الخميس، 10 سبتمبر 2015

أحوال السلف الصالح وتأثرهم بالقرءان والموت والعظة وكل ما يذكر بالآخرة

ما هو الحال؟

الحال هو تذوق الروح للإيمان، وهذا التذوق يكون أحيانًا في شكل دموع، أو بكاء، أو نحيب، أو صياح، أو إغماء أو إغشاء وصعق، ووفاة وقد يكون فرحًا وضحكًا، كما في بشارة النبي ﷺ للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أنها أول الناس لحوقًا به.

هذه الأحوال ليست فقط للبشر وإنما للجمادات أيضًا كما في بكاء الجذع حنينًا للنبي ﷺ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي ﷺ إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي ﷺ فوضع يده عليها فسكنت» أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن سيدنا أنس رضي الله عنه: «فحنت الْخَشَبَة حنين الوالدة»، وَفِي رِوَايَته عِنْد الدَّارمِيّ: «خار ذَلِك الْجذع كخوار الثور»، وَفِي حَدِيث سيدنا أبي بن كَعْب رضي الله عنه عِنْد الإمام أَحْمد: «فَلَمَّا جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ»، وفي رواية للنسائي في الكبرى: «اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة الحلوج» والحلوج: النَّاقة الَّتِي انتزع مِنْهَا وَلَدهَا.و روى ابن ماجه بسند صحيح عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

 وأيضًا كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [البقرة: 74] وقوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]. أما بالنسبة للبشر فإن نور الإيمان والذكر والتجلي تؤثر فيهم  بصورة واضحة وجلية فتصعقهم كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: 145].

يختلف الحال باختلاف تحمل الأرواح والأنفس لنور الإيمان، والناس يتفاوتون في التأثر والتفاعل، فمنهم سريع الدمع ومنهم عصيُّه، ومنهم رقيق الفؤاد لين القلب ومنهم غليظه ومنهم دون ذلك، كما قال رسول الله ﷺ: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا» أخرجه الشيخان.

ومن المحزن أنه قد ظهر مؤخرًا من ينكر على الناس ما يعتريهم من أحوال عفوية كأنه يفتش ما في قلوبهم ويحكم عليه، ويزعم بجهل واضح أن تلك الأحوال لم تؤثر عن النبي ﷺ ولا صحابته ولا التابعين عليهم من الله الرضوان، وكأن كل لحظة مرت بالنبي ﷺ وصحابته والتابعين رضوان الله عليهم دونت في كتب الحديث والسنة! يجب الإنتباه إلى أن ليس كل شيء مما وقع في الصدر الأول دُوِّن في السطور، وأن كثيرًا من مصادر الحديث والسيرة مسروق ومفقود، وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الإثبات مقدم على النفي. ومع ذلك فلابأس من أن نسوق في هذه العجالة طرفًا من الآثار المروية عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فيما يتعلق بالأحوال وتأثرهم بنور الإيمان والذكر.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه ﷺ {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم، وأهليكم نارا} [التحريم: 6] تلاها رسول الله ﷺ على أصحابه ذات ليلة، أو قال يوم فخر فتى مغشيا عليه فوضع النبي ﷺ يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك، فقال: «يا فتى، قل لا إله إلا الله» فقالها فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله، أمن بيننا؟ فقال رسول الله ﷺ: «أما سمعتم قول الله عز وجل {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 14]»
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان شاب على عهد رسول الله ﷺ يبكى عند ذكر النار، حتى حبسه ذلك فى البيت، فذكر ذلك للنبى ﷺ، فأتاه النبى  ﷺ، فلما نظر إليه الشاب قام فاعتنقه وخر ميتًا، فقال النبى ﷺ: «جهزوا صاحبكم فإن الفَرَقَ من النار فَلَذَ كبده، والذى نفسى بيده لقد أعاذه الله منها، من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه».
أخرجه ابن أبى الدنيا وابن المبارك في [الزهد والرقائق] والموفق بن قدامة فى [البكاء والرقة]

وعن حمران بن أعين رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قرأ: {إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} [المزمل: 13] فصعق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: فبكى حتى أغشي عليه.
أخرجه المروزي في [مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر] والقرطبي في التفسير

وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت، لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم، ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال، قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت، ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار.» وفي الحديث: إن معاوية لما بلغه هذا الحديث، بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون - أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} [هود: 15 - 16]
أخرجه بن رجب في جامع العلوم والحكم لابن رجب

