أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: «رأيت رسول الله ﷺ في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله ﷺ، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه»
وأخرج مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها»
وأخرج البخاري في صحيحه إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينه قال فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه،فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
وأخرج النسائي في السنن الكبرى عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: خرجنا وفدا إلى نبي الله ﷺ، فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، واستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ، وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة، وأمرنا، فقال: «اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجدًا»، فقلنا له إن البلد بعيد والحر شديد والماء ينشف، قال: «مدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبًا فخرجنا حتى قدمنا بلدنا فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها واتخذناها مسجدًا، فنادينا فيه بالأذان»
وأخرج مسلم وابن خزيمة وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما رمى رسول الله ﷺ الجمرة ونحر هديه ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، وأمره أن يقسم بين الناس.
وفي رواية لمسلم: "فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك"
وأخرج البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بِجُلْجُلٍ من فضة فيه شعر من شعر النبي ﷺ وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَهُ، قال: فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حُمْرًا.
وفي رواية البيهقي في الدلائل: "كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم، فيه من شعر النبي، ﷺ، فكان إذا أصاب إنسانًا الحمى بعث إليها فَخَضْخَضَتْهُ فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه. قال: بعثني أهلي إليها فأخرجته فإذا هو هكذا" أهـ
الجُلجُل: وهو شيء يتخذ من فضة أو غيرها يشبه الجرس وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته.
قال وكيع: كان جُلجُلاً من فضة صيغ صوانًا لشعرات النبي ﷺ التي كانت عند أم سلمة.
وعن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك، فقال: أطلبوها، فلم يجدوها، فقال: أطلبوها فوجدوها، فإذا هي قلنسوة خلقة – أي ليست بجديـدة -، فقال خـالـد: اعتمـر رسول الله ﷺ فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر.
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح.
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن سيرين، قال: قلت لعُبيدة «عندنا من شعر النبي ﷺ أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس» فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وأخرج البخاري عن عثمان عن أنس أن أم سليم كانت تبسط للنبي ﷺ نِطْعاً فيقيل عندها على ذلك النطـع، قال: فإذا نـام النبي ﷺ أخذت من عرقـه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سُكّ وهو نائم، قال: فلما حضر أنس ابن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل في حنوطه من السُّك قال: فجعل في حنوطه.
وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة: عرق فاستنقع عرقه على قطعة أديم عتيدة فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها فأفاق، فقال: ما تصنعين؟ قالت: نرجو بركته لصبياننا، فقال: أصبت.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: كان أسيد بن حضير رضي الله عنه رجلاً صالحاً ضاحكاً مليحاً، فبينما هو عند رسول الله ﷺ يحدث القوم ويضحكهم، فطعن رسول الله ﷺ في خاصرته، فقال: أوجعتني قال ﷺ:اقتص قال: يا رسول الله! إن عليك قميصاً ولم يكن عليَّ قميص، قال: فرفع رسول الله ﷺ قميصه فاحتضنه ثم جعل يقبل كشحه، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله! أردت هذا.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن أن النبي ﷺ لقى رجلاً مختضباً بصفرة وفي يد النبي ﷺ جريدة، فقال النبي ﷺ: خط ورس، فطعن بالجريدة بطن الرجل وقال: ألم أنهك عن هذا؟ فأثر في بطنه دماً أدماه، فقال: القود يارسول الله، فقال الناس: أمن رسول الله ﷺ تقتص؟ فقال: ما لبشرة أحد فضل على بشرتي، فكشف النبي ﷺ عن بطنه ثم قال: اقتص، فقبل الرجل بطن النبي ﷺ وقال: أدعها لك أن تشفع لي يوم القيامة.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهماأن أباه حدثه أنه أتى النبي ﷺ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: (يا عبدالله! اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله ﷺ عدل إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله! ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، قال: لعلك شربته؟ قال: نعم، فقال ﷺ: ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك وويل لك من الناس)
أخرجه الحاكم والطبراني والبزار وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة.
وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع عن سفينة رضي الله عنه قال: (احتجم النبي ﷺ ثم قال: "خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس"، فتغيبت فشربته، ثم ذكرت ذلك له فضحك).
وأخرج الحسـن بن سفيـان في مسنده والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي عن الأسـود بن قيس عن نبيح العنزي عن أم أيمن قالت: قام رسول اللــه ﷺ من الليل إلى فخارة في جانـب البيـت فبال، فقمـت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي ﷺ قال: "يا أم أيمن! قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها، قالت: فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أما والله لا يجعنّ بطنك أبداً".
وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما قالت: دخل عليّ رسول الله ﷺ فشرب من فِي قِربة معلّقة قائمًا فقمت إلى فيها فقطعته، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية ابن ماجة: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدة له يقال لها كبشة الأنصارية، أن رسول الله ﷺ: "دخل عليها، وعندها قربة معلقة، فشرب منها، وهو قائم، فقطعت فم القربة تبتغي بركة، موضع في رسول الله ﷺ"
قال النووي في رياض الصالحين: "وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله ﷺ وتتبرك به وتصونه عن الابتذال". ا.هـ.
وأخرج الإمام أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ دخل على أم سليم وفي البيت قربة معلقة فشرب من فيها –أي من فم القربة– وهو نائم قال أنس: فقطعت أم سليم فم القربة فهو عندنا.
أي أن أم سليم قطعت فم القربة الذي هو موضع شربه ﷺ واحتفظت به في بيتها للتبرك بأثر النبي ﷺ.
