاحتفاء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مشروع في كل يوم، ومنه هذا اليوم يوم مولده الذي يحتفي الناس به صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يجب أن يكون الاحتفاء به بذكر سيرته وصفاته واتباع سنته وليس بالغناء والموسيقى كما يفعله بعض الناس، وكون الصحابة لم يفعلوا ذلك لا يدل على حرمته، لأن الترك لا يعد دليلا على التحريم." أهـ دار الإفتاء الفلسطينية - فتوى رقم 362: "إذا كان الاحتفال بالمولد النبوي تذكيراً لسيرته، ومدحه، والصلاة عليه، والأمر بطاعته، واتباع هديه الكريم فهو جائز." أهـ "قرار رقم ( 10 ) لسنة 1994 رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بناءً على الصلاحيات المخولة له. وبناءً على مقتضيات المصلحة العامة. يقرر ما يلي: مادة (1) يعتبر يوم 12 ربيع الأول من كل عام عطلة رسمية بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف. غزة في 17 /8 /1994 9 ربيع الأول 1415 ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية"أهـ http://www.dft.gov.ps ديوان الإفتاء - الجمهورية التونسية: "الاحتفال بالمناسبات الدينية كالمولد وليلة القدر هو من العادات المباحة، أما يوم عرفة وعاشروراء فالسنة فيهما الصيام" أهـ http://www.di.tn/DetailReponseFatwa.aspx?FatawaId=2320&CategorieId=6 وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - المغرب: "لقد أصبح المسلمون في الأندلس يقلدون جيرانه المسيحيين في الاحتفال بأعيادهم وفي صنعهم "الماكيطات" من الحلوى ! هنا فكر العلماء في البديل الذي لم يكن غير الاحتفال بعيد المولد النبوي. وهنا أصدر المرسوم الملكي (691=1292) بجعل المولد من الأعياد الرسمية." http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/7213 دار الفتوى - الجمهورية اللبنانية (المصدر صحيفة السفير اللبنانية): "تقفل الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات في 23 كانون الأول بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف. وأعلنت دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية الخميس، أن ذكرى المولد توافق الأربعاء 23 كانون الأول 2015م. وأصدر رئيس مجلس الوزراء تمام سلام مذكرتين إدارتين، قضت الأولى بإقفال جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات في 12 ربيع الأول 1437هـ، المصادف يوم الأربعاء الواقع فيه 23 كانون الأول 2015، بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف".أهـ http://assafir.com/Article/8/461565/SameChannel وزارة الشئون الدينية والأوقاف - الجزائر - ندوة مولدية: " في هذه الندوة سيقّدم باحثون وأساتذة مداخلات تاريخية واجتماعية وفقهية وأدبية ، تتعلق بتاريخ المولد وجواز الاحتفال به ودراسة " الأشعار المولدية " كما سيعيش الحاضرون متعة فنية وروحية بالاستماع إلى فـرق إنشـاد دينيــة ." أهـ http://www.marw.dz/index.php/component/content/article?id=812:11-1432-14-2011 وزارة الأوقاف والشئون الدينية بسلطنة عمان: تحتفي وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالمولد النبوي الشريف من خلال عدة برامج وفعاليات أبرزها الاحتفال الذي سيقام مساء اليوم الأربعاء على مسرح الكلية التقنية العليا بعد صلاة المغرب مباشرة. http://www.mara.gov.om/News.asp?NewsId=77 مملكة البحرين: عيد المولد النبوي الشريف " 12 ربيع الأول ". إجازة رسمية في المملكة. مرسوم بقانون رقم (23) لسنة 1976 بإصدار قانون العمل في القطاع الأهلي. http://www.moj.gov.bh/Print_p86b3.html?printid=799 اندونيسيا: Indonesia is one of the largest nations with a majority-Muslim population in Asia. Religion is very important in Indonesia, and this can be understood from the first principle of the state: "Pancasila", which means "belief in the one and only God." Although there are many religions that are practiced in the country, Islam has the highest percentage, with 86% of the population.1 For this reason, the Indonesian government has given great importance to religious activities, with the Mawlid celebration being one of the most important events. This day is declared a public holiday throughout the country. All government offices and most shops are closed, and no newspapers are published. Among the Muslim community, there is great excitement and a huge rush to finish preparations for the celebration of the birth of Prophet Muhammad (pbuh). The Mawlid ceremonies in Indonesia are usually attended by thousands of people throughout Java. In recent years, the Mawlid ceremonies have been held in the Istiqlal Mosque and have been attended by the president of Indonesia. http://www.lastprophet.info/mawlid-in-asia الترجمة: "اندونيسيا هي واحدة من أكبر الدول عددًا للسكان في العالم، وذات الأغلبية المسلمة في آسيا. الدين مهم جدا في اندونيسيا، وهذا يمكن أن يكون مفهوما من حيث المبدأ الأول للدولة: "البانشاسيلا"، التي تعني "الإيمان بالله الواحد الأحد". على الرغم من أن هناك العديد من الأديان التي تمارس في البلاد، إلا أن الأسلام هو الأعلى نسبة، حوالي 86٪ من السكان. لهذا السبب، أعطت الحكومة الإندونيسية أهمية كبيرة للأنشطة الدينية، خاصة الاحتفال بالمولد كونه أحد أهم الأحداث. وأعلن هذا اليوم عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد. جميع المكاتب الحكومية ومعظم المحلات التجارية يتم إغلاقها، ولا توزع أو تنشر أي صحيفة. في المجتمع المسلم هناك اهتمام كبير واندفاع شديد لإنهاء التحضيرات للاحتفال بمولد النبي محمد عليه الصلاة والسلام. ويحضر عادة الاحتفالات بالمولد في إندونيسيا الآلاف من الناس في جميع أنحاء جاوة. في السنوات الأخيرة عقدت مراسم المولد في مسجد الاستقلال وحضرها رئيس إندونيسيا." ماليزيا: In Malaysia, his birthday is celebrated annually on the 12th of Rabi-ul-Awal – a date in the Islamic calendar which is believed to be the Prophet’s birth date (incidentally, is also a date that changes each year in the Gregorian calendar). http://malaysiandigest.com/opinion/484043-celebrating-mawlid-maulidur-rasul.html الترجمة: "في ماليزيا يحتفل بعيد مولده -صلى الله عليه وسلم- سنويا في الثاني عشر من ربيع الأول - تاريخ في التقويم الإسلامي الذي يعتقد أن تاريخ مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-(بالمناسبة، هو أيضا التاريخ الذي يتغير كل سنة في التقويم الميلادي)."

