الأحد، 20 سبتمبر 2015

(منقول) تخريج نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تهدم آطام المدينة

أخرج الإمام البيهقي في معرفة السنن والآثار (7/440/10615): [أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مِينَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: «إِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ»]
ــ عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني، ثقة، روى عنه الأئمة، ومنهم من هو أسن منه كابن جريج، وأبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي، وموسى بن عقبة، وجمع غفير من المشاهير، أثنى عليه الإمام مالك فقال: (عليك بابن أبي الزناد) عندما سأله موسى بن سلمة عندما قدم المدينة طالباً للعلم: (إني قدمت لأسمع العلم واسمع ممن تأمرني به)، ولكن تغير حفظه عندما نزل بغداد تغيراً كبيراً حتى ذكره بعضهم في الضعفاء. والصحيح ما قلناه أن من سمع منه في المدينة جيد، وهو من أثبت الناس في هشام بن عروة؛ ولخص الحافظ حاله تلخيصاً متوازناً، فقال في التقريب (ج1/ص340/ت3861): [عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيها من السابعة ولي خراج المدينة فحمد مات سنة أربع وسبعين وله أربع وسبعون سنة (خت م 4)]
ــ عيسى بن مينا، أبو موسى المدني المقرئ، الشهير بلقب (قالون)، إمام في القراءة، وهو الراوية الأول والمقدم لإمام القراء نافع المدني، ليس بكثير الحديث، وهو صدوق بلا شك ولا ريب، إذ لم يرد فيه جرح معتبر مطلقاً على شهرته، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جمع، منهم: الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو زرعة الرازي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وحسبك بهم، وموسى بن إسحاق الأنصاري وعلى بن الحسن الهسنجاني، كما هو في الثقات (ج8/ص493/ت14619)؛ وفي الجرح والتعديل (ج6/ص290/ت1609). وأما ما جاء في لسان الميزان (ج4/ص407/ت1246): [عيسى بن ميناء قالون المدني المقري صاحب نافع اما في القراءة فثبت واما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة سئل احمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك وقال: (تكتبون عن كل أحد!). قلت: روى عن محمد بن جعفر بن أبي كثير وعبد الرحمن بن أبي الزناد وعنه إسماعيل القاضي وأبو زرعة وطائفة؛ ومات سنة عشرين ومائتين. انتهى. وذكره بن حبان في الثقات وقال كنيته أبو موسى روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري وإسماعيل القاضي وقال بن أبي حاتم سمعت على بن الحسن الهسنجاني يقول كان قالون أصم شديد الصمم وكان ينظر الى شفتي القاري فيرد عليه اللحن والخطاء]، انتهى كلام الحافظ. فاعتبار الذهبي لكلام الإمام الحافظ احمد بن صالح المصري جرحاً فهم خاطئ، فيما أحسب، والله أعلم، وإنما هو تعجب من ذلك الجيل من طلبة الحديث، الملحين، الذين يسألون الناس عن الحديث إلحافاً، فلم يفلت أحد منهم. وأقول: الحمد لله الذي حفظ بهم الذكر، وجزاهم الله خيراً على إلحاحهم وتقصيهم، وحسبك بأن يكون البخاري، جبل الحفظ وإمام الدنيا، منهم. وقالون مدني مرابط، لا أظنه رأى بغداد أصلاً، فسماعه من عبد الرحمن بن أبي الزناد مدني قديم قطعاً.
ــ إسماعيل بن إسحاق القاضي، هو: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، الأزدي الجهضمي، مولاهم، قاضي بغداد، ثقة ثبت، كما جاء في الجرح والتعديل (ج2/ص158/ت531): [إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وإسماعيل بن أبى أويس وعمرو بن مرزوق وحجاج بن المنهال وعبد الله بن محمد بن أسماء بن اخي جويرية وعيسى بن مينا قالون وسليمان بن حرب كتب إلينا ببعض حديثه وهو ثقة صدوق]؛ وفي الثقات ج8/ص105/ت12448): [إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم كان على قضاء بغداد يروى عن الأنصاري عن سليمان التيمي روى عنه أهل العراق والغرباء مات آخر سنة ثنتين أو أول سنة ثلاث وثمانين ومائتين]
ــ موسى بن إسماعيل بن إسحاق القاضي، وربما قال الحاكم: موسى بن إسماعيل بن القاضي، هو: موسى بن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، أبو عمرو الأزدي الجهضمي، مولاهم؛ قليل الحديث، فلم يشتهر، فهو قطعاً ليس في مرتبة أبيه، آنف الذكر؛ ولا ابن عمه الثقة الثبت العابد إبراهيم بن حماد بن إسحاق، شيخ الطبراني. وصاحبنا هذا من شيوخ الإمام الحاكم، وقد أخرج له في المستدرك مما يدل على وثاقته عنده. والإمام الحاكم، وإن كان فيه بعض تساهل، إلا أنه من أئمة الجرح والتعديل، وهو أدرى بشيوخه؛ وقد كانت الرواية أيام الحاكم رواية كتب وأجزاء مكتوبة، وكانوا يتشددون في الاطلاع على أصول الشيوخ المكتوبة، والتأكد من صحتها وقدمها وأصالتها. وروى عنه جماعة، منهم من الأئمة والنبلاء الكبار: الحافظ الحجة محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن سهل، أبو الفتح بن أبي الفوارس؛ وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري الفقيه المالكي، رأس المالكية وإمامهم في زمانه؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطبري المقرئ، ثقة، من أعيان الناس ونبلائهم، شيخ الشهود ومتقدمهم، أم بالناس في المسجد الحرام أيام الموسم وما تقدم فيه من ليس بقرشي غيره؛ والقاضي الشريف المعدَّل أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي (وهو من ولد: عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس) صاحب (فوائد العيسوي)، وهو من ثقات شيوخ البيهقي والخطيب وأبي الفوارس طِرَاد بن محمد بن علي الهاشمي العباسي الزَّيْنَبي؛ وآخرون. فصاحبنا موسى بن إسماعيل بن القاضي إذاً ثقة، إن شاء الله تعالي.
 فالحديث بهذا الإسناد وحده من الحسن الجيد، الذي يصلح للاحتجاج، وتقوم به الحجة، إن شاء الله تعالي. وهو صحيح قطعا بالمتابعات الآتية:

* المتابعة الأولى: ما جاء في شرح معاني الآثار (4/194/6324): [حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ»]
ــ وطريق ثانية في شرح معاني الآثار (4/194/6325): [حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حدثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ، مِثْلَهُ]
ــ أبو خالد يزيد بن سنان بن يزيد القزاز البصري، نزيل مصر؛ وحافظ مصر الشهير أبو محمد سعيد بن أبي مريم الحكم بن محمد بن سالم الجمحي، مولاهم، المصري؛ وأبو الزِنْباع رَوْح بن الفرج القطان المصري؛ وقاضي المدينة أبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الفقيه، كلهم ثقات مشاهير مجمع عليهم، من رجال التقريب؛ ونافع مولى ابن عمر أشهر من أن يسأل عن مثله؛
ــ عبد العزيز بن محمد بن عبيد (أو: بن أبى عبيد) الدراوردي، الجهني (أو: القضاعي) مولاهم، أحد الأعلام المشاهير، من فقهاء أهل المدينة وساداتهم مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، قيل كان ربما قرأ من كتب الناس فيخطئ؛ احتج به مسلم، وأخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً، واحتج به الجمهور.
ــ بقي عبد الله بن نافع، ولد نافع مولى ابن عمر، وهو علة هذا الإسناد بحق، وهو كالمجمع على ضعفه، استنكر له الأئمة بضعة أحاديث، وليس هو بالمتروك الساقط، فقد قال يحيى بن معين مرة: (ضعيف)، وقال مرة أخرى: (يكتب حديثة)؛ وقال أبو أحمد بن عدي بعد استعراض جملة من حديثه الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): (وهو ممن يكتب حديثه وإن كان غيره يخالفه فيه)؛ وقد أفادنا أبو أحمد بن عدي بطريق ثالثة للحديث هي:
ــ قال أبو أحمد بن عدي الكامل في الضعفاء (ج4/ص165/ت984): [حَدَّثَنَا بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ عَبد الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمد عن عَبد اللَّه بن نافع، عَنْ أَبِيهِ، عنِ ابْنِ عُمَر إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ الآطَامِ وَقَالَ إِنَّهَا مِنْ زِينَةِ المدينة]
ــ وهناك طريق رابعة للحديث نجدها الضعفاء الكبير للعقيلي (2/311): [حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَسَرَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ زِينَةِ الْمَدِينَةِ]؛ ثم فال العقيلي على عادته القبيحة في المجازفة: (وَلَا يُتَابِعُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ)!

فهذه المتابعة الأولى، على ما في إسنادها من مقال، متابعة تامة للحديث الرئيس، حديث أبي هريرة، الذي أصبح بذلك مقطوعاً بصحته. ويزداد الحديث قوة، وتزداد صحته ثبوتاً، بالمتابعة الجزئية التالية:

* المتابعة الثانية: كما هي في مسند البزار [البحر الزخار (12/230/5951)]: [حَدَّثنا الحسن بن يَحْيَى، حَدَّثنا مُحَمد بْنُ سِنَانٍ، عَن عَبد اللَّهِ بْنِ عُمَر، عَن نافعٍ، عَن ابْنِ عُمَر؛ أَن النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَن آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ]؛ ولهذه المتابعة طرق كثيرة نسوقها تباعاً:
ــ وهي في شرح معاني الآثار (4/194/6322): [حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ.
ــ وفي شرح معاني الآثار (4/194/6323): [حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، قَالَ حدثنا الْعُمَرِيُّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ]
ــ وفي حديث أبي الفضل الزهري (ص:441/444): [أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ، حدثني الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدَمَ»]
ــ وفي تاريخ أصبهان [أخبار أصبهان (1/186)]: [حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَعْبَدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، «نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ»]
ــ وفي سير أعلام النبلاء [ط الحديث (6/397)]: [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الآنمِيُّ، أَنْبَأَنَا يُوْسُفُ بنُ خَلِيْلٍ، أَنْبَأَنَا مَسْعُوْدُ بنُ أَبِي مَنْصُوْرٍ الجَمَّالُ (ح) وَأَنْبَأَنِي أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ عَنْ مَسْعُوْدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍس الحَدَّادُ، أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا، وَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ، (نَهَى عَنْ آطَامِ المَدِيْنَةِ أَنْ تُهدَمَ)]؛ وزعم محقق الطبعة: (موضوع: فيه أحمد بن جعفر السمسار، مشهور بالوضع. وأحمد بن عصام ضعيف والأطم بالضم: بناء مرتفع جمعه آطام)؛ والناشر: دار الحديث – القاهرة.
¬ ــ وفي طبعة أخرى لسير أعلام النبلاء [ط الرسالة (6/307)]؛ وقال في الهامش: (خبر باطل، آفته: أحمد بن جعفر السمسار)؛ والطبعة بتحقيق: (مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)؛ والناشر: مؤسسة الرسالة.
ــ وجاء في تذكرة الحفاظ (ج3/ص1092/ت993) خلال ترجمة أبي نعيم الأصبهاني: [أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه عن مسعود بن أبي منصور (ح) وقرأت على أحمد بن محمد المؤدب أخبرنا بن خليل أخبرنا مسعود أخبرنا أبو علي المقرئ أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أحمد بن جعفر السمسار حدثنا أحمد بن عصام حدثنا وهب بن جرير حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن آطام المدينة أن تهدم]، ثم قال الذهبي: (غريب).
فأقول: أولاً: ما جاء في سير أعلام النبلاء: (عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ) خطأ، بلا ريب، إذ أن وهب بن جرير ما أدرك عبيد الله أصلاً، وكما تشهد الطرق الأخرى؛ وإنما هو: (عبد اللهِ بنُ عُمَرَ)، وهو الذي يقال له (العمري)، وهو على الصحيح في تذكرة الحفاظ.
وثانياً: كلام المحقق لطبعة دار الحديث خطأ مركب، فليس أبو يحيى أحمد بن عصام بن عبد المجيد بن كثير بن أبي عمرة الأنصاري، نزيل أصبهان، المتوفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين، الذي يروي عن وهب بن جرير ومعاذ بن هشام ومؤمل بن إسماعيل وأبي أحمد الزبيري وأبى داود وطبقتهم، ليس من الضعفاء حتى يلج الجمل في سم الخياط، [انظر طبقات أصبهان (ج3/ص40/ت248)]؛ وإنما الضعيف هو أحمد بن عصام الموصلي، يروي عن مالك كما هو في لسان الميزان (ج 1/ص220/ت686): [(أحمد بن عصام الموصلي عن مالك وعنه يوسف بن يعقوب بن زياد الواسطي قال الدارقطني ضعيف) انتهى. وأخرج له في غرائب مالك في ترجمة نافع عن بن عمر رفعه ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال تفرد برفعه هذا الشيخ وهو في الموطأ موقوف]
وثالثاُ: أحمد بن جعفر السمسار الذي يروي هنا عن أحمد بن عصام الأصبهاني هو الذي جاء في طبقات أصبهان (ج4/ص286/ت671): [أحمد بن جعفر بن معبد، شيخ ثقة، عنده عن أحمد بن عصام وأحمد بن مهدي والأصبهانيين.... إلخ]؛ فالمحقق التبس عليه هذا الثقة بالوضاع الكذاب أحمد بن جعفر بن عبد الله، أبو الفرج النسائي، شيخ آخر لأبي نعيم الأصبهاني، كما هو في لسان الميزان (ج1/ص144/ت457 - 458)، والله أعلم.
رابعاً: تم تصحيح الخطأ الأول في طبعة دار الرسالة، فلا ذكر هنا لأحمد بن عصام، ولكن الخطأ الثاني بخصوص أحمد بن جعفر السمسار بقي كما هو، وهذا لا يليق بـ(مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط)!

