الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

مرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير وتعالى عن المثل فقال عز وجل: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ءاية 11 [سورة الشورى]، أحمده على أن ألهمنا العمل بالسُّنة والكتاب، ورفع في أيامنا أصباب الشك والارتياب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزّه خالقة عن التحيز في جهة لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ءاية 4 [سورة الحديد]، وأشهد أنَّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في ءالاء الله ونهى عن التفكر في ذاته، صلى الله عليه وعلى ءاله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيّد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.

وبعد، فان العقائد الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية، هي الأساس الذي يبنى عليه [والمَوئِلُ]23 الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها فقد فاز فوزا عظيما، ومن حاد عنها فقد استوجب عذابا أليما، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها، وتُصان عقائد الملة عن الاختلاف، وتزان قواعد الأئمة بالائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرّق من فِرَقِها ما اجتمع.

وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه، ومدَّ [بجهله] عنان كلمه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونصَّ في كلامه [الفاسد] على أمور منكرات، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وعلماء شامه ومصره، وبعث برسانله إلى كل مكان، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه المريدون له من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه، حتى قيل إنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت [والتشبيه] و التجسيم قمنا في الله تعالى مشفقين من هذا النبا العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعز علينا أن تشيع عمّن تضمه ممالكنا هذه السمعة. وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ءاية 91 [سورة المؤمنون]، فإنه [سبحانه وتعالى] تنزه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير: ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ءاية 103 [سورة الأنعام]، فتقدمت مراسيمنا باستدعاء [ابن تيمية] المذكور إلى أبوابنا العالية عندما سارت فتاويه [الباطلة] في شامنا ومصرنا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو لبّ إلا وتلا قوله تعالى: ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ﴾ ءاية 74 [سورة الكهف].

ولما وصل إلينا تقدمنا إلى أولي العقد والحل، وذوي التحقيق والنقل، وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعقد له مجلس شرعي في ملأ وجمع من الأئمة، [ومن له دراية في مجال النظر ودفع] فثبت عندهم جميع ما نسب إليه، [بقول من يعتمد وبعول عليه]، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وءاخذوه بما شهد به قلمه تالين: ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ ءاية 19 [سورة الزخرف]، ونقل إلينا انه كان استتيب مرارا فيما تقدم، وأخره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثم عاد بعد منعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه.

وصح ذلك في مجلس الحاكم العزيز المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور وأن يمنع من التصرف والظهور، ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن [التشبيه في] اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متبعا، أو لهذه الألفاظ مستمعا، أو يسري في التشبيه مسراه، أو أن يفوه بجهة العلو بما فاه، أو أن يتحدث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك إلى الموت، أو يتفوه بتجسيم، أو ينطق بلفظ في ذلك غير مستقيم، أو خرج عن رأي الأئمة، أو ينفرد به عن علماء الأمة، أو يُحَيَّز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرّض إلى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلا السيف.

فليقف كل واحد عند هذا الحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل من الحنابلة بالرجوع عن هذه العقيدة، والخروج عن الشبهات الزائغة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فانَّه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل، والسجن الطويل مستقره ومقيله وبئس المقيل.

[وقد رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك الجهات الدانية و القاصية بالنهي الشديد والتخويف والتهديد لمن اتبع ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه] ومن أصرَّ على الامتناع وأبى إلا الدفاع، أمرنا بإسقاطهم من [مدارسهم] ومناصبهم، ووضعهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا قضاء ولا حكم ولا ولاية ولا تدريس ولا شهادة ولا إمامة بل ولا مرتبة ولا إقامة، فإنَّا أزلنا دعوة هذا الرجل من البلاد، وأبطلنا هذه العقيدة التي أضل بها كثيرا من العباد أو كاد [بل كم أضل بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد، ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية]، وقد أعذرنا وحذرنا وأنصفنا حيث أنذرنا، وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر، وأعدل ناه وءامر إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده وصلواته على نبينا محمد وءاله وصحبه وسلم. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه. وكتب ثامن عشري شهر رمضان سنة خمس و سبعمائة. ا هـ.