الأحد، 24 ديسمبر 2023

أحاديث في أهمية الصلاة على النبي ﷺ لقبول الدعاء

عن فُضالة بن عُبَيْد رضي الله عنه أن النبي ﷺ سمع رجلًا يدعو في صلاته فلم يصلِّ على النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: «عَجِل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي ﷺ، ثم ليدْعُ بَعْدُ بما شاء» [رواه ابو داود والنسائي والترمذي وصححه].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ”كنت أصلَّي والنبي ﷺ وأبو بكر وعمر معه، فلما جلستُ بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي ﷺ: «سَلْ تُعْطَه، سَلْ تُعْطَه»“[أخرجه الترمذي وصححه]

وأخرج أحمد والبراز وأبو يعلى والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة وغيرهم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تجعلوني كَقَدَحِ الرَّاكب، فإن الرَّاكب يملأ قَدَحه ثم يضعه ويرفع متاعه، فإن احتاج إلى شرابه شربه، أو الوضوء توضأ به، وإلا أَهْراقه -أي أراقه- ولكن اجعلوني في أول الدعاءِ وأوسطه وآخره» وفي رواية لرُزَين بن معاوية وابن الأثير عن سيدنا عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعدُ حتى يُصلَّى عليَّ، فلا تجعلوني كَغُمَرِ الراكب -قِداحه الصغيرة- صلوا عليَّ أول الدعاء وأوسطه وآخره»
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «الدعاء كله محجوب حتى يكون أوله ثناء على الله عز، وجل، وصلاة على النبي ﷺ، ثم يدعو، يستجاب لدعائه»[رواه النسائي]

وعن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: «إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلِّي على نبيك ﷺ» [رواه الترمذي، وقال ابن كثير: إسناده جيد]
والحق كما قال النبي ﷺ يجري على لسان سيدنا عمر وقلبه، وهو وإن كان موقوفًا على سيدنا عمر رضي الله عنه إلا إن له حكم المرفوع، قال الحافظ العراقي:
«وهو وإن كان موقوفًا عليه فمثله لا يُقال من قِبَل الرأي، وإنما هو أمر توقيفي فحكمه حكم المرفوع». وقال القاضي أبو بكر بن العربي: «ومثل هذا إذا قاله عمر لا يكون إلا توقيفًا لأنه لا يُدْرَكُ بنظر»

وروى الطبراني في الأوسط والبيهقي في شُعَب الإيمان عن سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم وجهه قال: «كل دعاء محجوبٌ حتى يُصلَّى على النبي ﷺ وآله»، وفي رواية:
«ما من دعاء إلا بينه وبين الله حجاب حتى يُصلَّى على محمد ﷺ وعلى آل محمد ﷺ، فإذا صلي على النبي ﷺ انخرق الحجاب، واستجيب الدعاء، وإذا لم يصل على النبي ﷺ، لم يستجب الدعاء»، ورواه بقي بن مخلد عن سيدنا علي رضي الله عنه وكرَّم وجهه، والديلمي في مسند الفردوس عن سيدنا أنس رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي ﷺ.

وعن سيدنا عبد الله مسعود رضي الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئًا فليبدأ بمدحه و الثناء عليه بما هو أهله، ثم يصلِّي على النبي ﷺ ثم ليسأل فإنه أجدر أن ينجح»[رواه الطبراني]

وروي عن النبي ﷺ قوله: «الدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرَدُّ»[أورده القاضي عياض في الشفاء، والقسطلاني في مسالك الحنفا]
وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: «من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي ﷺ، وليسأل حاجته، وليختم بالصلاة على النبي ﷺ، فإن الصلاة على النبي مقبولة، والله أكرم أن يرد ما بينهما»[رواه النميري والقسطلاني في مسالك الحنفا]
قوله ﷺ: «الدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرَدُّ»
قال السخاوي: «لم اقف على تخريحه»،
قال الركينية: يشهد له ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وصححه وابن حبان عنه ﷺ: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرَدُّ» وذلك لاشتمالهما على ذكر النبي ﷺ في الشهادتين.
وهو مما تم تصحيحه بطرق الكشف، قال الإمام الحافظ القسطلاني في [مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على المصطفى]: (حكاه الفكهاني عن بعضهم أنه قال: "رأيت النبي ﷺ فيما يرى النائم فقلت: يا رسول الله أنت قلت: «ما مِن عبدين متحابَّين في الله تعالى يلتقيان فيُصافحُ أحدُهما صاحبه» فقال النبي ﷺ: «إلا لم يفترقا حتى يُغفرَ لهما ذنوبُهما ما تقدم منها وما تأخر، والدعاء بين الصلاتين عليَّ لا يُرد»") اهـ
وهذا مثال على تصحيح الأحاديث بطرق الكشف وهي عزيزة على غير المتصلين بالحضرة المحمدية لذلك قد ينكرونها.

قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله في [الأذكار]: «أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله ﷺ، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة مرفوعة»
وقال ابن عطاء البغدادي: «للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح، فأركانه حضورُ القلب والرِّقة والإستكانة والخشوع وتعلقُ القلب بالله وقَطْعُه الأسباب، وأجنحته الصِّدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على -سيدنا- محمد ﷺ»
ابن عطاء: هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي البغدادي توفي ٣٠٩هـ

وذكر ابن القيم في [جلاء الافهام] أن الصلاة على النبي ﷺ لها ثلاث مراتب:
«إحداها: أن يُصلى عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى لقول النبي ﷺ: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليُصلِّ على النبي ﷺ ثم ليدع بعد بما شاء"
والمرتبة الثانية: أن يُصلى عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلى عليه في أوله وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما"
الرد على المعترضين:
اعترض البعض على القول بوجوب الصلاة على النبي ﷺ لقبول الدعاء رغم الأخبار الصحيحة والصريحة في ذلك، ورغم عمل السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم بذلك، وادعوا أن الدليل على صحة زعمهم أن النبي ﷺ لم يلتزم بذلك في كل دعائه، فيجاب عليهم من وجوه:
    1.النبي ﷺ هو من أمر بذلك، وهذا تشريع صريح ومقدم على الفعل الضمني، ويؤيده عمل الصحابة رضوان عليهم والحث عليه وعمل السلف الصالح.
    2.هذه خصوصية، فالنبي ﷺ لا يحتاج أن يصلي على نفسه لأن الأمر بالصلاة عليه موجه إلينا نحن الذي ينبغي أن لا نغفل عن رسول الله ﷺ.
    3.دعاء الأنبياء أصلا مجاب دعك من دعاء سيد الأنبياء والرسل عليهم السلام وإمامهم ﷺ.
    4.الأخبار صحيحة وصريحة في أن من لا يصلي على النبي ﷺ في دعائه يظل الدعاء معلقا بين السماء والأرض وما كان هذا شأنه من الدعاء في ينجز، فيجب الصلاة على النبي ﷺ لنيل المبتغى.

▪️وادعوا أيضًا بقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٨٦] وأجيب عنه بأنه من العام المخصوص فممن لا يستجاب دعاؤهم من كان مأكله حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، وكذا من دعا بإثم أو قطيعة رحم وهكذا. ويقول العارفون:  الكاف في (سألك) هي كاف الصلة بمعنى من سأل الله تعالى من بابك فكنت حاضرا في قلبه.
▪️وادعوا أيضا بقوله ﷺ: «واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»[متفق عليه] ويجاب عليه بأن الحجاب المراد هو حجاب الغفلة الذي يزول بالظلم الواقع على الإنسان فيحصل حضور القلب والخشوع في الدعاء وإلا فإن لإجابة الدعاء شروطًا منها مثلا ألا يكون في إثم أو حرام، وأن يدعو الداعي وهو موقن بالإجابة وغير ذلك مما قد يفسد دعاء المظلوم، ويؤيده ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»، وخص هذه الثلاثة للتمثيل والمقصود بالاستجابة حضور القلب والخشوع هو من أسباب القبول المهمة التي تتحقق في حالة الظلم والسفر وحنان الوالد لولده، ولا يقتضي ذلك مطلق الاستجابة لما تقدم من الموانع التي قد تفسد الدعاء. وعليه فإن الصلاة على النبي ﷺ لا يستغني عنها المظلوم أو المسافر أو الوالد لولده.
▪️وادعوا أيضًا بأن الله قد يجيب دعاء اليهود والنصارى مع أنهم لا يصلون على النبي ﷺ ويجاب عليه أن المسألة المذكورة إنما في ديننا وشريعتنا وليس في شريعة اليهود أو النصارى.

الخميس، 14 ديسمبر 2023

تحسين قصة الغزالة او الظبية

قصة الغزالة او الظبية رويت بعدة طرق عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وعن سادتنا أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، ويزيد بن أرقم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم تقوي بعضها بعضا، وأخرجها الطبراني وأبو نعيم والمنذري والقاضي عياض في الشفاء، وابن كثير في البداية والنهاية والقسطلاني في المواهب اللدنية وغيرهم.
وليس في إسنادها متهم أو متروك ولذا فالحديث حسن بمجموع الطرق، وقد نحا إلى ذلك البيهقي فذكرها بأسانيد حسان عنده وقواها بأخرى ضعيفة، والسخاوي في تعقبه لما نسب لابن كثير من ذكره أنها بلا أصل، قال الإمام الحافظ القسطلاني في المواهب اللدنية:
«ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي»
ولعل ابن كثير يقصد حديث تسليم الغزالة على النبي ﷺ، بدليل أنه أورد حديث الغزالة بطرقه المختلفة في البداية والنهاية ولم يتعقب أسانيد بعضها. قال العلماء (تسليم الغزالة) يقصد به (استسلام الغزالة) وهو الحديث المذكور الذي رواه الطبراني وأبو نعيم والمنذري وغيرهم، ووهم ابن كثير فظنه حديث منفصل لم يجد له أصلا.
ومع أن الحديث روي من عقدة طرق يقوي بعضها بعضًا إلا أن شهرته تغني عن الإسناد، فكم من حديث مشهور عملت به الأمة ولا عزال تعمل به مع أنه لا يعرف له إسنادًا كحديث: «لا وصية لوارث»
ولا يقدح في أحاديث المعجزات غرابتها لأن المعجزات بطبيعة الحال لابد فيها من عجب وغرابة. فلا يقال فيها: أنه منكر أو غريب، وقد تقدم ذكر أحاديث صحاح في معجزات النبي ﷺ مع الجمادات والأحجار والإشجار والإبل والذئاب والطيور وغيرها.

