السبت، 12 سبتمبر 2015

هل نثبت لله ما أثبته لنفسه في النصوص كما يقول الوهابية الضالون؟

روى البيهقي في "البعث والنشور" بسنده عن عائشة رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقالت: هذه فلانة، تذكر من صلاتها، فقال: "مه، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب الدين ما دوم عليه ".

فقال الحافظ الإسماعيلي (ت 371 هـ):
"قوله عليه السلام: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) قال فيه بعضهم: (لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل)، والله عز وجل لا يوصف بالملال، ولكن الكلام أخرج مخرج المحاذاة للفظ باللفظ، وذلك شائع في كلام العرب وعلى ذلك خرج قول الله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] قوبلت السيئة الأولى التي هي ذنب بالجزاء على لفظ السيئة، والقصاص عدل ليس بسيئة. وكذلك قوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] واقتصاصه ليس بظلم ولا عدوان، فأخرج في اللفظ للمحاذاة على الاعتداء والمعنى ليس باعتداء" أهـ

قلت: وعلى نفس هذه القاعدة اللغوية: (إخراج اللفظ للمحاذاة)، نفهم القرءان الكريم بما يليق به سبحانه، كقوله تعالى:  (نسوا الله فنسيهم) وقوله تعالى: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) فلا ننسب لله تعالى النسيان، فإنه لا يليق به سبحانه، وقد قال: (وما كان ربك نسيَّاً).

وقال الحافظ في الفتح:
"قوله (لا يمل الله حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والمَلال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، [وهو محال على الله تعالى باتفاق]. قال الإسماعيلي -الحافظ- وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازًا كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وأنظاره. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملَالا عبَّر عن ذلك بالملَال من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه. وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن "حتى" على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل معناه لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار، أو حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ لاينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية، وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف الملل من العابد" أهـ

وقال الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم:
"قوله صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يمل حتى تملوا هو بفتح الميم فيهما وفي الرواية الأخرى لا يسأم حتى تسأموا وهما بمعنى قال العلماء الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق الله تعالى فيجب تأويل الحديث قال المحققون معناه لا يعاملكم معاملة المال فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم وقيل معناه لا يمل إذا مللتم وقاله بن قتيبة وغيره وحكاه الخطابي وغيره " أهـ

قال ابن رجب في فتح الباري شرح صحيح البخاري:
"وقوله (إن الله لا يمل حتى تملوا) وفي رواية: (لا يسأم حتى تسأموا)، الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم." أهـ

فليس يحمل كل الكلام على الظاهر، وليس كل صفة تثبت بظاهر لفظ، فإن لغة العرب غنية بالمجاز. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله:
"قوله: «لا شخص أغيرُ -أي أشد غيرة- من الله» ليس فيه إيجاب أن الله [شخص]، وهذا كما روي: «ما خلق الله شيئًا أعظم من آية الكرسي»،  فليس فيه إثبات خلق آية الكرسي، وليس فيه إلا أنْ لا خلق في العِظَم كآية الكرسي، لا أن آية الكرسي مخلوقة، وهكذا يقول الناس: (ما في الناس رجل يشبهها)، وهو يذكر امرأة في خلقها أو فضلها، لا أن الممدوح به رجل." أهـ

وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه:
"إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي"

فكونه تعالى قال: "مرضت"، "استطعمتك"، "استسقيتك" فإن ذلك لا يعني نسبة المرض، والجوع، والعطش إليه سبحانه على قاعدة السذج فيقولون: نثبت له المرض لكنه ليس كمرض المخلوقين، وجوع ليس كجوع المخلوقين وعطش ليس كعطش المخلوقين، بل جاء الحديث ليعلم المسلمين أصول التأويل، وصرف المعنى الظاهر لآخر يليق بالله تبارك وتعالى، فلا نثبت لله تبارك وتعالى إلا ما يليق بكماله تعالى.

قال النووي في شرح صحيح مسلم:
"قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفًا للعبد وتقريبًا له، قالوا ومعنى وجدتني عنده أي وجدت ثوابي وكرامتي، ويدل عليه قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو أسقيته لوجدت ذلك عندي، أي ثوابه"