(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)
[سورة آل عمران: 96]
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال: «المسجد الحرام». قال: ثم أيٌّ؟ قال: «المسجد الأقصى». قال: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة»
و(بكَّة) قيل هي المسجد الحرام، مكان الكعبة، أما مكة فهي ما حول البيت، أم القرى.
وبنص هذه الآية فإن أول بيت -بيت لله، أي أول مسجد- وضع للناس للعبادة لهو المسجد الحرام، ثم بعد ذلك بأربعين سنة وضع للناس بيت آخر في الشام وهو المسجد الأقصى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: عندما نزل قوله تعالى (وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدًا) لم يكن على وجه الأرض إلا مسجدان: المسجد الحرام، ومسجد إلياء، أي الأقصى.
وفي هذا حكم وأسرار، منها:
أن أول بيت لله وضعه المولى تبارك وتعالى للناس مباركًا وهدىً للعالمين كان ببكة من مكة المكرمة، حيث ميلاد المرسل رحمة للعالمين، فكأن بركته وهداه صلى الله عليه وسلم كانتا هما الرحمة للعالمين.
وشاء الله العليم الحكيم أن يضع أول بيت في الأرض لعبادته حيث يولد النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، إمام الأنبياء والمرسلين، وإنه لشرف عظيم لأولي الألباب. ووضعه حيث يبعث ذلك النبي الأمي صلى الله عليه وسلم رسولًا لكافة الناس بشيرًا ونذيرًا بالدين الخاتم، ووضعه حيث يُنزَل عليه القرءان العظيم، المهيمن على الكتاب. فإن للمكان سرًا عظيمًا تعلق بالنبي الخاتم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم شاء الله الحكيم العليم أن يضع المسجد الأقصى بعد ذلك بأربعين سنة في الموضع الذي يولد فيه وينشأ الأنبياء والرسل من آل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام، وإن كانوا هم المصطفَون على العالمين بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 33]، إلا أنهم تبع للنبي الخاتم، نبي آخر الزمان صلى الله عليه وسلم، فجاء مكان بعثتهم ثانيًا بعد المسجد الحرام، دليلًا بيِّنًا على فضله العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن يرجح بألف من أمته أو بها كلها وحسب، بل بكل الأنبياء والمرسلين وبأممهم، وكان بحق سيد العالمين.
وبذلك كان فرع نسب النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من جده إبراهيم عليه السلام بمكة حيث أول بيت وضع للناس، بينما نسب غيره من آل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام في بيت المقدس، ثاني بيت، فقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
[سورة إبراهيم: 37]
فأسكن السيدة هاجر عليها السلام وسيدنا إسماعيل عليهما السلام مكة ليؤسسوا الأمة الأمية، خير أمة، التي سيبعث فيها خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ويعمروا أرضها الجدباء، فنبع ماء زمزم يسقي العالمين.
من الذي بنى البيت الحرام؟
بناه أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما قال تعالى:
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
[سورة البقرة: 127]
وعندما حرَّمها إبراهيم عليه السلام حرمًا آمنًا فلأنها بلد نبي آخر الزمان، سيد الأولين والآخرين، حتى يشب ويبعث آمنًا، وقد تربص به الأعداء، فقال تعالى:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)
[سورة العنكبوت: 67]
فيظهر مما تقدم أن قدسية مكة المكرمة وبيتها الحرام إنما استمدت في الأزل من قدسية نبي آخر الزمان وسيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من قبل أن يولد، وأن حكمة الله تبارك وتعالى العليم الحكيم تجلت في ذلك بشكل مذهل. واستمرت هذه القدسية بعد ميلاده بوجوده فيها كما حكى الله تبارك وتعالى فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [سورة الأنفال: 33]، ولأنه أبى صلى الله عليه وسلم أن يطبق ملك الجبال على أهل مكة الأخشبين -جبلان يحيطان بمكة- عندما آذاه أهل الطائف كما أخرج البخاري في صحيحه، ولأنه ارتضاها قبلة للدين الخاتم فقال تعالى:
(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
[سورة البقرة: 144]
فلولا أنه ولد بها صلى الله عليه وسلم وأمنها بوجوده، وعاش فيها شبابه، وبعث، ونزل عليه فيها القرءان، وأبى أن يهلكها ملك الجبال، وارتضاها قبلة للمسلمين لما كان لها هذا الشرف وتلك القدسية. وحتى حرمها فإنه لم يحله الله تبارك وتعالى إلا له، كما ورد في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله حرّم مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعةً من نهار".
وعندما أخرج من مكة المكرمة وهاجر إلى المدينة المنورة، هاجرت معه قدسية المكان لأنها تبع لذاته الشريفة، فصارت مدينته المنورة خير بقاع الأرض، فيها عاش ما بقي من عمره الشريف، وفيها اكتمل الدين فأتم بلاغ الرسالة، وعقد ألوية ورايات الجهاد، وفيها انتقل إلى الرفيق الأعلى فاحتضنت أرضها السعيدة جسده الشريف.
ثم فتح مكة المكرمة لكنه آثر عليها المدينة المنورة، فدعا للمدينة بضعفي البركة وبضعفي ما دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام لمكة المكرمة، وحرَّمها كما حرَّم سيدنا إبراهيم عليه السلام مكة المكرمة، واستجاب الله دعاءه فأحبها هو وأصحابه أشد من حب مكة المكرمة كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد"، فلذلك آثرها، وتوفي بها، وندب للمؤمنين الوفاة فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها" [أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والبغوي في شرح السنة وحسنه].
وبقيت في مكة المكرمة بركته صلى الله عليه وسلم، واستأثرت المدينة المنورة بنبع بركته وهو ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم، فكان الحرمان الشريفان ما بين بركته وهداه من جهة وما بين ذاته الشريفة من جهة أخرى، فصارا أحب بقعتين إلى قلب كل مؤمن، لأنهما تعلقتا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلِّ وسلِّم على الذات المحمدية وانفحنا ببركتها واهدنا إلى الرشاد