الأسانيد:
جاء في البداية والنهاية لابن كثير:
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، ثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، ثنا عبد الكريم بن هلال الجعفي عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: مر رسول الله ﷺ على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فسطاط.
فقالت: يا رسول الله إني أخذت ولي خشفان فاستأذن لي أرضعهما وأعود إليهم.
فقال: « أين صاحب هذه؟ »
فقال القوم: نحن يا رسول الله.
قال: خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وترجع إليكم.
فقالوا: من لنا بذلك؟
قال: « أنا ».
فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم رسول الله - ﷺ - فقال: « أين أصحاب هذه؟ »
فقالوا: هو ذا نحن يا رسول الله.
فقال: « تبيعونيها؟ »
فقالوا: هي لك يا رسول الله.
فقال: « خلوا عنها ».
فأطلقوها فذهبت.

وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي - من أصله - ثنا أحمد بن موسى بن أنس بن نصر بن عبيد الله بن محمد بن سيرين بالبصرة، ثنا زكريا بن يحيى بن خلاد، ثنا حبان بن أغلب بن تميم، ثنا أبي عن هشام بن حبان، عن الحسن، عن ضبة بن محصن، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: بينا رسول الله ﷺ في حجر من الأرض إذا هاتف يهتف: يا رسول الله، يا رسول الله.
قال: « فالتفت فلم أر أحدا »
قال: « فمشيت غير بعيد، فإذا الهاتف يا رسول الله، يا رسول الله، قال: « التفت فلم أر أحدا » وإذا الهاتف يهتف بي، فاتبعت الصوت وهجمت على ظبية مشدودة الوثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس.
فقالت الظبية: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني قبل ولي خشفان في هذا الجبل فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي.
قال: « وتفعلين؟ »
قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل.
فأطلقها رسول الله - ﷺ -، فمضت فأرضعت الخشفين وجاءت.
قال: فبينا رسول الله ﷺ يوثقها إذا انتبه الأعرابي.
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أصبتها قبيلا فلك فيها من حاجة؟
قال: قلت: « نعم ».
قال: هي لك، فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجليها في الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

قال أبو نعيم: وقد رواه آدم ابن أبي إياس فقال: حدثني حبي الصدوق نوح بن الهيثم عن حبان بن أغلب، عن أبيه، عن هشام بن حبان ولم يجاوزه به.

وقد رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة من حديث إبراهيم بن مهدي عن ابن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن هشام بن حبان، عن الحسن بن ضبة ابن أبي سلمة به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة، أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا أحمد بن حازم ابن أبي عروة الغفاري، ثنا علي بن قادم، ثنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية، عن أبي سعيد قال: مر النبي ﷺ بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله خلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني.
فقال رسول الله ﷺ: « صيد قوم، وربيطة قوم ».
قال: فأخذ عليها فحلفت له.
قال: فحلها فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها فربطها رسول الله ﷺ، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له فحلها.
ثم قال رسول الله ﷺ: « لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا ».

قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنا أبو علي حامد بن محمد الهروي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو حفص عمر بن علي، ثنا يعلى بن إبراهيم الغزالي، ثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن يزيد بن أرقم قال: كنت مع النبي ﷺ في بعض سكك المدينة.
قال: فمررنا بخباء أعرابي فإذا بظبية مشدودة إلى الخباء.
فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي اصطادني، وإن لي خشفين في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية.
فقال لها رسول الله ﷺ: « إن تركتك ترجعين؟ »
قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار.
قال: فأطلقها رسول الله ﷺ فلم تلبث أن جاءت تلمض فشدها رسول الله ﷺ إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة.
فقال له رسول الله ﷺ: « أتبيعنيها؟ »
قال: هي لك يا رسول الله.
فأطلقها رسول الله ﷺ.
قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ورواه أبو نعيم: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن مطر، ثنا بشر بن موسى فذكره.

قلت: وفي بعضه نكارة والله أعلم.
َ
وقد ذكرنا في باب تكثيره عليه السلام اللبن: حديث تلك الشاة التي جاءت وهي في البرية فأمر رسول الله ﷺ الحسن بن سعيد مولى أبي بكر أن يحلبها فحلبها، وأمره أن يحفظها فذهبت وهو لا يشعر.
فقال رسول الله ﷺ: « ذهب بها الذي جاء بها ».
وهو مروي من طريقين عن صحابيين كما تقدم، والله أعلم.

تعليق الركينية:
وفي قوله: «قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي..» ما يدل على أن البيهقي لا يرى ضعف الوجه الأول.

وجاء في مجمع الزوائد:
 باب حديث الظبية
14087- عن أنس بن مالك قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قد صادوا ظبية فشدوها إلى عمود فسطاط فقالت‏:‏ يا رسول الله إني وضعت ولدين خشفين فاستأذن لي أن أرضعهما ثم أعود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خلوا عنها حتى تأتي خشفيها فترضعهما وتأتي إليكما‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومن لنا بذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أنا‏"‏‏.‏ فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏تبيعوها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله هي لك، فخلوا عنها فأطلقوها فذهبت‏.‏
رواه الطبراني في الأوسط وفيه صالح المري وهو ضعيف‏.‏

14088- وعن أم سلمة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء فإذا مناد يناديه‏:‏ يا رسول الله فالتفت فلم ير أحداً ثم التفت فإذا ظبية موثوقة فقالت‏:‏ ادن مني يا رسول الله، فدنا منها فقال‏:‏ ‏"‏حاجتك‏؟‏‏"‏‏.‏ فقالت‏:‏ إن لي خشفين في هذا الجبل فخلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وتفعلين‏؟‏‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل‏.‏ فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها، وانتبه الأعرابي فقال‏:‏ ألك حاجة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم تطلق هذه‏"‏‏.‏ فأطلقها فخرجت تعدو وهي تقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏.‏
رواه الطبراني وفيه أغلب بن تميم وهو ضعيف‏

تعليق الركينية:
وهو ينجبر بمجموع الطرق
قال الإمام الحافظ القسطلاني في المواهب اللدنية:
«ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي، وتسبيح الحصى، رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر، وتسليم الغزالة رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والبيهقي، في دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: إنهما لم يكونا متواترين، فلعلهما استغنا بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك» انتهى 

تعليق الركينية:
والكلام المنسوب لابن كثير فعن ما يروى من سلام الظبية على النبي ﷺ وليس عن حادثة إرضاع الظبية بدليل أنه أخرج حديثها في البداية والنهاية ولم يتعقب كثيرا من طرقه. 
قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية:
«"ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" في كتاب المقاصد الحسنة، "عن ابن كثير، أنه لا أصل له، وإن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، لفظ السخاوي، حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية، وليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، "ثم قال شيخنا" تلو هذا: "لكنه" أي الكلام في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوّى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر، الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر" الكبير في الأصول لابن الحاجب، "والله أعلم، انتهى" فهما أمران كلاهما له، وهذا مفرداته ضعيفة، فيجير بعضها بعضًا، وتسليمها عليه، أي: قولها السلام عليك يا رسول الله مثلًا، وهذا لم يرد، كما قال ابن كثير خلاف ما يعطيه تصرف المصنف أنه قاله في الكلام. "وفي شرح مختصر ابن الحاجب، للعلامة ابن السبكي: وتسبيح الحصى, رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر" الغفاري", وقد تقدَّم" وتسليم الغزالة، مجاز عن الكلام؛ إذ هو الذي رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني" وكذا الطبراني عن أم سلمة, "والبيهقي" عن أبي سعيد الخدري "في دلائل النبوة" لهما، وكذا رواه البيهقي في السنن عن أبي سعيد, "ونحن نقول فيهما: إنهما وإن لم يكونا اليوم متواترين فلعلهما استغنا بنقل غيرهما" عنهما، وهو القرآن متواترًا، كما قاله ابن الحاجب جوابًا لقول الشيعة: كيف ينقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواته, "أو لعلهما تواترا إذ ذاك", ثم انقطع التواتر بعد، "انتهى". قال الحافظ: والذي أقوله: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأمَّا من حيث الرواية، فليست على حد سواء، وقد مرت عبارته بتمامها في تسبيح الحصى.» 

وجاء في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للمرتضى الزبيدي: 
«وأما حديث الظبية: فأخرجه البيهقي من طرق وضعفه جماعة من الأئمة وذكره عياض في الشفاء، ورواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه مجاهيل عن حبيب بن محصن عن أم سلمة الحديث بطوله، وفيه: قالت يا رسول الله صادني هذا الأعرابي، ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع... إلخ، ورواه الطبراني بنحوه، والمنذري في الترغيب والترهيب من باب الزكاة، وقال الحافظ ابن كثير: إنه لا أصل له، وقال الحافظ السخاوي: لكنه ورد في الجملة عدة أحاديث يقوى بعضها بعضا أوردها الحافظ ابن حجر في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر. انتهى.

في تخصيص الأوراد بأعداد غير مأثورة

الأصل في الذكر الإكثار لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا}، وقول النبي ﷺ لسيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه في الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ: «ما شئت، وإن زدت فهو أفضل» حسن رواه الترمذي. 
وفي الدليلين لم يرد تقييد للذكر وهو متروك لاستطاعة الذاكر وتحصيله وتجربته. 

لكن هناك سر في الذكر بأعداد مخصوصة، أشارت السنة إلى ذلك لما ورد في السنة المطهرة من تخصيص كالتثليث في قراءة المعوذات مثلا، والاستغفار مائة مرة، والتسبيح ٣٣، والتحميد ٣٣ والتكبير ٣٤، الأمثلة كثيرة جدا. ومنها ما يكون بالإلهام أَو رؤيا المنام والتجربة. والإلهام والتجربة فيما أباحه وأطلقه الشرع مؤصل، ومن ذلك حديث سيدنا أبي سعيد الخدري في الرقية بالفاتحة للديغ فإن أبا سعيد ألهم الرقية بالفاتحة إلهامًا وأقره النبي ﷺ وشفي المريض، وإلى يومنا هذا تستخدم بعد أن جربت ونجحت.
أخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والطبراني والسيوطي وصححه عن السيدة صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وبين يديَّ أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال: «ما هذا يا بنت حيي؟» قلت: «أسبح بهن»، قال: «قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا»، قلت: «علمني يا رسول الله»، قال: «قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء». أقرها ولم ينكر عليها، لا التسبيح بالنوى ولا تخصيص عدد، لكنه علمها ما يزيد من نفعها خاصة وهي ربة منزل لها شؤون منزلية قد لا يناسب حالها الانقطاع للتسبيح في كل وقت. طبعا لا يخفى أنه يمكن تكرار قول: «سبحان عدد ما خلق الله» مرات ومرات وتخصيصه بعدد.
وخصص الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، ووذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وذكر أيضا عن سلمة بن شبيب قال: كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ.

