أخرج الإمام البيهقي في معرفة السنن والآثار (7/440/10615): [أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مِينَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: «إِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ»]
ــ عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني، ثقة، روى عنه الأئمة، ومنهم من هو أسن منه كابن جريج، وأبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي، وموسى بن عقبة، وجمع غفير من المشاهير، أثنى عليه الإمام مالك فقال: (عليك بابن أبي الزناد) عندما سأله موسى بن سلمة عندما قدم المدينة طالباً للعلم: (إني قدمت لأسمع العلم واسمع ممن تأمرني به)، ولكن تغير حفظه عندما نزل بغداد تغيراً كبيراً حتى ذكره بعضهم في الضعفاء. والصحيح ما قلناه أن من سمع منه في المدينة جيد، وهو من أثبت الناس في هشام بن عروة؛ ولخص الحافظ حاله تلخيصاً متوازناً، فقال في التقريب (ج1/ص340/ت3861): [عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيها من السابعة ولي خراج المدينة فحمد مات سنة أربع وسبعين وله أربع وسبعون سنة (خت م 4)]
ــ عيسى بن مينا، أبو موسى المدني المقرئ، الشهير بلقب (قالون)، إمام في القراءة، وهو الراوية الأول والمقدم لإمام القراء نافع المدني، ليس بكثير الحديث، وهو صدوق بلا شك ولا ريب، إذ لم يرد فيه جرح معتبر مطلقاً على شهرته، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جمع، منهم: الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو زرعة الرازي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وحسبك بهم، وموسى بن إسحاق الأنصاري وعلى بن الحسن الهسنجاني، كما هو في الثقات (ج8/ص493/ت14619)؛ وفي الجرح والتعديل (ج6/ص290/ت1609). وأما ما جاء في لسان الميزان (ج4/ص407/ت1246): [عيسى بن ميناء قالون المدني المقري صاحب نافع اما في القراءة فثبت واما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة سئل احمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك وقال: (تكتبون عن كل أحد!). قلت: روى عن محمد بن جعفر بن أبي كثير وعبد الرحمن بن أبي الزناد وعنه إسماعيل القاضي وأبو زرعة وطائفة؛ ومات سنة عشرين ومائتين. انتهى. وذكره بن حبان في الثقات وقال كنيته أبو موسى روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري وإسماعيل القاضي وقال بن أبي حاتم سمعت على بن الحسن الهسنجاني يقول كان قالون أصم شديد الصمم وكان ينظر الى شفتي القاري فيرد عليه اللحن والخطاء]، انتهى كلام الحافظ. فاعتبار الذهبي لكلام الإمام الحافظ احمد بن صالح المصري جرحاً فهم خاطئ، فيما أحسب، والله أعلم، وإنما هو تعجب من ذلك الجيل من طلبة الحديث، الملحين، الذين يسألون الناس عن الحديث إلحافاً، فلم يفلت أحد منهم. وأقول: الحمد لله الذي حفظ بهم الذكر، وجزاهم الله خيراً على إلحاحهم وتقصيهم، وحسبك بأن يكون البخاري، جبل الحفظ وإمام الدنيا، منهم. وقالون مدني مرابط، لا أظنه رأى بغداد أصلاً، فسماعه من عبد الرحمن بن أبي الزناد مدني قديم قطعاً.
ــ إسماعيل بن إسحاق القاضي، هو: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، الأزدي الجهضمي، مولاهم، قاضي بغداد، ثقة ثبت، كما جاء في الجرح والتعديل (ج2/ص158/ت531): [إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وإسماعيل بن أبى أويس وعمرو بن مرزوق وحجاج بن المنهال وعبد الله بن محمد بن أسماء بن اخي جويرية وعيسى بن مينا قالون وسليمان بن حرب كتب إلينا ببعض حديثه وهو ثقة صدوق]؛ وفي الثقات ج8/ص105/ت12448): [إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم كان على قضاء بغداد يروى عن الأنصاري عن سليمان التيمي روى عنه أهل العراق والغرباء مات آخر سنة ثنتين أو أول سنة ثلاث وثمانين ومائتين]
ــ موسى بن إسماعيل بن إسحاق القاضي، وربما قال الحاكم: موسى بن إسماعيل بن القاضي، هو: موسى بن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، أبو عمرو الأزدي الجهضمي، مولاهم؛ قليل الحديث، فلم يشتهر، فهو قطعاً ليس في مرتبة أبيه، آنف الذكر؛ ولا ابن عمه الثقة الثبت العابد إبراهيم بن حماد بن إسحاق، شيخ الطبراني. وصاحبنا هذا من شيوخ الإمام الحاكم، وقد أخرج له في المستدرك مما يدل على وثاقته عنده. والإمام الحاكم، وإن كان فيه بعض تساهل، إلا أنه من أئمة الجرح والتعديل، وهو أدرى بشيوخه؛ وقد كانت الرواية أيام الحاكم رواية كتب وأجزاء مكتوبة، وكانوا يتشددون في الاطلاع على أصول الشيوخ المكتوبة، والتأكد من صحتها وقدمها وأصالتها. وروى عنه جماعة، منهم من الأئمة والنبلاء الكبار: الحافظ الحجة محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن سهل، أبو الفتح بن أبي الفوارس؛ وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري الفقيه المالكي، رأس المالكية وإمامهم في زمانه؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطبري المقرئ، ثقة، من أعيان الناس ونبلائهم، شيخ الشهود ومتقدمهم، أم بالناس في المسجد الحرام أيام الموسم وما تقدم فيه من ليس بقرشي غيره؛ والقاضي الشريف المعدَّل أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي (وهو من ولد: عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس) صاحب (فوائد العيسوي)، وهو من ثقات شيوخ البيهقي والخطيب وأبي الفوارس طِرَاد بن محمد بن علي الهاشمي العباسي الزَّيْنَبي؛ وآخرون. فصاحبنا موسى بن إسماعيل بن القاضي إذاً ثقة، إن شاء الله تعالي.