السبت، 12 ديسمبر 2015

الرد على مقالين للكاتب الوهابي عارف الركابي ينتقد فيهما الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

كتب عارف الركابي الكاتب بالإنتباهة مقالين عن المولد النبوي الشريف نشرا بتاريخ الأثنين والثلاثاء 2 و3 نوفمبر 2015م فيهما من التعسف والتحامل على المحتفلين بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يخفى.
ويبدو أن الزمان قد اختلف فعلًا، فقد كان الذي لا يعجبه صيام رجب يعتبر شاذًا يضرب به المثل: (لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب)  ويريدون أن يصير الأمر كذلك في ذكرى المولد، فصرنا نحتاج للبحث عن أدلته والتشريع له، فيا سبحان الله!

كلما اقترب شهر ربيع الأول، شهر ولادة الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم، ارتفعت أصوات المنتسبين إلى السلف في اتجاه منع الناس من التعرض لنفحات هذه الذكرى العطرة. هذا شيء عجيب! ماذا فعل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لماذا هذا التركيز الشديد على كل شيء له علاقة بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتذكير الناس بسيرته وأوصافه وشمائله؟!
لماذا لا يتحدث أحد عن بدعية صلاة التهجد في جماعة والتي تصلى في الحرمين الشريفين وفي كل ربوع العالم الإسلامي في شهر رمضان المعظم ولم يثبت نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في كل أيام العشر الأواخر من الشهر، ولا واظب على ذلك إلى أن انتقل؟! وصلاة التهجد ليست هي صلاة التراويح، شتان ما بينهما، فالتراويح التي سنها سيدنا عمر رضي الله عنه تقام أول الليل عقب صلاة العشاء، وعدد ركعاتها محدد على خلاف فيه، وتقام في كل أيام الشهر الفضيل. أما صلاة التهجد فإنها تقام في العشر الأواخر فقط من كل رمضان، وتقام آخر الليل، ويقرأ فيها عادة بثلاثة أجزاء من القرءان؟!
لماذا لا يتحدث أحد عن بدعية تنقيط المصحف الشريف ولم يكن منقطًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
لماذا لا يتحدث أحد عن بدعية تشكيل المصحف الشريف ولم يكن مشكَّلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
لماذا لا يتحدث أحد اليوم عن بدعية بناء المآذن وفرش المساجد وتزيينها ولم تكن كذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
لماذا لا يتحدث أحد اليوم عن بدعية العلوم الشرعية وطرق تدريسها، كعلم مصطلح الحديث الذي يصنف كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى صحيح وحسن وضعيف وموضوع، والرواة إلى ثقة وثبت وإمام وضعيف وواه؟

أليست كلها أمور دينية بحتة؟ نعم إنها كلها بدع حسنة، لكن لماذا لا يقولون حيالها: "لو كان خيرًا لسبقونا إليه الصحابة"؟ لماذا لا يقولون حيالها: "إن الدين اكتمل، وما لم يكن يومئذٍ دين لا يكون اليوم دينًا"؟ لماذا لا يقولون حيالها: "لا يمكننا أن نتصور أنهم جهلوا خيراً يُقربهم إلى الله زلفى وعرفناه نحن" يعني الصحابة رضوان الله عليهم؟!!

لماذا يقول مفتي دولة إسلامية كبرى: "إقامة الموالد الشركية لا أساس له من الدين" ثم يقول نفس المفتي عن اليوم الوطني لتلك الدولة: "ينبغي أن يكون اليوم الوطني يوم شكر لله"!!!

لماذا لا يتحدثون عن البدع الضلالات الحقيقية كالتكفير والتشريك والتقتيل؟! وهي بدع ضلالات لا شك فيها.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)؟! رواه مسلم

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه وكان ردئاً للإسلام، غيَّره إلى ما شاء الله فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك. قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي)؟!
أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبزار وحسنه، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد.

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"؟! أخرجه الشيخان.

لماذا فقط رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!