وعلى كل حال فمدار الطرق الكثيرة على عبد الله بن عمر العمري، وهو الآفة، إن كانت هناك آفة. والحق أن الفقرة: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قد ثبتت ثبوتاً لا شك فيه من طرق أخرى، فليس ثمة آفة أو علة هنا، ومتابعة العمري تزيد الخبر قوة ومتانة.

والحق أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني ليس بالضعيف الساقط، فقد أخرج له مسلم والأربعة، وهو بدون شك أقوى بكثير من عبد الله بن نافع، ولكن أضر به أن أخاه الأكبر عبيد الله في القمة من الاتقان والتثبت، فإذا قورن به عبد الله سقط، وهذا ليس من العدل في شيء: فالواجب هو تقييم الرواة ومقارنتهم بالجيد المتوسط منهم، وليس بالنوادر من أمثال عبيد الله الذين لا يوجد منهم إلا بضعة نفر في العصر الواحد. وقد روى عنه الجمهور، ولم يتركه أحد، إلا الإمام يحيى بن سعيد القطان، وتبنى موقفه البخاري، وابن حبان فلم يذكروا غير موقف يحيى بن سعيد القطان. وإليك جملة من أقوال الأئمة كما هي في تهذيب التهذيب (ج5/ص286/ت564): [قال أبو طلحة عن أحمد: (لا بأس به قد رُوِى عنه ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله)؛ وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: (كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلا صالحا)؛ وقال أبو حاتم رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه]؛...؛ [وقال عثمان الدارمي عن بن معين: (صويلح)، وقال بن أبي مريم عن بن معين: (ليس به بأس يكتب حديثه) وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: (ضعيف)؛ وقال عمرو بن علي: (كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه وكان عبد الرحمن يحدث عنه)؛ وقال يعقوب بن شيبة: (ثقة صدوق في حديثه اضطراب)؛ وقال صالح جزرة: (لين مختلط الحديث)؛ وقال النسائي: (ضعيف الحديث)؛ وقال بن عدي: (لا بأس به في رواياته صدوق)]؛...؛[وقال أبو حاتم: (وهو أحب إلي من عبد الله بن نافع يكتب حديثه ولا يحتج به)؛ وقال العجلي: (لا بأس به)؛ وقال بن حبان: (كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك، مات سنة 173)؛ وقال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري: (ذاهب لا أروي عنه شيئاً)؛ وقال البخاري في التاريخ: (كان يحيى بن سعيد يضعفه)؛ وقال أبو أحمد الحاكم: (ليس بالقوي عندهم)؛ وقال يعقوب بن سفيان عن أحمد بن يونس: (لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة)؛ وقال المروذي: (ذكره أحمد فلم يرضه)؛ وقال بن عمار الموصلي: (لم يتركه أحد إلا يحيى بن سعيد وزعموا أنه أخذ كتب عبيد الله فرواها)؛ وأورد له يعقوب بن شيبة في مسنده حديثا فقال: (هذا حديث حسن الإسناد مدني)، وقال في موضع آخر: (هو رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب ويزيد في الأسانيد كثيرا)؛ وقال الخليلي: (ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه)؛ وقول بن معين فيه أنه صويلح إنما حكاه عنه إسحاق الكوسج وأما عثمان الدارمي فقال عن بن معين: (صالح ثقة)]؛
والخلاصة أن يحيى بن سعيد القطان هو فقط الذي تركه، وتبعه علي بن المديني، ثم البخاري، وأما النسائي فهو من المتشددين على كل حال، وابن حبان متساهل في التوثيق والجرح على حد سواء لا يعتمد عليه؛ وانحاز الحافظ إليهم فقال في تقريب التهذيب (ج1/ص314/ت3489): [عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري المدني ضعيف عابد من السابعة مات سنة إحدى وسبعين وقيل بعدها (م 4)]؛
أما أنا فأستخير الله وأقول: (صدوق عابد، في حديثه لين واضطراب، يكتب حديثه ولا يحتج به إذا انفرد)؛ والله أعلم وأحكم.

ومهما يكن من أمر فإن حديثتا الرئيس، حديث أبي هريرة، حسن لذاته، صحيح قطعاً بمجموع متابعاته وطرقه.
وحتى الألباني، الذي لم يطلع على حديث أبي هريرة الرئيس، أقر بأن الفقرة الأولى، وهي: («نَهَى عَنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُهْدِمَ») قابلة للتحسين، عندما قال نصاً: [وأما شطره الأول؛ فمن الممكن تحسينه بمجموع الطريقين الضعيفين عن نافع، ولعل هذا هو وجه سكوت الحافظ على الحديث في "الفتح" (4/71) وتحسينه إياه فيما تقدم؛ وإلا فإني استبعد جداً أن يحسن إسناداً تفرد به العمري الذي جزم هو نفسه بتضعيفه كما تقدم، فضلاً عن غيره! والله أعلم]، وذلك عند دراسته لحديث نافع في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/458/4859): [(لا تهدموا الآطام؛ فإنها زينة المدينة): منكر]
والواجب الآن، على كل حال، هو نقل الحديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة، والحمد لله رب العالمين.

السبت، 19 سبتمبر 2015

التبرك بالنبي ﷺ واقتفاء الصحابة رضوان الله عليهم آثاره ﷺ وتتبع مواطن صلاته

أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: «رأيت رسول الله ﷺ في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله ﷺ، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه»

وأخرج مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها»

وأخرج البخاري في صحيحه إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ  بعينه قال فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه،فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.

وأخرج النسائي في السنن الكبرى عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: خرجنا وفدا إلى نبي الله ﷺ، فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، واستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ، وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة، وأمرنا، فقال: «اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجدًا»، فقلنا له إن البلد بعيد والحر شديد والماء ينشف، قال: «مدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبًا فخرجنا حتى قدمنا بلدنا فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها واتخذناها مسجدًا، فنادينا فيه بالأذان»

وأخرج مسلم وابن خزيمة وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما رمى رسول الله ﷺ الجمرة ونحر هديه ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة، وأمره أن يقسم بين الناس.
 وفي رواية لمسلم: "فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك"

وأخرج البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بِجُلْجُلٍ من فضة فيه شعر من شعر النبي ﷺ وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَهُ، قال: فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حُمْرًا.
وفي رواية البيهقي في الدلائل: "كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم، فيه من شعر النبي، ﷺ، فكان إذا أصاب إنسانًا الحمى بعث إليها فَخَضْخَضَتْهُ فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه. قال: بعثني أهلي إليها فأخرجته فإذا هو هكذا" أهـ

الجُلجُل: وهو شيء يتخذ من فضة أو غيرها يشبه الجرس وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته.
قال وكيع: كان جُلجُلاً من فضة صيغ صوانًا لشعرات النبي ﷺ التي كانت عند أم سلمة.

وعن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك، فقال: أطلبوها، فلم يجدوها، فقال: أطلبوها فوجدوها، فإذا هي قلنسوة خلقة – أي ليست بجديـدة -، فقال خـالـد: اعتمـر رسول الله ﷺ فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر.
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه، ورجالهما رجال  الصحيح.

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن سيرين، قال: قلت لعُبيدة «عندنا من شعر النبي ﷺ أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس» فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها.

وأخرج البخاري عن عثمان عن أنس أن أم سليم كانت تبسط للنبي ﷺ نِطْعاً فيقيل عندها على ذلك النطـع، قال: فإذا نـام النبي ﷺ أخذت من عرقـه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سُكّ وهو نائم، قال: فلما حضر أنس ابن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل في حنوطه من السُّك قال: فجعل في حنوطه.
وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة: عرق فاستنقع عرقه على قطعة أديم  عتيدة فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها فأفاق، فقال: ما تصنعين؟ قالت: نرجو بركته لصبياننا، فقال: أصبت.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: كان أسيد بن حضير رضي الله عنه رجلاً صالحاً ضاحكاً مليحاً، فبينما هو عند رسول الله ﷺ يحدث القوم ويضحكهم، فطعن رسول الله ﷺ في خاصرته، فقال: أوجعتني قال ﷺ:اقتص قال: يا رسول الله! إن عليك قميصاً ولم يكن عليَّ قميص، قال: فرفع رسول الله ﷺ قميصه فاحتضنه ثم جعل يقبل كشحه، فقال: بأبي أنت وأمي  يارسول الله! أردت هذا.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن أن النبي ﷺ لقى رجلاً مختضباً بصفرة وفي يد النبي ﷺ جريدة، فقال النبي ﷺ: خط ورس، فطعن بالجريدة بطن الرجل وقال: ألم أنهك عن هذا؟ فأثر في بطنه دماً أدماه، فقال: القود يارسول الله، فقال الناس: أمن رسول الله ﷺ تقتص؟ فقال: ما لبشرة أحد فضل على بشرتي، فكشف النبي ﷺ عن بطنه ثم قال: اقتص، فقبل الرجل بطن النبي ﷺ وقال: أدعها لك أن تشفع لي يوم القيامة.

وعن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهماأن أباه حدثه أنه أتى  النبي ﷺ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: (يا عبدالله! اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله ﷺ عدل إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله! ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس،  قال: لعلك شربته؟ قال: نعم، فقال ﷺ: ولم شربت الدم؟ ويل للناس  منك وويل لك من الناس)
أخرجه الحاكم والطبراني والبزار وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة.

وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع عن سفينة رضي الله عنه قال: (احتجم النبي ﷺ ثم قال: "خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير  والناس"، فتغيبت فشربته، ثم ذكرت ذلك له فضحك).

وأخرج الحسـن بن سفيـان في مسنده والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي عن الأسـود بن قيس عن نبيح العنزي عن أم أيمن قالت: قام رسول اللــه ﷺ من الليل إلى فخارة في جانـب البيـت فبال، فقمـت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي ﷺ قال: "يا أم أيمن! قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها، قالت: فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أما والله لا يجعنّ بطنك أبداً".

وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما قالت: دخل عليّ رسول الله ﷺ فشرب من فِي قِربة معلّقة قائمًا فقمت إلى فيها فقطعته، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية ابن ماجة: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدة له يقال لها كبشة الأنصارية، أن رسول الله ﷺ: "دخل عليها، وعندها قربة معلقة، فشرب منها، وهو قائم، فقطعت فم القربة تبتغي بركة، موضع في رسول الله ﷺ"
قال النووي في رياض الصالحين: "وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله ﷺ وتتبرك به وتصونه عن الابتذال". ا.هـ.

وأخرج الإمام أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ دخل على أم سليم وفي البيت قربة معلقة فشرب من فيها –أي من فم القربة– وهو نائم قال أنس: فقطعت أم سليم فم القربة فهو عندنا.
أي أن أم سليم قطعت فم القربة الذي هو موضع شربه ﷺ واحتفظت به في بيتها للتبرك بأثر النبي ﷺ.

التبرك بالقبر الشريف:
أخرج البخاري في صحيحه أنه لما حضرت الوفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنه عبد الله: انطلق إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، قال: فاستأذن وسلم، ثم دخل عليها وهي تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، فقال الحمد لله ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين.

وعن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحَجَرَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تبكوا على الدين إذا وليه أهلُهُ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله"
أخرجه أحمد  والطبراني في الأوسط والكبير والحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي

وعن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد مضطجعًا على باب حجرة عائشة، رافعا عقيرته يتغنى، ورأيته يصلي عند قبر النبي ﷺ، فمر به مروان فقال: أتصلي عند قبر! وقال له قولا قبيحا ثم أدبر، فانصرف أسامة ثم قال: يا مروان إنك فاحش متفحش، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش".
أخرجه الطبراني في الكبير ووفي الأوسط، والخطيب في  في تاريخ بغداد من طريق عثمان بن حكيم، عن محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، عن أسامة.
قال الذهبي: إسناده حسن، محمد بن إسحاق صدوق، وقد صرَّح بالتحديث، فأَمِنَّا شر تدليسه.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن بلالا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة، فأتى قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدًا رَسُول اللَّهِ، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يَوْم أكثر باكيًا، وباكية من ذلك اليوم.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الأثير في أسد الغابة وجود إسناده الحافظ السمهودي في وفاء الوفاء

قال الذهبي في كتابة (معجم الشيوخ الكبير):
"عن نافع عن ابن عمر: (أنه كان يكره مس قبر النبي ﷺ)
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله، فلم ير بذلك بأسًا، رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد.

فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة؟ قيل: لأنهم عاينوه حيَّاً وتملوا به وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ.
وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي ﷺ، إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه، وولده والناس أجمعين، ومن أمواله، ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر، وعمر أكثر من حب أنفسهم." أهـ

تبرك الصحابة بآثار النبي ﷺ ومكان صلاته:
عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك»
أخرجه البخاري ومسلم
قال الذهبي في السير في ترجمة عبيد بن عمرو:
"وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبَّلها، ويقول: يد مست يد رسول الله ﷺ، فنقول نحن إذ فاتنا ذلك: حجر معظَّم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا ﷺ لاثمًا له. فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاجَّ وقبِّل فمه وقل: فم مس بالتقبيل حجرًا قبَّله خليلي ﷺ."

وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: «يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة»، قال: «فإني رأيت النبي ﷺ يتحرى الصلاة عندها» أخرجه البخاري ومسلم
قال ابن حجر في فتح الباري:
«والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام"، وإنها أسرتها إلى بن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها، ثم وجدتُ ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وزاد أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة» أهـ

وعن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله، أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مُصَلًّى، قال: فقال له رسول الله ﷺ: «سأفعل إن شاء الله»، قال: عتبان: فغدا رسول الله ﷺ وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله ﷺ فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله ﷺ فكبَّر، فقمنا فَصَفَّنَا فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وَحَبَسْنَاهُ على خَزِيرَةٍ صنعناها له.
أخرجه البخاري

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي ﷺ دعا في مسجد الفتح ثلاثًا: يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعُرِف البشر في وجهه»، قال جابر: «فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة»
قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد، والبزار، ورجال أحمد ثقات.

وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى: فدخلتُ مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: «هذا موضع مصلّى رسول الله ﷺ الذي دعا فيه على الأحزاب»، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح. أخرجه السمهودي في وفاء الوفاء.

وعن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: «رأيت نفرًا من أصحاب النبي ﷺ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا»، قال: «ورأيت يزيد يفعل ذلك»
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
وأخرج القاضي عياض الحافظ في [الشفاء] عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله: «كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون».

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقوم يوم الجمعة إلى جانب المنبر فيطرح أعقاب نعليه في ذراعيه، ثم يقبض على رمانة المنبر، يقول: قال أبو القاسم ﷺ، قال محمد ﷺ، قال رسول الله ﷺ، قال الصادق المصدوق ﷺ، ثم يقول في بعض ذلك: "ويل للعرب من شر قد اقترب"، فإذا سمع حركة باب المقصورة بخروج الإمام جلس.
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

حرص سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على اقتفاء آثار النبي ﷺ:
وقد اشتهر من الصحابة سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالعناية الفائقة بالآثار النبوية، فأخرج ابن سعد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي ﷺ في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: لو نظرتَ إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذا اتبع أثر النبي ﷺ لقلت: هذا مجنون، وأخرج الحاكم عن نافع نحوه، وأخرج أبو نُعيم أيضًا عن عاصم الأحول عمَّن حدثه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رآه أحد ظنَّ أن به شيئاً من تتبُّعه آثار النبي ﷺ.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سأل بلالًا: «أين صلى رسول الله ﷺ؟» يعني في الكعبة، فأراه بلال حيث صلى، ولم يسأله كم صلى، وكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قِبَل وجهه، وجعل الباب قبل ظهره ثم مشى حتى يكون بينه وبين الجدار قريب من ثلاثة أذرع، ثم صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله ﷺ صلى.
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في الكبرى

وعن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ أناخ بالبطحاء بذي الحليفة، فصلى بها» وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك.
أخرجه البخاري

وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها «وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة». وحدثني نافع، عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
أخرجه البخاري

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ﷺ كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المُعَرَّسِ، وأن رسول الله ﷺ، كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح»
أخرجه البخاري

عن نافع أن عبد الله بن عمر، أخبره «أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سَمُرَةٍ في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط من بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بِالْبَطْحَاءِ التي على شفير الوادي الشرقية، فَعَرَّسَ ثَمَّ، حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة، ولا على الأَكَمَةِ التي عليها المسجد»، كان ثَمَّ خَلِيجٌ يصلي عبد الله عنده في بطنه كُثُبٌ، كان رسول الله ﷺ ثَمَّ يصلي، فدحا السيل فيه بالبطحاء، حتى دفن ذلك المكان، الذي كان عبد الله يصلي فيه.
وأن عبد الله بن عمر حدثه: «أن النبي ﷺ صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي ﷺ يقول: "ثَمَّ عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي"، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك»
وأن ابن عمر: كان يصلي إلى العِرْق الذي عند مُنْصَرَفِ الروحاء، وذلك العِرْقُ انتهاء طَرَفِهِ على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المُنْصَرَفِ وأنت ذاهب إلى مكة، وقد  ابْتُنِيَ ثَمَّ مسجد، فلم يكن عبد الله بن عمر يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العِرْقِ نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة، فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عَرَّسَ حتى يصلي بها الصبح.
كلها أخرجها البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة، عن نافع.

بذي الحليفة: اسم موضع قريب من المدينة، ويسمى أيضا الشجرة ويسمى الآن آبار علي وهو ميقات أهل المدينة.
سَمُرَةٍ : شجرة ذات شوك.
بطن واد: وادي العقيق.
شفير: طرف.
فَعَرَّسَ ثَمَّ: نزل آخر الليل ليستريح ويبيت.
المسجد الذي بحجارة: على تل من حجارة.
الأكمة: التل.
خليج: وادٍ عميق.
كُثُب: جمع كثيب، وهو الرمل المجتمع (القوز).
وروى ابن رجب في فتح الباري عن الإمام مالك أنه قال في (الموطإ): "لا ينبغي لأحدٍ أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرَّس به، وأن ابن عمر أناخ به." أهـ

وأخرج البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ حيث أفاض من عرفة مال إلى الشِّعَب، فقضى حاجته فتوضأ، فقلت: يا رسول الله، أتصلي؟ فقال: «الصلاة أمامك»
وعن نافع قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، غير أنه يمر بالشِّعَب الذي أخذه رسول الله ﷺ، فيدخل، فينتفض ويتوضأ، ولا يصلي حتى يصلي بجمع».

وأخرج ابن عساكر عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتَّبع آثار رسول الله ﷺ كل مكان صلى فيه، حتى إنَّ النبي ﷺ نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس. وفي رواية صالح عند الإمام أحمد: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي  ﷺ إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.

وأخرج أحمد والبزّار بإسناد جيد عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسأل لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا ففعلت.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته، يثنيها ويقول: لعلَّ خفَّاً يقع على خف، يعني خف راحلة النبي ﷺ.

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه نظر إلى بن عمر وضع يده على مقعد النبي ﷺ من المنبر ثم وضعها علي وجهه.

وأخرج ابن خُزيمة في صحيحة والبَيْهقي عن زيد بن أسلمَ قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلِّي محلولة أزراره، فسألته عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله ﷺ يفعله.

وأخرج ابن سعد في الطبقات وابن عساكر في تاريخ دمشق عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه، قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر يأخذان برمانة المنبر ثم ينصرفان"

وأخرج البخاري عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال لي: انطلق  إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله ﷺ وتصلي في مسجد صلى فيه النبي ﷺ، فانطلقت معه فسقاني وأطعمني تمراً وصليت في مسجده.

وأخرج النسائي عن أبي مجلز أن أبا موسى كان بين مكة والمدينة فصلى العشاء ركعتين ثم قام فصلى ركعة أوتر بها فقرأ فيها بمائة آية من النساء ثم قال: ما ألوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله ﷺ قدميه وأنا أقرأ بما قرأ به رسول الله ﷺ.

وعن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي الخزرجي، عن أبيه، عن جده أبي أسيد وله بئر بالمدينة يقال لها (بئر بُضَاعَةَ) قد بصق فيها النبي ﷺ فهي يبشر بها ويتيمن بها.
رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات.

وأخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر: أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنةديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله ﷺ كانت عند عائشة فلما قُبضت قبضتها، وكان النبي ﷺ يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.

التبرك بمن تبرك برسول الله ﷺ:
أخرج الحافظ ابن حجر في المطالب العالية عن ثابت البناني قال: كنت إذا أتيت أنسا يُخْبَرُ  بمكاني، فأدخل عليه، فآخذ بيديه فأقبلهما وأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله ﷺ وأقبِّل عينيه وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ.
قال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي، وهو ثقة.

وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق عن جميلة مولاة أنس قالت: كان ثابت إذا جاء إلى أنس قال: يا جميلة ناوليني طيبًا أمس به يدي، فإن ابن أبي ثابت لا يرضى حتى يقبِّل يدي يقول يد مست رسول الله ﷺ.

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن رَزِين قال: مررنا بالرَّبذَة فقيل لنا: ههنا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأتيته فسلمنا عليه وأخرج يده فقال: بايعتُ بهاتين نبي الله ﷺ فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير، فقمنا إليها فقبلناها.

وأخرج الطبراني في الكبير عن يحيى بن الحارث الذماري قال: لقيت واثلة بن الأسقع، فقلت: بايعت بيدك هذه رسول الله ﷺ، فقال: «نعم» ، فقلت: أعطني يدك أقبلها فأعطانيها فقبلتها. وفي الأوسط والكبير والحلية لأبي نعيم عن يونس قال: دخلنا على يزيد بن الأسود عائدين فدخل عليه واثلة بن الأسقع، فلما نظر إليه مد يده فمسح بها وجهه وصدره، وقد بايع بها رسول الله ﷺ

تبرك التابعين بآثار النبي ﷺ:
روى ابن وهب عن الإمام مالك أنه سُئل عن مسجد رسول الله ﷺ وقيل له: أي المواضع أحبُّ إليك الصلاة فيه؟ قال: "أما النافلة فموضع مُصَلَّاهُ"، وأما المكتوبة فأول الصفوف"

وأخرج الذهبي في السير عن الإمام مالك قال: "رأيتُ عطاء بن أبي رباح دخل المسجد، وأخذ برمانة المنبر، ثم إستقبل القبلة".

وأخرج الإمام مالك في الموطأ والنسائي في السنن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار» ذلك لعظم منبره الشريف ﷺ.

وأخرج الذهبي في السير قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي ﷺ، فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيته أخذ قصعة النبي ﷺ فغسلها في حب الماء ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في في العلل ومعرفة الرجال: "سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه و سلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك"

وقال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: لا أعرف هذا، قلت: فالمنبر، قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، أي رمانة المنبر قبل احتراقه.
ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك." أهـ

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
"استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي ﷺ وتقبيل قبره فلم ير به بأساً، وإستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونقل عن بن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين" أهـ

ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية المباركة وآثاره هو مذهب البخاري كما ذكرنا حيث بوب في كتاب الصلاة [باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ] ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد، وقد استدل الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي ﷺ، وهو مذهب مالك أيضًا، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي ﷺ ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: "لا أرى أن تحرم الناس من أثر النبي ﷺ "، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه ﷺ من مسجده.

ولو كان الله تبارك وتعالى يخشى على عباده المؤمنين من التبرك وأن فيه ذريعة للشرك لما أمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ولا أن يسعوا بين الصفا والمروة، ولا أن يتبعدوه في المشاعر المقدسة كلها في الحج، ولما رغبهم رسول الله ﷺ في ماء زمزم ولا في شعره الشريف ولما سمح لهم أن يقتتلوا على ماء وضوئه وأن يدلكوا بنخامته الشريفة كما ثبت في الأخبار الصحيحة عنه ﷺ.

نقض أدلة منكري التبرك بالآثار النبوية:
أما ما روي من أن سيدنا عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي بويع تحتها رسول الله ﷺ فإن السند منقطع فنافع لم يلق سيدنا عمر رضي الله عنه. والشيء الثاني أن الشجرة لم تكن موجودة في العام التالي للبيعة وروي أن السيول جرفتها، فكيف تكون باقية كانت ومعروفة في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه؟ فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منّا اثنان على الشجرة الّتي بايعنا تحتها، كانت رحمة من اللّه"، فسألت -أي الراوي- نافعاً على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: "لا، بايعهم على الصبر"

وأخرج البخاري عن طارق بن عبدالله قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أُنسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم!!