التبرك بالقبر الشريف:
أخرج البخاري في صحيحه أنه لما حضرت الوفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنه عبد الله: انطلق إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، قال: فاستأذن وسلم، ثم دخل عليها وهي تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، فقال الحمد لله ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين.
وعن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحَجَرَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تبكوا على الدين إذا وليه أهلُهُ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله"
أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير والحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي
وعن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد مضطجعًا على باب حجرة عائشة، رافعا عقيرته يتغنى، ورأيته يصلي عند قبر النبي ﷺ، فمر به مروان فقال: أتصلي عند قبر! وقال له قولا قبيحا ثم أدبر، فانصرف أسامة ثم قال: يا مروان إنك فاحش متفحش، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش".
أخرجه الطبراني في الكبير ووفي الأوسط، والخطيب في في تاريخ بغداد من طريق عثمان بن حكيم، عن محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، عن أسامة.
قال الذهبي: إسناده حسن، محمد بن إسحاق صدوق، وقد صرَّح بالتحديث، فأَمِنَّا شر تدليسه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن بلالا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة، فأتى قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدًا رَسُول اللَّهِ، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يَوْم أكثر باكيًا، وباكية من ذلك اليوم.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الأثير في أسد الغابة وجود إسناده الحافظ السمهودي في وفاء الوفاء
قال الذهبي في كتابة (معجم الشيوخ الكبير):
"عن نافع عن ابن عمر: (أنه كان يكره مس قبر النبي ﷺ)
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله، فلم ير بذلك بأسًا، رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد.
فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة؟ قيل: لأنهم عاينوه حيَّاً وتملوا به وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ.
وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي ﷺ، إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه، وولده والناس أجمعين، ومن أمواله، ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر، وعمر أكثر من حب أنفسهم." أهـ
تبرك الصحابة بآثار النبي ﷺ ومكان صلاته:
عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك»
أخرجه البخاري ومسلم
قال الذهبي في السير في ترجمة عبيد بن عمرو:
"وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبَّلها، ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ، فنقول نحن إذ فاتنا ذلك: حجر معظَّم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا ﷺ لاثمًا له. فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاجَّ وقبِّل فمه وقل: فم مس بالتقبيل حجرًا قبَّله خليلي ﷺ."
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: «يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة»، قال: «فإني رأيت النبي ﷺ يتحرى الصلاة عندها» أخرجه البخاري ومسلم
قال ابن حجر في فتح الباري:
«والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام"، وإنها أسرتها إلى بن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها، ثم وجدتُ ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وزاد أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة» أهـ
وعن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله، أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مُصَلًّى، قال: فقال له رسول الله ﷺ: «سأفعل إن شاء الله»، قال: عتبان: فغدا رسول الله ﷺ وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله ﷺ فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله ﷺ فكبَّر، فقمنا فَصَفَّنَا فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وَحَبَسْنَاهُ على خَزِيرَةٍ صنعناها له.
أخرجه البخاري
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي ﷺ دعا في مسجد الفتح ثلاثًا: يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعُرِف البشر في وجهه»، قال جابر: «فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة»
قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد، والبزار، ورجال أحمد ثقات.
وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى: فدخلتُ مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: «هذا موضع مصلّى رسول الله ﷺ الذي دعا فيه على الأحزاب»، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح. أخرجه السمهودي في وفاء الوفاء.
وعن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: «رأيت نفرًا من أصحاب النبي ﷺ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا»، قال: «ورأيت يزيد يفعل ذلك»
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
وأخرج القاضي عياض الحافظ في [الشفاء] عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله: «كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون».
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقوم يوم الجمعة إلى جانب المنبر فيطرح أعقاب نعليه في ذراعيه، ثم يقبض على رمانة المنبر، يقول: قال أبو القاسم ﷺ، قال محمد ﷺ، قال رسول الله ﷺ، قال الصادق المصدوق ﷺ، ثم يقول في بعض ذلك: "ويل للعرب من شر قد اقترب"، فإذا سمع حركة باب المقصورة بخروج الإمام جلس.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
حرص سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على اقتفاء آثار النبي ﷺ:
وقد اشتهر من الصحابة سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالعناية الفائقة بالآثار النبوية، فأخرج ابن سعد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي ﷺ في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: لو نظرتَ إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذا اتبع أثر النبي ﷺ لقلت: هذا مجنون، وأخرج الحاكم عن نافع نحوه، وأخرج أبو نُعيم أيضًا عن عاصم الأحول عمَّن حدثه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رآه أحد ظنَّ أن به شيئاً من تتبُّعه آثار النبي ﷺ.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سأل بلالًا: «أين صلى رسول الله ﷺ؟» يعني في الكعبة، فأراه بلال حيث صلى، ولم يسأله كم صلى، وكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قِبَل وجهه، وجعل الباب قبل ظهره ثم مشى حتى يكون بينه وبين الجدار قريب من ثلاثة أذرع، ثم صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله ﷺ صلى.
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في الكبرى
وعن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ أناخ بالبطحاء بذي الحليفة، فصلى بها» وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك.
أخرجه البخاري
وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها «وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة». وحدثني نافع، عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
أخرجه البخاري
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المُعَرَّسِ، وأن رسول الله ﷺ، كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح»
أخرجه البخاري
عن نافع أن عبد الله بن عمر، أخبره «أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سَمُرَةٍ في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط من بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بِالْبَطْحَاءِ التي على شفير الوادي الشرقية، فَعَرَّسَ ثَمَّ، حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة، ولا على الأَكَمَةِ التي عليها المسجد»، كان ثَمَّ خَلِيجٌ يصلي عبد الله عنده في بطنه كُثُبٌ، كان رسول الله ﷺ ثَمَّ يصلي، فدحا السيل فيه بالبطحاء، حتى دفن ذلك المكان، الذي كان عبد الله يصلي فيه.