أولًا: جمهور علماء الأمة يقسمون البدعة إلى محمودة ومذمومة، ومنهم من قسمها إلى أحكام الشريعة الخمسة. وهم أكابر علماء الأمة المتفق على جلالتهم وورعهم وعلمهم كالإمام الشافعي، والزرقاني المالكي، وابن عابدين الحنفي والبدر العيني الحنفي، وابن رجب الحنبلي، والعز بن عبد السلام، والنووي، والسبكي وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهم خلق كثير.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "كل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنًا ومنها ما يكون بخلاف ذلك "اهـ.
قال ابن رجب الحنبلي: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة»
قال التفتزاني: «ومن الجهل من يجعل كل أمر لم يكن في عهد الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحدثات الأمور" ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل من الدين ما ليس منه»

وبذلك يقررالعلماء أن كل عمل جديد له أصل في الدين يدل عليه فهو ليس بدعة شرعًا وإن كان بدعة لغة، وهذا معنى "ليس منه" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"

ثاانيًا: إن ورود كلمة "كل" في الحديث "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" من العام المخصوص كما قال العلماء، لأن سيدنا عمر رضي الله عنه قال عن صلاة التراويح "نعمت البدعة" وفي رواية "نعم البدعة" فلو كانت كل بدعة ضلالة لما أثنى عليها. ثم إن الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه محدث فقال: "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين" فهل القرءان الكريم بدعة ضلالة لأنه محدث؟!!! ثم إن الله تعالى قال: "الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" والجلد إنما هو لغير المحصن، وغير ذلك من الأدلة الصريحة في هذا المعنى.

ثالثًا: الذين تكلموا في المولد غالبيتهم لا علاقة لهم بالسلف الصالح، بل عاشوا في القرن الثامن الهجري وما تلاه، ويبدو أنهم تأثروا بأفكار ابن تيمية الشاذة وأساليبه الماكرة في تضليل العوام. ابن تيمية الذي قاله عنه تلميذه الذهبي في (زغل العلم والطلب):  "قد تعبتُ في وزنه وفتَّشتُه حتى مللتُ في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخرَّه بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذَّبوه وكفَّروه، إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار. فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور" أهـ
ابن تيمية الذي استتيب سنة 707هـ وتاب وكتب توبته بخط يده بشهود قضاة المذاهب الأربعة وولي الأمر. ذكره الحافظ،في الدرر الكامنة والكتبي في تاريخه. والمستتاب في أمور العقيدة أحط من أن يقتدى به ويؤتم، بل الأولى تركه.

والعلماء الأجلاء الذي سبقوا قرن ابن تيمية ما أنكروا المولد النبوي الشريف بل أثنوا عليه واستحسنوه، قال أبو شامة المقدسي [ت 665هـ] شيخ الإمام النووي في (الباعث على إنكار البدع والحوداث): "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكرا لله على ما من به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين". اهـ
وقال السخاوي: "لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم" أهـ. والأبعد من ذلك أنهم ألفوا كتب موالد كالحافظ ابن الجوزي، والحافظ ابن دحية الكلبي، والحافظ ابن الجرزي والحافظ ابن كثير صاحب التفسير والحافظ العراقي، والحافظ السخاوي له مولد اسمه: "الفخر العلوي في المولد النبوي" وخلق كثير من حفاظ وعلماء الأمة الثقات. وقد صح عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص.

رابعًا: الحفل بالشيء هو الاهتمام به وإظهار العناية به، وهذا ثابت في ميلاد الأنبياء عليهم السلام من القرءان: "والسلام علي يوم ولدت"، وأثبت في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم حيث روى مسلم أنه عندما سئل عن صيام يوم الأثنين قال: "فيه ولدت". فصامه الصحابة رضوان الله عليهم احتفاءًا بذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم وكل من يصومه اليوم إنما يصومه احتفالًا بهذه الذكرى العظيمة.

خامسًا: أصَّل الحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني، الملقب بأمير المؤمنين في الحديث للمولد الشريف من حديث صيام عاشوراء، فإذا كنا نصومه شكرًا لنعمة إنجاء الله موسى عليه السلام من فرعون، فأي نعمة أعظم من ميلاد خير خلق الله أجمعين؟ الرحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم؟!!!

سادسًا: المباح هو ما لم يرد نص ينهى عنه، والمباح حلال، ومحرم الحلال كمستحل الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ولم يرد نص بالنهي عن المولد ولا كل بدعة حسنة، بل البدعة الحسنة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيء".

سابعًا: أما إنكار الاحتفال بالمولد بحجة أن فيه مشابهة لاحتفالات النصارى بميلاد المسيح فإننا لم نؤمر في الشريعة بمخالفة أهل الكتاب بشكل مطلق، بل في تعظيم الأنبياء والرسل والفرح بنعم الله عليهم نحن ليس فقط نوافقهم بل نكون أولى بها منهم، ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في صيام عاشوراء: "نحن أولى بموسى منكم"؟ فصامه وندب صيامه ورغب فيه ولم يقل نخالف أهل الكتاب في هذه الذكرى المباركة ونتجاهلها.

ثامنًا: أما إنكار الاحتفال بدعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم" فإن إطراء النبي صلى الله عليه وسلم -أي مدحه في حضوره- ثابت في شعر سادتنا حسان والعباس رضي الله وكثير من الصحابة رضي الله عنهم، فالنهي ليس عن الإطراء والمدح، وإنما عن المدح الذي يخرجه صلى الله عليه وسلم من العبودية لله تعالى كما فعل النصار فعبدوا عيسى واليهود فعبدوا عزيرًا، وهذا لا يقع من مسلم، بل إن الصحابة من شدة تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري في صحيحه كانوا يقتتلون على ماء وضوئه ولا يحدون النظر إليه تعظيمًا له، ولا يدعون نخامته الشريفة تقع إلا على يد أحد منهم فيدلك بها وجهه وجلده، هذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم سلفنا الصالح الذين نقتدي بهم ونتأسى في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوفيره.