وقال الإمام الحاكم في [معرفة علوم الحديث]: "والحديبية بئر وكانت الشجرة بالقرب من البئر، ثم إن الشجرة فُقدت بعد ذلك فلم يجدوها، وقالوا إن السيول ذهبت بها، فقال سعيد بن المسيب : (سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول : قد طلبناها غير مرة فلم نجدها)"أهـ

أما ما روي عن المعرور بن سويد الأسدي قال : "وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرف إلى المدينة، وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و {لإيلاف قريش}، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهبون هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذه يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبيعًا، ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله فليصل فيها، ولا يتعمدنَّها"

فليس فيه دليل على إنكار على التبرك بالآثار النبوية لأن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتناول الصلاة المفروضة، ولا تبرك في الصلاة المفروضة، إنما يكون التبرك في صلاة النافلة، بدليل قوله "ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ" ولما تقدم عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه يفضل الصلاة في مصلى النبي ﷺ في النافلة، وفي الصف الأول في الفريضة. ودل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: «ما هذا؟» فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل»
وفيه التنبيه على عدم شد الرحال إلى المساجد سوى الثلاثة طلبًا لزيادة الثواب في صلاة الفرض بدليل قوله: "ولا يتعمدنها"، ولو كان في الحديث إنكار على التبرك والصلاة في آثار الأنبياء لكان ذلك مناقضًا لقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
ولعله كره الرهبانية والانقطاع فيها بدليل قوله "فاتخذوها كنائس وبيعًا"

أما حديث دانيال فإنه على ضعف كل طرقه إلا أنه في مسألة مختلفة تمامًا، وإنه لمن التضليل الزج به في هذا الموضع. قال الحافظ في الفتح:
"وقد غضب ﷺ حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ولولا أنه معصية ما غضب فيه قلت إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضا فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر نظر أيضا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور وقد أخرجه أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي ﷺ فجعل يقرأ ووجه رسول الله ﷺ يتغير فقال له رجل من الأنصار ويحك يا بن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف ولأحمد أيضا وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر أن عمر أتى بكتاب أصابه من بعض كتب أهل الكتاب فقرأه على النبي ﷺ فغضب فذكر نحوه دون قول الأنصاري وفيه والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني وفي سنده مجالد بن سعيد وهو لين وأخرجه الطبراني بسند فيه مجهول ومختلف فيه عن أبي الدرداء جاء عمر بجوامع من التوراة فذكر بنحوه وسمى الأنصاري الذي خاطب عمر عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان وفيه لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت قال جاء عمر فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك قال فتغير وجه رسول الله ﷺ الحديث وفيه والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم وأخرج أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة قال كنت عند عمر فجاءه رجل من عبد القيس فضربه بعصا معه فقال ما لي يا أمير المؤمنين قال أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال مرني بأمرك قال انطلق فامحه فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته لأنهكنك عقوبة ثم قال انطلقت فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت فقال لي رسول الله ﷺ ما هذا قلت كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب حتى احمرت وجنتاه فذكر قصة فيها يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف" أهـ

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

وصف الأنبياء عليهم السلام

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ، قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى هِرَقْلَ صَاحِبِ الرُّومِ نَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْغُوطَةَ يَعْنِي دِمَشْقَ فَنَزَلْنَا عَلَى جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيِّ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَإِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا بِرَسُولٍ نُكَلِّمُهُ، فَقُلْنَا لَهُ: وَاللهِ لَا نُكَلِّمُ رَسُولًا، إِنَّمَا بُعِثْنَا إِلَى الْمَلِكِ، فَإِنْ أَذِنَ لَنَا كَلَّمْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ نُكَلِّمِ الرَّسُولَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَأَذِنَ لَنَا، فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فَكَلَّمَهُ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا عَلَيْهِ ثِيَابُ سَوَادٍ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: مَا هَذِهِ الَّتِي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: لَبِسْتُهَا وَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَنْزِعَهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنَ الشَّامِ. قُلْنَا: وَمَجْلِسُكَ هَذَا؟ فَوَاللهِ لَنَأْخُذَنَّهُ مِنْكَ وَلَنَأْخُذَنَّ مُلْكَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَصُومُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُفْطِرُونَ بِاللَّيْلِ. فَكَيْفَ صَوْمُكُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَمُلأَ وَجْهُهُ سَوَادًا، فَقَالَ: قُومُوا. وَبَعَثَ مَعَنَا رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ لَنَا الَّذِي مَعَنَا: إِنَّ دَوَابَّكُمْ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَإِنْ شِئْتُمْ حَمَلْنَاكُمْ عَلَى بَرَاذِينَ وَبِغَالٍ، قُلْنَا: وَاللهِ لَا نَدْخُلُ إِلَّا عَلَيْهَا. فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ. فَدَخَلْنَا عَلَى رَوَاحِلِنَا مُتَقَلِّدِينَ سُيُوفَنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غُرْفَةٍ لَهُ، فَأَنَخْنَا فِي أَصْلِهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، فَقُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ لَقَدْ تَنَفَّضَتِ الْغُرْفَةُ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا عِذْقٌ تُصَفِّقُهُ الرِّيَاحُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا عَلَيْنَا بِدِينِكُمْ. وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى فِرَاشٍ لَهُ، وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ مِنَ الرُّومِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَجْلِسِهِ أَحْمَرُ، وَمَا حَوْلَهُ حُمْرَةٌ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مِنَ الْحُمْرَةِ. فَدَنَوْا مِنْهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْكُمْ لَوْ حَيَّيْتُمُونِي بِتَحِيَّتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، كَثِيرُ الْكَلَامِ. فَقُلْنَا: إِنَّ تَحِيَّتَنَا فِيمَا بَيْنَنَا لَا تَحِلُّ لَكَ، وَتَحِيَّتَكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُحَيِّيَكَ بِهَا. قَالَ: كَيْفَ تَحِيَّتُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ فَقُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكَ. قَالَ: فَكَيْفَ تُحَيُّونَ مَلِكَكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا. قَالَ: وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا. قَالَ: فَمَا أَعْظَمُ كَلَامِكُمْ؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا تَكَلَّمْنَا بِهَا، قَالَ: وَاللهُ لَقَدْ تَنَقَّضَتِ الْغُرْفَةُ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْتُمُوهَا حَيْثُ تَنَفَّضَتِ الْغُرْفَةُ كُلَّمَا قُلْتُمُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ تُنَفَّضُ بُيُوتُكُمْ عَلَيْكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، مَا رَأَيْنَاهَا فَعَلَتْ هَذَا قَطُّ إِلَّا عِنْدَكَ. قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ كُلَّمَا قُلْتُمْ تَنَفَّضَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي، قُلْنَا: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَيْسَرَ لِشَأْنِهَا وَأَجْدَرَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ حِيَلِ النَّاسِ. ثُمَّ سَأَلَنَا عَمَّا أَرَادَ، فَأَخْبَرْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ صَلَاتُكُمْ وَصَوْمُكُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ. فَقَالَ: قُومُوا. فَقُمْنَا، فَأَمَرَ لَنَا بِمَنْزِلٍ حَسَنٍ وَنُزُلٍ كَثِيرٍ، فَأَقَمْنَا ثَلَاثًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لَيْلًا، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَاسْتَعَادَ قَوْلَنَا فَأَعَدْنَاهُ، ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرَّبَعَةِ الْعَظِيمَةِ مُذَهَّبَةٍ فِيهَا بُيُوتٌ صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ بَيْتًا وَقُفْلًا، وَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمُ الْأَلْيَتَيْنِ، لَمْ أَرَ مِثْلَ طُولِ عُنُقِهِ، وَإِذَا لَيْسَتْ لَهُ لِحْيَةٌ، وَإِذَا لَهُ ضَفِيرَتَانِ، أَحْسَنُ مَا خَلَقَ اللهُ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِذَا هُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا. ثُمَّ فَتَحَ لَنَا بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، وَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا لَهُ شَعْرٌ كَشَعْرِ الْقِطَطِ، أَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ، ضَخْمُ الْهَامَةِ، حَسَنُ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ، حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ، صَلْتُ الْجَبِينِ، طَوِيلُ الْخَدِّ، أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ، كَأَنَّهُ يَتَبَسَّمُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا وَاللهِ رَسُولُ اللهِ قَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَبَكَيْنَا. قَالَ: وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَامَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ وَقَالَ: وَاللهِ إِنَّهُ لَهُوَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. إِنَّهُ لَهُوَ، كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَأَمْسَكَ سَاعَةً يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ لِأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ أَدْمَاءُ سَحْمَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، حَدِيدُ النَّظَرِ، عَابِسٌ، مُتَرَاكِبُ الْأَسْنَانِ، مُقَلَّصُ الشَّفَةِ، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَى جَنْبِهِ صُورَةٌ تُشْبِهُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِدْهَانُ الرَّأْسِ، عَرِيضُ الْجَبِينِ، فِي عَيْنِهِ قَبَلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ آدَمَ، سَبْطٍ، رَبْعَةٍ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا: قَالَ: هَذَا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ فَتْحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَبْيَضَ، مُشْرَبٌ حُمْرَةٍ، أَقْنَى، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا إِسْحَاقُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ منه حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ تُشْبِهُ إِسْحَاقَ إِلَّا إنَّهُ عَلَى شَفَتِهِ السُّفْلَى خَالٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا يَعْقُوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَبْيَضُ، حَسَنُ الْوَجْهِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، حَسَنُ الْقَامَةِ، يَعْلُو وَجْهَهُ نُورٌ، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْخُشُوعُ، يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا إِسْمَاعِيلُ جَدُّ نَبِيِّكُمْ. ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةٌ كَأَنَّهَا صُورَةُ آدَمَ، كَأَنَّ وَجْهَهُ الشَّمْسُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَحْمَرَ، حَمْشِ السَّاقَيْنِ، أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، ضَخْمِ الْبَطْنِ، رَبْعَةٍ، مُتَقَلِّدٍ سَيْفًا، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ ضَخْمِ الْأَلْيَتَيْنِ، طَوِيلِ الرِّجْلَيْنِ، رَاكِبٍ فَرَسٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا رَجُلٌ شَابٌّ، شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، كَثِيرُ الشَّعْرِ، حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ، حَسَنُ الْوَجْهِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ لَكَم هَذِهِ الصُّوَرُ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَى مَا صُوِّرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّا رَأَيْنَا صُورَةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُوَرَهُمْ، وَكَانَ فِي خِزَانَةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَدَفَعَهَا إِلَى دَانْيَالَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللهِ إِنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي، وَإِنْ كُنْتُ عَبْدًا لَا يَتْرُكُ مُلْكَهُ حَتَّى أَمُوتَ. ثُمَّ أَجَازَنَا فَأَحْسَنَ جَائِزَتَنَا، وَسَرَّحَنَا. فَلَمَّا أَتَيْنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَدَّثْنَاهُ بِمَا رَأَيْنَا، وَمَا قَالَ لَنَا، وَمَا أَجَازَنَا. قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مِسْكِينٌ، لَوْ أَرَادَ اللهُ عز وجل بِهِ خَيْرًا لَفَعَلَ. ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ وَالْيَهُودَ يَجِدُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُمْ
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء:  إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد وصليت به الغداة وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس فنشر لي رهط من الأنبياء فيهم إبراهيم وموسى وعيسى فصليت بهم وكلمتهم فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ صفهم لي فقال أما عيسى ففوق الربعة ودون الطويل عريض الصدر ظاهر الدم جعد الشعر تعلوه صهبة كأنه عروة بن مسعود الثقفي وأما موسى فضخم آدم طوال كأنه من رجال شنؤة كثير الشعر غائر العينين متراكب الأسنان مقلص الشفة خارج اللثة عابس وأما إبراهيم فوالله لأشبه الناس بي خلقا وخلقا.
أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى

السبت، 12 سبتمبر 2015

هل نثبت لله ما أثبته لنفسه في النصوص كما يقول الوهابية الضالون؟

روى البيهقي في "البعث والنشور" بسنده عن عائشة رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقالت: هذه فلانة، تذكر من صلاتها، فقال: "مه، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب الدين ما دوم عليه ".

فقال الحافظ الإسماعيلي (ت 371 هـ):
"قوله عليه السلام: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) قال فيه بعضهم: (لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل)، والله عز وجل لا يوصف بالملال، ولكن الكلام أخرج مخرج المحاذاة للفظ باللفظ، وذلك شائع في كلام العرب وعلى ذلك خرج قول الله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] قوبلت السيئة الأولى التي هي ذنب بالجزاء على لفظ السيئة، والقصاص عدل ليس بسيئة. وكذلك قوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] واقتصاصه ليس بظلم ولا عدوان، فأخرج في اللفظ للمحاذاة على الاعتداء والمعنى ليس باعتداء" أهـ

قلت: وعلى نفس هذه القاعدة اللغوية: (إخراج اللفظ للمحاذاة)، نفهم القرءان الكريم بما يليق به سبحانه، كقوله تعالى:  (نسوا الله فنسيهم) وقوله تعالى: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) فلا ننسب لله تعالى النسيان، فإنه لا يليق به سبحانه، وقد قال: (وما كان ربك نسيَّاً).