ومن الطرائف أن هذا التخصيص وقع لمراجع المعترضين أنفسهم، قال ابن القيم كما في مدارج السالكين (1/447):
«ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- شديد اللهج بها جدا.
وقال لي يوما: لهذين الاسمين -وهما الحي القيوم- تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سُنَّة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه». اهـ
الشاهد:
قول ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين» يستفاد منه أن السالك إلى الله تعالى إذا جرَّب نوعًا من الأذكار، وإن لم يكن هذا الذكر مأثورا بلفظه، أو مأثورًا بلفظه ولكنه غير مأثور بذلك العدد، أو تلك الهيئة، ووجد بعد التجربة نفعا لذلك الذكر، كصلاح قلبه، وإقباله على الطاعة، وتوبته من معاصي كان يقارفها، فلا حرج عليه في المداومة على ذلك، بل ولا حرج عليه في أن يدل طلابه وأحبابه على ذلك الخير الذي فتح الله به عليه، كما فعل ابن تيمية مع تلميذه ابن القيم.
فلاحظ أخي أن ابن تيمية: 
1- قيد هذا الذكر بعدد، 
2- وقيده بزمن، 
3- وأثبت له ثمرة، 
4- وحث على المواظبة عليه بقوله (من واظب عليه).

ابن تيمية وابن القيم ليسا مرجعية دينية يعتد بها لكن استشهدنا بهما لأنهما معتبران عند المعترض.

مشروعية استخدام الدُّفِّ للرجال

الملخص:
الطَّار هو الدُّف، وهو مباح للرجال والنساء استماعًا وضربًا، وهذا هو مذهب الجمهور، ودلت عليه النصوص وأقوال العلماء كما سيأتي. ومن زعم أنه خاص بالنساء دون الرجال فعليه إيراد الدليل الصحيح الصريح على التخصيص للنساء ليكون ضربه من الرجال تشبهًا بالنساء لأن ضابط التشبه هو التخصيص بالدليل الصحيح الصريح أو بالعرف السائد، أما دليل التخصيص فلا يوجد وأما العرف فيختلف من مكان لآخر، والدف يستعمله الرجال في كثير من الدول العربية والإسلامية بما فيها المملكة العربية السعودية بدون أن يرى ذلك تشبهًا أو أمرًا خارمًا للمروءة طالما استخدم في المديح النبوي والأناشيد الدينية والغناء المباح. 

وكان الدُْفُّ يستخدم في الجاهلية في الرقص والغناء الذي ربما لازمه فسق وشرب خمر وأمور مذمومة، ثم استخدم في الإسلام لأمور حسنة كإشهار الزواج الشرعي وإظهار الفرح والسرور بالزواج والختان وقدوم الغائب والأعياد، ثم توسع استخدامه ليشمل مدح رسول الله ﷺ و إظهار تعظيمه والفرح به ﷺ. 

التأصيل الشرعي:
استند الجمهور على عدد من الأدلة المحكمة منها ما أخرجه مسلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»، وفي رواية للنسائي بنفس الإسناد: أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بالدف وتغنيان ورسول الله ﷺ مَسْجيٌ بثوبه فكشف عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»، وهُنَّ أيام مِنَى ورسول الله ﷺ يومئذ بالمدينة»، 
ولقوله ﷺ: «فصل ما بين الحلال والحرام الصوتُ وضَربُ الدُّف» [رواه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم في المستدرك، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص صحيح، وحسنه الترمذي]. 
ولما رواه أبو داود فِى سننه أن امرأة أتت النبِىّ ﷺ فقالت: «يا رسول الله إنِى نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف»، قال: «أَوفِى بنذرك». 
ولما رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: «يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدُّف وأتغنى»، فقال لها رسول الله ﷺ: «إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا»، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله ﷺ: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدُّف» 
وغير ذلك مما يدل على إباحة ضرب الدفِّ على الأصل، لاختلاف المواضع التي ضُرِب فيها وأقر ذلك رسول الله ﷺ، إذ رضي النبي ﷺ أن يُضرَب في بيته الشريف بل ونهى سيدنا أبا بكر رضي الله عنه أن يمنع ضربه، وأقر ضربه وفاءً بالنذر في حضور جمع من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يوفى نذر بحرام. وإنما عارض سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ضرب الدف في بيت رسول الله ﷺ لأول وهلة، وخافت الجارية من سيدنا عمر رضى الله عنه عندما دخل لشدة سيدنا عمر رضى الله عنه في الحق، ولارتباط الدفِّ في الجاهلية بالغناء والرقص وشرب الخمر ومظاهر الفسق، وإنما جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق ويعدل بالمباحات التي كان يساء استخدامها في الجاهلية إلى مقاصد حسنة تنفع الناس، حصل ذلك مع الشعر مثلا فصار يُمدَح به رسول الله ﷺ ويُنافَح به عن الله ورسوله ﷺ، ومع الرُّقى فأجاز كل ما لم يكن به شرك، وهاهو يحصل مع الدفِّ. 
إذًا هو بهذه الأدلة مباح على الأصل وليس كرخصة مقيدة بزمان أو مكان أو جنس لأن ما يخص الجنس يحدده العرف ما لم يرد فيه نص صحيح وصريح، فعندما لم يرد نص صحيح وصريح في التخصيص بقي على أصله من الإباحة. 
ويرقى المباح إلى درجة المندوب الذي يثاب فاعله إذا اتصل ببر وخير كإشهار الزواج إعلاءً لشريعة الإسلام، والختان فرحًا وسرورًا بالنعمة، وأعظم من ذلك أن يتصل بمدح رسول الله ﷺ وإظهار تعظيمه والفرح بعودته وسلامته، فإن المباح يصير مندوبًا وعبادة يثاب فاعلها بالنية الصالحة وحسن المقصد، 
قال البيهقي: «يشبه أن يكون ﷺ إنما أذن لها في الضرب -أي بالدف- لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله ﷺ، ورجوعه سالمًا لا أنه يَجِب بالنذر».
فتعقَّبه الحافظ في [الفتح ١١/ ٥٨٨] فقال: «إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل، وأكلة السحور للتقوي على صيام النهار، فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبى ﷺ سالمًا معنى مقصود يحصل به الثواب».
وقال الإمام الخطابي: «ضرب الدفِّ ليس مما يعدُّ في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح لسلامة مقدم رسول الله ﷺ حين قدم من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين، صار فعله كبعض القرب، ولهذا استحب ضرب الدف في النكاح لما فيه من إظهاره والخروج به عن معنى السفاح الذي لا يظهر، ومما يشبه هذا المعنى قول النبي ﷺ في هجاء الكفار: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل"» 

خلاصة الحكم:
ذهب الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة إلى الإباحة بدون فرق بين رجال أو نساء، روي هذا عن المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، والقول بأن جوازه خاصٌّ بالنساء دون الرجال مردود  لانعدام دليل التخصيص من الشرع أو العرف، وليس في ضرب الجواري أو النساء كما ورد في الأحاديث دليل على التخصيص فإن النساء يصنعن الطعام عادة بدون أن يكون صنع الطعام خاصًّا بهن، والرجال يقاتلون في الحرب عادة بدون أن يكون القتال خاصًّا بهم، وهكذا، فهناك أمور كثيرة مشتركة بين الرجال والنساء، إنما يكون التخصيص بالدليل الذي يثبت للنساء ما يُحرِّم على الرجال شرعًا كالحرير مثلًا، أو عرفًا، فأما ما كان بالعرف فإنه يختلف من مكان إلى آخر بحسب المجتمع وعرفه السائد، وإذا ما انتفى دليل التخصيص بقي الحكم على أصله من الإباحة. 
قال الخطيب في مغني المحتاج:
«ولا فرق في الجواز بين الذكور والإناث كما يقتضيه إطلاق الجمهور خلافا للحليمي في تخصيصه له بالنساء»

وقال الإمام الحافظ تقِىّ الدين السبكِىّ الشافعي المتوفى سنة [٧٥٦هـ]:
(قد روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبِى معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضِى الله عنها فِى حديثها الطويل الذِى قالت فيه دخل علِىَّ أبو بكر وعندِى جاريتان من جوارِى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: «أبمزمار الشيطان فِى بيت رسول الله ﷺ؟»، وذلك فِى يوم عيد فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»اهـ وفِى حديث أبِى معاوية عن هشام بهذا الإسناد: «جاريتان تلعبان بدف». ورواه النسائِىّ من حديث الزهرِىّ عن عروة وفيه: «جاريتان تضربان بالدُّف وتغنيان ورسول الله ﷺ مسجًّى بثوبه فكشف عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد»اهـ هِى أيامُ مِنًى ورسول الله ﷺ يومئذٍ بالمدينة، فضربَتِ الجاريتان بالدف عند رسول الله ﷺ وهو يسمع اهـ وقوله ﷺ: «دعهما يا أبا بكر» من أقوَى دليل على حل الضرب بالدف ولهذا نحن نوافق من صحح حلّه مطلقًا فِى العرس والختان وغيرهما. والجمهور لم يفرقوا بين الرجال والنساء وفَرْقُ الحليمِىّ ضعيف لأن الأدلة لا تقتضيه)

وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في [التحفة]: «ولا فرق بين ضربه من رجل أو امرأة، وقول الحليمي يختص حله بالنساء رده السبكي». 

وقال العلامة الدسوقي المالكي: «قال أصبغ: لا يكون الدف إلا للنساء ولا يكون عند الرجال»، ثم قال: «وكل من تقدم النقل عنه يعني من المالكية وغيرهم من الأئمة الأربعة غير هؤلاء الذين ذكرناهم أطلقوا القول ولم يفصلوا بين الجلاجل وغيره وبين النساء والرجال».