وعن محمد بن على عن على: أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله: خبرنى بما رأيت فى الجنة ليلة أسرى بك، فقال: «يا ابن الخطاب لو لبثت فيكم ما لبث نوح فى قومه ألف سنة أحدثكم عما رأيت فى الجنة لما فرغت منه، ولكن يا عمر إذا قلت لى حدثنى فسأحدثك عما لم أحدث به غيرك، رأيت فيها قصورًا أصولها فى أرض الجنة وأعلاها فى جوف العرش فقلت: يا جبريل هى فى جوف العرش وأركانها فى أرض الجنة؟ قال: لا أدرى، قلت: يا جبريل أخبرنى من يصير إليها ومن يسكنها وإذا ضؤها كضوء الشمس فى الدنيا؟ قال: يسكنها ويصير إليها من يقول الحق ويدعو إلى الحق وإذا قيل له الحق لم يغضب ومات على الحق، قلت: يا جبريل هل تسمى أحدًا؟ قال: نعم رجلا واحدًا، قلت: من ذاك الواحد؟ قال: عمر بن الخطاب»، قال: فشهق شهقة خرَّ مغشياً عليه إلى الغد من تلك الساعة.
أخرجه ابن مردويه والسيوطي في جامع الأحاديث

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن بلالًا رضي الله عنه رأى في منامه النبي ﷺ وهو يقول له: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه حزينًا وجِلًا خائفًا، فركب راحلته، وقصد المدينة فأتى قبر النبي ﷺ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: (يا بلال، نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله ﷺ في السحر)، ففعل فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال: (الله أكبر، الله أكبر) ارتجت المدينة فلما أن قال: (أشهد أنْ لا إله إلا الله) زاد تعاجيجها أو رجتها، فلما أن قال: (أشهد أن محمدًا رسول الله) خرج العواتق من خدورهن، فقالوا: (أبُعثَ رسول الله ﷺ؟) فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكيةً بعد رسول الله ﷺ من ذلك اليوم.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد، وابن الأثير في أُسْد الغابة، والذهبي في سير أعلام النبلاء والسمهودي في وفاء الوفاء

وروي عن النبي ﷺ أنه قال لأبي هريرة ولسمرة بن جندب ولرجل آخر (آخر موتاكم موتا بالنار) فمات الرجل قبلهما وبقي أبو هريرة وسمرة فكان إذا اراد الرجل أن يغيظ أبا هريرة يقول: "مات سمرة" فإذا سمعه غشي عليه وصعق، ثم مات أبو هريرة قبل سمرة.
أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي وأبو نعيم السيوطي في الخصائص الكبرى وغيرهم

وقال الجوزجاني في كتاب [النواحين] حدثنا صاحب لنا عن جعفر بن سليمان عن لقمان الحنفي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب ينادي في جوف الليل: «واغوثاه من النار»، فلما أصبح قال: «يا شاب لقد أبكيت البارحة أعين ملأ من الملائكة كثير»

و قال سليمان بن سحيم: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى:
{وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين} أو نحو ذلك.
أخرجه أبو عبيدة

وكان الإمام مالك إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ اصفر وما رأته يحدِّث عن رسول الله ﷺ إلا على طهارة، ولقد اختلفتُ إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليًّا وإما صامتًا وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه وكان من العلماء والعُبَّاد الذين يخشون الله عز وجل، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله ﷺ، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفك ولا عرفته، لقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي ﷺ بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه، وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أحذه العويل والزويل. ولما كثر على مالك الناس قيل له لو جعلت مستمليًا يسمعهم، فقال قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وحرمته حيًّا وميتًا سواء. وكان ابن سيرين ربما يضحك فإذا ذكر عنده حديث النبي ﷺ خشع، وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي ﷺ أمرهم بالسكوت وقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وبتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله.
الشفا في شرف المصطفى للقاضي عياض الحافظ

وعن سفيان بن عيينة قال: حج علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين رضي الله عنهم أجمعين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال أخشى أن أقول: "لبيك" فيقول لي: "لا لبيك" فقيل له: لا بد من هذا، قال: فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، والذهبي في تاريخ الإسلام، والمزي في تهذيب الكمال وابن حجر في تهذيب التهذيب

وروى ابن حبان في [الثقات] أن أبا فاطمة اسمه عمرو الإيادي - ويقال إن له صحبة- غزا المشرق والمغرب رأوه غازيا بذي الطوازى من ناحية المغرب وقد اسودت جبهته وركبتاه من كثرة السجود ورأوه بالترمذ غازيا يؤم الناس فقرأ سورة الحاقة في صلاة الغداة فما أتمها شهرا كان إذا بلغ إلى قوله تعالى خذوه فغلوه غشي عليه.

