من علامات الساعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن ترى الحفاة، العراة، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان"[1].
"الحفاة" هم الذين ليس لهم نعالٌ يلبسونها، و"العراة" هم قليلو الثياب وليس مقصودًا العري الكامل، و"العالة" هم الذين يعانون من الفاقة وشدة الفقر والحاجة، و"رعاة الشاء" أو "رعاة الأبل" أو "رعاة البُهم" على اختلاف الروايات، هم الرعاة. وتلك الأوصاف هي الغالبة على أهل البادية من سكان الجزيرة العربية.
قال القرطبي:
"المقصود الإخبار عن تبدُّل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملَّكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به"[2]
وتتجلى هذه العلامة من علامات الساعة اليوم في دول الخليج، حيث كانوا قبل سنوات فقراء يتلقون الإعانات من الجيران والدول الصديقة، حتى إن السلطان السوداني علي دينار رحمه الله كان يكسو الكعبة المشرفة ويرسل محملًا فيه السمسم والدخن والذرة والزيوت واللحوم المجففة. ثم صاروا أثرياء بعد أن ظهرت في بلدانهم ثروة النفط والغاز، فأخذوا يتطاولون ويتباهون بالتطاول في البنيان، ويعتبر برج خليفة بدولة الإمارات أحد أطول الأبراج في العالم إن لم يكن أطولها على الإطلاق.
لكن تتجلى هذه العلامة من علامات الساعة بشكل أوضح في مكة المكرمة، فالهدي القرءاني أن بيوت الله تكرَّم بالرفعة والعلو كما قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [سورة البقرة: 127] أي يرفعا قواعدها بالبنيان. وجاء في السيرة أن طول الكعبة المشرفة عندما أعادت قريش بناءها كان عشرين ذراعًا، ومع ذلك فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك قصيرًا، فعن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لها: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبًا من سبعة أذرع"[3]. لذلك عندما أعاد سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بناء الكعبة زاد في طولها عشرة أذرع. فهيبة البيت الحرام وحرمته وقدسيته تقتضي أن يكون هو أعلى بناء وأن يمنع التطاول عليه، فعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يبنوا حول الكعبة بناء يُشرِف -أي يعلو- عليها"[4]، وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى عامله بمكة أن لا يدع أحدا يبني بيتًا له مُشْرفًا على الكعبة[5]. ولما بنى الخليفة العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس داره التي بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام، أمر قوامه أن لا يرفعوها فيشرفوا بها على الكعبة، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة فتكون دونها اعظامًا للكعبة أن تشرف عليها[6]، ووعن قيس مولى صفوان بن أمية قال: "رأيت شيبة بن عثمان إذا رأى بناءً مُشْرِفًا على الكعبة هدمه"[7].
أما ما يحصل اليوم من التطاول في مكة لأمر عجيب، فهذا التطاول مع الأسف الشديد طال الكعبة المشرفة نفسها، فتعالت حول صحن الطواف الجدران، وقامت حول بيت الله الحرام الأبراج والفنادق ناطحات السحاب، ولم يعد أحد يكترث لرفعته وعلوه على ما سواه من البنيان. ولئن كان عمل التوسعات ضرورة لاستيعاب العدد المتزايد من الحُجَّاج وعمَّار بيت الله الحرام، فكان الأولى أن يتوسع أفقيًّا لا رأسيًّا حفاظًا على قدسية أول بيت وضع للناس، لكن الرغبة في جني الأموال من بناء الفنادق والتلذذ بالتباهي في البنيان طغت على تعظيم حرمات الله تعالى.
وإن هذا الذي يحصل اليوم في مكة هو دليل أخصُّ على اقتراب الساعة، وعلى ذم الذين يقومون بذلك من حكومات وأفراد، فعن يوسف بن ماهك قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في ناحية من المسجد الحرام، إذ نظر إلى بيت مشرف على أبي قبيس -أي يعلو جبل أبي قبيس- فقال: أبيتٌ هذا؟! فقلت: نعم. فقال: إذا رأيت بيوتها -أي مكة المكرمة- قد علت أخشبيها -يعني الجبلين العظيمين المحيطين بها- وفجرت بطونها أنهارًا -أي شقت خلالها القنوات وشبكات المياه- فقد أزِف الأمر -أي دنت الساعة[8].
وعن عطاء قال: "كنت آخذًا بلجام دابة عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- فقال: إذا رأيت مكة قد بُعِجَت كظائم، ورأيت البناء يعلو رؤوس الجبال، فأعلم أن الأمر قد أظلك[9].
ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري.
[2] فتح الباري، كتاب الإيمان.
[3] رواه مسلم في صحيحه.
[4] روه ابن أبي شيبة في مصنفه والأزرقي في أخبار مكة.
[5] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[6] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[7] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[8] رواه الأزرقي في أخبار مكة بسند حسن.
[9] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند رجاله ثقات.