وأن عبد الله بن عمر حدثه: «أن النبي ﷺ صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي ﷺ يقول: "ثَمَّ عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي"، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك»
وأن ابن عمر: كان يصلي إلى العِرْق الذي عند مُنْصَرَفِ الروحاء، وذلك العِرْقُ انتهاء طَرَفِهِ على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المُنْصَرَفِ وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابْتُنِيَ ثَمَّ مسجد، فلم يكن عبد الله بن عمر يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العِرْقِ نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة، فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عَرَّسَ حتى يصلي بها الصبح.
كلها أخرجها البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة، عن نافع.
بذي الحليفة: اسم موضع قريب من المدينة، ويسمى أيضا الشجرة ويسمى الآن آبار علي وهو ميقات أهل المدينة.
سَمُرَةٍ : شجرة ذات شوك.
بطن واد: وادي العقيق.
شفير: طرف.
فَعَرَّسَ ثَمَّ: نزل آخر الليل ليستريح ويبيت.
المسجد الذي بحجارة: على تل من حجارة.
الأكمة: التل.
خليج: وادٍ عميق.
كُثُب: جمع كثيب، وهو الرمل المجتمع (القوز).
وروى ابن رجب في فتح الباري عن الإمام مالك أنه قال في (الموطإ): "لا ينبغي لأحدٍ أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرَّس به، وأن ابن عمر أناخ به." أهـ
وأخرج البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ حيث أفاض من عرفة مال إلى الشِّعَب، فقضى حاجته فتوضأ، فقلت: يا رسول الله، أتصلي؟ فقال: «الصلاة أمامك»
وعن نافع قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، غير أنه يمر بالشِّعَب الذي أخذه رسول الله ﷺ، فيدخل، فينتفض ويتوضأ، ولا يصلي حتى يصلي بجمع».
وأخرج ابن عساكر عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتَّبع آثار رسول الله ﷺ كل مكان صلى فيه، حتى إنَّ النبي ﷺ نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس. وفي رواية صالح عند الإمام أحمد: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي ﷺ إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وأخرج أحمد والبزّار بإسناد جيد عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسأل لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا ففعلت.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته، يثنيها ويقول: لعلَّ خفَّاً يقع على خف، يعني خف راحلة النبي ﷺ.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه نظر إلى بن عمر وضع يده على مقعد النبي ﷺ من المنبر ثم وضعها علي وجهه.
وأخرج ابن خُزيمة في صحيحة والبَيْهقي عن زيد بن أسلمَ قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلِّي محلولة أزراره، فسألته عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله ﷺ يفعله.
وأخرج ابن سعد في الطبقات وابن عساكر في تاريخ دمشق عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه، قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر يأخذان برمانة المنبر ثم ينصرفان"
وأخرج البخاري عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال لي: انطلق إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله ﷺ وتصلي في مسجد صلى فيه النبي ﷺ، فانطلقت معه فسقاني وأطعمني تمراً وصليت في مسجده.
وأخرج النسائي عن أبي مجلز أن أبا موسى كان بين مكة والمدينة فصلى العشاء ركعتين ثم قام فصلى ركعة أوتر بها فقرأ فيها بمائة آية من النساء ثم قال: ما ألوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله ﷺ قدميه وأنا أقرأ بما قرأ به رسول الله ﷺ.
وعن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي الخزرجي، عن أبيه، عن جده أبي أسيد وله بئر بالمدينة يقال لها (بئر بُضَاعَةَ) قد بصق فيها النبي ﷺ فهي يبشر بها ويتيمن بها.
رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات.
وأخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر: أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنةديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله ﷺ كانت عند عائشة فلما قُبضت قبضتها، وكان النبي ﷺ يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.
التبرك بمن تبرك برسول الله ﷺ:
أخرج الحافظ ابن حجر في المطالب العالية عن ثابت البناني قال: كنت إذا أتيت أنسا يُخْبَرُ بمكاني، فأدخل عليه، فآخذ بيديه فأقبلهما وأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله ﷺ وأقبِّل عينيه وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ.
قال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي، وهو ثقة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق عن جميلة مولاة أنس قالت: كان ثابت إذا جاء إلى أنس قال: يا جميلة ناوليني طيبًا أمس به يدي، فإن ابن أبي ثابت لا يرضى حتى يقبِّل يدي يقول يد مست رسول الله ﷺ.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن رَزِين قال: مررنا بالرَّبذَة فقيل لنا: ههنا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأتيته فسلمنا عليه وأخرج يده فقال: بايعتُ بهاتين نبي الله ﷺ فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير، فقمنا إليها فقبلناها.
وأخرج الطبراني في الكبير عن يحيى بن الحارث الذماري قال: لقيت واثلة بن الأسقع، فقلت: بايعت بيدك هذه رسول الله ﷺ، فقال: «نعم» ، فقلت: أعطني يدك أقبلها فأعطانيها فقبلتها. وفي الأوسط والكبير والحلية لأبي نعيم عن يونس قال: دخلنا على يزيد بن الأسود عائدين فدخل عليه واثلة بن الأسقع، فلما نظر إليه مد يده فمسح بها وجهه وصدره، وقد بايع بها رسول الله ﷺ
تبرك التابعين بآثار النبي ﷺ:
روى ابن وهب عن الإمام مالك أنه سُئل عن مسجد رسول الله ﷺ وقيل له: أي المواضع أحبُّ إليك الصلاة فيه؟ قال: "أما النافلة فموضع مُصَلَّاهُ"، وأما المكتوبة فأول الصفوف"
وأخرج الذهبي في السير عن الإمام مالك قال: "رأيتُ عطاء بن أبي رباح دخل المسجد، وأخذ برمانة المنبر، ثم إستقبل القبلة".