وقال الحافظ في الفتح:
"قوله (لا يمل الله حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والمَلال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، [وهو محال على الله تعالى باتفاق]. قال الإسماعيلي -الحافظ- وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازًا كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وأنظاره. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملَالا عبَّر عن ذلك بالملَال من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه. وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن "حتى" على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل معناه لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار، أو حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ لاينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية، وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف الملل من العابد" أهـ

وقال الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم:
"قوله صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يمل حتى تملوا هو بفتح الميم فيهما وفي الرواية الأخرى لا يسأم حتى تسأموا وهما بمعنى قال العلماء الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق الله تعالى فيجب تأويل الحديث قال المحققون معناه لا يعاملكم معاملة المال فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم وقيل معناه لا يمل إذا مللتم وقاله بن قتيبة وغيره وحكاه الخطابي وغيره " أهـ

قال ابن رجب في فتح الباري شرح صحيح البخاري:
"وقوله (إن الله لا يمل حتى تملوا) وفي رواية: (لا يسأم حتى تسأموا)، الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم." أهـ

فليس يحمل كل الكلام على الظاهر، وليس كل صفة تثبت بظاهر لفظ، فإن لغة العرب غنية بالمجاز. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله:
"قوله: «لا شخص أغيرُ -أي أشد غيرة- من الله» ليس فيه إيجاب أن الله [شخص]، وهذا كما روي: «ما خلق الله شيئًا أعظم من آية الكرسي»،  فليس فيه إثبات خلق آية الكرسي، وليس فيه إلا أنْ لا خلق في العِظَم كآية الكرسي، لا أن آية الكرسي مخلوقة، وهكذا يقول الناس: (ما في الناس رجل يشبهها)، وهو يذكر امرأة في خلقها أو فضلها، لا أن الممدوح به رجل." أهـ

وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه:
"إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي"

فكونه تعالى قال: "مرضت"، "استطعمتك"، "استسقيتك" فإن ذلك لا يعني نسبة المرض، والجوع، والعطش إليه سبحانه على قاعدة السذج فيقولون: نثبت له المرض لكنه ليس كمرض المخلوقين، وجوع ليس كجوع المخلوقين وعطش ليس كعطش المخلوقين، بل جاء الحديث ليعلم المسلمين أصول التأويل، وصرف المعنى الظاهر لآخر يليق بالله تبارك وتعالى، فلا نثبت لله تبارك وتعالى إلا ما يليق بكماله تعالى.

قال النووي في شرح صحيح مسلم:
"قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفًا للعبد وتقريبًا له، قالوا ومعنى وجدتني عنده أي وجدت ثوابي وكرامتي، ويدل عليه قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو أسقيته لوجدت ذلك عندي، أي ثوابه"

ترجمة الأمام الأشعري

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بُردَةَ عامر ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى الأشعري.
ولد رحمه الله سنة ستين ومائتين بالبصرة، وقيل: بل ولد سنة سبعين ومائتين، وفي تاريخ وفاته اختلاف منها أنه توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وقيل: سنة أربع وعشرين، وقيل : سنة ثلاثين، توفي رحمه الله ببغداد ودفن بين الكرخ وباب البصرة.
كان أبو الحسن الأشعري سنّيـا من بيت سنّة ثم درس الاعتزال على أبي علي الجبَّائي وتبعه في الاعتزال، ثم تاب ورَقِيَ كرسيّا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فإني أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وان الله لا تراه الأبصار وان أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم.
قال الفقيه أبو بكر الصَّيرَفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السَّماسم.
وقد استفاد من الأشعري خلق كثير من أكابر العلماء وفحول الأئمة فتأدبوا بآدابه وسلكوا مسلكه في الأصول واتبعوا طريقته في الذب عن الدين ونصرة أهل السنة، إذ كان فضل المقتَدي يدل على فضل المقتدَى به، وهم من أعيان الأئمة ومشاهير القوم وقد ذكرهم مؤرخ الشام وحافظها أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر في كتابه الذي ألفه في الدفاع عن الشيخ أبي الحسن الأشعري مع ذكر مناقبه ومؤلفاته وثناء الأئمة عليه. وقد أفرد قاضي القضاة الشيخ تاج الدين ابن الإمام قاضي القضاة تقي الدين السبكي فصلا خاصا بذكر أكابر المنتسبين إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري وذلك أثناء ترجمته في كتابه طبقات الشافعية. وقد افتتح ترجمته بقوله : " شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجـماعة وإمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين والساعي في حفظ عقائد المسلمين سعيًا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر وتقي بر حمى جناب الشرع من الحديث المفترى وقام في نصرة ملّة الإسلام فنصرها نصرًا مؤزرًا وما برح يدلج ويسير وينهض بساعد التشمير حتى نقَّى الصدور من الشُّبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ووقى بأنوار اليقين من الوقوع في ورطات ما التبس فلم يترك مقالاً لقائل وأزاح الأباطيل، والحق يدفع ترهات الباطل " ا. هـ.
قـال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : " كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرة في جنب بحر، وسمعت الباهلي يقول: كنت في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر "، وقال لسان الأمة القاضي أبو بكر الباقلاني : " أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن ".
وقال كذلك أي التّاج السبكي في طبقاته (1) أثناء ترجمة الأشعري ما نصه : " ذكر بيان أن طريقة الشيخ - يعني الأشعري- هي التي عليها المعتبرون من علماء الإسلام والمتميزون من المذاهب الأربعة في معرفة الحلال والحرام والقائمون بنصرة دين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام : قدمنا في تضاعيف الكلام ما يدل على ذلك، وحكينا لك مقالة الشيخ ابن عبد السلام ومن سبقه إلى مثلها، وتلاه على قولها حيث ذكروا أن المالكية والشافغية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون هذه عبارة ابن عبد السلام شيخ الشافعية، وابن الحاجب شيخ المالكية، والحصيري شيخ الحنفية، ومن كلام ابن عساكر حافظ هذه الأمة الثقة الثبت: هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري ومنتسب له وراض بحميد سعيه في دين الله، مثنٍ بكثرة العلم عليه غير شرذمة قليلة تضمر التشبيه، وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه، أو تضاهي قول المعتزلة في ذمه، وتباهي بإظهار جهلها بقدر سعة علمه ".ا هـ.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله : " اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماما من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الدين على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبـدع وكان على المعتزلة والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة سيفا مسلولا، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة "اهـ.
وترجـمه الحافظ أبو بكر البغدادي في تاريخ بغداد (2) بقوله : " أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة " اهـ.
ووصفه المؤرخ ابن العماد الحنبلي (3) بالإمام العلامة البحر الفهامة المتكلم صاحب المصنفات، ثم قـال : " وممّا بيض به وجوه أهل السنة النبوية وسود به رايات أهل الاعتزال والجهمية فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل ا لإيمان والعرفان أثلج، مناظرته مع شيخه الجبائي التي قصم فيها ظهر كل مبتدع مرائي " اهـ.
وذكر شمس الدين بن خلكان في الأعيان (4) ووصفه بقوله " صاحب الأصول، والقائم بنصرة مذهب أهل السنة، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه " اهـ.
وقال أبو بكر بن قاضي شهبة في طبقاته (5): " الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري إمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين " ا.هـ.
وقال اليافعي في مرءاة الجنان (6) ما نصه : " الشيخ الإمام ناصر السنة وناصح الأمة، إمام الأئمة الحق ومدحض حجيج المبدعين المارقين، حامل راية منهج الحق ذي النور الساطع والبرهان القاطع " ا.هـ.
ويقول القرشي الحنفي في طبقاته (7): " صاحب الأصول الإمام الكبير وإليه تنسب الطائفة الأشعرية " وقد أثنى عليه الأسنوي الشافعي فقال (8): " هو القائم بنصرة أهل السنة القامع للمعتزلة وغيرهم من المبتدعة بلسانه وقلمه، صاحب التصانيف الكثيرة، وشهرته تغني عن ا لإطالة بذكره " ا.هـ.
وأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي على سؤال ورده ببغداد ونصه : " ما قول السادة الأئمة الأجلة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم ؟، فأجاب بقوله : " قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأمور أعز الله أنصاره الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله ".
وبعده كتب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعليقا على الجواب المذكور : (الأشعرية أعيان أهل السنة وأنصار الشريعة انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية وغيرهم فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد ". ووقع على هذا الجواب أيضا بالموافـقة الشيخ أبو بكر محمد بن أحـمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي اسحاق.
ويكفي في بيان فضل أبي الحسن الأشعري ثناء الحافظ البيهقي عليه وهو محدث زمانه وشيخ أهل السنة في وقته فقال كلاما أورده بطوله التاج السبكي فيه ذكر شرف ءاباء وأجداد أبي الحسن وحسن اعتقاده وفضله وكثرة أصحابه مع ذكر نسبه ثم قال البيهقي رحمه الله : " إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري فلم يحدث في دين الله حَدَثًا ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فنصرها بزيادة شرح وتبيين " ا. هـ.
وقد وصف الإمام الأشعري الحافظ المتقن أبو عمرو بن الصلاح في طبقاته بقوله : " إمام المتكلمين ".
وقد صنف الشيخ العلامة ضياء الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عمر القرطبي رسالة سماها "زجر المفتري على أبي الحسن الأشعري " رد فيها على بعض المبتدعة الذين هجوا الإمام الأشعري ولما وقف عليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قرظها.
أما مؤلفات الشيخ الأشعري رحمه الله فكثيرة قـيل إنها بلغت ما يقارب الخمسين مصنفا وقيل أكثر من ذلك، نذكر بعضا منها :
1- إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان.
2- تفسير القرءان، وهو كتاب حافل جامع.
3- الرد على ابن الراوندي في الصفات والقرءان.
4- الفصول في الرد على الملحدين والخارجين عن الملّة.
5- القامع لكتاب الخالدي في الإرادة.
6- كتاب الاجتهاد في الأحكام.
7- كتاب الأخبار وتصحيحها.
8 -تاب الإدراك في فنون من لطيف الكلام.
9- كتاب الإمامة.
10-التبيين عن أصول الدين.
111- الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل.
12- العمد في الرؤية.
13- كتاب الموجز.
14- كتاب خلق الأعمال.
15- كتاب الصفات، وهو كبير تكلم فيه على أصناف المعتزلة والجهمية.
16- كتاب الرد على المجسمة .
17- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع.
18-النقض على الجبائي.
19- النقض على البلخي.
20- جمل مقالات الملحدين.
21- كتاب في الصفات وهو أكبر كتبه نقض فيه ءاراء المعتزلة وفند أقوالهم وأبان زيغهم وفسادهم.
22-أدب الجدل.
23- الفنون في الرد على الملحدين.
24- النوادر في دقائق الكلام.
25- جواز رؤية الله تعالى بالأبصار.
26- كتاب الإبانة. وأما ما تزعم المجسمة من أن الإمام الأشعري قرر في كتابه الإبانة ما يوافق التجسيم وأن الله حال في السماء فهو مدفوع بأن النسخ التي يعتمدون عليها في نسبة ذلك إليه مدسوسة عليه ولا يستطيعون أن يظهروا نسخة موثوقًا بها إنما هذه النسخة عمل بعض المجسمة، فهل يعقل أن تكون مثل هذه العبارة من كلام أبي الحسن الأشعري وهي: اتفق المسلمون في دعائهم على قول يا ساكن السماء، فهذه فرية ظاهرة يكفي لكونها كذبا وافتراء عليه أن هذا لا يعرف عن أحد من الأشاعرة خواصهم وعوامهم بل ولا عن أحد ممن سبق أبا الحسن الأشعري ولا من لحقه من أهل الإسلام في الزمن الماضي والحاضر.
وقد ساق ابن عساكر عددا وافرا من مؤلفاته لم نذكرها في هذه المقدمة خشية الإطالة فمن شاء فليراجع، وكذا أورد الكثير منها إسماعيل باشا في كتابة هدية العارفين (9).

الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة

قال القاضي عِياض المالكي الحافظ في "ترتيب المدارك" [5/ 24، 25، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب]:
"وصَنَّف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحُجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع الواردة؛ من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودَفَعَ شُبَهَ المبتدعة ومَنْ بَعْدَهُم من الملحدة والرافضة، وصَنَّف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة، وكان يقصدهم بنفسه للمناظرة...فلما كثرت تواليفه وانتفع بقوله وظهر لأهل الحديث والفقه ذَبُّهُ عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه؛ لتَعَلُّم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبَسْط الحُجَج والأدلة في نصر المِلّة، فسُمُّوا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعُرِفوا بذلك -يعني الأشاعرة-، وإنما كانوا يُعرَفون قبل ذلك بالمُثْبِتة، سِمةٌ عَرَّفتهم بها المبتدعة؛ إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نَفَوه...فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم، وأثنَوا على مذهبه وطريقته"اهـ.

وقال الإمام الحافظ الحُجَّة أبو بكر البيهقي: "إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فلم يحدث في دين الله حَدَثًا، ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فنصرها بزيادة شرح وتبيين، وأن ما قالوا في الأصول وجاء به الشرع صحيح في العقول، خلاف ما زعم أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء، فكان في بيانه تقوية ما لم يدل عليه من أهل السنة والجماعة ونصره أقاويل من مضى من الأئمة؛ كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين، ومن نحا نحوهما من الحجاز وغيرها من سائر البلاد، وكأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث، والليث بن سعد وغيره، وأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع، رضي الله عنهم أجمعين" اهـ [نقلا عن: تبيين كذب المفتري للحافظ ابن عساكر ص 103، ط. دار الكتاب العربي].

وقال قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" [3/ 365، ط. هجر]: "اعلم أنّ أبا الحسن لم يُبدِع رأيًا، ولم يُنشِ مذهبًا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عَقَد على طريق السلف نطاقًا، وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتَدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريًّا"اهـ.