تاسعًا: أما إنكار الاحتفال بدعوى أنه تقع فيه مخالفات، فإنها لو وقعت في صلاة العيدين أو في صلاة الجمعة أو في صلاة كسوف أو خسوف فإنها تكون مستنكرة، لكن لا يعني هذا أن نبطل صلاة العيدين أو صلاة الجمعة أو صلاة الكسوف والخسوف لأجل هذه المخالفات، بل يجب أن ننبه إليها لتصحيحها.

عاشرًا: لماذا يصر هؤلاء على إرغام الناس على ترك هذا العمل المبارك مع كل ما فيه من خير بادعاءات واهية؟ لماذا لا يعتبرونها مسألة خلافية كألوف المسائل التي تختلف فيها وجهات النظر مع وجود الدليل والحجة لدى كل طرف؟ لماذا يصرون على حمل الناس على فهمهم الضيق والسقيم؟ لماذا كل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لماذا يتأذَّون عندما ينفق المسلمون في هذه الذكرى العظيمة على إطعام المساكين والتوسيع وإدخال السرور على العيال والأهل والأقارب؟ أليس ذلك في سبيل الله؟!!! وكل إنفاق في سبيل الله قال العلماء إنه ليس من الإسراف في شيء.

ألا يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة الصالح، لا تكترثوا لدعاوى الخوارج في كل عصر. وكل عام والأمة بخير، بمناسبة قدوم ذكرى المولد النبوي الشريف.