"الحفاة" هم الذين ليس لهم نعالٌ يلبسونها، و"العراة" هم قليلو الثياب وليس مقصودًا العري الكامل، و"العالة" هم الذين يعانون من الفاقة وشدة الفقر والحاجة، و"رعاة الشاء" أو "رعاة الأبل" أو "رعاة البُهم" على اختلاف الروايات، هم الرعاة. وتلك الأوصاف هي الغالبة على أهل البادية من سكان الجزيرة العربية.
قال القرطبي:
"المقصود الإخبار عن تبدُّل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملَّكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به"[2]
وتتجلى هذه العلامة من علامات الساعة اليوم في دول الخليج، حيث كانوا قبل سنوات فقراء يتلقون الإعانات من الجيران والدول الصديقة، حتى إن السلطان السوداني علي دينار رحمه الله كان يكسو الكعبة المشرفة ويرسل محملًا فيه السمسم والدخن والذرة والزيوت واللحوم المجففة. ثم صاروا أثرياء بعد أن ظهرت في بلدانهم ثروة النفط والغاز، فأخذوا يتطاولون ويتباهون بالتطاول في البنيان، ويعتبر برج خليفة بدولة الإمارات أحد أطول الأبراج في العالم إن لم يكن أطولها على الإطلاق.
لكن تتجلى هذه العلامة من علامات الساعة بشكل أوضح في مكة المكرمة، فالهدي القرءاني أن بيوت الله تكرَّم بالرفعة والعلو كما قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [سورة البقرة: 127] أي يرفعا قواعدها بالبنيان. وجاء في السيرة أن طول الكعبة المشرفة عندما أعادت قريش بناءها كان عشرين ذراعًا، ومع ذلك فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك قصيرًا، فعن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لها: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبًا من سبعة أذرع"[3]. لذلك عندما أعاد سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بناء الكعبة زاد في طولها عشرة أذرع. فهيبة البيت الحرام وحرمته وقدسيته تقتضي أن يكون هو أعلى بناء وأن يمنع التطاول عليه، فعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يبنوا حول الكعبة بناء يُشرِف -أي يعلو- عليها"[4]، وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى عامله بمكة أن لا يدع أحدا يبني بيتًا له مُشْرفًا على الكعبة[5]. ولما بنى الخليفة العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس داره التي بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام، أمر قوامه أن لا يرفعوها فيشرفوا بها على الكعبة، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة فتكون دونها اعظامًا للكعبة أن تشرف عليها[6]، ووعن قيس مولى صفوان بن أمية قال: "رأيت شيبة بن عثمان إذا رأى بناءً مُشْرِفًا على الكعبة هدمه"[7].
أما ما يحصل اليوم من التطاول في مكة لأمر عجيب، فهذا التطاول مع الأسف الشديد طال الكعبة المشرفة نفسها، فتعالت حول صحن الطواف الجدران، وقامت حول بيت الله الحرام الأبراج والفنادق ناطحات السحاب، ولم يعد أحد يكترث لرفعته وعلوه على ما سواه من البنيان. ولئن كان عمل التوسعات ضرورة لاستيعاب العدد المتزايد من الحُجَّاج وعمَّار بيت الله الحرام، فكان الأولى أن يتوسع أفقيًّا لا رأسيًّا حفاظًا على قدسية أول بيت وضع للناس، لكن الرغبة في جني الأموال من بناء الفنادق والتلذذ بالتباهي في البنيان طغت على تعظيم حرمات الله تعالى.
وإن هذا الذي يحصل اليوم في مكة هو دليل أخصُّ على اقتراب الساعة، وعلى ذم الذين يقومون بذلك من حكومات وأفراد، فعن يوسف بن ماهك قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في ناحية من المسجد الحرام، إذ نظر إلى بيت مشرف على أبي قبيس -أي يعلو جبل أبي قبيس- فقال: أبيتٌ هذا؟! فقلت: نعم. فقال: إذا رأيت بيوتها -أي مكة المكرمة- قد علت أخشبيها -يعني الجبلين العظيمين المحيطين بها- وفجرت بطونها أنهارًا -أي شقت خلالها القنوات وشبكات المياه- فقد أزِف الأمر -أي دنت الساعة[8].
وعن عطاء قال: "كنت آخذًا بلجام دابة عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- فقال: إذا رأيت مكة قد بُعِجَت كظائم، ورأيت البناء يعلو رؤوس الجبال، فأعلم أن الأمر قد أظلك[9].
ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري.
[2] فتح الباري، كتاب الإيمان.
[3] رواه مسلم في صحيحه.
[4] روه ابن أبي شيبة في مصنفه والأزرقي في أخبار مكة.
[5] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[6] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[7] رواه الأزرقي في أخبار مكة.
[8] رواه الأزرقي في أخبار مكة بسند حسن.
[9] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند رجاله ثقات.