وأخرج الإمام مالك في الموطأ والنسائي في السنن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار» ذلك لعظم منبره الشريف ﷺ.
وأخرج الذهبي في السير قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي ﷺ، فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيته أخذ قصعة النبي ﷺ فغسلها في حب الماء ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في في العلل ومعرفة الرجال: "سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه و سلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك"
وقال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: لا أعرف هذا، قلت: فالمنبر، قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، أي رمانة المنبر قبل احتراقه.
ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك." أهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
"استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي ﷺ وتقبيل قبره فلم ير به بأساً، وإستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونقل عن بن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين" أهـ
ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية المباركة وآثاره هو مذهب البخاري كما ذكرنا حيث بوب في كتاب الصلاة [باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ] ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد، وقد استدل الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي ﷺ، وهو مذهب مالك أيضًا، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي ﷺ ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: "لا أرى أن تحرم الناس من أثر النبي ﷺ "، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه ﷺ من مسجده.
ولو كان الله تبارك وتعالى يخشى على عباده المؤمنين من التبرك وأن فيه ذريعة للشرك لما أمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ولا أن يسعوا بين الصفا والمروة، ولا أن يتبعدوه في المشاعر المقدسة كلها في الحج، ولما رغبهم رسول الله ﷺ في ماء زمزم ولا في شعره الشريف ولما سمح لهم أن يقتتلوا على ماء وضوئه وأن يدلكوا بنخامته الشريفة كما ثبت في الأخبار الصحيحة عنه ﷺ.
نقض أدلة منكري التبرك بالآثار النبوية:
أما ما روي من أن سيدنا عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي بويع تحتها رسول الله ﷺ فإن السند منقطع فنافع لم يلق سيدنا عمر رضي الله عنه. والشيء الثاني أن الشجرة لم تكن موجودة في العام التالي للبيعة وروي أن السيول جرفتها، فكيف تكون باقية كانت ومعروفة في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه؟ فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منّا اثنان على الشجرة الّتي بايعنا تحتها، كانت رحمة من اللّه"، فسألت -أي الراوي- نافعاً على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: "لا، بايعهم على الصبر"
وأخرج البخاري عن طارق بن عبدالله قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أُنسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم!!
وقال الإمام الحاكم في [معرفة علوم الحديث]: "والحديبية بئر وكانت الشجرة بالقرب من البئر، ثم إن الشجرة فُقدت بعد ذلك فلم يجدوها، وقالوا إن السيول ذهبت بها، فقال سعيد بن المسيب : (سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول : قد طلبناها غير مرة فلم نجدها)"أهـ
أما ما روي عن المعرور بن سويد الأسدي قال : "وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرف إلى المدينة، وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و {لإيلاف قريش}، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهبون هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذه يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبيعًا، ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله فليصل فيها، ولا يتعمدنَّها"
فليس فيه دليل على إنكار على التبرك بالآثار النبوية لأن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتناول الصلاة المفروضة، ولا تبرك في الصلاة المفروضة، إنما يكون التبرك في صلاة النافلة، بدليل قوله "ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ" ولما تقدم عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه يفضل الصلاة في مصلى النبي ﷺ في النافلة، وفي الصف الأول في الفريضة. ودل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: «ما هذا؟» فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل»
وفيه التنبيه على عدم شد الرحال إلى المساجد سوى الثلاثة طلبًا لزيادة الثواب في صلاة الفرض بدليل قوله: "ولا يتعمدنها"، ولو كان في الحديث إنكار على التبرك والصلاة في آثار الأنبياء لكان ذلك مناقضًا لقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
ولعله كره الرهبانية والانقطاع فيها بدليل قوله "فاتخذوها كنائس وبيعًا"
أما حديث دانيال فإنه على ضعف كل طرقه إلا أنه في مسألة مختلفة تمامًا، وإنه لمن التضليل الزج به في هذا الموضع. قال الحافظ في الفتح:
"وقد غضب ﷺ حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ولولا أنه معصية ما غضب فيه قلت إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضا فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر نظر أيضا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور وقد أخرجه أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي ﷺ فجعل يقرأ ووجه رسول الله ﷺ يتغير فقال له رجل من الأنصار ويحك يا بن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف ولأحمد أيضا وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر أن عمر أتى بكتاب أصابه من بعض كتب أهل الكتاب فقرأه على النبي ﷺ فغضب فذكر نحوه دون قول الأنصاري وفيه والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني وفي سنده مجالد بن سعيد وهو لين وأخرجه الطبراني بسند فيه مجهول ومختلف فيه عن أبي الدرداء جاء عمر بجوامع من التوراة فذكر بنحوه وسمى الأنصاري الذي خاطب عمر عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان وفيه لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت قال جاء عمر فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك قال فتغير وجه رسول الله ﷺ الحديث وفيه والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم وأخرج أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة قال كنت عند عمر فجاءه رجل من عبد القيس فضربه بعصا معه فقال ما لي يا أمير المؤمنين قال أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال مرني بأمرك قال انطلق فامحه فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته لأنهكنك عقوبة ثم قال انطلقت فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت فقال لي رسول الله ﷺ ما هذا قلت كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب حتى احمرت وجنتاه فذكر قصة فيها يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف" أهـ
وأخرج مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها»
وأخرج البخاري في صحيحه إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينه قال فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه،فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
وأخرج النسائي في السنن الكبرى عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: خرجنا وفدا إلى نبي الله ﷺ، فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، واستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ، وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة، وأمرنا، فقال: «اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجدًا»، فقلنا له إن البلد بعيد والحر شديد والماء ينشف، قال: «مدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبًا فخرجنا حتى قدمنا بلدنا فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها واتخذناها مسجدًا، فنادينا فيه بالأذان»
وأخرج مسلم وابن خزيمة وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما رمى رسول الله ﷺ الجمرة ونحر هديه ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، وأمره أن يقسم بين الناس.