فالحديث بهذا الإسناد وحده من الحسن الجيد، الذي يصلح للاحتجاج، وتقوم به الحجة، إن شاء الله تعالي. وهو صحيح قطعا بالمتابعات الآتية:
* المتابعة الأولى: ما جاء في شرح معاني الآثار (4/194/6324): [حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ»]
ــ وطريق ثانية في شرح معاني الآثار (4/194/6325): [حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حدثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ، مِثْلَهُ]
ــ أبو خالد يزيد بن سنان بن يزيد القزاز البصري، نزيل مصر؛ وحافظ مصر الشهير أبو محمد سعيد بن أبي مريم الحكم بن محمد بن سالم الجمحي، مولاهم، المصري؛ وأبو الزِنْباع رَوْح بن الفرج القطان المصري؛ وقاضي المدينة أبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الفقيه، كلهم ثقات مشاهير مجمع عليهم، من رجال التقريب؛ ونافع مولى ابن عمر أشهر من أن يسأل عن مثله؛
ــ عبد العزيز بن محمد بن عبيد (أو: بن أبى عبيد) الدراوردي، الجهني (أو: القضاعي) مولاهم، أحد الأعلام المشاهير، من فقهاء أهل المدينة وساداتهم مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، قيل كان ربما قرأ من كتب الناس فيخطئ؛ احتج به مسلم، وأخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً، واحتج به الجمهور.
ــ بقي عبد الله بن نافع، ولد نافع مولى ابن عمر، وهو علة هذا الإسناد بحق، وهو كالمجمع على ضعفه، استنكر له الأئمة بضعة أحاديث، وليس هو بالمتروك الساقط، فقد قال يحيى بن معين مرة: (ضعيف)، وقال مرة أخرى: (يكتب حديثة)؛ وقال أبو أحمد بن عدي بعد استعراض جملة من حديثه الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): (وهو ممن يكتب حديثه وإن كان غيره يخالفه فيه)؛ وقد أفادنا أبو أحمد بن عدي بطريق ثالثة للحديث هي:
ــ قال أبو أحمد بن عدي الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): [حَدَّثَنَا بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ عَبد الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمد عن عَبد اللَّه بن نافع، عَنْ أَبِيهِ، عنِ ابْنِ عُمَر إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ الآطَامِ وَقَالَ إِنَّهَا مِنْ زِينَةِ المدينة]
ــ وهناك طريق رابعة للحديث نجدها الضعفاء الكبير للعقيلي (2/311): [حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَسَرَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ زِينَةِ الْمَدِينَةِ]؛ ثم فال العقيلي على عادته القبيحة في المجازفة: (وَلَا يُتَابِعُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ)!
فهذه المتابعة الأولى، على ما في إسنادها من مقال، متابعة تامة للحديث الرئيس، حديث أبي هريرة، الذي أصبح بذلك مقطوعاً بصحته. ويزداد الحديث قوة، وتزداد صحته ثبوتاً، بالمتابعة الجزئية التالية:
* المتابعة الثانية: كما هي في مسند البزار [البحر الزخار (12/230/5951)]: [حَدَّثنا الحسن بن يَحْيَى، حَدَّثنا مُحَمد بْنُ سِنَانٍ، عَن عَبد اللَّهِ بْنِ عُمَر، عَن نافعٍ، عَن ابْنِ عُمَر؛ أَن النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَن آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ]؛ ولهذه المتابعة طرق كثيرة نسوقها تباعاً:
ــ وهي في شرح معاني الآثار (4/194/6322): [حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ.
ــ وفي شرح معاني الآثار (4/194/6323): [حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، قَالَ حدثنا الْعُمَرِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ]
ــ وفي حديث أبي الفضل الزهري (ص:441/444): [أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ، حدثني الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ»]
ــ وفي تاريخ أصبهان [أخبار أصبهان (1/186)]: [حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَعْبَدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، «نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ»]
ــ وفي سير أعلام النبلاء [ط الحديث (6/397)]: [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الآنمِيُّ، أَنْبَأَنَا يُوْسُفُ بنُ خَلِيْلٍ، أَنْبَأَنَا مَسْعُوْدُ بنُ أَبِي مَنْصُوْرٍ الجَمَّالُ (ح) وَأَنْبَأَنِي أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ عَنْ مَسْعُوْدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍس الحَدَّادُ، أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا، وَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ، (نَهَى عَنْ آطَامِ المَدِيْنَةِ أَنْ تُهدَمَ)]؛ وزعم محقق الطبعة: (موضوع: فيه أحمد بن جعفر السمسار، مشهور بالوضع. وأحمد بن عصام ضعيف والأطم بالضم: بناء مرتفع جمعه آطام)؛ والناشر: دار الحديث – القاهرة.
¬ ــ وفي طبعة أخرى لسير أعلام النبلاء [ط الرسالة (6/307)]؛ وقال في الهامش: (خبر باطل، آفته: أحمد بن جعفر السمسار)؛ والطبعة بتحقيق: (مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)؛ والناشر: مؤسسة الرسالة.
ــ وجاء في تذكرة الحفاظ (ج3/ص1092/ت993) خلال ترجمة أبي نعيم الأصبهاني: [أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه عن مسعود بن أبي منصور (ح) وقرأت على أحمد بن محمد المؤدب أخبرنا بن خليل أخبرنا مسعود أخبرنا أبو علي المقرئ أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أحمد بن جعفر السمسار حدثنا أحمد بن عصام حدثنا وهب بن جرير حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن آطام المدينة أن تهدم]، ثم قال الذهبي: (غريب).
فأقول: أولاً: ما جاء في سير أعلام النبلاء: (عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ) خطأ، بلا ريب، إذ أن وهب بن جرير ما أدرك عبيد الله أصلاً، وكما تشهد الطرق الأخرى؛ وإنما هو: (عبد اللهِ بنُ عُمَرَ)، وهو الذي يقال له (العمري)، وهو على الصحيح في تذكرة الحفاظ.
وثانياً: كلام المحقق لطبعة دار الحديث خطأ مركب، فليس أبو يحيى أحمد بن عصام بن عبد المجيد بن كثير بن أبي عمرة الأنصاري، نزيل أصبهان، المتوفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين، الذي يروي عن وهب بن جرير ومعاذ بن هشام ومؤمل بن إسماعيل وأبي أحمد الزبيري وأبى داود وطبقتهم، ليس من الضعفاء حتى يلج الجمل في سم الخياط، [انظر طبقات أصبهان (ج3/ص40/ت248)]؛ وإنما الضعيف هو أحمد بن عصام الموصلي، يروي عن مالك كما هو في لسان الميزان (ج 1/ص220/ت686): [(أحمد بن عصام الموصلي عن مالك وعنه يوسف بن يعقوب بن زياد الواسطي قال الدارقطني ضعيف) انتهى. وأخرج له في غرائب مالك في ترجمة نافع عن بن عمر رفعه ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال تفرد برفعه هذا الشيخ وهو في الموطأ موقوف]
وثالثاُ: أحمد بن جعفر السمسار الذي يروي هنا عن أحمد بن عصام الأصبهاني هو الذي جاء في طبقات أصبهان (ج4/ص286/ت671): [أحمد بن جعفر بن معبد، شيخ ثقة، عنده عن أحمد بن عصام وأحمد بن مهدي والأصبهانيين.... إلخ]؛ فالمحقق التبس عليه هذا الثقة بالوضاع الكذاب أحمد بن جعفر بن عبد الله، أبو الفرج النسائي، شيخ آخر لأبي نعيم الأصبهاني، كما هو في لسان الميزان (ج1/ص144/ت457 - 458)، والله أعلم.
رابعاً: تم تصحيح الخطأ الأول في طبعة دار الرسالة، فلا ذكر هنا لأحمد بن عصام، ولكن الخطأ الثاني بخصوص أحمد بن جعفر السمسار بقي كما هو، وهذا لا يليق بـ(مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)!
وعلى كل حال فمدار الطرق الكثيرة على عبد الله بن عمر العمري، وهو الآفة، إن كانت هناك آفة. والحق أن الفقرة: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قد ثبتت ثبوتاً لا شك فيه من طرق أخرى، فليس ثمة آفة أو علة هنا، ومتابعة العمري تزيد الخبر قوة ومتانة.