وفي مذهب الحنابلة قولان، الجواز والكراهة:
قال في [كشاف القناع] للبهوتي الحنبلي:
«ويكره الضرب بالدف للرجال مطلقا، قاله في الرعاية، وقال الموَفَّق: ضرب الدف مخصوص بالنساء، قال في الفروع -يعني ابن مفلح: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب التسوية»
قال في الإنصاف: «ظاهر قوله: "والضرب عليه بالدف" أنه سواء كان الضارب رجلا، أو امراة، قال فى الفروع: وظاهر نصوصه -يعني الإمام أحمد- وكلام الأصحاب: التسوية. قيل له –أي الإمام أحمد فى رواية المروذي– ما ترى الناس اليوم، تحرك الدف فى إملاك، أو بناء، بلا غناء؟ فلم يكره ذلك» 
وقال في غاية المنتهى لمرعي الكرمي الحنبلي: «يسن إعلان نكاح وضرب فيه بدف مباح لنساء ولرجال» 
وقد أجازه للنساء والرجال من الوهابية المتأخرين ابن عثيمين، قال في [الشرح الممتع]:
«وقوله: (للنساء) ظاهره أنه لا يسن للرجال، لكن قال في الفروع: وظاهر الأخبار، ونص الإمام أحمد أنه لا فرق بين النساء والرجال، وأن الدف فيه للرجال كما هو للنساء؛ لأن الحديث عام: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال» أي الدف، ولما فيه من الإعلان، وإن كان الغالب أن الذي يفعل ذلك النساء، والذين قالوا بتخصيصه بالنساء وكرهوه للرجال، يقولون: لأن ضرب الرجال بالدف تشبه بالنساء؛ لأنه من خصائص النساء، وهذا يعني أن المسألة راجعة للعرف، فإذا كان العرف أنه لا يضرب بالدف إلا النساء، فحينئذ نقول: إما أن يكره، أو يحرم تشبه الرجال بهن، وإذا جرت العادة بأنه يُضرب بالدف من قبل الرجال والنساء فلا كراهة؛ لأن المقصود الإعلان، وإعلان النكاح بدفِّ الرجال أبلغ من إعلانه بدفِّ النساء؛ لأن النساء إذا دففن فإنما يدففن في موضع مغلق، حتى لا تظهر أصواتهن، والرجال يدفون في موضع واضح بارز، فهو أبلغ في الإعلان، وهذا ظاهر نص الإمام أحمد -رحمه الله- وكلام الأصحاب حتى [المنتهى] الذي هو عمدة المتأخرين في مذهب الإمام أحمد، ظاهره العموم وأنه لا فرق بين الرجال والنساء في مسألة الدف» 
وسئل: «هل يجوز الدف للرجال في العرضة؟ 
الشيخ: لا بأس به؛ لأن في أيام العيد رخص في اللهو» [الباب المفتوح ٧١]
وسئل: «فضيلة الشيخ! ما حكم استعمال الدف في العَرْضات والمناسبات للرجال؟
الجواب: أما الدف فلا بأس به للرجال عند قدوم غائب كبير، أو لمناسبات كالأعياد وشبهِها»[الباب المفتوح ١١٧] 
وقال: «الدف مما جاءت به السنة في أيام الأعراس، ومما أبيح للرجال والنساء في أيام الأعياد، وفي مسألة العرس للنساء فقط, ومن العلماء من قال: للنساء والرجال لكننا لا نفتح الباب في هذه المسألة» [الباب المفتوح ٢٢٣] 

أما الأحناف فقد ذهبوا لكراهته كراهة تحريم، جاء في [رد المحتار] لابن عابدين الحنفي: «ضرب الدف فيه –أي العرس- خاص بالنساء.... وهو مكروه للرجال على كل حال للتشبه بالنساء».
علله بالتشبه وليس له في ذلك حجة لانتفاء الدليل على التخصيص كما تقدم.

ملاحظة:
ابن عثيمين ليس مرجعية دينية يعتد بها لكن أوردنا كلامه بأنه معتبر عند المعترض.

الأحد، 10 ديسمبر 2023

تخريج وتحسين حديث مجيء السيدة فاطمة عليها السلام للنبي ﷺ بكسرة خبز لم يأكل النبي ﷺ قبلها بثلاث أيام

تخريج وتحسين حديث مجيء السيدة فاطمة عليها السلام للنبي ﷺ بكسرة خبز لم يأكل النبي ﷺ قبلها بثلاث أيام

(١) أخرجه الإمام أحمد في الزهد:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ هِشَامٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» 
وإسناده حسن
▪️عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان، البصري، أبو سهل، ثقة.
الجرح والتعديل:
أبو حاتم الرازي: صدوق صالح الحديث
أبو عبد الله الحاكم النيسابوري: ثقة مأمون
أحمد بن صالح الجيلي: ثقه
ابن حجر العسقلاني: صدوق ثبت في شعبة
الذهبي: الحافظ، حجة
شعبة بن الحجاج: ثبت
علي بن المديني: ثبت في شعبة
محمد بن سعد كاتب الواقدي: ثقة إن شاء الله
محمد بن عبد الله بن نمير: ثقه
يحيى بن معين : وثقه، وقال في رواية ابن محرز: والله ثقة
▪️عمار بن عمارة هو أبو هاشم عمار بن عمارة الزعفراني البصري
الرتبة : صدوق حسن الحديث

الجرح والتعديل:
أبو حاتم الرازي: صالح، ما أرى بحديثه بأسا
ابن حجر العسقلاني: لا بأس به
الذهبي: ثقة
محمد بن إسماعيل البخاري: فيه نظر
هشام بن عبد الملك الطيالسي: ثقة
يحيى بن معين: ثقة
يعقوب بن سفيان الفسوي: ثقة

وأخرجه في المسند مختصرًا:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» 

(٢) وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ جَاءَتْ بِكَسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ؟»، قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
إسناده حسن 
▪️أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي: ثقة ثبت 

(٣) وأخرجه ابن الأعرابي في معجمه:
نا أَبُو رِفَاعَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا هَاشِمٌ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَبَزَتْ فَاطِمَةُ قُرْصَةً، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِكِسْرَةٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا فَاطِمَةُ؟»، قَالَتْ: «خَبَزْتُ قُرْصَةً فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ مِنْهَا بِكِسْرَةٍ»، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
▪️أبو رفاعة هو عبد الله بن محمد العدوى، البصري، القرشي، ثقة

(٤) وأخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع:
حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَارَةَ أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، حَدَّثَهُ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ بِكُسَيْرَةِ خُبْزٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الْكُسِيرَةُ يَا فَاطِمَةُ؟» قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ بِهَذِهِ الْكُسِيرَةِ»، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ بَطْنَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»

(٥) وأخرجه ابو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي ﷺ:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي أَبِي زُرْعَةَ، نَا أَبُو زَرْعَةَ ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نَا أَبُو هَاشِمٍ عَمَّارُ بْنُ عُمَارَةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ ، فَقَالَ لَهَا: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذِهِ الْكِسْرَةُ ؟» قَالَتْ: «قُرْصًا خَبَزْتُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى آتِيَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ هَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»
إسناده حسن 
▪️عبد الله بن محمد الرازي: ثقة
▪️ابو زعة: إمام حافظ مشهور، ثقة ثبت

(٦) وأخرجه الطبراني في الكبير:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ سُورَةَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالا: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَاءَتْ بِكَسْرَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالَتْ: «قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى آتِيَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ»، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»

الخميس، 7 ديسمبر 2023

أخبار في تعامل النبي ﷺ مع البعير

بسم الله الرحمن الرحيم 
(١) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسْنُون عليه -أي يحملون عليه الماء- وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: «إنه كان لنا جمل نسني عليه وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل». فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا» فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي ﷺ نحوه. فقالت الأنصار: «يا رسول الله إنه قد صار مثل الكَلْب الكَلِب -أي المسعور- وإنا نخاف عليك صولته». فقال: «ليس عليَّ منه بأس». فلما نظر الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذلَّ ما كانت قط حتى أدخله في العمل. فقال له أصحابه: «يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك».
فقال: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مَفْرِق رأسه قَرحةً تتفجَّر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلَحِسته ما أدَّت حقَّه» [أخرجه الإمام أحمد] 
قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه»

(٢) وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله ﷺ خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدِّث به أحدًا من الناس، وكان أَحَبُّ ما استتر به رسول الله ﷺ لحاجته ‏هَدَفًا ‏أَوْ ‏حَائِشَ نَخْلٍ، قال: فدخل حائطًا لرجل الأنصار فإذا جملٌ، فلما رأى النبي ﷺ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي ﷺ فمسح ذِفْرَاهُ فسكت، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟»، فجاء فتى من الأنصار فقال: «لي يا رسول الله».
فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» [رواه ابو داود]. 

(٣) وفي رواية للإمام أحمد أخرجها بإسناده مرة عن يزيد ومرة عن ‏بَهْزٍ ‏وَعَفَّانٍ عن سيدنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أخبر به أحدًا أبدًا، وكان رسول الله ﷺ أحَبُّ ما استتر به في حاجته هَدَفٌ أو حَائِشُ نخل، فدخل يوما حائطًا من حِيطَانِ الأنصار فأتى جمل قد أتاه فجَرْجَرَ وذرفت عيناه». وقال ‏بَهْزٌ ‏ ‏وَعَفَّانُ: «فلما رأى رسول الله حَنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله ﷺ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ فسكن، فقال: "من صاحب الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: "هو لي يا رسول الله". فقال: "أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّككها الله لك إنه، شكا إليَّ أنك تُجِيعه وَتُدْئِبُهُ"». 
الهَدَفٌ: ما ارتفع من الأرض مما يستر الإنسان. 
حَائِشُ النخل: النخل الملتف المجتمع كأنه لالتفافه يحوش بعضه بعضًا وهو ساتر لقضاء الحاجة.
فَجَرْجَر: من الجرجرة وهي تردد الصوت في حلق البعير. 
حَنَّ: رَجَّعَ صوته وبكى بكاء الإبل فقدًا لولدها
سَرَاتَهُ: ظهره
ذِفْرَاهُ: أعلى رقبة البعير إلى أصل أذنيه. 
تُدْئِبُهُ: من الدأب، أي تكثر عليه العمل وتنهكه.

(٤) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من سفر حتى إذا دُفِعنا إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شدَّ عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعًا مِشْفَرِه إلى الأرض حتى برك بين يديه.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «هاتوا خِطًاما» فخطمه ودفعه إلى صاحبه.
قال: ثم التفت إلى الناس فقال: «إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس» [أخرجه الإمام أحمد]

(٥) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء قوم إلى رسول الله فقالوا: «يا رسول الله إن لنا بعيرًا قد ندَّ -أي تمرَّد علينا- في حائط». فجاء إليه رسول الله ﷺ فقال: «تعال»، فجاء مطأطئا رأسه حتى خَطَمه، وأعطاه أصحابه. فقال له أبو بكر الصديق: «يا رسول الله كأنه علم أنك نبي». فقال رسول الله ﷺ: «ما بين لابَتَيها أحدٌ إلا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس» [أخرجه الطبراني]
اللَّابة: الحَرَّة من الأرض، لابَتَيها: حرَّتي المدينة المنورة، أو السموات والأرض. 

(٦) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما -هاجا وتمرَّدا- فأدخلهما حائطًا فسد عليهما الباب، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأراد أن يدعو له، والنبي قاعد معه نفر من الأنصار.
فقال: «يا نبي الله إني جئت في حاجة، فإن فَحْلَين لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطًا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله لي». فقال لأصحابه: «قوموا معنا»، فذهب حتى أتى الباب فقال: «افتح»، فأشفق الرجل على النبي ﷺ، فقال: «إفتح»، ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريبًا من الباب فلمَّا رأى رسول الله ﷺ سجد له. فقال رسول الله: «إئتِ بشيء أشدُّ رأسه وأمكِّنك منه»، فجاء بخطام فشدَّ رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدًا. فقال للرجل: «إئتني بشيء أشدُّ رأسه» فشدَّ رأسه وأمكنه منه.
فقال: «إذهب فإنهما لا يعصيانك».
فلما رأى أصحاب رسول الله ﷺ ذلك قالوا: «يا رسول الله، هذان فحلان سجدا لك، أفلا نسجد لك؟»، قال: «لا آمر أحدًا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [رواه الطبراني، وأبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في دلائله]، وأبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه من شيوخ الحاكم توفي سنة ٣٨٩هـ. 

(٧) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: انطلقنا مع رسول الله ﷺ إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط فإذا نحن بناضِحٍ -البعير الذي يستعمل في نقل الماء- فلما أقبل الناضح رفع رأسه فبَصُر برسول الله ﷺ فوضع جِرانَه -أسفل عنقه- على الأرض. فقال أصحاب رسول الله ﷺ: «فنحن أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة». فقال: «سبحان الله! أدون الله؟ ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله، ولو أمرت أحدًا أن يسجد لشيء من دون الله عز وجل لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في دلائله]

(٨) وعن أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له. فقال أصحابه: «يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك!». فقال: «اعبدوا ربَّكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبلٍ أصفر إلى جبلٍ أسود، ومن جبلٍ أسود إلى جبل أبيضٍ كان ينبغي لها أن تفعَلَه» [رواه الإمام أحمد].

(٩) وعن يعلى بن سِيَابَةَ رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ في مسير له فأراد أن يقضي حاجته فأمر وَدْيَتَيْنِ -نخلتين صغيرتين- فانضمت إحداهما إلى الأخرى، ثم أمرهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعير فضرب بجِرانِه إلى الأرض ثم جَرْجَرَ -بكى بكاء البعير- حتى ابتلَّ ما حوله. فقال رسول الله ﷺ: « أتدرون ما يقول البعير؟ إنه يزعُم أن صاحبه يريد نحره». فبعث إليه رسول الله ﷺ فقال: «أواهبه أنت لي؟»
فقال: «يا رسول الله، مالي مال أحبَّ إليَّ منه»، فقال: «استوصِ به معروفًا»، فقال: «لَا جَرَمَ لا أُكْرِمُ مَالًا لِي كَرَامَتُهُ يا رسول الله».
قال: وأتى على قبر يعذب صاحبه، فقال: «إنه يعذَّب في غير كبير»، فأمر بجريدة فوضعت على قبره وقال: «عسى أن يخفف عنه ما دامت رطبة» [رواه الإمام أحمد]

(١٠) وعن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله ﷺ: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يُسْنَى عليه -يُحمَل عليه الماء- فلما رآه البعير جَرْجَرَ ووضع جِرَانَهُ، فوقف عليه النبي ﷺ فقال: «أين صاحب هذا البعير؟»
فجاء، فقال له: «بِعْنِيهِ»
فقال: «لا، بل أهبه لك».
فقال: «لا، بل بِعْنِيهِ».
قال: «لا بل نهبه لك، إنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره».
قال: «أمَا إذ ذكرتَ هذا من أمره، فإنه شكا لكثرة العمل، وقلة العلف فأحسنوا إليه».
قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فنام رسول الله ﷺ فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: «هي شجرة غَشِيَتْهُ ربها عز وجل في أن تسلم على رسول الله ﷺ فأذن لها».
قال: فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جِنَّةٌ فأخذ النبي ﷺ بِمَنْخَرِهِ فقال: «أخرج إني محمد رسول الله».
قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته امرأة بجَزَر ‏وَلَبَنٍ، فأمرها أن ترد الجَزَر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي، فقالت: «والذي بعثك بالحق ما رأينا منه رَيْبًا بعدك» [رواه الإمام أحمد]
الجَزَر: ما يَصلُحُ لأَن يُذبح من الشَّاءِ

(١١) وفي رواية أخرى عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت من رسول الله ﷺ ثلاثًا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة، معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله، هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال: «ناولينيه» فرفعته إليه، فجعلته بينه وبين وَاسِطَةِ الرَّحل، ثم فَغَرَ فاه فنفث فيه ثلاثًا، وقال: «بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله» ثم ناولها إياه، فقال: «ألقينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل»، قال: فذهبنا ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان، معها شياه ثلاث، فقال: «ما فعل صبيك؟» فقالت: «والذي بعثك بالحق، ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة، فَاجْتَرِرْ هذه الغنم».
قال: «انزل فخذ منها واحدة، ورد البقية» قال: وخرجنا ذات يوم إلى الْجَبَّانَةِ، حتى إذا برزنا قال: «انظر ويحك، هل ترى من شيء يواريني؟» قلت: «ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك». قال: «فما قربها؟» قلت: «شجرة مثلها، أو قريب منها».
قال: «فاذهب إليهما، فقل: إن رسول الله ﷺ يأمركما أن تجتمعا بإذن الله» قال: فاجتمعتا، فبرز لحاجته، ثم رجع، فقال: «اذهب إليهما، فقل لهما: إن رسول الله ﷺ يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها» قال: وكنت معه جالسًا ذات يوم إذ جاء جمل يُخَبِّبُ، حتى ضرب ‏بِجِرَانِهِ بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: «ويحك، انظر لمن هذا الجمل؟ إن له لشأنا» قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: «ما شأن جملك هذا؟» فقال: «وما شأنه؟»، قال: «لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونَضَحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره، ونقسِّم لحمه»، قال: «فلا تفعل، هبه لي، أو بعنيه» فقال: «بل هو لك يا رسول الله».
قال: فوسَّمه بسِمَة الصدقة، ثم بعث به. [أخرجه الإمام أحمد]
ففغر فاه: فتح فمه.
يُخَبِّبُ: أتى مسرعًا
ضرب ‏بِجِرَانِهِ: برك وجعل أسفل عنقه بالأرض. 
نَضَحنا عليه: استعملناه في السقاية 
وسمه بسمة الصدقة: علمه بعلامة إبل الصدقة.

(١٢) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله ﷺ في غزاة، فأبطأ بي جملي، فأتى علي رسول الله ﷺ فقال لي: «يا جابر!» قلت: «نعم»، قال: «ما شأنك؟» قلت: «أبطأ بي جملي وأعيا، فتخلفت» فنزل فَحَجَنَهُ بِمِحْجَنِهِ، ثم قال: «إركب» فركبت، فلقد رأيتني أَكُفُّهُ عن رسول الله ﷺ -أي حتى لا يتقدم على رسول الله من السرعة بعد أن كان بطيئًا. [رواه مسلم] .
وفي رواية للبخاري قال جابر رضي الله عنه: فما زال الجمل بين يدي الإبل قدامها يسير، فقال لي ﷺ: «كيف ترى بعيرك؟» قلت: «بخير، قد أصابته بركتك». 
قال الحافظ في الفتح: «آل أمر جمل جابر هذا لما تقدَّم له من بركة النبي ﷺ إلى مآل حسن، فرأيت في ترجمة جابر من [تاريخ ابن عساكر] بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال: "فأقام الجمل عندي زمان النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، فعجز، فأتيت به عمر، فعرف قصته، فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففُعِل به ذلك إلى أن مات"»
#التأصيل #البعير #الخصائص #الدلائل #المعجزات #الشجر #البشرية #الرقم_١

تصحيح مفهوم البدعة والإحداث في الدين

الإحداث في الدين هو إضافة ما ليس من الدين إلى الدين، وهذا مرفوض، قال النبي  ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فالدين لا يقبل الإحداث فيه لأنه أصلًا واسع ومرن بما يناسب حاجة الناس في كل زمان ومكان، كيف لا وهو الدين الخاتم. لكن تعتبر الأدلة العامة كقوله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقوله ﷺ: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل»، والقياس على أدلة موجودة، تعتبر أصولًا شرعية معتبرة يندرج تحتها ما لا يحصى من أعمال الخير والبر والمنفعة التي قد لا تجد لها دليلًا مخصصًا، لذلك لا تعتبر بدعات أو محدثات أمور لأن لها أصلًا في الدين يدل عليها، فهي من الدين. وعلى هذا الرأي جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا، وعلى هذا يقوم الاجتهاد في الدين، عندما لا يتوفر دليل مخصَّص.

الجمعة، 24 نوفمبر 2023

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن

صحة حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد لما بعث إلى اليمن:
روى أصحاب السنن عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: «أقضي بكتاب الله»، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: «فبسنة رسول الله ﷺ»، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ﷺ، ولا في كتاب الله؟» قال: «أجتهد رأيي، ولا آلو» فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله».
وهو حديث مشهور جدا تلقاه علماء الأمة وفقهائها بالقبول واحتجوا به على الاجتهاد في الدين لمن تأهّل، واستدلوا به على القياس على أدلة الكتاب والسنة في المسائل التي لم يرد فيها دليل صريح، واستشهدوا به كثيرا في تصانيفهم. وقد كان سيدنا معاذ من أعلم وأفقه الصحابة رضوان الله عليهم، وقال رسول الله ﷺ: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وقال ﷺ: «يأتي معاذ بن جبل يوم القيامة أمام العلماء»، والعلم بالحلال والحرام يقتضي سعة في العلم والفهم والإحاطة بالأحكام لأجل ذلك بعثه رسول الله ﷺ رسولًا له إلى اليمن يعلم الناس الدين، وبسؤاله له ﷺ وإجابته رضي الله عنه تبين لنا نحن أمة رسول الله ﷺ كيف يكون اختيار الدعاة إلى الله عز وجل من حيث التأهل لأداء مهمة الدعوة إلى الله خاصة في جانب الحكمة، إذ أن الدعوة مشروطة بالحكمة {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، فتجلت حكمته في الاجتهاد على أصول الكتاب والسنة فيما لم يرد فيه نص. وللحديث شواهد كما في الصحيحين عن ‌عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، ولما كان لا اجتهاد مع نص دل ذلك على أنه اجتهاد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله ﷺ أو خلفاء رسول الله ﷺ.
وأخرج البيهقي في سننه عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضى به قضى به بينهم، فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي ﷺ فيه سنة فان علمها قضى بها وان لم يعلم، خرج فسأل المسلمين فقال: «اتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفى سنة رسول الله ﷺ فلم أجد في ذلك شيئا فهل تعلمون ان نبي الله ﷺ قضى في ذلك بقضاء؟» فربما قام إليه الرهط فقالوا: «نعم قضى فيه بكذا وكذا» فيأخذ بقضاء رسول الله ﷺ، قال جعفر: وحدثني غير ميمون: «أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا ﷺ، وإن أعياه ذك دعا رؤس المسلمين وعلماء هم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به»
قلت: ما يتوفر لأمير المؤمنين من العلماء من الصحابة للشورى قد لا يتوفر للقضاة في الأمصار كما أخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن الشعبي قال: لما بعث عمر -رضي الله عنه- شريحًا على قضاء الكوفة قال له: «انظر، ما تبيَّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله ﷺ، وما لم يتبيَّن لك فيه السنة فاجتهد رأيك». 
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من عرض له منه قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه ﷺ، فإن جاءه أمره ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ﷺ ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فليقر ولا يستحي»
قلت: وإن معاذًا لمن الصالحين الذين يقضى بقضائهم لكونه من أعلم الصحابة رضوان عليهم خاصة في الحلال والحرام. 

وأخرج ابن عبد البر في جامع البيان عن عبد الله بن أبي يزيد قال: «رأيت ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله ﷺ قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله ﷺ وقاله أبو بكر أو عمر قال به، وإلا اجتهد رأيه». 

وأخرج البيهقي في سننه عن مسلمة بن مخلد أنه قام على زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: «يا ابن عم، أكرهنا على القضاء» فقال: «زيد اقض بكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي ﷺ، فإن لم يكن في سنة النبي ﷺ فادع أهل الرأي ثم اجتهد واختر لنفسك ولا حرج»، 
وغير ذلك من الشواهد. 

فالحديث صحيح درايةً، خاصة وأن الصحابي الذي هو محور الأمر رمز للعلم والفتوى في الأمة، لكن تُكُلِّم في إسناده من جهة الرواية، قالوا إسناده ضعيف لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو، قالوا مجهول. وقد قوَّاه وقال بصحته غير واحد من أهل العلم منهم الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في "السنن" بإيراد الشواهد، والإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، والإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" وإمام الحرمين الجويني في "البرهان"، والإمام الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره" وجوَّد إسناده،  والإمام الحافظ الشوكاني في جزء مفرد خصصه لدراسة هذا الحديث، أشار إليه هو في "فتح القدير"، ونقل الحافظ في "التلخيص" عن أبي العباس ابن القاص الفقيه الشافعي تصحيحه، وكذلك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، وابن القيم في "إعلام الموقعين"، وخلق كثير من أهل العلم الذين لا يجتمعون على ضلالة.
وأجابوا عن دعوى جهالة الحارث بن عمرو بأنه ليس بمجهول العين لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: «إنه ابن أُخي المغيرة بن شعبة»، ولا بمجهول الوصف لأنه من كبار التابعين، وثقه ابن حبان ولم ينقل أهل الشأن جرحًا مفسرًا في حقه، والشيوخ الذين روى عنهم هم أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولًا، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة لكثرتهم، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحدًا، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والصدق بالمحل الذي لا يخفى، وقد خرج الإمام البخاري الذي اشترط في جامعه الصحة حديث عروة البارقي: «سمعت الحي يحدثون عن عروة»، ولم يكن ذلك الحديث في المجهولات، وغير ذلك كما قال الإمام مالك في "القسامة": «أخبرني رجل من كبراء قومه»، وفي "صحيح مسلم" «عن ابن شهاب حدثني رجال عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمثل حديث معمر: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط"». 

وقال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": «إن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها».

وقال شمس الحق في "عون المعبود": «وللحديث شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، أخرجها البيهقي في "سننه" عقب تخريج هذا الحديث تقوية له».

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": «فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم. وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذَّاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك. كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. ‏قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله ﷺ "لا وصية لوارث"، وقوله في البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته"، وقوله "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع"، وقوله "الدية على العاقلة"، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما نقلها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له»
فشهرته كما قال الأئمة والحفاظ تغني عن الإسناد وهذا معلوم عن الحديث المشهور، فضلا عن أن كثرة الشواهد عليه ترقيه لدرجة لا ينزل فيها عن رتبة الحسن، هذا إن لم يكن صحيحًا لغيره. فالحديث صحيح دراية رواية وقد جزم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني بصحته ووروده في الصحاح على ما توفرت لديه من نسخها آنذاك. 

هذا الحديث العظيم والأصل الكبير في الفقه والفتيا قد يكون مثالا على الغلو في علم مصطلح الحديث الذي هو علم حادث في الأمة لم يكن على عهد النبي ﷺ، فهو من البدع الحسنات،  الغاية منه ضبط المنسوب إلى سنة رسول الله ﷺ وليس نفيها أو بترها، لذا ينبغي تقديم روح العلم والغاية منه على مجرد تطبيق القواعد الحديثية فإن هناك كثير من القرائن عند اصطحابها ترجح الكفة عند الظنون إذ أن هذا العلم فيه كثير من الظنيات التي يحترز بها فالكذاب مثلا قد لا يكذب في كل ما يقول بدليل قول رسول الله ﷺ عن الشيطان: «صدقك وهو كذوب»، والصدوق الذي يخطئ مؤكد أنه لا يخطئ في كل شيء، وكذلك الصدوق الذي يهم فإنه بلا شك لا يهم في كل شيء وإلا تركوه، وهكذا.

السبت، 18 نوفمبر 2023

هل تارك الصلاة تهاونا كافر؟‼

هل تارك الصلاة تهاونا كافر؟‼
في البداية إن مهمل صلاته والمتهاون فيها والمتكاسل ما كان ينبغي بالأساس أن يسمى (تاركًا للصلاة) اللهم إلا اصطلاحًا، لأن عبارة (تَرَك فلان الشيء) تعني انصرف عنه أو صرف النظر عنه، وبمعنى خلاه أو تخلى عنه، وبمعنى فارقه، ومنه تركة الميت أي ميراثه الذي فارقه وخلاه إلى غير رجعة كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)، أي فارقه إلى غير رجعة، وهذا المعنى كثير في القرءان الكريم كما في قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، وقوله تعالى: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، وقوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ)، وغيره كثير. فالترك من معانيه الظاهرة المفارقة إلى غير رجعة، والراوي المتروك مثلًا لا يُرجع إلى الرواية عنه مطلقًا، ولذا فالترك لا يصف حال المهمل صلاته، الذي يضيعها بالتكاسل والتهاون، فيصلي حينًا ويتكاسل عنها حينًا، لكن الترك يناسب من يهجرها  جحودا وردة كالملاحدة أعاذنا الله تعالى. لذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن تركها) فمحمول على من فارقها إلى غير رجعة جحودا وإنكارًا، وهذا الذي يتسق مع  النصوص الشرعية الأخرى ذات العلاقة.
              
وهذا التفصيل الشرعي مهم لمعرفة حال تارك الصلاة تمهيدًا لنصحه، فالدعوة إلى الله مشروطة بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى:
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة النحل: 125]
            
إن التهاون في الصلاة إثم عظيم وكبيرة من الكبائر، فالصلاة هي الركن الأول بعد الشهادتين، وهي عماد هذا الدين، وهي من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها، وأوثق  صلة فعلية بالله في اليوم والليلة، والتهاون فيها إثم عظيم ومغضبة لله تبارك وتعالى كما قال في كتابه الحكيم: 
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [سورة مريم: 59]

ولحكم تاركها وجهان: 
١/ جحودًا وإنكارًا فهذا كافر مرتد باتفاق العلماء، ويلحق بذلك الحكم من تركها في الصدر الأول والنبي ﷺ بين ظهرانيهم، والصحابة والخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم متوافرون، وذلك لأن العصر النبوي والقرن الأول الهجري هو أفضل عصور الإسلام، فالدين في أشده والدعوة في أوجها، فمن تهاون في الصلاة في ذلك العصر فهو بلا شك إما منافق أو كافر مرتد لأنها كانت شعار الإسلام إذ كانت تؤدى في جماعة فمن يتخلف عنها يكون محل تهمة، وعلى هذا يحمل قول النبي ﷺ: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة»، وقوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، فالضمير في قوله «وبينهم» يعود إلى فئة أخرى غير المسلمين وهي فئة المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر، يؤيده ما اخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح أن رجلًا من الأنصار أتى رسول الله ﷺ وهو في مجلس فسارَّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله ﷺ فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، قال الأنصاري : «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» فقال رسول الله ﷺ: «أليس يشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا شهادة له» قال: «أليس يصلي؟» قال: «بلى يا رسول الله، ولا صلاة له» فقال رسول الله ﷺ: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» فدل على أن المنافق إن كان يصلي فليس عليه من سبيل لكن إن ترك الصلاة فقد أظهر نفاقه، ويؤيده أيضا قول سيدنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين»، وفي رواية لمسلم: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
ولا يخفى أن تاركها في الصدر الأول ليس كالمتهاون فيها اليوم بعد 1400 عامًا، وقد وهن المسلمون، وضعف الإلتزام، وكثر الجهل وتراجعت التربية الإسلامية المطلوبة.

٢/تهاونا، وتكاسلا وجهلًا فمذهب الجمهور أنه لا يكفر، وهذا مذهب الشافعية والحنفية ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، وذكر الإمام النووي في المجموع أنه مذهب الأكثرين من السلف والخلف، أنه لا يكفر بترك الصلاة تهاونًا.
واستدلوا على ذلك بأدلة محكمة منها:
▪الدليل الأول: قوله تعالى في موضوعين من سورة النساء: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ} والتهاون في أداء الصلاة هو دون الشرك بالله لأنه الفاعل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
▪الدليل الثاني: قوله ﷺ عن المفرط في أداء الصلوات المكتوبات على وجههن: «إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، فعن عبادة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد، من أداهن وصلاهن بركوعهن وخشوعهن ووضوئهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يفعله لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والحديث رواه أصحاب السنن، وقال النووي في المجموع: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، فهو حديث صحيح، وفيه قوله: «ومن لم يفعل لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، والكافر لا يغفر الله له.
▪الدليل الثالث: حملوا ظاهر قوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وما شابهه من نصوص على الجحود والإنكار والنفاق كما تقدم، ولمعارضتها النصوص الثابتة أعلاه. 
▪الدليل الرابع: تقدم أن الترك يعني المفارقة إلى غير رجعة وهذا يكون حال الجاحد لوجوبها المتعمد لتركها إنكارًا، وليس المتهاون المتكاسل أو الجاهل، ويؤيده ان المسلم قد تفوته الصلاة ولا يؤديها في وقتها لعذر شرعي ولا يعتبر بذلك تاركًا لها، كالمستحاضة من النساء مثلا، أو كالنائم حتى يستيقظ لما صح عنه ﷺ أنه قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»، وقوله ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا وقت لها إلا ذلك»، أو كالمريض لذي فقد وعيه وغير ذلك، فلذا فالترك المراد في الأحاديث المشار إليها محمول على الجحود والإنكار. 
▪الدليل الخامس: عموم أحاديث الرجاء كقوله ﷺ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل»[متفق عليه]، وفي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم عليه النار»، وفي الصحيحين أيضا: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار»، وقوله ﷺ: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة»، ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وغيرها، فلم يشترط لدخول الجنة شيئًا آخر غير الشهادتين، لم يشترط الصلاة ولا غيرها، فدل على أن تارك الصلاة تهاونًا لا يكفَّر وأنه يستحق دخول الجنة بالشهادتين إن مات عليهما.
▪الدليل السادس: نجاة قائلي (لا إله إلا الله) مع عدم علمهم بالصلاة، فقد روى ابن ماجه وغيره عن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ والعجوز يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها. فقال صلة بن زفر -أحد رواة الحديث- لـحذيفة: يا حذيفة! ما تنفعهم: لا إله إلا الله؟! فسكت، فأعادها عليه ثلاثًا فقال حذيفة رضي الله عنه: يا صلة! تنجيهم من النار»، والحديث رواه ابن ماجه، وقال الحافظ البوصيري: «إسناده صحيح رجاله ثقات»، وقوى إسناده الحافظ ابن حجر، فهو سند صحيح، وفيه قول حذيفة رضي الله عنه: «تنجيهم من النار»، يعني مع أنهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، فدل هذا على أن تارك الصلاة جاهلًا أو متهاونًا لا يكون بذلك كافرًا.
▪الدليل السابع: حملوا الكفر المذكور في أحاديث ترك الصلاة في حق المسلم على كفر النعمة لما في أداء الصلاة من الخير والنعمة كقوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، وقول رسول الله ﷺ: «أرحنا بها يا بلال» وغير ذلك، فمن يتهاون فيها فكأنما جحد نعمة عظيمة، وقيل لأن ذلك التهاون قد يئول بفاعله إلى الكفر كما قيل: «المعاصي بريد الكفر»، وقيل إن فعله فعل الكفار.

الأحد، 24 سبتمبر 2023

في الفوضى الدينية وحرمة الخوض في المسائل الدينية والفتوى والقول على الله بغير علم

في الفوضى الدينية وحرمة الخوض في المسائل الدينية والفتوى والقول على الله بغير علم

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
«لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ﷺ، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة -أي ملكة وموهبة- بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي»[اخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه]

الاثنين، 20 فبراير 2023

صحة حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه

صحة حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما بعث نبيًا:
عن الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المثني، عن ثمامة، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما بعث نبيًّا".
أخرجه أبو داود في مسائله عن الإمام أحمد، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في الأضاحي، وابن أعين في مصنفه، والخلال، والضياء في المختارة، وقال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل، وهو ثقة، قال الحافظ في الفتح عن رواية أبي الشيخ الثانية: "من رواية أبي بكر المستملي ‏‏‏‏عن الهيثم بن جميل.. والهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري. فالحديث قوي الإسناد"
فالسند لا غبار عليه، رجاله ثقات، رجال الصحيح، سوى الهيثم بن جميل وهو ثقة.
الهيثم بن جميل ثقة حافظ من شيوخ الإمام أحمد.
وعبد الله بن المثني أخرج له البخاري والترمذي وابن ماجه. وثقه الدارقطني قال: عبد الله بن المثنى الأنصاري ثقة يحتج به، ووثقه الإمام أحمد، وابن حبان وخرج له في صحيحه، وابن أبي حاتم، ويحي بن معين في رواية، وأبو زرعة، والعجلي، والجيلي، وابن خلفون، واحتج به البخاري في صحيحه، قال الحافظ ابن حجر: «لم أر البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثمامة» وههنا هو يروي عن عمه ثمامة وروايته في عمه حجة لكونه أعرف بحديثه بحكم القرابة. 
وثمامة ثقة وثقه الإمام أحمد والنسائي وابن عدي وغيرهم.
وله متابعة أخرى، فقد أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة عن أنس به، وهذه متابعة جيدة تزيد الحديث قوة إلى قوته،  فإسماعيل بن مسلم المكي البصري وإن كان ‏‏‏‏ضعيفًا إلا أنه لم يتهم، بل كان حافظًا ليس بالثبت، وكان يخطئ كما صرح البعض. قال أبو حاتم: "ليس بمتروك، يكتب حديثه"، أي يصلح للمتابعة والشواهد، وقال ابن سعد: "كان له رأي وفتوى، وبصر وحفظ للحديث، فكنت ‏‏‏‏أكتب عنه لنباهته ".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، ومن طريقه ابن ‏‏‏‏حبان في "الضعفاء"، والبزار في مسنده، وابن عدي في "الكامل" عن عبد الله بن المحرر عن ‏‏‏‏قتادة عن أنس به. بعضهم استنكر قوله (بعد ما بعث نبيًّا) لكون النبوة قديمة، وهذا خطأ، فالمقصود: "بعد أن كان نبيًا فبعث رسولًا"، مصداقًا لقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) [البقرة: 213]. والبعض الآخر وهم فظن أن عبد الله بن محرر تفرد بهذا الحديث، كأنهم لم يقفوا على الروايات الآنفة، قال البزار: "تفرد به عبد الله بن المحرر، وهو ‏‏‏‏ضعيف جدا، إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره "،  وأورد الذهبي الحديث في ترجمة عبد الله بن المحرر في ‏‏‏‏"الميزان" وعلَّق عليه فقال: "هو من بلاياه!"، وقال ابن عدي: "عبد الله بن محرر ‏‏‏‏رواياته غير محفوظة "، وقال عبد الرزاق: "إنما تكلموا فيه لأجل هذا الحديث"، أي أنه ثقة تكلموا فيه لأجل هذا الحديث الصحيح الذي ظنوا أنه تفرد به وهو لم يتفرد به، فهذا جرح باطل، فتتضح براءة عبد الله بن المحرر مما اتهم به، وتصبح روايته طريقًا ثالثًا تزيد الحديث قوة إلى قوته والحمد لله رب العالمين

الأحد، 29 يناير 2023

استحباب صيام رجب هو مذهب جمهور أهل العلم من كافة المذاهب

استحباب صيام رجب هو مذهب جمهور أهل العلم من كافة المذاهب:
إن الصيام المفروضَ هو صيام شهر رمضان، وصيام النَّذر والكفارات، وما عدا ذلك فمُستحب، والنبي ﷺ رغَّب في صيام التطوع بمثل كما جاء في الصحيحين: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا». ومن الصيام المُستحب الصيام في الأشهر الحُرُم التي منها شهر رجب، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}[1]
والأشهر الحُرُم هي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمُحرَّم، ويستحب في هذه الأشهر الإكثار من العمل الصالح والبعد عن المعاصي، قال السلف: «العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحُرُم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن» 
وذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب الصيام في شهر رجب كما يستحب صيام باقي الأشهر الحُرُم، واستدلوا على ذلك ببعض النصوص الدالة على ذلك، 
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم»[2] والمُحرَّم أي الأشهر الحُرُم، وعن أبي مجيبة الباهلي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له: «صُمْ من الحُرُم واترك، ثلاث مرات»[3]. وعن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما أنه: «كان يصومُ أشهرَ الحُرُم»[4]، وعن نافع أن ابنَ عمرَ رضي الله عنهما: «كان لا يكادُ يُفطرُ في أشهر الحُرُم ولا غيرها»[5].
قال الإمام الحافظ النووي في المجموع: «قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب.»اهـ.
أما في استحباب صيام شهر رجب فعن عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «هل كان رسول الله ﷺ يصوم في رجب»؟ قال: «نعم ويشرفه، قالها ثلاثًا»[6]. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: «يا رسول الله لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم في شعبان». قال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان»[7] فدل هذا الحديث الحسن على أن رجب ورمضان شهران اشتهرا في الصدر الأول بكثرة الصيام وكان الناس يغفلون عن صيام شعبان بينهما.
قال الحافظ بن حجر: «فهذا فيه إشعار بأن في رجب مشابهة برمضان، وأن الناس يشتغلون من العبادة بما يشتغلون به في رمضان، ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان. لذلك كان يصومه، وفي تخصيصه ذلك بالصوم إشعار بفضل رجب، وأن ذلك كان من المعلوم المقرر لديهم»[8]
وقال الحافظ الشوكاني: «ظاهر قوله في حديث أسامة إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم، كما يعظمون رمضان ورجبًا به»[9]
وعن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقالت: «بلغني أنك تحرِّم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله»، ‏
فقال ابن عمر رضي الله عنهما: «أما ما ذكرتِ من رجب فكيف بمن يصوم الأبد؟!»[10]، قال الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم:«أما جواب ابن عمر –رضي الله عنهما- في صوم رجب فإنكار منه لما بلغها عنه من تحريمه، وإخبارٌ بأنه يصوم رجبًا كله، وأنه يصوم الأبد، والمراد بالأبد ما سوى أيام العيدين والتشريق، وهذا مذهبه ومذهب أبيه عمر بن الخطاب وعائشة وأبي طلحة –رضي الله عنهم- وغيرهم من سلف الأمة، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر»أهـ. وفيه دليل على استنكار السيدة أسماء رضي الله عنها لتحريم صيام شهر رجب كله فضلًا عن صيام بعضه، وإقرار من سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه ليس ممن ينكر ذلك، بل وممن يصومه كله، وهذا أنموذج لفهم الصحابة رضوان الله عليهم لصيام شهر رجب. ‏
وقال الحافظ ابن حجر: «وروينا في كتاب [أخبار مكة] لأبى محمد الفاكهي، بإسناد لا بأس به، عن ابن عباس  رضي الله عنهما أنه قال: "لا تتخذوا رجبًا عيدًا، ترونه حتمًا مثل شهر رمضان، إذا أفطرتم منه صمتم وقضيتموه"»[11].
وعن عطاء: «كان ابن عباس، ينهى عن صيام رجب كله، ألا يتخذ عيدًا)»[12].
وفيه دليل على شيوع صيام رجب عند الصحابة رضوان الله عليهم وأن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كره تشبيهه برمضان فنهى أن يصام حتمًا كما يصام رمضان ولا يقضون ما أفطروه.
فيثبت مما تقدم استحباب صوم شهر رجب وهو مذهب الجمهور من أهل العلم من كافة المذاهب، قال المرداوي في الإنصاف: «وأما صيام بعض رجب، فمتفق على استحبابه عند أهل المذاهب الأربعة لما سبق، وليس بدعة، ثم إن الراجح من الخلاف المتقدم مذهب الجمهور لا مذهب الحنابلة.»أهـ
المراجع:
[1] سورة التوبة، آية رقم 36.
[2] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
[3] أخرجه أبو داود والإمام أحمد وابن سعد والبيهقي في السنن.
[4] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح.
[5] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح.
[6] أخرجه أبو الحسن الربعي في "فضائل رجب"، والحافظ القسطلاني في "المواهب اللدنية"، وقال الحافظ السيوطي في "جامع الأحاديث": رجاله كلهم ثقات.
[7] أخرجه النسائي بسند جيد وأبو داود وابن خزيمة وصححه.
[8] مواهب الجليل للرعيني.
[9] نيل الأوطار.
[10] صحيح الإمام مسلم.
[11] مواهب الجليل للرعيني.
[12] أخرجه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح.

الثلاثاء، 17 يناير 2023

في الحلف برسول الله ﷺ وما اتصل بالله عز وجل

في الحلف برسول الله ﷺ وما اتصل بالله عز وجل:
الأصل في القسم والحلف بالأشياء تعظيمها، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته ليظهر للناس عظمتها مع استغنائه سبحانه وتعالى عنها وعن الإقسام بها، لكن تعارف الناس قبل الإسلام وبعده على الحلف بالأشياء التي يعظمونها بحيث ينعقد يمينهم بالحلف بها ويعز عليهم الحنث لعظمتها، لذلك فإن الأصل في الحلف يكون بالله عز وجل لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، والحلف بغير الله بشكل عام لا خلاف بين الفقهاء بأنه منهي عنه، لكن في مرتبة هذا النهي اختلاف، فالحنابلة قالوا: إنه حرام إلا الحلف بالأمانة، فإن بعضهم قال فيها بالكراهة، والحنفية قالوا: مكروه تحريمًا، والمعتمد عند المالكية والشافعية أنه مكروه تنزيهًا، وسبب هذا الإختلاف هو الجمع بين النصوص المختلفة التي صدرت عن حضرة النبي ﷺ في الحلف وسياقاتها الموضوعية، واتصال من حُلِفَ به بالله عز وجل فإن لذلك استثناءات في الحكم ظاهرة، فاختلف الفقهاء مثلًا في الحلف بالأنبياء عليهم السلام، فذهب جمهورهم إلى كراهة الحلف بالأنبياء، وذهب آخرون كالحنابلة إلى التحريم ولا تنعقد بها يمين باستثناء الحلف برسول الله ﷺ، فإمام المذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى استثنى الحلف برسول الله ﷺ، لذا ينعقد بها اليمين كالحلف بالله عز وجل، قال ابن قدامة في المغني [11 / 204]:
«فصل: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا الحلف برسول الله ﷺ يمين موجبة للكفارة وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله ﷺ فحنث فعليه الكفارة قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله تعالى.»أهـ
واختلفوا أيضًا في الحلف بالمصحف الشريف، فإنه ينعقد به اليمين عند المالكية ما لم يرد بحلفه النقوش والورق، وعند الشافعية ما لم يرد به الورقه والجلد، وقال الحنابلة: الحلف بكلام الله تعالى والمصحف والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور يمين، وكذا الحلف بسورة أو آية، وذلك لأن من حلف بالمصحف فإنه يريد ما فيه من كلام الله عز وجل، بينما يرى الأحناف أنه ليس بيمين لأنه الورق والجلد وليس صفة لله تعالى ولا اسمًا له، إذًا فإن هنالك استثناءات والمسألة تحتاج إلى بيان وفهم ومراعاة لأثر النية والعُرف في الحلف. وعلى أي حال فلا إنكار في مسائل الخلاف بين العلماء كما هو معتمد في علم الأصول، فالحلف برسول الله ﷺ تنعقد به اليمين ويوجب الكفارة إن حنث به. 
نهى رسول الله ﷺ عن الحلف بغير الله عز وجل خصوصًا في صدر الإسلام، حيث كان الناس آنذاك يحلفون بالآباء والأمهات لعظمتهم عندهم في الجاهلية فعندما جاء الإسلام نهاهم عن ذلك من أجل تربيتهم على تعظيم الله الواحد الأحد، ولما في الحلف بالآباء والأمهات من تعظيم جاهلي لا يقوم على أسس التقوى والإيمان، بل قد يكون الآباء والأمهات مشركين، فتعظيم الشرك والمشركين يناقض رسالة الإسلام، لذلك قال رسول الله ﷺ: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» [أخرجه البخاري ومسلم] ، وقال رسول الله ﷺ: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت». [أخرجه النسائي وابن ماجه]، وقال ﷺ أيضاً: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالاَنداد» [أخرجه النسائي]، وقال ﷺ: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» [أخرجه النسائي وأبو داود]، وروي أنه جاء سيدنا ابنَ عمر رضي الله عنهما رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: «لا، ولكن إحلف بربِّ الكعبة، فانّ عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه له: "لا تحلف بأبيك، فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك"» [أخرجه النسائي]، معلوم أن والد سيدنا عمر رضي الله عنه الخطاب بن نفيل توفي قبل البعثة بأعوام قليلة، لذلك فالحلف به يكون على ما اعتادوا عليه من تعظيم الآباء في الجاهلية لذلك نهاه رسول الله ﷺ عن ذلك. وقال ﷺ: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [أخرجه أحمد والترمذي] وهو محمول على الحلف بالأصنام والأوثان وتعظيم المشركين، وغيرها من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، والملاحظ أنها وردت بألفاظ وسياقات تشير إلى أنها ذكرت في صدر الإسلام حيث جرت العادة أن يحلفوا بالـ «الآباء»، «الأمهات»، و«الأنداد»، و«الطواغيت»، وقوله ﷺ «فقد أشرك»، ونظائرها. 
أما بعد أن رسخ الإسلام في النفوس وأسلم كثير من آباء المسلمين وأمهاتهم الذين كانوا على الشرك عرفوا عظمة الله عز وجل ودينه ثبت أن رسول الله ﷺ وبعض أكابر صحابته حلفوا ببعض المخلوقين، فأخرج الإمام مسلم في صحيحه أنّه جاء رجل إلى النبي، فقال: يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: «أما [وأبيك] لتُنَبَّئنَّه، أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء».
وأخرج مسلم أيضاً في صحيحه أنه جاء رجل إلى رسول اللّه من نجد يسأل عن الاِسلام، فقال رسول اللّه «ﷺ: 
«خمس صلوات في اليوم والليل»
فقال: «هل عليَّ غيرهنّ؟»
قال: «لا...إلاّ أن تطوع، وصيام شهر رمضان».
فقال: «هلّ عليَّ غيره؟»
قال: «لا... إلاّ تطوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة».
فقال الرجل: «هل عليّ غيره؟»
قال: «لا... إلاّ أن تطوّع».
فأدبر الرجل وهو يقول: «واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه».
فقال رسول اللّه ﷺ: «أفلح [وأبيه] إن صدق».
أو قال: «دخل الجنة [وأبيه] إن صدق». 
والحديث صحيح ثابت لا مطعن فيه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
«وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ وأبيه لم تصح لأنها ليست في الموطأ وكأنه لم يرتضِ الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه»
وذكر روايات أخرى صحيحة، حيث قال في موضع آخر:
«وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه: "[وأبيك] ما ليلك بليل سارق" أخرجه في الموطأ وغيره، قال السهيلي: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لتنبأن أخرجه مسلم»

وقد أشكل ذلك على بعض العلماء، كيف ينهى رسول الله ﷺ عن الحلف بغير الله عز وجل ويحذر من أنه شرك أصغر ثم يثبت عنه ﷺ أنه حلف بمخلوق، بل وخليفته سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أعلم الصحابة رضوان الله عليهم؟ وبرروا ذلك بأنه مما يجري على الألسن وهذا خطأ فادح لأنه في حق النبي ﷺ  محال، فالنبي ﷺ معصوم عن قول ما لا يرضي الله عز وجل فضلًا عن أن يكون من الشرك الأصغر، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وأخرج أبو داود وأحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: «اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق»، لكن يزول الإشكال إذا علم أن الحلف أصلًا مداره على نية الحالف في تعظيم ما يحلف به، فالنهي في صدر الإسلام كان خشية تعظيم الشرك المتمثل في الطواغيت والأنداد والآباء والأمهات الذين لا يدينون بالإسلام ويُعَظَّمُون تعظيم الجاهلية، بل قد يكونوا أعداءً لله ورسوله ﷺ، وانتفى ذلك بعد أن استقر الإسلام في النفوس ورسخ الإيمان، وتؤيده أحاديث الإمام مسلم عن الرجل الذي جاء يسأل عن الإسلام كان بالمدينة بدليل أن النبي ﷺ ذكر له صوم رمضان الذي فرض في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، فالحادثة لم تكن في صدر الإسلام بمكة المكرمة. وعن الرجل الذي جاء يسأل عن الصدقة، فتشريع الصدقات متأخر بعد أن رسخت العقيدة، وكذلك قصة السارق الذي سرق حلي ابنته كانت على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذا متأخر جدًا بعد عهد النبي ﷺ بالمدينة المنورة. هذه من ناحية، من ناحية أخرى فإن الحلف بما أمر الله تعالى بتعظيمه كرسول الله ﷺ: {لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، وحرمات الله كافة: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وكتابه العزيز: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِى وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ}، وعرشه المجيد: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، وشعائر دينه المقدسة: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وحرمة النفس المسلمة فقد قال رسول الله ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» [أخرجه الترمذي]، وغير ذلك، هو تعظيم لما عظمه الله عز وجل وأمر بتعظيمه، فالحلف برسول الله ﷺ مثلًا هو حلف بالله تعالى ضمنيًّا، فمثلما أن طاعة رسول الله ﷺ هي طاعة لله عز وجل: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، ومبايعة رسول الله ﷺ هي مبايعة لله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، يكون الحلف به حلف بالله عز وجل لذلك جعل الإمام أحمد بن حنبل الحلف برسول الله ﷺ حلف بالله عز وجل. فيكون ثبوت الحلف بالمخلوقين عن رسول الله ﷺ نسخ للحكم الأول، وثبوته عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه هو إظهار لفهم أعلم صحابة رسول الله ﷺ بتلك المسألة. وعليه فإن الحلف برسول الله ﷺ أو بأنبياء الله عز وجل تنعقد به اليمين على مذهب الجمهور، وكذا بأولياء الله عز وجل، فقد  أخرج ابن المبارك، والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قيل: «يا رسول الله من أولياء الله؟!»، قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله»، فالحلف بمن بأولياء الله حلف بما اتصل بالله عز وجل.
والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم