الجمعة، 22 أبريل 2016

علاقة الشريعة بالزهد

الزهد هو ضد الرغبة والحرص، وزهد فلان في الشيء أي رغب عنه ولم يحرص عليه، وربما رضي بالقليل منه. والزهد في الدين خلق عظيم يرقى به العبد ويدنو من ربه، حيث يرغب عن ما أباحه الله له وأحله طلبًا لقرب الله ورضاه، وتحررًا من عبودية نفسه لأجل عبودية الله تبارك وتعالى، قال  الجنيد: قال بعض شيوخنا: "لا تكون لله عبدا حقًّا، وأنت بما يكرهه مُسْتَرَقًّا"[1]. وبعض الناس لا يفرق بين الزهد وبين أن تحرم على نفسك ما أحله الله، وحقيقة الزهد هو أن تستغني بالله عما سواه وأن تزهد -طائعًا- في ما أباحه الله لك وأحله من الطيبات والملذات طلبًا لمرضاته سبحانه. وكثير من شرائع الإسلام وشعائره جوهرها الزهد، كالصوم، أحد أركان الدين، حيث يترك العبد طعامه وشرابه وكافة شهواته لله، لأجل ذلك استحق ثناء الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" [2]. والصوم ليس شعيرة تمارس في رمضان وحسب، بل كل أسبوع كما في صيام الأثنين والخميس على الأقل، وكل أسبوعين كما في صيام الأيام البيض، أو في صيام رجب وشعبان وغير ذلك من الأوقات المباركة التي يندب فيها الصوم. لذلك فإن طلب الجوع والعطش طواعية لا يناقض قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[3]، بل هو رياضة للنفس، وإشعار لها بحاجة الفقراء، وصيانة للبدن من السمنة وأمراضها.
والزكاة والصدقة والنذر أيضًا في جوهرها الزهد في المال، والجهاد في جوهره الزهد في النفس، وقيام الليل في جوهره الزهد في النوم، والحج في جوهره الزهد في المال وفي راحة البدن لأن فيه مشقة، وهكذا إذا نظرت في شعائر وشرائع هذا الدين تجد أن الزهد محور أصيل فيها، تدور حوله لتصل بالعبد إلى الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك هو جوهر السير إلى الله القائل سبحانه:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ)[4]
(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)[5]
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[6]
(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[7]
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[8]
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)[9]
وغير ذلك من آي الذكر الحكيم، وكل القرءان ينبه إلى خطورة الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة، بل كان هذا هو آخر ما وصى به النبي ﷺ أمته، ففي الصحيحين قال رسول الله ﷺ: "إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"

وكان هو ﷺ الأسوة الحسنة في ذلك وإمام الزاهدين، فعن ابن عباس  رضي الله عنهما قال: دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي ﷺ وهو على حصير قد أثَّر في جنبه فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: "يا عمر، ما لي وللدنيا، وما للدنيا ولي، والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها" [10]
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أخبرني بعمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" [11]
وقال ﷺ: "صلح أمر أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلك آخرها بالبخل والأمل" [12]
وكذا كان صحابته رضوان الله عليهم، قال الحارث بن عوف الليثي رضي الله عنه: "تابعنا الأعمال فلم نجد شيئا أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا" [13]

ونقيض الزهد الحرص على الطيبات والشهوات وملذات الدنيا، وفي هذا خطر عظيم حيث يكون العبد أسير نفسه ورغباتها وأي خطر أعظم من هذا؟! جاء في الذكر الحكيم:
(وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم)[14]
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)[15]
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[16]
(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)[17]

وغير ذلك من الآيات التي تبين خطر الإنقياد للنفس، وأن الفلاح والنجاح في كبح جماحها والتحرر من رقها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[18]. ومن مخاطر الحرص على الدنيا أيضًا الغفلة، وطول الأمل، ونسيان الموت، والإنشغال عن الآخرة بعرض زائل، ونهاية كل ذلك هي الخسران المبين، قال النبي ﷺ: "أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى، فأما اتباع الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحَّلت مدبرة والآخرة قد ترحَّلت مقبلة، ولكلٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل" [19].
لذلك كان الزهد هو روح التصوف وجوهره، فمن جهل الزهد جهل التصوف.
ـــــــــــــــــ
[1] أخرجه البيهقي في الشعب.
[2] أخرجه البخاري ومسلم.
[3] سورة الأعراف: 33.
[4] سورة آل عمران: 14.
[5] سورة الأنفال: 67.
[6] سورة الأعلى: 16-17.
[7] سورة الرعد: 26.
[8] سورة فاطر: 5، وسورة لقمان: 33.
[9] سورة الشورى: 20.
[10] صحيح أخرجه الإمام أحمد وغيره.
[11] صحيح أخرجه أبي حسين الكلابي.
[12] أخرجه البيهقي في الشعب.
[13] أخرجه ابن أبي الدنيا في الزهد.
[14] سورة يوسف: 53.
[15] سورة ق: 16.
[16] سورة المائدة: 30.
[17] سورة غافر: 17.
[18] سورة النازعات:40-41.
[19] حسن أخرجه ابن أبي الدنيا وابن منده وابن عساكر وغيرهم.