وقال الشيخ الإمام العلامة الحافظ تاج الدين السبكي في "معيد النعم ومبيد النقم" [ص75، ط. الخانجي]:
"وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة -ولله الحمد- في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رَعاع من الحنفية والشافعية؛ لحقوا بأهل الاعتزال، ورَعاع من الحنابلة؛ لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية؛ فلم نر مالكيًّا إلا أشعريًّا عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة" اهـ.

وقال الإمام المايُرْقي المالكي: "ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سَنَن غيره، وعلى نصرة مذهبٍ معروف، فزاد المذهب حجة وبيانًا، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبًا انفرد به؛ ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نُسِب إلى مالك، ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له: مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثيرَ الاتِّباع لهم، إلا أنه لما زاد المذهب بيانًا وبسطًا عُزِي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه في نصرته" اهـ [نقلا عن: طبقات الشافعية الكبرى 3/ 367].

وقال العلامة السَّفَّاريني الحنبلي في "لوامع الأنوار البهية" [1/ 73، ط. مؤسسة الخافقين]: "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل - رضي الله عنه، والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي، وأما فرق الضلال فكثيرة جدًّا"اهـ.

وقال الإمام المرتضى الزبيدي في "شرح الإحياء" [2/ 6]: "إذا أُطْلِق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية"اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته: "رد المحتار على الدر المختار" [1/ 48، 49، ط. دار الكتب العلمية]: "(قوله -أي: الحصكفي-: عن معتقدنا) أي: عما نعتقد من غير المسائل الفرعية، مما يجب اعتقاده على كل مكلف بلا تقليد لأحد، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة؛ وهم: الأشاعرة والماتريدية, وهم متوافقون إلا في مسائل يسيرة، أرجعها بعضهم إلى الخلاف اللفظي، كما بُيِّن في محله"اهـ.

وذكر الإمام العلامة سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام أن عقيدة الأشعري اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة، ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه: أبو عمرو بن الحاجب، وشيخ الحنفية جمال الدين الحصيري [نقلا عن: طبقات الشافعية الكبرى 3/ 365].

وقال أبو الفتح الشهرستاني في كتابه الملل والنِحَل:
"الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه " اهـ.

وقال القاضي ابن فرحون المالكي في ترجمة الإمام الأشعري الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب
"كان مالكيا صنف لأهل السنة التصانيف وأقام الحجج على اثبات السنن وما نفاه أهل البدع "
ثم قال:
"فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المعتزلة ومن بعدهم من الملحدة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وظهر عليهم، وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه وله رسالة في ذكره لمن سأله عن مذهبه فيه أثنى عليه وأنصف، وأثنى عليه أبو محمد بن أبي زيد وغيره من أئمة المسلمين " اهـ.

وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى في طبقات الشافعية 3/ 376:
وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه، ومذهبه مذهب أهل الحق

وقال الإمام ابن حجر الهيتمي ـ رحمه الله تعالى ـ الزواجر عن اقتراف الكبائر 82:
المـراد بالسنة ما عليه إماما أهل السنة والجمـاعة الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي.. اهـ

قال الإمام العلامة أحمد الدردير ـ رحمه الله تعالى ـ في شرحه على منظومته في العقائد المسماة بـخريدة التوحيد ص 194:
أئمة الأمة الذين يجب اتباعهم على ثلاث فرق، فرقة نصبت نفسـها لبيـان الأحكام الشرعية العملية وهم الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين، ولكن لم يستقر من المذاهب المرضية سوى مذاهب الأئمة الأربعة، وفرقة نصبت نفسها للاشتغال ببيان العقائد التي كان عليها السلف وهم الأشعري والماتريدي ومن تبعهما، وفرقة نصبت نفسها للاشتغال بالعمل والمجـاهدات على طبق ما ذهب إليه الفرقتان المتقدمتان وهم الإمام أبو القاسم الجنيد ومن تبعه، فهؤلاء الفرق الثلاثة هم خواص الأمة المحمدية ومن عداهم من جميع الفرق على ضلال وإن كان البعض منهم يحكم له بالإسلام فالناجي من كان في عقيدته على طبق ما بينه أهل السنة

ومن أعلام الأشاعرة:
أبو الحسن الباهلي وأبو إسحاق الإسفرايني والحافظ الدارقطني والحافظ ابن حبان البستي والحافظ أبو ذر الهروي والحافظ أبو نعيم الأصبهاني والحافظ شمس الدين السخاوي والحافظ جلال الدين السيوطي والحافظ محمد عبد الرؤوف المناوي والقاضي عبد الوهاب المالكي والشيخ أبو محمد الجويني وابنه أبو المعالي إمام الحرمين وأبو منصور التميمي البغدادي والحافظ الاسماعيلي والحافظ البيهقي والحافظ الدارقطني والحافظ الخطيب البغدادي والأستاذ أبو القاسم القشيري وابنه أبو نصر والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونصر المقدسي والفراوي وأبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وقاضي القضاة الدامغاني الحنفي وأبو الوليد الباجي المالكي والإمام السيد أحمد الرفاعي والحافظ أبو القاسم بن عساكر والحافظ ابن كثير الدمشقي وابن السمعاني والحافظ السِّلَفي والقاضي عياض والنووي والإمام فخر الدين الرازي والعزّ بن عبد السلام وأبو عمرو بن الحاجب المالكي وابن دقيق العيد والإمام علاء الدين الباجي وقاضي القضاة تقي الدين السبكي والحافظ العلائي والحافظ زين الدين العراقي وابنه الحافظ ولي الدين وخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني وخاتمة اللغويين الحافظ مرتضى الزبيدي الحنفي والشيخ زكريا الأنصاري والشيخ بهاء الدين الرواس الصوفي ومفتي مكة أحمد زيني دحلان ومسند الهند ولي الله الدهلوي ومفتي مصر الشيخ محمد عليش المالكي المشهور وشيخ الجامع الأزهر عبد الله الشرقاوي والشيخ المشهور أبو المحاسن القاوقجي نقطة البيكار في أسانيد المتأخرين والشيخ حسين الجسر الطرابلسي صاحب "الرسالة الحميدية"، والشيخ عبد اللطيف فتح الله مفتي لجيروت، والشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت، والشيخ محمد بن درويش الحوث البيروتي وابنه عبد الرحمن نقيب أشراف بيروت، والشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت، والشيخ أبو محمد الويلتوري المليباري الهندي وقد ألف رسالة سماها "العقائد السنية ببيان الطريقة الأشعرية"، والقاضي الجليل ابن فرحون المالكي، والقاضي أبو بكر محـمد بن الطيب الباقلاني، والحـافظ ابن فورك، وأبو حامد الغزالي، وأبو"الفتح الشهرستاني، والإمام أبو بكر الشاشي القفّال، وأبو علي الدقّاق النيسابوري، والحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، والشيخ محمد بن منصور الهدهدي والشيخ أبو عبد الله محمد السنوسي والشيخ محمد بن علّان الصديقي الشافعي والعلامة علوي بن طاهر الحضرمي الحداد صاحب التآليف الكثيرة، والعلامة المتفنن والفقيه المحقِّق الحبيب بن حسين بن عبد الله بلفقيه، وجميع السادة الحضارمة منءال علوي، والسقاف، والجنيد، والعيدروس. وشافعي العصر رفاعي الأوان الشيخ الفقيه المحدث الأصولي عبد الله الهرري وغيرهم من أئمة الدين كثير لا يحصيهم إلا الله.
ومنهم الوزير المشهور نظام الملك والسلطان العادل العالم المجاهد صلاح الدّين الأيوبي طارد الصليبيين من القدس رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين الخير فإنه أمر أن تذاع أصول العقيدة على حسب عبارات الأشعري على المنابر بعد أذان الفجر وأن تعلم المنظومة التي ألفها له ابن هبة الله المكي للأطفال في الكتاتيب. ومنهم الملك الكامل الأيوبي هازم الصليبيين في دمياط، والسلطان الأشرف خليل بن المنصور سيف الدين قلاوون طارد الصليبيين من بلاد الشام، بل وكل سلاطين المماليك رحمهم الله. ومنهم السلطان محمد العثماني فاتح القسطنطينية الذي جاء فيه حديث رسول الله: لتفتحن القسطنطينية فلنَعم الأمير أميرها ولنَعم الجيش ذلك الجيش) رواه أحـمد، وكذا سائر السلاطين العثمانيين الذين ذبوا عن بيضة المسلمين وحموا حمى المللة قرونًا متتاليةً رحمهم الله.

الخميس، 10 سبتمبر 2015

أحوال السلف الصالح وتأثرهم بالقرءان والموت والعظة وكل ما يذكر بالآخرة

ما هو الحال؟

الحال هو تذوق الروح للإيمان، وهذا التذوق يكون أحيانًا في شكل دموع، أو بكاء، أو نحيب، أو صياح، أو إغماء أو إغشاء وصعق، ووفاة وقد يكون فرحًا وضحكًا، كما في بشارة النبي ﷺ للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أنها أول الناس لحوقًا به.

هذه الأحوال ليست فقط للبشر وإنما للجمادات أيضًا كما في بكاء الجذع حنينًا للنبي ﷺ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي ﷺ إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي ﷺ فوضع يده عليها فسكنت» أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن سيدنا أنس رضي الله عنه: «فحنت الْخَشَبَة حنين الوالدة»، وَفِي رِوَايَته عِنْد الدَّارمِيّ: «خار ذَلِك الْجذع كخوار الثور»، وَفِي حَدِيث سيدنا أبي بن كَعْب رضي الله عنه عِنْد الإمام أَحْمد: «فَلَمَّا جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ»، وفي رواية للنسائي في الكبرى: «اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة الحلوج» والحلوج: النَّاقة الَّتِي انتزع مِنْهَا وَلَدهَا.و روى ابن ماجه بسند صحيح عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

 وأيضًا كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [البقرة: 74] وقوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]. أما بالنسبة للبشر فإن نور الإيمان والذكر والتجلي تؤثر فيهم  بصورة واضحة وجلية فتصعقهم كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: 145].

يختلف الحال باختلاف تحمل الأرواح والأنفس لنور الإيمان، والناس يتفاوتون في التأثر والتفاعل، فمنهم سريع الدمع ومنهم عصيُّه، ومنهم رقيق الفؤاد لين القلب ومنهم غليظه ومنهم دون ذلك، كما قال رسول الله ﷺ: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا» أخرجه الشيخان.

ومن المحزن أنه قد ظهر مؤخرًا من ينكر على الناس ما يعتريهم من أحوال عفوية كأنه يفتش ما في قلوبهم ويحكم عليه، ويزعم بجهل واضح أن تلك الأحوال لم تؤثر عن النبي ﷺ ولا صحابته ولا التابعين عليهم من الله الرضوان، وكأن كل لحظة مرت بالنبي ﷺ وصحابته والتابعين رضوان الله عليهم دونت في كتب الحديث والسنة! يجب الإنتباه إلى أن ليس كل شيء مما وقع في الصدر الأول دُوِّن في السطور، وأن كثيرًا من مصادر الحديث والسيرة مسروق ومفقود، وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الإثبات مقدم على النفي. ومع ذلك فلابأس من أن نسوق في هذه العجالة طرفًا من الآثار المروية عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فيما يتعلق بالأحوال وتأثرهم بنور الإيمان والذكر.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه ﷺ {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم، وأهليكم نارا} [التحريم: 6] تلاها رسول الله ﷺ على أصحابه ذات ليلة، أو قال يوم فخر فتى مغشيا عليه فوضع النبي ﷺ يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك، فقال: «يا فتى، قل لا إله إلا الله» فقالها فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله، أمن بيننا؟ فقال رسول الله ﷺ: «أما سمعتم قول الله عز وجل {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 14]»
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان شاب على عهد رسول الله ﷺ يبكى عند ذكر النار، حتى حبسه ذلك فى البيت، فذكر ذلك للنبى ﷺ، فأتاه النبى  ﷺ، فلما نظر إليه الشاب قام فاعتنقه وخر ميتًا، فقال النبى ﷺ: «جهزوا صاحبكم فإن الفَرَقَ من النار فَلَذَ كبده، والذى نفسى بيده لقد أعاذه الله منها، من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه».
أخرجه ابن أبى الدنيا وابن المبارك في [الزهد والرقائق] والموفق بن قدامة فى [البكاء والرقة]

وعن حمران بن أعين رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قرأ: {إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} [المزمل: 13] فصعق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: فبكى حتى أغشي عليه.
أخرجه المروزي في [مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر] والقرطبي في التفسير

وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت، لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم، ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال، قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت، ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار.» وفي الحديث: إن معاوية لما بلغه هذا الحديث، بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون - أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} [هود: 15 - 16]
أخرجه بن رجب في جامع العلوم والحكم لابن رجب

وعن محمد بن على عن على: أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله: خبرنى بما رأيت فى الجنة ليلة أسرى بك، فقال: «يا ابن الخطاب لو لبثت فيكم ما لبث نوح فى قومه ألف سنة أحدثكم عما رأيت فى الجنة لما فرغت منه، ولكن يا عمر إذا قلت لى حدثنى فسأحدثك عما لم أحدث به غيرك، رأيت فيها قصورًا أصولها فى أرض الجنة وأعلاها فى جوف العرش فقلت: يا جبريل هى فى جوف العرش وأركانها فى أرض الجنة؟ قال: لا أدرى، قلت: يا جبريل أخبرنى من يصير إليها ومن يسكنها وإذا ضؤها كضوء الشمس فى الدنيا؟ قال: يسكنها ويصير إليها من يقول الحق ويدعو إلى الحق وإذا قيل له الحق لم يغضب ومات على الحق، قلت: يا جبريل هل تسمى أحدًا؟ قال: نعم رجلا واحدًا، قلت: من ذاك الواحد؟ قال: عمر بن الخطاب»، قال: فشهق شهقة خرَّ مغشياً عليه إلى الغد من تلك الساعة.
أخرجه ابن مردويه والسيوطي في جامع الأحاديث

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن بلالًا رضي الله عنه رأى في منامه النبي ﷺ وهو يقول له: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه حزينًا وجِلًا خائفًا، فركب راحلته، وقصد المدينة فأتى قبر النبي ﷺ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: (يا بلال، نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله ﷺ في السحر)، ففعل فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال: (الله أكبر، الله أكبر) ارتجت المدينة فلما أن قال: (أشهد أنْ لا إله إلا الله) زاد تعاجيجها أو رجتها، فلما أن قال: (أشهد أن محمدًا رسول الله) خرج العواتق من خدورهن، فقالوا: (أبُعثَ رسول الله ﷺ؟) فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكيةً بعد رسول الله ﷺ من ذلك اليوم.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد، وابن الأثير في أُسْد الغابة، والذهبي في سير أعلام النبلاء والسمهودي في وفاء الوفاء

وروي عن النبي ﷺ أنه قال لأبي هريرة ولسمرة بن جندب ولرجل آخر (آخر موتاكم موتا بالنار) فمات الرجل قبلهما وبقي أبو هريرة وسمرة فكان إذا اراد الرجل أن يغيظ أبا هريرة يقول: "مات سمرة" فإذا سمعه غشي عليه وصعق، ثم مات أبو هريرة قبل سمرة.
أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي وأبو نعيم السيوطي في الخصائص الكبرى وغيرهم

وقال الجوزجاني في كتاب [النواحين] حدثنا صاحب لنا عن جعفر بن سليمان عن لقمان الحنفي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب ينادي في جوف الليل: «واغوثاه من النار»، فلما أصبح قال: «يا شاب لقد أبكيت البارحة أعين ملأ من الملائكة كثير»

و قال سليمان بن سحيم: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى:
{وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين} أو نحو ذلك.
أخرجه أبو عبيدة

وكان الإمام مالك إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ اصفر وما رأته يحدِّث عن رسول الله ﷺ إلا على طهارة، ولقد اختلفتُ إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليًّا وإما صامتًا وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه وكان من العلماء والعُبَّاد الذين يخشون الله عز وجل، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله ﷺ، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفك ولا عرفته، لقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي ﷺ بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه، وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أحذه العويل والزويل. ولما كثر على مالك الناس قيل له لو جعلت مستمليًا يسمعهم، فقال قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وحرمته حيًّا وميتًا سواء. وكان ابن سيرين ربما يضحك فإذا ذكر عنده حديث النبي ﷺ خشع، وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي ﷺ أمرهم بالسكوت وقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وبتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله.
الشفا في شرف المصطفى للقاضي عياض الحافظ

وعن سفيان بن عيينة قال: حج علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين رضي الله عنهم أجمعين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال أخشى أن أقول: "لبيك" فيقول لي: "لا لبيك" فقيل له: لا بد من هذا، قال: فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، والذهبي في تاريخ الإسلام، والمزي في تهذيب الكمال وابن حجر في تهذيب التهذيب

وروى ابن حبان في [الثقات] أن أبا فاطمة اسمه عمرو الإيادي - ويقال إن له صحبة- غزا المشرق والمغرب رأوه غازيا بذي الطوازى من ناحية المغرب وقد اسودت جبهته وركبتاه من كثرة السجود ورأوه بالترمذ غازيا يؤم الناس فقرأ سورة الحاقة في صلاة الغداة فما أتمها شهرا كان إذا بلغ إلى قوله تعالى خذوه فغلوه غشي عليه.

وعن الحسن قال: كان في زمن عمر رضي الله عنه فتى ينتسك ويلزم المسجد فعشقته جارية فجاءته فكلمته سرا فقال يا نفسي تكلمينها فتلقي الله زانية فصرخ صرخة غشي عليه، فجاء عم له فحمله إلى منزله فلما أفاق قال له: يا عم الق عمر فاقرأ مني عليه السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ ثم صرخ صرخة أخرى فمات، فذهب عمه إلى عمر فقال له: عليك السلام جزاؤه جنتان جزاؤه جنتان.
أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق

وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق قال:
عن محمد بن عمر قال سمعت أبا عبد رب العزة عبد الجبار الدمشقي يذكر عن أويس القرني قال: كان إذا نظر إلى الرؤوس المشوية يذكر هذه الآية {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} ثم يقع مغشيا عليه.

وعن ميمون بن مهران الجزري قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل على فقال: يا أبا أيوب، هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى فدخلت فيهم المثلات واستحكم فيهم البلاء، فأصابت الهوام في أبدانهم مقيلا! قال ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله جل.

وعن إبراهيم بن بشار قال: سمعت الفضيل يقول بلغني أن خالد بن صفوان دخل على عمر فقال له عمر بن عبد العزيز: عظني يا خالد،  فقال: إن الله عز وجل لم يرض أحدا أن يكون فوقك فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك، قال: فبكى عمر حتى غشي عليه،ثم أفاق فقال : هيه يا خالد لم يرض أن يكون أحد فوقي فوالله لأخافنه خوفا ولأحذرنه حذرًا ولأرجونه رجاءً ولأحبنه محبةً ولأشكرنه شكرًا ولأحمدنه حمدًا، يكون ذلك أشد مجهودي وغاية طاقتي ولأجتهدن في العدل والنصفة والزهد في فاني الدنيا لزوالها والرغبة في بقاء الآخرة لدوامها حتى ألقى الله عز وجل فلعلي أنجو مع الناجين وأفوز مع الفائزين، وبكى حتى غشي عليه قال: وتركته مغشيا عليه وانصرفت.

وقال إبراهيم بن أدهم: يا ابن بشار، مثِّل لبصر قلبك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك، فانظر كيف تكون. ومثِّل له هول المطلع ومسائله منكر ونكير فانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب والوقوف فانظر كيف تكون، ثم صرخ صرخة فوقع مغشيا عليه.

وعن أبو بكر بن عياش قال صليت خلف فضيل بن عياض المغرب وعلى ابنه إلى جانبى فقرأ {ألهاكم التكاثر} فلما قال {لترون الجحيم} سقط على بن فضيل على وجهه مغشيا عليه وبقى فضيل عند الآية، فقلت في نفسي ويحك ما عندك من الخوف ما عند فضيل وعلي، فلم أزل أنتظر عليا فما أفاق إلى ثلث من الليل بقى.

وكان يزيد الرقاشي يقول ويحك يا يزيد من يصوم عنك؟ من يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يترضى لك ربك من بعد الموت؟ ثم يقول: يا معشر الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم مَن الموت موعده والقبر بيته والثرى فراشه والدود أنيسه وهو مع ذا ينتظر الفزع الأكبر ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه.

وقال أبو سليمان الداراني لأم هارون: تحبين الموت؟ قالت: لا؟ قال: ولِمَ تكرهين لقاء الله؟ ففاضت دموعها بالانتحاب فقالت: يا أبا سليمان لو عاديتُ آدميا لكرهت لقاءه، فصرخ أبو سليمان ووقع مغشيا عليه.

وأخرج  المروزي في مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر فقال: كان عمرو بن عتبة لا يتطوع في المسجد فصلى مرة العشاء ثم جاء منزله فقام يصلي حتى إذا بلغ {وأنذرهم يوم الآزفة} [غافر: 18] بكى، ثم سقط، فمكث ما شاء ثم أفاق، فقرأ {وأنذرهم يوم الآزفة} [غافر: 18] فبكى، ثم سقط فلم يزل كذلك حتى أصبح.

وقال سفيان: كان منصور بن المعتمر رحمه الله قد عمش من البكاء، وربما رأيته يصلي ههنا وأضلاعه تختلف فزعموا أنه صام سنتين وقامهما، وكانت له أم ولد، فقال: لا يمنعنك مكاني فتزوجي إن أردت ذاك، قال: ولو رأيت منصورا يصلي لقلت يموت للساعة.

وقرأ زرارة بن أوفى وهو يؤم في المسجد الأعظم {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير} [المدثر: 8] فخر ميتا. قال بهز بن حكيم رحمه الله: «فكنت فيمن احتمله حتى أتينا به داره».

وقيل لفضيل بن عياض رحمه الله: ما سبب موت ابنك؟ قال: «بات يتلو القرآن في محرابه فأصبح ميتا»

وجاء في تهذيب الكمال للمِزِّي:
قال عبد الله بن المبارك: خير الناس الفضيل بن عياض وخير منه ابنه علي. رورى بسنده قال: حدثنا محمد بن ناجية قال: صليت خلف الفضيل بن عياض فقرأ الحاقة في صلاة الغداة فلما بلغ إلى قوله {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} غلبه البكاء وكان ابنه علي في الصف معنا فسقط مغشيا عليه، وركع فضيل ثم قام فقرأ بقية السورة في الركعة الثانية ثم حملنا عليا وأدخلناه منزله فلم يزل مغمى عليه إلى بعد العصر. فقيل للفضيل هذا الذي يصيب عليا من أي شيء يكون يا أبا علي؟ قال: لا أعلمه إلا من نقاء القلب.

وقال أبو حاتم سمعت أبا نعيم وذكر العلاء بن عبد الكريم فأثنى عليه وقال مهدي بن حفص عن أبي بكر بن عياش: دخلت على العلاء بن عبد الكريم فتذاكرنا أمر الآخرة فقلت ما هو إلا العفو أو النار فصاح العلاء وسقط مغشيا عليه.

وعن عيينة بن الفيض، قال: قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب ولكن إذا طغى بهم اللهب أرسبتهم في النار، قال: ثم خر الحسن مغشيا عليه.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف

وقال يحيى: سمعت شيخا، في مقبرة الخيزران نسيت اسمه قال: «صليت خلف سفيان الثوري الغداة فقرأ سورة من المفصل، فسقط مغشيا عليه فنحيناه ناحية من المسجد، فصلينا، ثم رجعنا إليه وهو على حاله لم يفق، فحملناه إلى منزله، ولا أدري متى أفاق»
أخرجه ابن الجعد في مسنده

وقال ابن خزيمة: سألت يونس بن عبد الأعلى الصدفي عن سبب موت عبد الله بن وهب، فقال:«كان يقرأ عليه كتاب الأهوال فقرئ عليه خبر فخر مغشيا عليه فحملناه وأدخلناه الدار فلم يزل مريضا حتى توفي رضي الله عنه»
أخرجه الحاكم في المستدرك

وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء فقال:
عن أحمد بن سعيد الهمداني قال دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقرأ (وإذ يتحاجون في النار) فسقط مغشيا عليه فغسل عنه النورة وهو لا يعقل

وعن بكر بن معاذ يقول سمعت عبد الواحد بن يزيد يقول: يا اخوتاه ألا تبكون خوفًا من النيران؟ ألا وإنه من بكى خوفًا من النارأعاذه الله تعالى منها، يا إخوتاه ألا تبكون خوفًا من شدة العطش يوم القيامة؟ يا إخوتاه ألا تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا، لعله أن يسقيكموه في حظائر القدس مع خير القدماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، قال ثم جعل يبكي حتى غشى عليه.

وأخرج الذهبي في تاريخ الإسلام فقال:
قال ابن عيينة: ما رأيت أحدا أخوف لله من الفُضَيل وابنه علي. قال الذهبي: بلغنا أن عليا سمع قارئا يتلو بصوت شجي قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد} فشهق وسقط ميتًا، رحمه الله. وله أخبار في الغشي عند التلاوة.

وقال الفضيل: قال لي ابن المبارك: ما أحسن حال من انقطع إلى ربه عز وجل، فسمع ذلك ابني فسقط مغشيا عليه.

وعن أبي يزيد الهدادي قال: انصرفت من الجمعة، فإذا عطاء السليمي وعمر بن ذر يمشيان، وكان عطاء قد بكى حتى عمش، وكان عمر قد صلى حتى دبر، فقال عمر لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف! فصاح عطاء وخر مغشيا عليه فانشج موضحه، واجتمع الناس فلم يزل على حاله إلى المغرب، ثم أفاق فحمل.

وقال العلاء بن محمد: شهدت عطاء السليمي خرج في جنازة، فغشي عليه أربع مرات.

وقال الأصمعي: حدثنا أبو يزيد قال: قال عطاء: مات حبيب، مات مالك، مات فلان، ليتني مت فكان أهون لعذابي.