وعن الحسن قال: كان في زمن عمر رضي الله عنه فتى ينتسك ويلزم المسجد فعشقته جارية فجاءته فكلمته سرا فقال يا نفسي تكلمينها فتلقي الله زانية فصرخ صرخة غشي عليه، فجاء عم له فحمله إلى منزله فلما أفاق قال له: يا عم الق عمر فاقرأ مني عليه السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ ثم صرخ صرخة أخرى فمات، فذهب عمه إلى عمر فقال له: عليك السلام جزاؤه جنتان جزاؤه جنتان.
أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق

وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق قال:
عن محمد بن عمر قال سمعت أبا عبد رب العزة عبد الجبار الدمشقي يذكر عن أويس القرني قال: كان إذا نظر إلى الرؤوس المشوية يذكر هذه الآية {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} ثم يقع مغشيا عليه.

وعن ميمون بن مهران الجزري قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل على فقال: يا أبا أيوب، هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى فدخلت فيهم المثلات واستحكم فيهم البلاء، فأصابت الهوام في أبدانهم مقيلا! قال ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله جل.

وعن إبراهيم بن بشار قال: سمعت الفضيل يقول بلغني أن خالد بن صفوان دخل على عمر فقال له عمر بن عبد العزيز: عظني يا خالد،  فقال: إن الله عز وجل لم يرض أحدا أن يكون فوقك فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك، قال: فبكى عمر حتى غشي عليه،ثم أفاق فقال : هيه يا خالد لم يرض أن يكون أحد فوقي فوالله لأخافنه خوفا ولأحذرنه حذرًا ولأرجونه رجاءً ولأحبنه محبةً ولأشكرنه شكرًا ولأحمدنه حمدًا، يكون ذلك أشد مجهودي وغاية طاقتي ولأجتهدن في العدل والنصفة والزهد في فاني الدنيا لزوالها والرغبة في بقاء الآخرة لدوامها حتى ألقى الله عز وجل فلعلي أنجو مع الناجين وأفوز مع الفائزين، وبكى حتى غشي عليه قال: وتركته مغشيا عليه وانصرفت.

وقال إبراهيم بن أدهم: يا ابن بشار، مثِّل لبصر قلبك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك، فانظر كيف تكون. ومثِّل له هول المطلع ومسائله منكر ونكير فانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب والوقوف فانظر كيف تكون، ثم صرخ صرخة فوقع مغشيا عليه.

وعن أبو بكر بن عياش قال صليت خلف فضيل بن عياض المغرب وعلى ابنه إلى جانبى فقرأ {ألهاكم التكاثر} فلما قال {لترون الجحيم} سقط على بن فضيل على وجهه مغشيا عليه وبقى فضيل عند الآية، فقلت في نفسي ويحك ما عندك من الخوف ما عند فضيل وعلي، فلم أزل أنتظر عليا فما أفاق إلى ثلث من الليل بقى.

وكان يزيد الرقاشي يقول ويحك يا يزيد من يصوم عنك؟ من يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يترضى لك ربك من بعد الموت؟ ثم يقول: يا معشر الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم مَن الموت موعده والقبر بيته والثرى فراشه والدود أنيسه وهو مع ذا ينتظر الفزع الأكبر ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه.

وقال أبو سليمان الداراني لأم هارون: تحبين الموت؟ قالت: لا؟ قال: ولِمَ تكرهين لقاء الله؟ ففاضت دموعها بالانتحاب فقالت: يا أبا سليمان لو عاديتُ آدميا لكرهت لقاءه، فصرخ أبو سليمان ووقع مغشيا عليه.

وأخرج  المروزي في مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر فقال: كان عمرو بن عتبة لا يتطوع في المسجد فصلى مرة العشاء ثم جاء منزله فقام يصلي حتى إذا بلغ {وأنذرهم يوم الآزفة} [غافر: 18] بكى، ثم سقط، فمكث ما شاء ثم أفاق، فقرأ {وأنذرهم يوم الآزفة} [غافر: 18] فبكى، ثم سقط فلم يزل كذلك حتى أصبح.