صلاح الدين الصادق العوض
الخرطوم

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

بلوى التكفير والتشريك والتبديع والتقتيل

مما عمت به البلوى الإدعاء على الناس بالكفر والشرك والبدعة، والحكم على أفعالهم وأقوالهم بالظاهر وهذا خلل كبير. لأن التعويل في التدين إنما على القلب والنية قبل الفعل والقول، ومن المشهور عند الناس قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وفي رواية «إن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أحسابكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنَّن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إلي أتقاكم» وقوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ههنا التقوى ههنا التقوى ههنا) يشير إلى قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم. فالحكم على أفعال الناس وأقوالهم وسائر أعمالهم مع خفاء النية طامة كبرى. ولو كان التكفير يكون بالظاهر لكان سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه أول الكافرين لأنه نطق بكلمة الكفر! هل قالها ناويًا لها؟ حاشاه رضي الله عنه فقد قالها تحت التعذيب والإكراه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه قرءانًا يتلى إلى الأبد: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). ولو كان الشرك يكون بالظاهر لكانت الملائكة أول المشركين وبأمر الحق المبين سبحانه، لأنها سجدت لآدم عليه السلام، ولكان يعقوب عليه السلام وخالة يوسف وإخوته من المشركين لأنهم سجدوا ليوسف عليه السلام!!! ليس كل فعل ظاهره عبادة كالقيام والسجود والركوع والطواف يكون بالضرورة عبادة، إذا لابد من وجود نية التعبد. فالذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج ليقال فلان مصلٍّ وفلان صوام وفلان مزكٍ وحاج فلان، كلها لا تعتبر عند الله تبارك وتعالى عبادة، وفي الحديث: "أول الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر: يؤتى بالرجل، أو قال: بأحدهم، فيقول: رب علمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك، فيقال: كذبت، إنما كنت تصلي ليقال قارئ مصلٍّ، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، ثم يؤتى بآخر، فيقول: رب رزقتني مالًا فوصلت به الرحم، وتصدقت به على المساكين، وحملت ابن السبيل رجاء ثوابك وجنتك، فيقال: كذبت، إنما كنت تتصدق وتصلِّ ليقال إنك سمح جوَّاد، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، ثم يجاء بالثالث، فيقول: رب خرجت في سبيلك فقاتلت فيك حتى قتلت مقبلًا غير مدبر رجاء ثوابك وجنتك، فيقال: كذبت، إنما كنت تقاتل ليقال إنك جريء شجاع، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار". أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما. واليوم إذا وجدت أحدهم يقبِّل رجل أحدهم محبةً فليس هذا كافيا لتقول إنه يسجد لغير الله، وحتى لو سجد لهفليس هذا كافيا لأن تحكم عليه بالشرك إلا أن يكون قد سجد بنية التعبد، أما السجود بغير نية التعبد ففي شريعتنا حرام وليس شركًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها). وإذا وجدت أحدهم راكعًا يربط حذاءه أو حذاء أحدهم فليس هذا كافيا لتحكم عليه أنه ركع لغير الله تبارك وتعالى، نعم هو من حيث المظهر ركوع لكن من حيث الجوهر ليس فيه نية تعبد. وإذا وجدت أحدهم يركض حول ميدان "يجكُّ" فلا فليس هذا طواف كالطواف بالكعبة لانتفاء نية التعبد، وهكذا إذا وجدت أحدهم يصلي إلى حائط أو محراب أو حتى إلى الكعبة المشرفة مستقبلها وهي أحجار فلا يعني أنه يعبدها، لأن النية هي عبادة الله تبارك وتعالى. وعندما كان المسلمون يصلون إلى الكعبة قبل فتح مكة، كانت الأصنام داخل الكعبة، وما ضر هذا عبادة المسلمين آنذاك، وهكذا وعلى ذلك فقس. بل إن الشريعة الغراء نبهت إلى ترك تفتيش النوايا والتجسس والبحث عن الزلات والعثرات والفضائح، وفي الأمور القلبية كالإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والصدق والنفاق لا يُحكم على الأفعال والأقوال إلا أن يعترف الفاعل بنيته، لذلك قال المشركون من أهل الكتاب: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" معترفين بعبادة غير الله تعالى، وقال الكافرون: "قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون" معترفين بالكفر، وحكى الله تبارك وتعالى حال المنافقين فقال سبحانه: "وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" معترفين على أنفسهم بالنفاق. أما غير الإعتراف فليس لك على أحد من سبيل، ألا أن تدعي أنك مطَّلع على نوايا الناس. ولعله من أشهر ما في هذا الباب حديث سيدنا أسامة رضي الله عنهما المشهور، قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ من جُهَيْنَةَ، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: "لا إله إلا الله"، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). رواه البخاري ومسلم وفي رواية الأعمش: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا. وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" رواه مسلم وهذا بليغ في هذا المعنى، لذلك فإننا لسنا معنيين بتفتيش نوايا الناس فضلًا عن الإدعاء عليهم بما نتوهمه ومحاكمتهم على ذلك، بل نعاملهم بما ظهر وإن أشكل علينا شيء سألناهم وقبلنا إجابتهم وأمرهم إلى الله تعالى، وليس أدل على ذلك من حال المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يعاملهم بما تكنه صدورهم إلا بوحي من الله تبارك وتعالى وإن كان يعرف نفاقهم ويعرفهم كأشخاص. والشواهد على ما ذكرنا فيما تقدم من معانٍ كثيرة في الشريعة الغراء، نذكر طرفًا منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله. فاذا قالوها فقد عصموا دمائهم و اموالهم) رواه البخاري فالشهادة عاصمة للدماء والأموال إلا بحق الله الذي يقوم به الحاكم، مثل حد القتل أو زنا المحصن والسرقة وهكذا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا واكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري ومسلم ونبهت الشريعة الغراء أيضَا على فتن التكفير والتشريك والغلو، وأن المسلم يجب إلا يقع فيها وأن ينتبه إلى خطر الدنيا والتنافس عليها ففيه الهلاك، فعن عقبة بن عامر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. أخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبليس يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكنه سيرضى بدون ذلك منكم، بالمحقرات من أعمالكم وهي الموبقات". أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم خلق الله تبارك وتعالى، الذي أخبر بالفتن إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وأخبر عن أحوال يوم القيامة يقرر أنه لا يخاف الشرك على أمته وإنما يخاف عليها من الدنيا والتنافس عليها! فمن أسس دعوته على نبذ الشرك وإغفال الدنيا فهي دعوة ضلال، وكأنما يدعي أنه أعلم بالأمة من رسولها، وهذا تعسف بما لا يخفى. ثم يحذر المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة تحذيرًا بليغًا من التكفير والتشريك والإدعاء على الناس وجدالهم بالباطل وما يؤدي إليه ذلك من فتن وسفك دم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما " رواه مسلم وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه وكان ردئاً للإسلام، غيَّره إلى ما شاء الله فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك. قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي). أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبزار وحسنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن زل فلا تقطعوا عنه آمالكم، وأما جدال منافق بالقرآن، فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالِمِه، وأما دنيا تقطع أعناقكم، فمن جعل الله في قلبه غنى فهو الغني" أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي: رجل يتأول القرآن، يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره) أخرجه الطبراني في الأوسط وقال صلى الله عليه وسلم: (أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فاتهموها على أنفسكم) أخرجه البيهقي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ) رواه مسلم وإن حرمة المسلم عند الله لعظيمه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق". أخرجه البيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه، وفيهما ولا تنافسوا، ولا تهاجروا، ولا تقاطعوا" أخرجه البخاري ومسلم. و‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حرامًا) متفق عليه و‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) رواه البخاري ومسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه مسلم فليتنا نعي.. والواقع يشهد على البلوى التي نعيشها بالفهم السقيم لنصوص الكتاب والسنة اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد

الجمعة، 4 ديسمبر 2015

الفرح برسول الله ﷺ وبميلاده الأعظم

قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]

قال الإمام السيوطي في الدر المنثور:
"وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: فضل الله العلم ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء الآية 107)"

وقال ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير:
"فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس."

وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط:
"وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم."


والفرح هو السرور. قال تعالى:
(في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) [الروم: 4]
(والذين اتيناهم الكتاب يفرحون بما انزل اليك) [الرعد: 36]
(فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) [التوبة: 81]
(واذا اذقنا الناس رحمة فرحوا بها) [الروم: 36]

وقال رسول الله ﷺ: «لله تعالى أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك- أخطأ من شدة الفرح» أخرجه مسلم

والفرح بذكرى ميلاد النبي ﷺ هو فرح بأعظم نعمة للعالمين، فلولا هذا النبي العظيم ﷺ لما نزل علينا القرءان العظيم، الكتاب الخاتم، ولما نلنا به الخيرية بين الأمم، ولما حظينا به بالشفاعة الكبرى التي يعجز عنها حتى إبراهيم عليه السلام والملائكة المقربون.