وفي رواية لمسلم: "فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك"
وأخرج البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بِجُلْجُلٍ من فضة فيه شعر من شعر النبي ﷺ وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَهُ، قال: فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حُمْرًا.
وفي رواية البيهقي في الدلائل: "كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم، فيه من شعر النبي، ﷺ، فكان إذا أصاب إنسانًا الحمى بعث إليها فَخَضْخَضَتْهُ فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه. قال: بعثني أهلي إليها فأخرجته فإذا هو هكذا" أهـ
الجُلجُل: وهو شيء يتخذ من فضة أو غيرها يشبه الجرس وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته.
قال وكيع: كان جُلجُلاً من فضة صيغ صوانًا لشعرات النبي ﷺ التي كانت عند أم سلمة.
وعن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك، فقال: أطلبوها، فلم يجدوها، فقال: أطلبوها فوجدوها، فإذا هي قلنسوة خلقة – أي ليست بجديـدة -، فقال خـالـد: اعتمـر رسول الله ﷺ فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر.
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح.
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن سيرين، قال: قلت لعُبيدة «عندنا من شعر النبي ﷺ أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس» فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وأخرج البخاري عن عثمان عن أنس أن أم سليم كانت تبسط للنبي ﷺ نِطْعاً فيقيل عندها على ذلك النطـع، قال: فإذا نـام النبي ﷺ أخذت من عرقـه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سُكّ وهو نائم، قال: فلما حضر أنس ابن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل في حنوطه من السُّك قال: فجعل في حنوطه.
وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة: عرق فاستنقع عرقه على قطعة أديم عتيدة فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها فأفاق، فقال: ما تصنعين؟ قالت: نرجو بركته لصبياننا، فقال: أصبت.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: كان أسيد بن حضير رضي الله عنه رجلاً صالحاً ضاحكاً مليحاً، فبينما هو عند رسول الله ﷺ يحدث القوم ويضحكهم، فطعن رسول الله ﷺ في خاصرته، فقال: أوجعتني قال ﷺ:اقتص قال: يا رسول الله! إن عليك قميصاً ولم يكن عليَّ قميص، قال: فرفع رسول الله ﷺ قميصه فاحتضنه ثم جعل يقبل كشحه، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله! أردت هذا.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن أن النبي ﷺ لقى رجلاً مختضباً بصفرة وفي يد النبي ﷺ جريدة، فقال النبي ﷺ: خط ورس، فطعن بالجريدة بطن الرجل وقال: ألم أنهك عن هذا؟ فأثر في بطنه دماً أدماه، فقال: القود يارسول الله، فقال الناس: أمن رسول الله ﷺ تقتص؟ فقال: ما لبشرة أحد فضل على بشرتي، فكشف النبي ﷺ عن بطنه ثم قال: اقتص، فقبل الرجل بطن النبي ﷺ وقال: أدعها لك أن تشفع لي يوم القيامة.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهماأن أباه حدثه أنه أتى النبي ﷺ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: (يا عبدالله! اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله ﷺ عدل إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله! ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، قال: لعلك شربته؟ قال: نعم، فقال ﷺ: ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك وويل لك من الناس)
أخرجه الحاكم والطبراني والبزار وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة.
وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع عن سفينة رضي الله عنه قال: (احتجم النبي ﷺ ثم قال: "خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس"، فتغيبت فشربته، ثم ذكرت ذلك له فضحك).
وأخرج الحسـن بن سفيـان في مسنده والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي عن الأسـود بن قيس عن نبيح العنزي عن أم أيمن قالت: قام رسول اللــه ﷺ من الليل إلى فخارة في جانـب البيـت فبال، فقمـت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي ﷺ قال: "يا أم أيمن! قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها، قالت: فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أما والله لا يجعنّ بطنك أبداً".
وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما قالت: دخل عليّ رسول الله ﷺ فشرب من فِي قِربة معلّقة قائمًا فقمت إلى فيها فقطعته، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية ابن ماجة: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدة له يقال لها كبشة الأنصارية، أن رسول الله ﷺ: "دخل عليها، وعندها قربة معلقة، فشرب منها، وهو قائم، فقطعت فم القربة تبتغي بركة، موضع في رسول الله ﷺ"
قال النووي في رياض الصالحين: "وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله ﷺ وتتبرك به وتصونه عن الابتذال". ا.هـ.
وأخرج الإمام أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ دخل على أم سليم وفي البيت قربة معلقة فشرب من فيها –أي من فم القربة– وهو نائم قال أنس: فقطعت أم سليم فم القربة فهو عندنا.
أي أن أم سليم قطعت فم القربة الذي هو موضع شربه ﷺ واحتفظت به في بيتها للتبرك بأثر النبي ﷺ.