والحق أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني ليس بالضعيف الساقط، فقد أخرج له مسلم والأربعة، وهو بدون شك أقوى بكثير من عبد الله بن نافع، ولكن أضر به أن أخاه الأكبر عبيد الله في القمة من الاتقان والتثبت، فإذا قورن به عبد الله سقط، وهذا ليس من العدل في شيء: فالواجب هو تقييم الرواة ومقارنتهم بالجيد المتوسط منهم، وليس بالنوادر من أمثال عبيد الله الذين لا يوجد منهم إلا بضعة نفر في العصر الواحد. وقد روى عنه الجمهور، ولم يتركه أحد، إلا الإمام يحيى بن سعيد القطان، وتبنى موقفه البخاري، وابن حبان فلم يذكروا غير موقف يحيى بن سعيد القطان. وإليك جملة من أقوال الأئمة كما هي في تهذيب التهذيب (ج5/ص286/ت564): [قال أبو طلحة عن أحمد: (لا بأس به قد رُوِى عنه ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله)؛ وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: (كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلا صالحا)؛ وقال أبو حاتم رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه]؛...؛ [وقال عثمان الدارمي عن بن معين: (صويلح)، وقال بن أبي مريم عن بن معين: (ليس به بأس يكتب حديثه) وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: (ضعيف)؛ وقال عمرو بن علي: (كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه وكان عبد الرحمن يحدث عنه)؛ وقال يعقوب بن شيبة: (ثقة صدوق في حديثه اضطراب)؛ وقال صالح جزرة: (لين مختلط الحديث)؛ وقال النسائي: (ضعيف الحديث)؛ وقال بن عدي: (لا بأس به في رواياته صدوق)]؛...؛[وقال أبو حاتم: (وهو أحب إلي من عبد الله بن نافع يكتب حديثه ولا يحتج به)؛ وقال العجلي: (لا بأس به)؛ وقال بن حبان: (كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك، مات سنة 173)؛ وقال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري: (ذاهب لا أروي عنه شيئاً)؛ وقال البخاري في التاريخ: (كان يحيى بن سعيد يضعفه)؛ وقال أبو أحمد الحاكم: (ليس بالقوي عندهم)؛ وقال يعقوب بن سفيان عن أحمد بن يونس: (لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة)؛ وقال المروذي: (ذكره أحمد فلم يرضه)؛ وقال بن عمار الموصلي: (لم يتركه أحد إلا يحيى بن سعيد وزعموا أنه أخذ كتب عبيد الله فرواها)؛ وأورد له يعقوب بن شيبة في مسنده حديثا فقال: (هذا حديث حسن الإسناد مدني)، وقال في موضع آخر: (هو رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب ويزيد في الأسانيد كثيرا)؛ وقال الخليلي: (ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه)؛ وقول بن معين فيه أنه صويلح إنما حكاه عنه إسحاق الكوسج وأما عثمان الدارمي فقال عن بن معين: (صالح ثقة)]؛
والخلاصة أن يحيى بن سعيد القطان هو فقط الذي تركه، وتبعه علي بن المديني، ثم البخاري، وأما النسائي فهو من المتشددين على كل حال، وابن حبان متساهل في التوثيق والجرح على حد سواء لا يعتمد عليه؛ وانحاز الحافظ إليهم فقال في تقريب التهذيب (ج1/ص314/ت3489): [عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري المدني ضعيف عابد من السابعة مات سنة إحدى وسبعين وقيل بعدها (م 4)]؛
أما أنا فأستخير الله وأقول: (صدوق عابد، في حديثه لين واضطراب، يكتب حديثه ولا يحتج به إذا انفرد)؛ والله أعلم وأحكم.
ومهما يكن من أمر فإن حديثتا الرئيس، حديث أبي هريرة، حسن لذاته، صحيح قطعاً بمجموع متابعاته وطرقه.
وحتى الألباني، الذي لم يطلع على حديث أبي هريرة الرئيس، أقر بأن الفقرة الأولى، وهي: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قابلة للتحسين، عندما قال نصاً: [وأما شطره الأول؛ فمن الممكن تحسينه بمجموع الطريقين الضعيفين عن نافع، ولعل هذا هو وجه سكوت الحافظ على الحديث في "الفتح" (4/71) وتحسينه إياه فيما تقدم؛ وإلا فإني استبعد جداً أن يحسن إسناداً تفرد به العمري الذي جزم هو نفسه بتضعيفه كما تقدم، فضلاً عن غيره! والله أعلم]، وذلك عند دراسته لحديث نافع في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/458/4859): [(لا تهدموا الآطام؛ فإنها زينة المدينة): منكر]
والواجب الآن، على كل حال، هو نقل الحديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة، والحمد لله رب العالمين.
