الأحد، 9 أغسطس 2015

أمية النبي صلى الله عليه وسلم

أمية النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)

نعم النبي صلى الله عليه وسلم أمي شريعةً، أو ظاهرًا، بمعنى أنه لم يرتد مدرسة أو معلمًا من البشر، فلم يكن يقرأ ويكتب كما يشاع بين الناس في ذلك الزمان. ولذلك تنتفي عنه تهمة أنه تلقى القرءان من غيره:
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾

أما حقيقيةً فليست القراءة والكتابة أشق على النبي صلى الله عليه وسلم من الرسالة نفسها، التي لبها الحكمة، (ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، فكيف بأمي جاهل يكون معلمًا ويعلم الكتاب والحكمة؟ لا يتسق ذلك. فالحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جاهلًا بالكتابة ولا بالقراءة، لكنه لم يتعلمهما من بني جنسه، فليس لأحد منهم منّة عليه صلى الله عليه وسلم في العلم -سواء أكان كتابة أو قراءة أو حكمة أو غير ذلك- إلا الله تبارك وتعالى العليم الحكيم، المعلم الحقيقي الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فقال تعالى:
(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء: ١١٣]

علمه العلوم بطرق شتى: مباشرة كما من مفهوم النبوة، حيث يولد النبي نبيًا ويكون عارفًا بالله معرفة الخواص في عالم الذر قبل أن يولد. ومباشرة كما في الإسراء والمعراج عندما تجلى له رب العالمين. وكما في وحي المنام، وكما في الإلهام والإلقاء في الروع، وبواسطة عبر جبريل عليه السلام، هبط عليه بالوحي، وهذا لحكمة تشريعية تعلقت باتخاذ المرشد والمعلم حيث قال في حديث جبريل المشهور: (أتدري من السائل يا عمر؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم)
فهذه كلها وسائل تعليم من الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم تعلم منها كل شيء، لم يترك الله شيئًا من علوم الخلق وإلا علمها لسيدهم صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) تصديقًا لقوله تبارك وتعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فماذا تسوى الكتابة والقراءة بالنسبة لعلم الله تبارك وتعالى الذي علمه للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا شيء.

لكنه في نظر الناس أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يرتد مدرسة ولا ارتاد معلمًا من البشر، لذلك هو أمي من هذا المنظور. وكونه في الظاهر أمي عن تعليم البشر وفي الحقيقة يعرف يكتب ويقرأ كما علمه الله تبارك وتعالى لا ينافي المعجزة في الآية (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) فهذا حاصل أصلًأ لأنه لم لم يكن يتلو من قبله ولم يكن يكتب، وعدم الفعل لا يقتضي عدم القدرة عليه.
ومع ذلك فقد أظهر صلى الله عليه وسلم طرفًا من علمه بالكتابة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ليس قبل البعثة، حتى لا يرتاب المبطلون، ففي فراش الموت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا).
وفي صلح الحديبية عندما أبى أن يمحو سيدنا علي اسم النبي صلى الله عليه وسلم محاه هو بنفسه صلى الله عليه وسلم وكتب بيده، كما في البخاري: (لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة فاشترطوا عليه أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح ولا يدعو منهم أحدا، قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: أنا والله محمد بن عبد الله وأنا والله رسول الله، قال: وكان لا يكتب، قال: فقال: لعلي امح رسول الله، فقال: علي والله لا أمحاه أبدا، قال: فأرنيه، قال: فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده فلما دخل ومضى الأيام أتوا عليا، فقالوا: مر صاحبك فليرتحل فذكر ذلك علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، ثم ارتحل)
وفي رواية الديلمي: (قال لعلي: "امح محمد رسول الله"، فقال: لا والله لا أمحوه أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب مكان رسول الله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، أن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها أحدا أراد أن يتبعه، ولا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها).

وعن الشعبي أنه قال: "ما مات النبي صلى عليه وسلم حتى كتب". وأيضا حديث أبي كبشة السلولي مضمونه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لـعيينه بن حصن وأخبر بمعناها، فعن سهل بن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: قد كتب لك بما أمر لك. أي قرأها وأقر ما فيها. وقوله لسيدنا معاوية رضي الله عنه: (ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمد بسم الله)

وقوله صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل القرءان الكريم وقراءته قال: (لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) وفي رواية ابن أبي شيبة والطبراني: (من قرأ حرفا من القرآن كتب له به حسنة، لا أقول الم ذلك الكتاب، ولكن الألف واللام والميم والذال واللام والكاف، وفي رواية للبيهقي: لا أقول بسم الله ولكن باء وسين وميم ولا أقول الم، ولكن الألف واللام والميم.

أما قولهم أنه قال: (ما أنا بقارئ) فإذا قلت لي إذهب وقلت لك ما أنا بذاهب هل يعني أنني عاجز لا أستطيع الذهاب؟ ثم إن القراءة هنا التلاوة لأنه تابع وقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهي من جنس قوله تعالى: (وقرءانًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزناه تنزيلًا). فإذا نفيت هنالك القرءاة فأثبتها هنا: (لتقرأه على الناس).

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أميةلا نقرأ ولا نحسب)، هذا في المجمل، لكن الثابت أن في الأمة من كان يقرأ ويكتب ويحسب ككتاب الوحي، وأنهم أهل تجارة ولا تجارة إلا بحساب، وقد حسب النبي صلى الله عليه سلم الشهور والمواريث.

وأما قولهم أنه كان له كتَّاب وأنه كان لا يكتب الوحي بنفسه فكل هذا لا ينافي علمه بالكتابة. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى مكتوبًا على ساق العرش: لا إله إلا لله محمد رسول الله ومن قرأ جاز له أن يكتب.

وغير ذلك من الأدلة.

ويجب الانتباه إلى إن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يتعامل في الشريعة بشيء وفي الحقيقة يكون شيء آخر، فيقول للأمة: (لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا)، فلا يظهر للأمة كل ما يعلم، ولا يرون منه إلا التواضع وكتمان الأسرار. فيتعوذ من النار وهو الشافع المشفع الذي يخرج العصاة من النار، يسأل الله الجنة وهو مفتاح الجنة حيث قال رضوان خازن الجنان للنبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت ألا يفتح لأحد قبلك)، يسأل الأمة أن تسأل الله له المقام المحمود الذي وعده الله والله لا يخلف الميعاد. لكن هذه المسائل تحتاج إلى أفق واسع، وفهم وذوق فمن العلوم ما لا يدرك إلا بسلامة التذوق.
ولا يسوغ أن يكون من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من هو أفضل منه في شيء من الأشياء كالقراءة والكتابة وغيرها، بل إن أميته عن الكتابة والقراءة المعروفة هي ميزة له صلى الله عليه وسلم، أن الذي علمه الكتابة والقراءة وعلمه كل العلموم هو العليم الحكيم سبحانه، الذي (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.