التبرك بالقبر الشريف:
أخرج البخاري في صحيحه أنه لما حضرت الوفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنه عبد الله: انطلق إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، قال: فاستأذن وسلم، ثم دخل عليها وهي تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، فقال الحمد لله ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين.
وعن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحَجَرَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تبكوا على الدين إذا وليه أهلُهُ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله"
أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير والحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي
وعن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد مضطجعًا على باب حجرة عائشة، رافعا عقيرته يتغنى، ورأيته يصلي عند قبر النبي ﷺ، فمر به مروان فقال: أتصلي عند قبر! وقال له قولا قبيحا ثم أدبر، فانصرف أسامة ثم قال: يا مروان إنك فاحش متفحش، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش".
أخرجه الطبراني في الكبير ووفي الأوسط، والخطيب في في تاريخ بغداد من طريق عثمان بن حكيم، عن محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، عن أسامة.
قال الذهبي: إسناده حسن، محمد بن إسحاق صدوق، وقد صرَّح بالتحديث، فأَمِنَّا شر تدليسه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن بلالا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة، فأتى قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدًا رَسُول اللَّهِ، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يَوْم أكثر باكيًا، وباكية من ذلك اليوم.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الأثير في أسد الغابة وجود إسناده الحافظ السمهودي في وفاء الوفاء
قال الذهبي في كتابة (معجم الشيوخ الكبير):
"عن نافع عن ابن عمر: (أنه كان يكره مس قبر النبي ﷺ)
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله، فلم ير بذلك بأسًا، رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد.
فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة؟ قيل: لأنهم عاينوه حيَّاً وتملوا به وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ.
وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي ﷺ، إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه، وولده والناس أجمعين، ومن أمواله، ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر، وعمر أكثر من حب أنفسهم." أهـ
تبرك الصحابة بآثار النبي ﷺ ومكان صلاته:
عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك»
أخرجه البخاري ومسلم
قال الذهبي في السير في ترجمة عبيد بن عمرو:
"وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبَّلها، ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ، فنقول نحن إذ فاتنا ذلك: حجر معظَّم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا ﷺ لاثمًا له. فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاجَّ وقبِّل فمه وقل: فم مس بالتقبيل حجرًا قبَّله خليلي ﷺ."
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: «يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة»، قال: «فإني رأيت النبي ﷺ يتحرى الصلاة عندها» أخرجه البخاري ومسلم
قال ابن حجر في فتح الباري:
«والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام"، وإنها أسرتها إلى بن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها، ثم وجدتُ ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وزاد أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة» أهـ
وعن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله، أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مُصَلًّى، قال: فقال له رسول الله ﷺ: «سأفعل إن شاء الله»، قال: عتبان: فغدا رسول الله ﷺ وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله ﷺ فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله ﷺ فكبَّر، فقمنا فَصَفَّنَا فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وَحَبَسْنَاهُ على خَزِيرَةٍ صنعناها له.
أخرجه البخاري
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي ﷺ دعا في مسجد الفتح ثلاثًا: يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعُرِف البشر في وجهه»، قال جابر: «فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة»
قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد، والبزار، ورجال أحمد ثقات.
وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى: فدخلتُ مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: «هذا موضع مصلّى رسول الله ﷺ الذي دعا فيه على الأحزاب»، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح. أخرجه السمهودي في وفاء الوفاء.
وعن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: «رأيت نفرًا من أصحاب النبي ﷺ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا»، قال: «ورأيت يزيد يفعل ذلك»
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
وأخرج القاضي عياض الحافظ في [الشفاء] عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله: «كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون».
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقوم يوم الجمعة إلى جانب المنبر فيطرح أعقاب نعليه في ذراعيه، ثم يقبض على رمانة المنبر، يقول: قال أبو القاسم ﷺ، قال محمد ﷺ، قال رسول الله ﷺ، قال الصادق المصدوق ﷺ، ثم يقول في بعض ذلك: "ويل للعرب من شر قد اقترب"، فإذا سمع حركة باب المقصورة بخروج الإمام جلس.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
حرص سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على اقتفاء آثار النبي ﷺ:
وقد اشتهر من الصحابة سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالعناية الفائقة بالآثار النبوية، فأخرج ابن سعد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي ﷺ في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: لو نظرتَ إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذا اتبع أثر النبي ﷺ لقلت: هذا مجنون، وأخرج الحاكم عن نافع نحوه، وأخرج أبو نُعيم أيضًا عن عاصم الأحول عمَّن حدثه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رآه أحد ظنَّ أن به شيئاً من تتبُّعه آثار النبي ﷺ.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سأل بلالًا: «أين صلى رسول الله ﷺ؟» يعني في الكعبة، فأراه بلال حيث صلى، ولم يسأله كم صلى، وكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قِبَل وجهه، وجعل الباب قبل ظهره ثم مشى حتى يكون بينه وبين الجدار قريب من ثلاثة أذرع، ثم صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله ﷺ صلى.
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في الكبرى
وعن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ أناخ بالبطحاء بذي الحليفة، فصلى بها» وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك.
أخرجه البخاري
وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها «وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة». وحدثني نافع، عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
أخرجه البخاري
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المُعَرَّسِ، وأن رسول الله ﷺ، كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح»
أخرجه البخاري
عن نافع أن عبد الله بن عمر، أخبره «أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سَمُرَةٍ في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط من بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بِالْبَطْحَاءِ التي على شفير الوادي الشرقية، فَعَرَّسَ ثَمَّ، حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة، ولا على الأَكَمَةِ التي عليها المسجد»، كان ثَمَّ خَلِيجٌ يصلي عبد الله عنده في بطنه كُثُبٌ، كان رسول الله ﷺ ثَمَّ يصلي، فدحا السيل فيه بالبطحاء، حتى دفن ذلك المكان، الذي كان عبد الله يصلي فيه.