وإذا كنا نفرح بذكرى عاشوراء لأنه اليوم نجى الله تعالى فيه موسى من فرعون، فإن الفرح بذكرى ميلاد سيد موسى عليه السلام وسيد جميع الأنبياء والمرسلين لهو أولى.

وإذا كنا نصوم يوم الأثنين تقربًا لله تبارك وتعالى فما ذاك إلا لأنه اليوم الذي ولد فيه الرحمة المهداة والنعمة المسداة ﷺ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة أن النبي ﷺ سئل عن صيام يوم الأثنين فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل علي".
سبحان الله! ومن عظمة يوم ميلاده ﷺ أن الله تبارك وتعالى اختاره ليكون يوم نزول القرءان، ويوم الهجرة، ويوم دخول المدينة، ويوم انتقاله إلى الدار الآخرة، فياله من يوم عظيم!

فهنيئًا لنا بذكرى ميلاد الرحمة للعالمين، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وعظِّم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه إلى يوم الدين.

الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

المبالغة في محبة النبي ﷺ

قال الله سبحانه وتعالى:
(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) صدق الله العظيم.

قال الكلبي:
نزلت في ثوبان، مولى رسول الله ﷺ، وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يُعرف في وجهه الحزن، فقال له رسول الله ﷺ: "يا ثوبان ما غير لونك؟" فقال: "يا رسول الله ما بي من ضُر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أرك أبداً"

وأخرج الحافظ أبو نعيم بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وأهلي وولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد رسول الله ﷺ شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية.

الله!

إنه حب رسول الله ﷺ الذي أودع الله فيه من الكمال والجمال والجلال ما لم يودع في أحد من خلقه، كيف لا وهو أكرم خلق الله على الله، عن ابن عباس أنه قال: "ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)

إنه حب الجميل الجليل، خَلقًا، وخُلقًا، فأسر حبه قلوب العاشقين المرهفة، الذين أظهر الله لهم من أسرار كماله وجماله وجلاله ﷺ ما يدهش العقول، ومن الحب ما قتل ومنه ما أوهن الجسم وانتحل.
فبشرى لمحبي هذا النبي العظيم ﷺ، فإن الله تبارك وتعالى قد أوجب محبته على جميع المؤمنين، وارتضى لهم أن تكون محبته على أسمى درجة ليكمل الإيمان، أن تكون محبته أعظم من محبة النفس.

النفس؟! نعم النفس، ولا شيء دون النفس!

فقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" أخرجه الإمام أحمد.

سبحان الله!
وأي حب عرفه الناس أكثر من حب النفس؟!

إن هذا الحب الفطري يتجلى في أحلك المواقف، كما ذكره الله تبارك وتعالى في سورة عبس إذ قال سبحانه:
(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [37])

ففي كرب يوم القيامة العظيم، الكل يقول نفسي نفسي، حتى الأنبياء والرسل عليهم السلام!
الكل همته نفسه، ونسي كل شيء إلا نفسه!

وإنه لشيء عجيب، أن يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نحب النبي ﷺ أكثر من النفس، وأكثر من أي شيء آخر،

قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [24])

فلماذا كل هذا الحب العظيم؟
الأسرار في ذلك أكثر من أن تحصى، لكن مما علم فلأن النبي ﷺ أرحم وأشفق وأرفق بنا من نفوسنا، أليس هو الرحمة للعالمين؟
قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 107]

وأولى بنا من نفوسنا وألطف؟
قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]

وأحرص على نجاتنا وأدرى بأنفسنا من أنفسنا؟
فقد قال رسول الله ﷺ:
«مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ -أي يبعدهن- عنها، وأنا آخذ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وأنتم تَفَلَّتُونَ من يدي» أخرجه مسلم

إن الله تبارك وتعالى أوجب محبة حبيبه ﷺ أكثر من أي شيء آخر حتى النفس، لأن محبة رسول الله ﷺ هي من محبة الله تبارك وتعالى، والذي يحب رسول الله ﷺ أكثر من النفس فسيكون أقدر الناس وآهلهم على طاعة الله تبارك وتعالى فيما شرع، واتباع النبي ﷺ بصدق وإخلاص وتفاني فيما أمر، ويكون أكثر الناس استعدادًا للتضحية وبذل النفس في سبيل الله تعالى بلا تردد أو تواني.

وإن الإيمان بالله تبارك وتعالى الذي ينشد كل مؤمن زيادته له حلاوة وطعم يذاق، وليس على وجه الكون حلاوة ألذ من حلاوة وطعم الإيمان. فكيف السبيل إلى هذه الحلاوة وتلك اللذة التي ليس لها مثيل؟

أرشدنا حضرة النبي ﷺ إليها في حديث شريف، بيَّن فيه أن أهم شروط الحصول على هذه اللذة الفريدة: (أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما)،

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار." أخرجه البخاري ومسلم

فصلِّ اللهم وسلم وبارك وعظَّم ومجَّد وأكرم على هذا النبي الرؤوف الرحيم، الكريم الحليم، الجميل، الجليل، الذي بهر سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه حسنه فأنشد:
وأحسن منك لم تر قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءًا من كل عيب *** كأنك قد خُلِقْتَ كما تشاء

ما علامة محبته ﷺ؟
إن المحبة بالأساس أمر قلبي ينتج عن معرفة المحبوب وجماله، كريم شيمه، وسجاياه وخصاله، ومن أحب شيئًا أكثر من مدحه، ولهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستوحش من فراقه.

أما المدح والثناء وكثرة ذكر المحبوب فقد أشار الله تبارك وتعالى إليه في قوله: (أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا) حيث كان العرب في الجاهلية يعتزون جدًا بآبائهم ويفخرون بهم فخرًا شديدًا ويكثرون من ذكر مناقبهم وأمداحهم.
وأما الشوق إلى لقاء المحبوب فتعج به أشعار الجاهلية وأشعار الحب العذري والغزل العفيف.

هذا يكون بالنسبة للمحبوب العادي، فكيف يكون الأمر في محبوب أحب إلى النفس من النفس؟!
لابد أن ذلك يكون مضاعفًا أضعافًا كثيرة، ومن يجهل ذلك لا يعذر المحبين لرسول الله ﷺ عندما يبالغون في كثرة الصلاة عليه وذكر صفاته وشمائله،
وعندما يبالغون في مدحه والثناء عليه وإبراز جميل شيمه وسجاياه ﷺ،
وعندما يذوبون شوقًا إلى لقائه منامًا ويقظة كما بشرت بذلك الأحاديث الشريفة. قال رسول الله ﷺ:
(من رأني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) أخرجه البخاري

ولما كان الشوق إلى رسول الله ﷺ يتضمن مكنون الحب حتى لو لم يتمكن المحب من التعبير عنه، أشار رسول الله ﷺ إلى أن المشتاقين إليه هم أهل محبته الحقيقيون، وأن أكبر علامة على المحبة هي الشوق إلى رؤيته ﷺ،

قال رسول الله ﷺ:
"من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" أخرجه مسلم
وفي رواية: "متى ألقى إخوانى؟! قالوا ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابى، وإخوانى الذين آمنوا بى ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق" أخرجه أبو يعلى والإمام أحمد

وهذا صريح في أن الشوق إلى رؤيته هو دليل شدة المحبة، فوصف المشتاقين إليه بأنهم أكثر الناس حبًّا له ﷺ، وأنه ﷺ يبادلهم هذا الشوق كرمًا منه وفضلًا، فيا عظمة المحبين بذلك الوصل من سيدنا محمد ﷺ.


نعم إن المحب لمن يحب مطيع، لكن المحبة تتدرج في قلب المحب صعودًا كلما ازداد معرفةً بمحبوبه، إلى أن تكمل وتبلغ المرحلة التي يكون فيها هواه تبعًا لما جاء به المحبوب.

لذلك لا نقول إن علامة المحبة الطاعة للمحبوب، لأن الطاعة الكاملة للمحبوب وحسن الإتباع له ينتجان عندما تستكمل المحبة وتطغى على كل قلبه، ولعل هذا من مراد الله تبارك وتعالى في أن يأمرنا بأن تكون محبة النبي ﷺ أعظم من محبتنا لأنفسنا حتى نرقى بذلك إلى درجة أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به المعصوم ﷺ.

والدليل على هذا المعنى أن النبي ﷺ شهد لمدمن خمر بمحبته لله ولرسوله، فعن عمر رضي الله عنه أن رجلًا كان يلقب حمارًا، وكان يهدي لرسول الله ﷺ العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه جاء به إلى رسول الله ﷺ، فيقول: يا رسول الله، أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله ﷺ على أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجيء به يومًا إلى رسول الله ﷺ، وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «لا تلعنوه؛ فإنه يحب الله ورسوله». أخرجه البخاري وأبو يعلى وغيرهما.

فلو كان اقتراف كبيرة كشرب الخمر، بل إدمانها ينفي عن المؤمن محبته لله ولرسوله ﷺ لما شهد له رسول الله ﷺ.

ومعلوم أن كل مؤمن يحب الله ورسوله ومع ذلك فقد قال رسول الله ﷺ:
(كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالمعصية ووقوع الخطأ من المؤمن لا يقتضيان انتفاء المحبة عنه.


يقول العارفون إن شفاعة المحبة أضمن من شفاعة العمل، أي أن النجاة يوم القيامة بالمحبة أضمن من النجاة بالعمل الصالح، وذلك لأن العمل له آفات كثيرة كالرياء والعجب والمن والأذى وغير ذلك، أما المحبة إن صدقت فلا آفة لها.

وعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال: متى الساعة؟
قال: "وماذا أعددت لها؟"
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ،
فقال: "أنت مع من أحببت".
قال سيدنا أنس رضي الله عنه:
فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) أخرجه البخاري ومسلم

أنظر كيف أن المحبة كفيلة بأن تجعلك في معية النبي ﷺ وصحابته وإن لم تعمل بالعمل الذي يؤهلك لهذه المعية السامية.