ــ عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني، ثقة، روى عنه الأئمة، ومنهم من هو أسن منه كابن جريج، وأبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي، وموسى بن عقبة، وجمع غفير من المشاهير، أثنى عليه الإمام مالك فقال: (عليك بابن أبي الزناد) عندما سأله موسى بن سلمة عندما قدم المدينة طالباً للعلم: (إني قدمت لأسمع العلم واسمع ممن تأمرني به)، ولكن تغير حفظه عندما نزل بغداد تغيراً كبيراً حتى ذكره بعضهم في الضعفاء. والصحيح ما قلناه أن من سمع منه في المدينة جيد، وهو من أثبت الناس في هشام بن عروة؛ ولخص الحافظ حاله تلخيصاً متوازناً، فقال في التقريب (ج1/ص340/ت3861): [عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيها من السابعة ولي خراج المدينة فحمد مات سنة أربع وسبعين وله أربع وسبعون سنة (خت م 4)]
ــ عيسى بن مينا، أبو موسى المدني المقرئ، الشهير بلقب (قالون)، إمام في القراءة، وهو الراوية الأول والمقدم لإمام القراء نافع المدني، ليس بكثير الحديث، وهو صدوق بلا شك ولا ريب، إذ لم يرد فيه جرح معتبر مطلقاً على شهرته، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جمع، منهم: الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو زرعة الرازي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وحسبك بهم، وموسى بن إسحاق الأنصاري وعلى بن الحسن الهسنجاني، كما هو في الثقات (ج8/ص493/ت14619)؛ وفي الجرح والتعديل (ج6/ص290/ت1609). وأما ما جاء في لسان الميزان (ج4/ص407/ت1246): [عيسى بن ميناء قالون المدني المقري صاحب نافع اما في القراءة فثبت واما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة سئل احمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك وقال: (تكتبون عن كل أحد!). قلت: روى عن محمد بن جعفر بن أبي كثير وعبد الرحمن بن أبي الزناد وعنه إسماعيل القاضي وأبو زرعة وطائفة؛ ومات سنة عشرين ومائتين. انتهى. وذكره بن حبان في الثقات وقال كنيته أبو موسى روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري وإسماعيل القاضي وقال بن أبي حاتم سمعت على بن الحسن الهسنجاني يقول كان قالون أصم شديد الصمم وكان ينظر الى شفتي القاري فيرد عليه اللحن والخطاء]، انتهى كلام الحافظ. فاعتبار الذهبي لكلام الإمام الحافظ احمد بن صالح المصري جرحاً فهم خاطئ، فيما أحسب، والله أعلم، وإنما هو تعجب من ذلك الجيل من طلبة الحديث، الملحين، الذين يسألون الناس عن الحديث إلحافاً، فلم يفلت أحد منهم. وأقول: الحمد لله الذي حفظ بهم الذكر، وجزاهم الله خيراً على إلحاحهم وتقصيهم، وحسبك بأن يكون البخاري، جبل الحفظ وإمام الدنيا، منهم. وقالون مدني مرابط، لا أظنه رأى بغداد أصلاً، فسماعه من عبد الرحمن بن أبي الزناد مدني قديم قطعاً.
ــ إسماعيل بن إسحاق القاضي، هو: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، الأزدي الجهضمي، مولاهم، قاضي بغداد، ثقة ثبت، كما جاء في الجرح والتعديل (ج2/ص158/ت531): [إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وإسماعيل بن أبى أويس وعمرو بن مرزوق وحجاج بن المنهال وعبد الله بن محمد بن أسماء بن اخي جويرية وعيسى بن مينا قالون وسليمان بن حرب كتب إلينا ببعض حديثه وهو ثقة صدوق]؛ وفي الثقات ج8/ص105/ت12448): [إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم كان على قضاء بغداد يروى عن الأنصاري عن سليمان التيمي روى عنه أهل العراق والغرباء مات آخر سنة ثنتين أو أول سنة ثلاث وثمانين ومائتين]
ــ موسى بن إسماعيل بن إسحاق القاضي، وربما قال الحاكم: موسى بن إسماعيل بن القاضي، هو: موسى بن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، أبو عمرو الأزدي الجهضمي، مولاهم؛ قليل الحديث، فلم يشتهر، فهو قطعاً ليس في مرتبة أبيه، آنف الذكر؛ ولا ابن عمه الثقة الثبت العابد إبراهيم بن حماد بن إسحاق، شيخ الطبراني. وصاحبنا هذا من شيوخ الإمام الحاكم، وقد أخرج له في المستدرك مما يدل على وثاقته عنده. والإمام الحاكم، وإن كان فيه بعض تساهل، إلا أنه من أئمة الجرح والتعديل، وهو أدرى بشيوخه؛ وقد كانت الرواية أيام الحاكم رواية كتب وأجزاء مكتوبة، وكانوا يتشددون في الاطلاع على أصول الشيوخ المكتوبة، والتأكد من صحتها وقدمها وأصالتها. وروى عنه جماعة، منهم من الأئمة والنبلاء الكبار: الحافظ الحجة محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن سهل، أبو الفتح بن أبي الفوارس؛ وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري الفقيه المالكي، رأس المالكية وإمامهم في زمانه؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطبري المقرئ، ثقة، من أعيان الناس ونبلائهم، شيخ الشهود ومتقدمهم، أم بالناس في المسجد الحرام أيام الموسم وما تقدم فيه من ليس بقرشي غيره؛ والقاضي الشريف المعدَّل أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي (وهو من ولد: عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس) صاحب (فوائد العيسوي)، وهو من ثقات شيوخ البيهقي والخطيب وأبي الفوارس طِرَاد بن محمد بن علي الهاشمي العباسي الزَّيْنَبي؛ وآخرون. فصاحبنا موسى بن إسماعيل بن القاضي إذاً ثقة، إن شاء الله تعالي.