وقال سفيان: كان منصور بن المعتمر رحمه الله قد عمش من البكاء، وربما رأيته يصلي ههنا وأضلاعه تختلف فزعموا أنه صام سنتين وقامهما، وكانت له أم ولد، فقال: لا يمنعنك مكاني فتزوجي إن أردت ذاك، قال: ولو رأيت منصورا يصلي لقلت يموت للساعة.

وقرأ زرارة بن أوفى وهو يؤم في المسجد الأعظم {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير} [المدثر: 8] فخر ميتا. قال بهز بن حكيم رحمه الله: «فكنت فيمن احتمله حتى أتينا به داره».

وقيل لفضيل بن عياض رحمه الله: ما سبب موت ابنك؟ قال: «بات يتلو القرآن في محرابه فأصبح ميتا»

وجاء في تهذيب الكمال للمِزِّي:
قال عبد الله بن المبارك: خير الناس الفضيل بن عياض وخير منه ابنه علي. رورى بسنده قال: حدثنا محمد بن ناجية قال: صليت خلف الفضيل بن عياض فقرأ الحاقة في صلاة الغداة فلما بلغ إلى قوله {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} غلبه البكاء وكان ابنه علي في الصف معنا فسقط مغشيا عليه، وركع فضيل ثم قام فقرأ بقية السورة في الركعة الثانية ثم حملنا عليا وأدخلناه منزله فلم يزل مغمى عليه إلى بعد العصر. فقيل للفضيل هذا الذي يصيب عليا من أي شيء يكون يا أبا علي؟ قال: لا أعلمه إلا من نقاء القلب.

وقال أبو حاتم سمعت أبا نعيم وذكر العلاء بن عبد الكريم فأثنى عليه وقال مهدي بن حفص عن أبي بكر بن عياش: دخلت على العلاء بن عبد الكريم فتذاكرنا أمر الآخرة فقلت ما هو إلا العفو أو النار فصاح العلاء وسقط مغشيا عليه.

وعن عيينة بن الفيض، قال: قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب ولكن إذا طغى بهم اللهب أرسبتهم في النار، قال: ثم خر الحسن مغشيا عليه.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف

وقال يحيى: سمعت شيخا، في مقبرة الخيزران نسيت اسمه قال: «صليت خلف سفيان الثوري الغداة فقرأ سورة من المفصل، فسقط مغشيا عليه فنحيناه ناحية من المسجد، فصلينا، ثم رجعنا إليه وهو على حاله لم يفق، فحملناه إلى منزله، ولا أدري متى أفاق»
أخرجه ابن الجعد في مسنده

وقال ابن خزيمة: سألت يونس بن عبد الأعلى الصدفي عن سبب موت عبد الله بن وهب، فقال:«كان يقرأ عليه كتاب الأهوال فقرئ عليه خبر فخر مغشيا عليه فحملناه وأدخلناه الدار فلم يزل مريضا حتى توفي رضي الله عنه»
أخرجه الحاكم في المستدرك

وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء فقال:
عن أحمد بن سعيد الهمداني قال دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقرأ (وإذ يتحاجون في النار) فسقط مغشيا عليه فغسل عنه النورة وهو لا يعقل

وعن بكر بن معاذ يقول سمعت عبد الواحد بن يزيد يقول: يا اخوتاه ألا تبكون خوفًا من النيران؟ ألا وإنه من بكى خوفًا من النارأعاذه الله تعالى منها، يا إخوتاه ألا تبكون خوفًا من شدة العطش يوم القيامة؟ يا إخوتاه ألا تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا، لعله أن يسقيكموه في حظائر القدس مع خير القدماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، قال ثم جعل يبكي حتى غشى عليه.

وأخرج الذهبي في تاريخ الإسلام فقال:
قال ابن عيينة: ما رأيت أحدا أخوف لله من الفُضَيل وابنه علي. قال الذهبي: بلغنا أن عليا سمع قارئا يتلو بصوت شجي قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد} فشهق وسقط ميتًا، رحمه الله. وله أخبار في الغشي عند التلاوة.

وقال الفضيل: قال لي ابن المبارك: ما أحسن حال من انقطع إلى ربه عز وجل، فسمع ذلك ابني فسقط مغشيا عليه.