وأن عبد الله بن عمر حدثه: «أن النبي ﷺ صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي ﷺ يقول: "ثَمَّ عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي"، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك»
وأن ابن عمر: كان يصلي إلى العِرْق الذي عند مُنْصَرَفِ الروحاء، وذلك العِرْقُ انتهاء طَرَفِهِ على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المُنْصَرَفِ وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابْتُنِيَ ثَمَّ مسجد، فلم يكن عبد الله بن عمر يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العِرْقِ نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة، فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عَرَّسَ حتى يصلي بها الصبح.
كلها أخرجها البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة، عن نافع.
بذي الحليفة: اسم موضع قريب من المدينة، ويسمى أيضا الشجرة ويسمى الآن آبار علي وهو ميقات أهل المدينة.
سَمُرَةٍ : شجرة ذات شوك.
بطن واد: وادي العقيق.
شفير: طرف.
فَعَرَّسَ ثَمَّ: نزل آخر الليل ليستريح ويبيت.
المسجد الذي بحجارة: على تل من حجارة.
الأكمة: التل.
خليج: وادٍ عميق.
كُثُب: جمع كثيب، وهو الرمل المجتمع (القوز).
وروى ابن رجب في فتح الباري عن الإمام مالك أنه قال في (الموطإ): "لا ينبغي لأحدٍ أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرَّس به، وأن ابن عمر أناخ به." أهـ
وأخرج البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ حيث أفاض من عرفة مال إلى الشِّعَب، فقضى حاجته فتوضأ، فقلت: يا رسول الله، أتصلي؟ فقال: «الصلاة أمامك»
وعن نافع قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، غير أنه يمر بالشِّعَب الذي أخذه رسول الله ﷺ، فيدخل، فينتفض ويتوضأ، ولا يصلي حتى يصلي بجمع».
وأخرج ابن عساكر عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتَّبع آثار رسول الله ﷺ كل مكان صلى فيه، حتى إنَّ النبي ﷺ نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس. وفي رواية صالح عند الإمام أحمد: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي ﷺ إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وأخرج أحمد والبزّار بإسناد جيد عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسأل لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا ففعلت.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته، يثنيها ويقول: لعلَّ خفَّاً يقع على خف، يعني خف راحلة النبي ﷺ.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه نظر إلى بن عمر وضع يده على مقعد النبي ﷺ من المنبر ثم وضعها علي وجهه.
وأخرج ابن خُزيمة في صحيحة والبَيْهقي عن زيد بن أسلمَ قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلِّي محلولة أزراره، فسألته عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله ﷺ يفعله.
وأخرج ابن سعد في الطبقات وابن عساكر في تاريخ دمشق عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه، قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر يأخذان برمانة المنبر ثم ينصرفان"
وأخرج البخاري عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال لي: انطلق إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله ﷺ وتصلي في مسجد صلى فيه النبي ﷺ، فانطلقت معه فسقاني وأطعمني تمراً وصليت في مسجده.
وأخرج النسائي عن أبي مجلز أن أبا موسى كان بين مكة والمدينة فصلى العشاء ركعتين ثم قام فصلى ركعة أوتر بها فقرأ فيها بمائة آية من النساء ثم قال: ما ألوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله ﷺ قدميه وأنا أقرأ بما قرأ به رسول الله ﷺ.
وعن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي الخزرجي، عن أبيه، عن جده أبي أسيد وله بئر بالمدينة يقال لها (بئر بُضَاعَةَ) قد بصق فيها النبي ﷺ فهي يبشر بها ويتيمن بها.
رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات.
وأخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر: أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنةديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله ﷺ كانت عند عائشة فلما قُبضت قبضتها، وكان النبي ﷺ يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.
التبرك بمن تبرك برسول الله ﷺ:
أخرج الحافظ ابن حجر في المطالب العالية عن ثابت البناني قال: كنت إذا أتيت أنسا يُخْبَرُ بمكاني، فأدخل عليه، فآخذ بيديه فأقبلهما وأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله ﷺ وأقبِّل عينيه وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ.
قال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي، وهو ثقة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق عن جميلة مولاة أنس قالت: كان ثابت إذا جاء إلى أنس قال: يا جميلة ناوليني طيبًا أمس به يدي، فإن ابن أبي ثابت لا يرضى حتى يقبِّل يدي يقول يد مست رسول الله ﷺ.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن رَزِين قال: مررنا بالرَّبذَة فقيل لنا: ههنا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأتيته فسلمنا عليه وأخرج يده فقال: بايعتُ بهاتين نبي الله ﷺ فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير، فقمنا إليها فقبلناها.
وأخرج الطبراني في الكبير عن يحيى بن الحارث الذماري قال: لقيت واثلة بن الأسقع، فقلت: بايعت بيدك هذه رسول الله ﷺ، فقال: «نعم» ، فقلت: أعطني يدك أقبلها فأعطانيها فقبلتها. وفي الأوسط والكبير والحلية لأبي نعيم عن يونس قال: دخلنا على يزيد بن الأسود عائدين فدخل عليه واثلة بن الأسقع، فلما نظر إليه مد يده فمسح بها وجهه وصدره، وقد بايع بها رسول الله ﷺ
تبرك التابعين بآثار النبي ﷺ:
روى ابن وهب عن الإمام مالك أنه سُئل عن مسجد رسول الله ﷺ وقيل له: أي المواضع أحبُّ إليك الصلاة فيه؟ قال: "أما النافلة فموضع مُصَلَّاهُ"، وأما المكتوبة فأول الصفوف"
وأخرج الذهبي في السير عن الإمام مالك قال: "رأيتُ عطاء بن أبي رباح دخل المسجد، وأخذ برمانة المنبر، ثم إستقبل القبلة".