وقال يحيى بن أيوب: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة فإذا الفضيل، وشيخ معه فدخل زافر، وأقعدني على الباب، قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلي، ثم قال: يا أبا سليمان هؤلاء [ص:945] المحدثون يعجبهم قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه: رسول الله ﷺ، عن جبريل، عن الله تعالى: " نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد " فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس.
قال: ثم غشي عليه، وعلى الشيخ، وجعل زافر ينظر إليهما، ثم تحرج الفضيل فقمنا، والشيخ مغشي عليه.

وأخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة فقال:
عن منصور بن عمار قال: تكلمت يوما في المسجد الحرام فذكرت شيئا من صفة النار فرأيت الفضيل بن عياض صاح حتى غشي عليه فطرح نفسه

وعن سفيان بن عيينة قال: قالت أم طلق لطلق: ما أحسن صوتك بالقرآن فليته لا يكون عليك وبالا يوم القيامة فبكى حتى غشي عليه.

وعن بكر بن مصاد يقول عبد الواحد بن زيد يقول إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله عز و جل لا إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من النار ألا إنه من بكى خوفا من النار ألا أنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها يا إخوتاه ألاتبكون بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله يسقيكموه فى حظائر العرش مع خير الندماء والأحجاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال ثم جعل يبكى حتى غشى عليه

وعن الحارث بن سعيد قال كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارىء يقرأ إذا زلزلت الأرض زلزالها فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون حتى انتهى إلى هذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قال فجعل مالك  والله يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعا.

وعن عبد العزيز بن سلمان العابد قال انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله وأغلق عليه باب الحجرة فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة فنستأذن عليه فجعل يترنم بشىء لم نفهمه ثم بكى حتى جعلنا نأوى له من شدة بكائه ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشى عليه.

وعن مسمع بن عاصم قال شهدت عبد الواحد ذات يوم وهو يعظ قال فمات يومئذ فى ذلك المجلس أربعة أنفس قبل أن يقوم، قال مسمع: فأنا شهدت جنازة بعضهم.

وعن عبد الله بن مرزوق قال بلغني أن مالك بن دينار دخل المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول مالك غدا هكذا يصير وليس له شيء يتوسده في قبره فلم يزل يقول غدا مالك هكذا يصير حتى خر مغشيا عليه في جوف القبر فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشيا عليه.

وعن عباد بن عباد أبوعتبة الخواص قال رأيت شيخا في مسجد بيت المقدس كأنه قد احترق بالنار عليه مدرعة سوداء وعمامة سوداء طويل الصمت كريه المنظر كثير الشعر شديد الكآبة فقلت رحمك الله لو غيرت لباسك هذا فقد علمت ما في البياض فبكى ثم قال هذا أشبه بلباس أهل المصيبة فإنما أنا وأنت في الدنيا في حداد وكأني بي وبك قد دعينا قال فما تم كلامه حتى غشي عليه.

وقال الحاكم سمعت أبا سعيد بن أبى بكر بن أبى عثمان يقول ورد أبو الحسن البوشنجى على أبى عثمان فسئل أن يقرأ فى مجلسه فقرأ فبكى أبو عثمان حتى غشى عليه وحمل إلى منزله فكان يقال قتله صوت البوشنجى
السبكي في الطبقات

وعن محمد بن سعيد الترمذي، قال: قدمت البصرة أكتب الحديث، وكان يحيى بن سعيد القطان يجلس على موضع مرتفع، ويمر به أصحاب الحديث واحدا واحدا، يحدث كل إنسان بحديث، فمررت به لأسأله، فقال لي: اصعد، واقرأ حدرا، واقرأ من سورة واحدة. فقرأت: {إذا زلزلت} ، فسقط مغشيا عليه، فأصابه خشبة جزار.
سير أعلام النبلاء للذهبي

ترتيب سور القرءان الكريم حسب النزول

المكي:
1 العلق
2 القلم
3 المزمل
4 المدثر
5 الفاتحة
6 المسد
7 التكوير
8 الاعلى
9 الليل
10 الفجر
11 الضحى
12 الشرح
13 العصر
14 العاديات
15 الكوثر
16 التكاثر
17 الماعون
18 الكافرون
19 الفيل
20 الفلق
21 الناس
22 الاخلاص
23 النجم
24 عبس
25 القدر
26 الشمس
27 البروج
28 التين
29 قريش
30 القارعة
31 القيامة
32 الهمزة
33 المرسلات
34 ق
35 البلد
36 الطارق
37 القمر
38 ص
39 الاعراف
40 الجن
41 يس
42 الفرقان
43 فاطر
44 مريم
45 طه
46 الواقعة
47 الشعراء
48 النمل
49 القصص
50 الاسراء
51 يونس
52 هود
53 يوسف
54 الحجر
55 الانعام
56 الصافات
57 لقمان
58 سبأ
59 الزمر
60 غافر
61 فصلت
62 الشورى
63 الزخرف
64 الدخان
65 الجاثية
66 الاحقاف
67 الذاريات
68 الغاشية
69 الكهف
70 النحل
71 نوح
72 ابراهيم
73 الانبياء
74 المؤمنون
75 السجدة
76 الطور
77 الملك
78 الحاقة
79 المعارج
80 النبأ
81 النازعات
82 الانفطار
83 الانشقاق
84 الروم
85 العنكبوت
86 المطففين

المدني:
87 البقرة
88 الانفال
89 ال عمران
90 الاحزاب
91 الممتحنة
92 النساء
93 الزلزلة
94 الحديد
95 محمد
96 الرعد
97 الرحمن
98 الانسان
99 الطلاق
100 البينة
101 الحشر
102 النور
103 الحج
104 المنافقون
105 المجادلة
106 الحجرات
107 التحريم
108 التغابن
109 الصف
110 الجمعة
111 الفتح
112 المائدة
113 التوبة
114 النصر

من سيرة سيدنا أويس القرني: صحبة الصالحين كل الخير فيها

عَنْ هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي هَمٌّ إِلَّا أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ أَطْلُبُهُ وَأَسْأَلُ عَنْهُ؛ حَتَّى سَقَطْتُ عَلَيْهِ جَالِسًا وَحْدَهُ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ نِصْفَ النَّهَارِ يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَعَرَفْتُهُ بِالنَّعْتِ الَّذِي نُعِتَ لِي، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ لَحِيمٌ شَدِيدُ الْأَدَمَةِ أَشْعَرُ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ كَثُّ اللِّحْيَةِ عَلَيْهِ إِزَارٌ مِنْ صُوفٍ وَرِدَاءٌ مِنْ صُوفٍ بِغَيْرِ حِذَاءٍ كَرِيهُ الْوَجْهِ مَهِيبُ الْمَنْظَرِ جِدًّا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: حَيَّاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ، وَمَدَدْتُ يَدِي إِلَيْهِ لِأُصَافِحَهُ فَأَبَى أَنْ يُصَافِحَنِي فَقَالَ هَكَذَا: وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ اللَّهُ.
فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أُوَيْسُ وَغَفَرَ لَكَ، كَيْفَ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ؟ ثُمَّ خَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ مِنْ حُبِّي إِيَّاهُ وَرِقَّتِي إِذْ رَأَيْتُ مِنْ حَالِهِ مَا رَأَيْتُ حَتَّى بَكَيْتُ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ يَا هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ وَغَفَرَ لَكَ، كَيْفَ أَنْتَ يَا أَخِي؟ مَنْ دَلَّكَ عَلَيَّ؟ قُلْتُ: اللَّهُ،
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا حِينَ سَمَّانِي وَعَرَّفَنِي، لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلَا رَآنِي،
قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَنِي وَعَرَفْتَ اسْمِي وَاسْمَ أَبِي؟ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُكَ قَطُّ قَبْلَ الْيَوْمِ،
قَالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، عَرَفَتْ رُوحِي رُوحَكَ حَيْثُ كَلَّمَتْ نَفْسِي نَفْسَكَ، إِنَّ الْأَرْوَاحَ لَهَا أَنْفُسٌ كَأَنْفُسِ الْأَحْيَاءِ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَلْتَقُوا وَيَتَعَارَفُوا وَيَتَكَلَّمُوا وَإِنْ نَأَتْ بِهِمُ الدِّيَارُ وَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ،
قُلْتُ: حَدِّثْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ أَحْفَظُهُ عَنْكَ،
قَالَ: إِنِّي لَمْ أُدْرِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِي مَعَهُ صُحْبَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا قَدْ رَأَوْهُ، وَقَدْ بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِهِ كَبَعْضِ مَا بَلَغَكُمْ وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَفْتَحَ هَذَا الْبَابَ عَلَى نَفْسِي وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مُحَدِّثًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ مُفْتِيًا. فِي النَّفْسِ شُغُلٌ عَنِ النَّاسِ يَا هَرِمُ بْنَ حَيَّانَ.
قُلْتُ: يَا أَخِي اقْرَأْ عَلَيَّ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَسْمَعُهُنَّ مِنْكَ، فَإِنِّي أُحِبَّكَ فِي اللَّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَادْعُ لِي بِدَعَوَاتٍ، وَأَوْصِنِي بِوَصِيَّةٍ أَحْفَظُهَا عَنْكَ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِيَدِي عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ شَهِقَ شَهْقَةً ثُمَّ بَكَى مَكَانَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَبِّي وَأَحَقُّ الْقَوْلِ قَوْلُ رَبِّي، وَأَصْدَقُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ، وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} حَتَّى بَلَغَ {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}  ثُمَّ شَهِقَ شَهْقَةً ثُمَّ سَكَتَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا أَحْسَبُهُ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: يَا هَرِمُ بْنَ حَيَّانَ مَاتَ أَبُوكَ وَيُوشِكُ أَنْ تَمُوتَ، وَمَاتَ أَبُو حَيَّانَ، فَإِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، وَمَاتَ آدَمُ وَمَاتَتْ حَوَّاءُ، يَا ابْنَ حَيَّانَ وَمَاتَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، يَا ابْنَ حَيَّانَ وَمَاتَ مُوسَى نَجِيُّ الرَّحْمَنِ، يَا ابْنَ حَيَّانَ وَمَاتَ دَاوُدُ خَلِيفَةُ الرَّحْمَنِ، وَمَاتَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ الرَّحْمَنِ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، يَا ابْنَ حَيَّانَ وَمَاتَ أَخِي وَصَدِيقِي وَصَفِيِّي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعُمَرَاهُ رَحِمَكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ، وَعُمَرُ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ،
قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ!
قَالَ: بَلَى، إِنَّ رَبِّي قَدْ نَعَاهُ إِلَيَّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ فَقَدْ عَلِمْتَ مَا قُلْتُ، وَأَنَا وَأَنْتَ فِي الْمَوْتَى، وَقَدْ كَانَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَدَعَا بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ ثُمَّ قَالَ:
هَذِهِ وَصِيَّتِي إِيَّاكَ، يَا هَرِمُ بْنَ حَيَّانَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاللِّقَاءُ بِالصَّالِحِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَعَيْتُ إِلَيَّ نَفْسِي وَنَفْسَكَ، فَعَلَيْكَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ لَا يُفَارِقَنَّ قَلْبَكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنْذِرْ قَوْمَكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ، وَانْصَحْ لِأَهْلِ مِلَّتِكَ جَمِيعًا، وَاكْدَحْ لِنَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَ الْجَمَاعَةَ فَتُفَارِقَ دِينَكَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَتَدْخُلَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا هَرِمُ بْنَ حَيَّانَ،
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّنِي فِيكَ وَزَارَنِي مِنْ أَجَلِكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ زَائِرًا فِي دَارِكَ دَارِ السَّلَامِ، وَاحْفَظْهُ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا حَيْثُمَا كَانَ، وَضُمَّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَارْضِهِ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَا أَعْطَيْتَهُ مِنَ الدُّنْيَا فَيَسِّرْهُ لَهُ، وَاجْعَلْهُ لِمَا تُعْطِيهِ مِنْ عَمَلٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَاجْزِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ، أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ يَا هَرِمُ بْنَ حَيَّانَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَرَاكَ بَعْدَ الْيَوْمِ رَحِمَكَ اللَّهُ فَإِنِّي أَكْرَهُ الشُّهْرَةَ، وَالْوَحْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنِّي شَدِيدُ الْغَمِّ كَثِيرُ الْهَمِّ مَا دُمْتُ مَعَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ حَيًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَسْأَلْ عَنِّي، وَلَا تَطْلُبْنِي، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنِّي عَلَى بَالٍ، وَإِنْ لَمْ تَرَنِ فَاذْكُرْنِي وَادْعُ لِي، فَإِنِّي سَأَذْكُرُكَ وَأَدْعُو لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، انْطَلِقْ هَهُنَا حَتَّى آخُذَ هَهُنَا،
فَحَرِصْتُ عَلَيْهِ أَنْ أَمْشِيَ مَعَهُ سَاعَةً فَأَبَى عَلَيَّ فَفَارَقَتْهُ يَبْكِي وَأَبْكِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي قَفَاهُ حَتَّى دَخَلَ فِي بَعْضِ السِّكَكِ، فَكَمْ طَلَبَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَلْتُ عَنْهُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَدًا يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا وَأَنَا أُرَاهُ فِي مَنَامِي مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.
أخرجه ابن سعد في الطبقات الحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية واللالكائي في كرامات الأولياء وابن عساكر في تاريخ دمشق