وعن أبي يزيد الهدادي قال: انصرفت من الجمعة، فإذا عطاء السليمي وعمر بن ذر يمشيان، وكان عطاء قد بكى حتى عمش، وكان عمر قد صلى حتى دبر، فقال عمر لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف! فصاح عطاء وخر مغشيا عليه فانشج موضحه، واجتمع الناس فلم يزل على حاله إلى المغرب، ثم أفاق فحمل.

وقال العلاء بن محمد: شهدت عطاء السليمي خرج في جنازة، فغشي عليه أربع مرات.

وقال الأصمعي: حدثنا أبو يزيد قال: قال عطاء: مات حبيب، مات مالك، مات فلان، ليتني مت فكان أهون لعذابي.

وقال يحيى بن أيوب: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة فإذا الفضيل، وشيخ معه فدخل زافر، وأقعدني على الباب، قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلي، ثم قال: يا أبا سليمان هؤلاء [ص:945] المحدثون يعجبهم قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه: رسول الله ﷺ، عن جبريل، عن الله تعالى: " نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد " فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس.
قال: ثم غشي عليه، وعلى الشيخ، وجعل زافر ينظر إليهما، ثم تحرج الفضيل فقمنا، والشيخ مغشي عليه.

وأخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة فقال:
عن منصور بن عمار قال: تكلمت يوما في المسجد الحرام فذكرت شيئا من صفة النار فرأيت الفضيل بن عياض صاح حتى غشي عليه فطرح نفسه

وعن سفيان بن عيينة قال: قالت أم طلق لطلق: ما أحسن صوتك بالقرآن فليته لا يكون عليك وبالا يوم القيامة فبكى حتى غشي عليه.

وعن بكر بن مصاد يقول عبد الواحد بن زيد يقول إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله عز و جل لا إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من النار ألا إنه من بكى خوفا من النار ألا أنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها يا إخوتاه ألاتبكون بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله يسقيكموه فى حظائر العرش مع خير الندماء والأحجاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال ثم جعل يبكى حتى غشى عليه

وعن الحارث بن سعيد قال كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارىء يقرأ إذا زلزلت الأرض زلزالها فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون حتى انتهى إلى هذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قال فجعل مالك  والله يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعا.

وعن عبد العزيز بن سلمان العابد قال انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله وأغلق عليه باب الحجرة فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة فنستأذن عليه فجعل يترنم بشىء لم نفهمه ثم بكى حتى جعلنا نأوى له من شدة بكائه ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشى عليه.

وعن مسمع بن عاصم قال شهدت عبد الواحد ذات يوم وهو يعظ قال فمات يومئذ فى ذلك المجلس أربعة أنفس قبل أن يقوم، قال مسمع: فأنا شهدت جنازة بعضهم.

وعن عبد الله بن مرزوق قال بلغني أن مالك بن دينار دخل المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول مالك غدا هكذا يصير وليس له شيء يتوسده في قبره فلم يزل يقول غدا مالك هكذا يصير حتى خر مغشيا عليه في جوف القبر فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشيا عليه.

وعن عباد بن عباد أبوعتبة الخواص قال رأيت شيخا في مسجد بيت المقدس كأنه قد احترق بالنار عليه مدرعة سوداء وعمامة سوداء طويل الصمت كريه المنظر كثير الشعر شديد الكآبة فقلت رحمك الله لو غيرت لباسك هذا فقد علمت ما في البياض فبكى ثم قال هذا أشبه بلباس أهل المصيبة فإنما أنا وأنت في الدنيا في حداد وكأني بي وبك قد دعينا قال فما تم كلامه حتى غشي عليه.

وقال الحاكم سمعت أبا سعيد بن أبى بكر بن أبى عثمان يقول ورد أبو الحسن البوشنجى على أبى عثمان فسئل أن يقرأ فى مجلسه فقرأ فبكى أبو عثمان حتى غشى عليه وحمل إلى منزله فكان يقال قتله صوت البوشنجى
السبكي في الطبقات

وعن محمد بن سعيد الترمذي، قال: قدمت البصرة أكتب الحديث، وكان يحيى بن سعيد القطان يجلس على موضع مرتفع، ويمر به أصحاب الحديث واحدا واحدا، يحدث كل إنسان بحديث، فمررت به لأسأله، فقال لي: اصعد، واقرأ حدرا، واقرأ من سورة واحدة. فقرأت: {إذا زلزلت} ، فسقط مغشيا عليه، فأصابه خشبة جزار.
سير أعلام النبلاء للذهبي