فالحديث بهذا الإسناد وحده من الحسن الجيد، الذي يصلح للاحتجاج، وتقوم به الحجة، إن شاء الله تعالي. وهو صحيح قطعا بالمتابعات الآتية:
* المتابعة الأولى: ما جاء في شرح معاني الآثار (4/194/6324): [حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ»]
ــ وطريق ثانية في شرح معاني الآثار (4/194/6325): [حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حدثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ، مِثْلَهُ]
ــ أبو خالد يزيد بن سنان بن يزيد القزاز البصري، نزيل مصر؛ وحافظ مصر الشهير أبو محمد سعيد بن أبي مريم الحكم بن محمد بن سالم الجمحي، مولاهم، المصري؛ وأبو الزِنْباع رَوْح بن الفرج القطان المصري؛ وقاضي المدينة أبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الفقيه، كلهم ثقات مشاهير مجمع عليهم، من رجال التقريب؛ ونافع مولى ابن عمر أشهر من أن يسأل عن مثله؛
ــ عبد العزيز بن محمد بن عبيد (أو: بن أبى عبيد) الدراوردي، الجهني (أو: القضاعي) مولاهم، أحد الأعلام المشاهير، من فقهاء أهل المدينة وساداتهم مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، قيل كان ربما قرأ من كتب الناس فيخطئ؛ احتج به مسلم، وأخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً، واحتج به الجمهور.
ــ بقي عبد الله بن نافع، ولد نافع مولى ابن عمر، وهو علة هذا الإسناد بحق، وهو كالمجمع على ضعفه، استنكر له الأئمة بضعة أحاديث، وليس هو بالمتروك الساقط، فقد قال يحيى بن معين مرة: (ضعيف)، وقال مرة أخرى: (يكتب حديثة)؛ وقال أبو أحمد بن عدي بعد استعراض جملة من حديثه الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): (وهو ممن يكتب حديثه وإن كان غيره يخالفه فيه)؛ وقد أفادنا أبو أحمد بن عدي بطريق ثالثة للحديث هي:
ــ قال أبو أحمد بن عدي الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): [حَدَّثَنَا بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ عَبد الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمد عن عَبد اللَّه بن نافع، عَنْ أَبِيهِ، عنِ ابْنِ عُمَر إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ الآطَامِ وَقَالَ إِنَّهَا مِنْ زِينَةِ المدينة]
ــ وهناك طريق رابعة للحديث نجدها الضعفاء الكبير للعقيلي (2/311): [حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَسَرَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ زِينَةِ الْمَدِينَةِ]؛ ثم فال العقيلي على عادته القبيحة في المجازفة: (وَلَا يُتَابِعُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ)!
فهذه المتابعة الأولى، على ما في إسنادها من مقال، متابعة تامة للحديث الرئيس، حديث أبي هريرة، الذي أصبح بذلك مقطوعاً بصحته. ويزداد الحديث قوة، وتزداد صحته ثبوتاً، بالمتابعة الجزئية التالية:
* المتابعة الثانية: كما هي في مسند البزار [البحر الزخار (12/230/5951)]: [حَدَّثنا الحسن بن يَحْيَى، حَدَّثنا مُحَمد بْنُ سِنَانٍ، عَن عَبد اللَّهِ بْنِ عُمَر، عَن نافعٍ، عَن ابْنِ عُمَر؛ أَن النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَن آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ]؛ ولهذه المتابعة طرق كثيرة نسوقها تباعاً:
ــ وهي في شرح معاني الآثار (4/194/6322): [حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ.
ــ وفي شرح معاني الآثار (4/194/6323): [حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، قَالَ حدثنا الْعُمَرِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ]
ــ وفي حديث أبي الفضل الزهري (ص:441/444): [أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ، حدثني الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ»]
ــ وفي تاريخ أصبهان [أخبار أصبهان (1/186)]: [حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَعْبَدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، «نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ»]
ــ وفي سير أعلام النبلاء [ط الحديث (6/397)]: [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الآنمِيُّ، أَنْبَأَنَا يُوْسُفُ بنُ خَلِيْلٍ، أَنْبَأَنَا مَسْعُوْدُ بنُ أَبِي مَنْصُوْرٍ الجَمَّالُ (ح) وَأَنْبَأَنِي أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ عَنْ مَسْعُوْدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍس الحَدَّادُ، أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا، وَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ، (نَهَى عَنْ آطَامِ المَدِيْنَةِ أَنْ تُهدَمَ)]؛ وزعم محقق الطبعة: (موضوع: فيه أحمد بن جعفر السمسار، مشهور بالوضع. وأحمد بن عصام ضعيف والأطم بالضم: بناء مرتفع جمعه آطام)؛ والناشر: دار الحديث – القاهرة.
¬ ــ وفي طبعة أخرى لسير أعلام النبلاء [ط الرسالة (6/307)]؛ وقال في الهامش: (خبر باطل، آفته: أحمد بن جعفر السمسار)؛ والطبعة بتحقيق: (مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)؛ والناشر: مؤسسة الرسالة.
ــ وجاء في تذكرة الحفاظ (ج3/ص1092/ت993) خلال ترجمة أبي نعيم الأصبهاني: [أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه عن مسعود بن أبي منصور (ح) وقرأت على أحمد بن محمد المؤدب أخبرنا بن خليل أخبرنا مسعود أخبرنا أبو علي المقرئ أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أحمد بن جعفر السمسار حدثنا أحمد بن عصام حدثنا وهب بن جرير حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن آطام المدينة أن تهدم]، ثم قال الذهبي: (غريب).
فأقول: أولاً: ما جاء في سير أعلام النبلاء: (عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ) خطأ، بلا ريب، إذ أن وهب بن جرير ما أدرك عبيد الله أصلاً، وكما تشهد الطرق الأخرى؛ وإنما هو: (عبد اللهِ بنُ عُمَرَ)، وهو الذي يقال له (العمري)، وهو على الصحيح في تذكرة الحفاظ.
وثانياً: كلام المحقق لطبعة دار الحديث خطأ مركب، فليس أبو يحيى أحمد بن عصام بن عبد المجيد بن كثير بن أبي عمرة الأنصاري، نزيل أصبهان، المتوفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين، الذي يروي عن وهب بن جرير ومعاذ بن هشام ومؤمل بن إسماعيل وأبي أحمد الزبيري وأبى داود وطبقتهم، ليس من الضعفاء حتى يلج الجمل في سم الخياط، [انظر طبقات أصبهان (ج3/ص40/ت248)]؛ وإنما الضعيف هو أحمد بن عصام الموصلي، يروي عن مالك كما هو في لسان الميزان (ج 1/ص220/ت686): [(أحمد بن عصام الموصلي عن مالك وعنه يوسف بن يعقوب بن زياد الواسطي قال الدارقطني ضعيف) انتهى. وأخرج له في غرائب مالك في ترجمة نافع عن بن عمر رفعه ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال تفرد برفعه هذا الشيخ وهو في الموطأ موقوف]
وثالثاُ: أحمد بن جعفر السمسار الذي يروي هنا عن أحمد بن عصام الأصبهاني هو الذي جاء في طبقات أصبهان (ج4/ص286/ت671): [أحمد بن جعفر بن معبد، شيخ ثقة، عنده عن أحمد بن عصام وأحمد بن مهدي والأصبهانيين.... إلخ]؛ فالمحقق التبس عليه هذا الثقة بالوضاع الكذاب أحمد بن جعفر بن عبد الله، أبو الفرج النسائي، شيخ آخر لأبي نعيم الأصبهاني، كما هو في لسان الميزان (ج1/ص144/ت457 - 458)، والله أعلم.
رابعاً: تم تصحيح الخطأ الأول في طبعة دار الرسالة، فلا ذكر هنا لأحمد بن عصام، ولكن الخطأ الثاني بخصوص أحمد بن جعفر السمسار بقي كما هو، وهذا لا يليق بـ(مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)!
وعلى كل حال فمدار الطرق الكثيرة على عبد الله بن عمر العمري، وهو الآفة، إن كانت هناك آفة. والحق أن الفقرة: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قد ثبتت ثبوتاً لا شك فيه من طرق أخرى، فليس ثمة آفة أو علة هنا، ومتابعة العمري تزيد الخبر قوة ومتانة.
والحق أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني ليس بالضعيف الساقط، فقد أخرج له مسلم والأربعة، وهو بدون شك أقوى بكثير من عبد الله بن نافع، ولكن أضر به أن أخاه الأكبر عبيد الله في القمة من الاتقان والتثبت، فإذا قورن به عبد الله سقط، وهذا ليس من العدل في شيء: فالواجب هو تقييم الرواة ومقارنتهم بالجيد المتوسط منهم، وليس بالنوادر من أمثال عبيد الله الذين لا يوجد منهم إلا بضعة نفر في العصر الواحد. وقد روى عنه الجمهور، ولم يتركه أحد، إلا الإمام يحيى بن سعيد القطان، وتبنى موقفه البخاري، وابن حبان فلم يذكروا غير موقف يحيى بن سعيد القطان. وإليك جملة من أقوال الأئمة كما هي في تهذيب التهذيب (ج5/ص286/ت564): [قال أبو طلحة عن أحمد: (لا بأس به قد رُوِى عنه ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله)؛ وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: (كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلا صالحا)؛ وقال أبو حاتم رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه]؛...؛ [وقال عثمان الدارمي عن بن معين: (صويلح)، وقال بن أبي مريم عن بن معين: (ليس به بأس يكتب حديثه) وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: (ضعيف)؛ وقال عمرو بن علي: (كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه وكان عبد الرحمن يحدث عنه)؛ وقال يعقوب بن شيبة: (ثقة صدوق في حديثه اضطراب)؛ وقال صالح جزرة: (لين مختلط الحديث)؛ وقال النسائي: (ضعيف الحديث)؛ وقال بن عدي: (لا بأس به في رواياته صدوق)]؛...؛[وقال أبو حاتم: (وهو أحب إلي من عبد الله بن نافع يكتب حديثه ولا يحتج به)؛ وقال العجلي: (لا بأس به)؛ وقال بن حبان: (كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك، مات سنة 173)؛ وقال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري: (ذاهب لا أروي عنه شيئاً)؛ وقال البخاري في التاريخ: (كان يحيى بن سعيد يضعفه)؛ وقال أبو أحمد الحاكم: (ليس بالقوي عندهم)؛ وقال يعقوب بن سفيان عن أحمد بن يونس: (لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة)؛ وقال المروذي: (ذكره أحمد فلم يرضه)؛ وقال بن عمار الموصلي: (لم يتركه أحد إلا يحيى بن سعيد وزعموا أنه أخذ كتب عبيد الله فرواها)؛ وأورد له يعقوب بن شيبة في مسنده حديثا فقال: (هذا حديث حسن الإسناد مدني)، وقال في موضع آخر: (هو رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب ويزيد في الأسانيد كثيرا)؛ وقال الخليلي: (ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه)؛ وقول بن معين فيه أنه صويلح إنما حكاه عنه إسحاق الكوسج وأما عثمان الدارمي فقال عن بن معين: (صالح ثقة)]؛
والخلاصة أن يحيى بن سعيد القطان هو فقط الذي تركه، وتبعه علي بن المديني، ثم البخاري، وأما النسائي فهو من المتشددين على كل حال، وابن حبان متساهل في التوثيق والجرح على حد سواء لا يعتمد عليه؛ وانحاز الحافظ إليهم فقال في تقريب التهذيب (ج1/ص314/ت3489): [عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري المدني ضعيف عابد من السابعة مات سنة إحدى وسبعين وقيل بعدها (م 4)]؛
أما أنا فأستخير الله وأقول: (صدوق عابد، في حديثه لين واضطراب، يكتب حديثه ولا يحتج به إذا انفرد)؛ والله أعلم وأحكم.
ومهما يكن من أمر فإن حديثتا الرئيس، حديث أبي هريرة، حسن لذاته، صحيح قطعاً بمجموع متابعاته وطرقه.
وحتى الألباني، الذي لم يطلع على حديث أبي هريرة الرئيس، أقر بأن الفقرة الأولى، وهي: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قابلة للتحسين، عندما قال نصاً: [وأما شطره الأول؛ فمن الممكن تحسينه بمجموع الطريقين الضعيفين عن نافع، ولعل هذا هو وجه سكوت الحافظ على الحديث في "الفتح" (4/71) وتحسينه إياه فيما تقدم؛ وإلا فإني استبعد جداً أن يحسن إسناداً تفرد به العمري الذي جزم هو نفسه بتضعيفه كما تقدم، فضلاً عن غيره! والله أعلم]، وذلك عند دراسته لحديث نافع في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/458/4859): [(لا تهدموا الآطام؛ فإنها زينة المدينة): منكر]
والواجب الآن، على كل حال، هو نقل الحديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة، والحمد لله رب العالمين.