وأخرج الإمام مالك في الموطأ والنسائي في السنن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار» ذلك لعظم منبره الشريف ﷺ.
وأخرج الذهبي في السير قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي ﷺ، فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيته أخذ قصعة النبي ﷺ فغسلها في حب الماء ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في في العلل ومعرفة الرجال: "سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه و سلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك"
وقال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: لا أعرف هذا، قلت: فالمنبر، قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، أي رمانة المنبر قبل احتراقه.
ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك." أهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
"استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي ﷺ وتقبيل قبره فلم ير به بأساً، وإستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونقل عن بن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين" أهـ
ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية المباركة وآثاره هو مذهب البخاري كما ذكرنا حيث بوب في كتاب الصلاة [باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ] ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد، وقد استدل الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي ﷺ، وهو مذهب مالك أيضًا، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي ﷺ ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: "لا أرى أن تحرم الناس من أثر النبي ﷺ "، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه ﷺ من مسجده.
ولو كان الله تبارك وتعالى يخشى على عباده المؤمنين من التبرك وأن فيه ذريعة للشرك لما أمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ولا أن يسعوا بين الصفا والمروة، ولا أن يتبعدوه في المشاعر المقدسة كلها في الحج، ولما رغبهم رسول الله ﷺ في ماء زمزم ولا في شعره الشريف ولما سمح لهم أن يقتتلوا على ماء وضوئه وأن يدلكوا بنخامته الشريفة كما ثبت في الأخبار الصحيحة عنه ﷺ.
نقض أدلة منكري التبرك بالآثار النبوية:
أما ما روي من أن سيدنا عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي بويع تحتها رسول الله ﷺ فإن السند منقطع فنافع لم يلق سيدنا عمر رضي الله عنه. والشيء الثاني أن الشجرة لم تكن موجودة في العام التالي للبيعة وروي أن السيول جرفتها، فكيف تكون باقية كانت ومعروفة في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه؟ فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منّا اثنان على الشجرة الّتي بايعنا تحتها، كانت رحمة من اللّه"، فسألت -أي الراوي- نافعاً على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: "لا، بايعهم على الصبر"
وأخرج البخاري عن طارق بن عبدالله قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أُنسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم!!
وقال الإمام الحاكم في [معرفة علوم الحديث]: "والحديبية بئر وكانت الشجرة بالقرب من البئر، ثم إن الشجرة فُقدت بعد ذلك فلم يجدوها، وقالوا إن السيول ذهبت بها، فقال سعيد بن المسيب : (سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول : قد طلبناها غير مرة فلم نجدها)"أهـ
فليس فيه دليل على إنكار على التبرك بالآثار النبوية لأن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتناول الصلاة المفروضة، ولا تبرك في الصلاة المفروضة، إنما يكون التبرك في صلاة النافلة، بدليل قوله "ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ" ولما تقدم عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه يفضل الصلاة في مصلى النبي ﷺ في النافلة، وفي الصف الأول في الفريضة. ودل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: «ما هذا؟» فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل»
وفيه التنبيه على عدم شد الرحال إلى المساجد سوى الثلاثة طلبًا لزيادة الثواب في صلاة الفرض بدليل قوله: "ولا يتعمدنها"، ولو كان في الحديث إنكار على التبرك والصلاة في آثار الأنبياء لكان ذلك مناقضًا لقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
ولعله كره الرهبانية والانقطاع فيها بدليل قوله "فاتخذوها كنائس وبيعًا"
أما حديث دانيال فإنه على ضعف كل طرقه إلا أنه في مسألة مختلفة تمامًا، وإنه لمن التضليل الزج به في هذا الموضع. قال الحافظ في الفتح:
"وقد غضب ﷺ حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ولولا أنه معصية ما غضب فيه قلت إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضا فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر نظر أيضا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور وقد أخرجه أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي ﷺ فجعل يقرأ ووجه رسول الله ﷺ يتغير فقال له رجل من الأنصار ويحك يا بن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف ولأحمد أيضا وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر أن عمر أتى بكتاب أصابه من بعض كتب أهل الكتاب فقرأه على النبي ﷺ فغضب فذكر نحوه دون قول الأنصاري وفيه والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني وفي سنده مجالد بن سعيد وهو لين وأخرجه الطبراني بسند فيه مجهول ومختلف فيه عن أبي الدرداء جاء عمر بجوامع من التوراة فذكر بنحوه وسمى الأنصاري الذي خاطب عمر عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان وفيه لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت قال جاء عمر فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك قال فتغير وجه رسول الله ﷺ الحديث وفيه والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم وأخرج أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة قال كنت عند عمر فجاءه رجل من عبد القيس فضربه بعصا معه فقال ما لي يا أمير المؤمنين قال أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال مرني بأمرك قال انطلق فامحه فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته لأنهكنك عقوبة ثم قال انطلقت فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت فقال لي رسول الله ﷺ ما هذا قلت كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب حتى احمرت وجنتاه فذكر قصة فيها يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف" أهـ