ومما تقدم يتبين أن المحبة أمر قلبي عاطفي علامته الشوق إلى رؤية المحبوب ﷺ وليس كمال الإتباع إلا عندما تتمكن من القلب، وذلك لأن المحبة أصلًا هي من الإيمان، والإيمان من الركن الأول من أركان الدين، وما سواه من الأعمال الصالحة يأتي في بقية الأركان.
أما قوله تبارك وتعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم) فإنه يشير إلى أن محبة الله تبارك وتعالى لا تدرك إلا بواسطة النبي ﷺ، فكل من يزعم محبة الله تبارك وتعالى فعليه أن يؤمن برسالة سيدنا محمد ﷺ ويتبع دينه ويأتي من ورائه، وقد قال رسول الله ﷺ:
"والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"

أحوال السلف الصالح في محبتهم لرسول الله ﷺ:
لقد كان السلف الصالح يحبون النبي ﷺ لدرجة عجيبة، فكانوا يكثرون الصلاة عليه بشكل عجيب. أخرج الترمذي بسنده وصححه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟
قال: "ما شئت"
قال: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"
قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذًا تكفى همك، ويغفر ذنبك"

وذكر القاضي عياض في "الشفا":
▪أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للنبي ﷺ: (لأنت أحب إلي من نفسي)، وعنه رضي الله عنه أنه قال للعباس رضي الله عنه: "أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب لأن ذلك أحب إلى رسول الله ﷺ"

▪وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ﷺ).

▪وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت:
(ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله ﷺ وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم، ويقول: "هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل رب قبضي إليك" حتى يغلبه النوم).

▪وعن ابن إسحاق أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله ﷺ فقالت:
"ما فعل رسول الله ﷺ؟"
قالوا: "خيرًا، هو بحمد الله كما تحبين" قالت: "أرنيه حتى أنظر إليه" فلما رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"

▪وسئل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمإ"

▪وعن زيد بن أسلم قال: خرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحًا في بيت وإذا عجوز تنقش صوفًا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار *** صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار *** يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
تعني النبي ﷺ، فجلس عمر رضي الله عنه يبكي.

▪وروي أن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خدرت رِجلَه فقيل له اذكر أحب الناس إليك يزل عنك فصاح "يا محمداه" فانتشرت وانبسطت.

▪ولما احتضر سيدنا بلال رضي الله عنه نادت امرأته: "واحزناه" فقال: "واطرباه، غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه"

▪ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: "اكشفي لي قبر رسول الله ﷺ"، فكشفته لها فبكت حتى ماتت.

▪ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: "أنشدك الله، يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟" فقال زيد: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا"

▪وورد أن ابن عمر رضي الله عنهما وقف على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله فاستغفر له وقال: "كنت والله ما علمتُ صوَّامًا، قوَّامًا، تحب الله ورسوله"


ومحبته وتعظيمه ﷺ في حياته كمحبته وتعظيمه بعد وفاته، قال إسحاق التجيبي:
▪كان أصحاب النبي ﷺ بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا وكذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا وتوقيرًا.

▪ومن محبته ﷺ محبة كل ما يحبه ﷺ من آله بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم فمن أحب شيئا أحب من يحب، وقد قال ﷺ في الحسن والحسين: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، وفي رواية في الحسن (اللهم إني أحبه فأحب من يحبه)، وقال: (من أحبهما فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغضهما فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله).

▪وقال: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فيحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه).

▪وقال في فاطمة رضي الله عنها: (إنها بضعة مني، يغضبني ما يغضبها).

▪وقال لعائشة رضي الله عنها في أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أحبه فإني أحبه).

▪وقال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم).

هل كلمة عشق تلائم الكلام عن محبته ﷺ؟

نعم، بل إن كلمة عشق هل أكثر كلمة يمكن أن تعبر عن المبالغة في محبة النبي ﷺ، فقد قال أهل اللغة العربية والمعاجم: العشق هو فرط الحب، وهو الحب الشديد، وقيل هو عُجْب المحب بالمحبوب، كما في لسان العرب وغيره.

وسئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشْقِ أَيّهما أَحمد؟ فقال الحُب لأن العِشْقَ فيه إِفراط.

وسمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إِذا قطعت، والعَشَقَةُ شجرة تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ عن الزجاج.

وقال صاحب تاج العروس:
قد ألّف الرّئيسُ ابنُ سينا في العِشْقِ رسالةً وبسَط فيها معْناه وقال: إنّه لا يخْتَصّ بنوْع الإنْسان بل هوَ سارٍ في جَميع الموْجودات: من الفلَكِيّاتِ والعُنْصُريّات والنّباتات والمعْدِنيّات والحَيوانات، وأنّه لا يُدرَك معْناه ولا يُطَّلَع عليه، والتّعْبير عنه يَزيدُه خَفاء، وهو كالحُسْنِ لا يُدرَكُ ولا يُمكن التّعْبير عنه وكالوَزْن في الشِّعرِ وغيرِ ذلِك مما يُحالُ فيه على الأذْواقِ السّليمة والطِّباع المُسْتَقيمة.

ومع كون أن الحب يمكن أن يكون في الخير والشر فإن هناك دائمًا استعمالات مجازية، عفيفة، يعرفها أهل الذوق السليم، والعشق كذلك والهوى وغيرها من عبارات الغرام. فالهوى عند أهل اللغة والمعاجم هو الميل مع الشهوة، وهو ظاهر  في قوله تعالى: (ولا تتبع الهوى) وقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، لكنه عند أهل الذوق والروق والأدب والسمو هو منتهى الميل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به).



فنسأل الله تبارك وتعالى أن يغرق قلوبنا في بحر محبته، ومحبته حبيبه ﷺ ويرزقنا رؤيته منامًا ويقظة في الدنيا، ومعيته في الآخرة، إنه سميع مجيب.

اللهم صلِّ وسلم على الذات المحمدية، وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد