هل للمؤامرة نظرية؟
لقد شاع بين المثقفين الحديث عن نظرية المؤامرة، وهي اصطلاح لاتجاه في الفكر يؤمن صاحبه بأن الأحداث تسير بشكل مخطط له سلفًا ومدبر وفق سيناريو مؤامرة. ويعزو المؤمن بهذا الفكر المصائب ويحلل الكوارث التي ربما تكون نتاج إهماله وتقصيره في وجباته إلى أنها بفعل قوى خفية تعمل على إيذائه. وفي بعض الأحيان يؤدي الشعور بقوة حبكة المؤامرة وبراعة المتآمرين إلى الخنوع والاستلام للواقع السيء وترك الأمور تسوء أكثر مما هي عليه.
الوصف أعلاه هو باختصار المعنى الاصطلاحي لنظرية المؤامرة، فهل يا ترى هي كذلك؟ أم هي فزاعة تصرف الناس عن التفكير في أن هنالك تآمر بالفعل؟
إن الذين يؤمنون بفساد هذه النظرية يرون أن ما يحصل بين البشر أو التنظيمات أو الدول من مكايدات ما هو إلا تدافع مصالح عادي، وربما يستدلون بقوله تعالى: (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ويرون أنه حتى لو كانت هنالك مؤامرات فإنها تكون في حيز ضيق لا يستوعب أن تفسر على ضوئه كل الوقائع أو معظمها.
ومن الناحية الأخرى فإن ظهور دليل على وجود مؤامرة ليس يعني بالضرورة الخنوع والاستلام لها، بل العكس، إن ذلك أوجب في أخذ الحيطة والحذر، وتحديد العدو وأسلوب عدوانه للتعامل معه بما يناسبه.
الحقيقة التي أراها هي أن طرح الموضوع بهذه البساطة فيه خلل كبير، وسبب الخلل في عدم التفريق بين التخطيط والعمل على تحقيق المصالح وبين التآمر. فالأول يكون عادة بوسائل تراعي العرف السائد وهنالك حدود لا يمكن تجاوزها وإلا تحول الأمر إلى شيء آخر. لنأخذ مثالًا بالتجارة، الناس تعلم أن التاجر يعمل لتعظيم ربحه ومنفعته، وهذا لا يمنعهم من أن يتعاملوا معه ويرتضوا أن يحقق مراده لقاء ما يوفره لهم من سلع أو خدمات، لكنهم إن علموا أنه يغش في بضاعته أو يخدعهم في المواصفات اجتنبوه وحذروا الناس منه، لأن فعله هذا لا يبرره أنه يعمل لأجل مصالحه وليعظم منفعته.
إذن فإن أهم شيء يميز التآمر هو الخيانة والخداع، فالمؤامرة في تقديري هي سيناريو ظاهره عادي وربما طيب، وباطنه خيانة وخداع، ولا أظن أن أحدًا سيقبل مثلًا أن صديقه يسدي له معاريف ويساعده في محنه وظروفه ويلاعب أطفاله ويرعاهم في غيابه إذا علم أن صديقه هذا يفعل ذلك ليس لأجل أنهم أصدقاء بل لأنه يطمع في زوجته!!! فهل نبرر هذا العمل بأن للبشر غرائز؟! لا أظن أن عاقلًا يقول بذلك.
إذًا يجب أن توضع الأمور في أنصبتها الحقيقة، هنالك تدافع مشروع للمصالح بين الناس والدول، وتحصل فيه أحيانًا تجاوزات لكنها في المجمل محدودة، ولنأخذ مثالًا على ذلك الحروب القتالية التي شهدها التاريخ لبسط النفوذ والاستيلاء على الموارد، وربما يحصل في بعض الحروب قتل مدنيين، لكن يبقى ذلك الفعل خطأ وربما حوسب عليه.
لكن ما أن تحول هذا التدافع إلى تخطيط يستبطن الخيانة والخداع والكيد الخفي فإنه عندئذ يكون تآمرًا وهو أفتك من الحروب القتالية التقليدية، حيث يبدو العدو كصديق وحليف، والشر المستطير كخير، الداء كدواء، والسم كطعام شهي، ويكون كل شيء قذر مشروع. يتعارف الناس اليوم على هذا التآمر بالحرب الباردة أو حرب الاستخبارات أو الحرب القذرة، وتدور رحاها بين أجهزة الاستخبارات، ووسائل الإعلام، ودور النشر، والمنظمات الطوعية ومنظمات المجتمع المدني والمراكز الثقافية.. الخ
إذًا هنالك تدافع مصالح عادي وهو الأصل، وهنالك أيضًا تآمر، ولعل في اتفاقية "سايكس بيكو" خير مثال على تآمر قضى على دولة الخلافة الإسلامية وأقام دولة الكيان الصهيوني ومزق نسيج المسلمين. فلا ننفي التآمر بفزاعة (نظرية المؤامرة) بل علينا أن نبحث في الدعوى وننظر في ما يتوفر من شواهد وأدلة. معلوم أن طبيعة التآمر تقتضي صعوبة بالغة في الحصول على دليل دامغ، فلا تتوقع مثلًا أن تترك أجهزة الاستخبارات دليلًا دامغًا على تورطها في عمل ما، لكن تبقى الشواهد والعلاقة بين الأحداث لمن يتأمل ويتدبر.
والغرض من البحث في دعاوى التآمر عند وجود ريبة وشواهد قوية ليس تعليق الفشل على شماعات وهمية، بل يجب أن يكون هو تحديد العدو، فكيف يمكن أن تتعامل مع عدو متخفٍ ومستتر أنت أصلًا غافل عنه؟ وفي حالة أنك غفلت عن هذا العدو فإن النهاية محتومة، أترى لو أنك تجاهلت جرثومة تسعى في جسدك وأنت تحس بأعراض المرض فيك لكنك لم تكلف نفسك عناء الفحص والتحري، أترى أنك ستنجو؟ قطعًا لا. لن تجد عاقلًا يبرر الخيانة ويتسامح معها، ولا يبرر الغش والخداع، وهنالك فرق كبير بين الخدع الحربية وبين الخداع، فإن الأخير يكون مع حسن ظن، أن تخدع من يحسن الظن بك.
ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإنه عاهد اليهود وحفظ حقوقهم لكنهم عندما تآمروا عليه وحاولوا قتله وأذية دينه مع إظهار أنهم حلفاؤه أخزاهم وأخرجهم من جزيرة العرب. وعندما حذر القرءان الكريم من قضية النفاق والمنافقين بل وقدم عذابهم على عذاب المشركين فإنه أشار لأولي الألباب إلى خطر التآمر والخبث.
لقد شاع بين المثقفين الحديث عن نظرية المؤامرة، وهي اصطلاح لاتجاه في الفكر يؤمن صاحبه بأن الأحداث تسير بشكل مخطط له سلفًا ومدبر وفق سيناريو مؤامرة. ويعزو المؤمن بهذا الفكر المصائب ويحلل الكوارث التي ربما تكون نتاج إهماله وتقصيره في وجباته إلى أنها بفعل قوى خفية تعمل على إيذائه. وفي بعض الأحيان يؤدي الشعور بقوة حبكة المؤامرة وبراعة المتآمرين إلى الخنوع والاستلام للواقع السيء وترك الأمور تسوء أكثر مما هي عليه.
الوصف أعلاه هو باختصار المعنى الاصطلاحي لنظرية المؤامرة، فهل يا ترى هي كذلك؟ أم هي فزاعة تصرف الناس عن التفكير في أن هنالك تآمر بالفعل؟
إن الذين يؤمنون بفساد هذه النظرية يرون أن ما يحصل بين البشر أو التنظيمات أو الدول من مكايدات ما هو إلا تدافع مصالح عادي، وربما يستدلون بقوله تعالى: (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ويرون أنه حتى لو كانت هنالك مؤامرات فإنها تكون في حيز ضيق لا يستوعب أن تفسر على ضوئه كل الوقائع أو معظمها.
ومن الناحية الأخرى فإن ظهور دليل على وجود مؤامرة ليس يعني بالضرورة الخنوع والاستلام لها، بل العكس، إن ذلك أوجب في أخذ الحيطة والحذر، وتحديد العدو وأسلوب عدوانه للتعامل معه بما يناسبه.
الحقيقة التي أراها هي أن طرح الموضوع بهذه البساطة فيه خلل كبير، وسبب الخلل في عدم التفريق بين التخطيط والعمل على تحقيق المصالح وبين التآمر. فالأول يكون عادة بوسائل تراعي العرف السائد وهنالك حدود لا يمكن تجاوزها وإلا تحول الأمر إلى شيء آخر. لنأخذ مثالًا بالتجارة، الناس تعلم أن التاجر يعمل لتعظيم ربحه ومنفعته، وهذا لا يمنعهم من أن يتعاملوا معه ويرتضوا أن يحقق مراده لقاء ما يوفره لهم من سلع أو خدمات، لكنهم إن علموا أنه يغش في بضاعته أو يخدعهم في المواصفات اجتنبوه وحذروا الناس منه، لأن فعله هذا لا يبرره أنه يعمل لأجل مصالحه وليعظم منفعته.
إذن فإن أهم شيء يميز التآمر هو الخيانة والخداع، فالمؤامرة في تقديري هي سيناريو ظاهره عادي وربما طيب، وباطنه خيانة وخداع، ولا أظن أن أحدًا سيقبل مثلًا أن صديقه يسدي له معاريف ويساعده في محنه وظروفه ويلاعب أطفاله ويرعاهم في غيابه إذا علم أن صديقه هذا يفعل ذلك ليس لأجل أنهم أصدقاء بل لأنه يطمع في زوجته!!! فهل نبرر هذا العمل بأن للبشر غرائز؟! لا أظن أن عاقلًا يقول بذلك.
إذًا يجب أن توضع الأمور في أنصبتها الحقيقة، هنالك تدافع مشروع للمصالح بين الناس والدول، وتحصل فيه أحيانًا تجاوزات لكنها في المجمل محدودة، ولنأخذ مثالًا على ذلك الحروب القتالية التي شهدها التاريخ لبسط النفوذ والاستيلاء على الموارد، وربما يحصل في بعض الحروب قتل مدنيين، لكن يبقى ذلك الفعل خطأ وربما حوسب عليه.
لكن ما أن تحول هذا التدافع إلى تخطيط يستبطن الخيانة والخداع والكيد الخفي فإنه عندئذ يكون تآمرًا وهو أفتك من الحروب القتالية التقليدية، حيث يبدو العدو كصديق وحليف، والشر المستطير كخير، الداء كدواء، والسم كطعام شهي، ويكون كل شيء قذر مشروع. يتعارف الناس اليوم على هذا التآمر بالحرب الباردة أو حرب الاستخبارات أو الحرب القذرة، وتدور رحاها بين أجهزة الاستخبارات، ووسائل الإعلام، ودور النشر، والمنظمات الطوعية ومنظمات المجتمع المدني والمراكز الثقافية.. الخ
إذًا هنالك تدافع مصالح عادي وهو الأصل، وهنالك أيضًا تآمر، ولعل في اتفاقية "سايكس بيكو" خير مثال على تآمر قضى على دولة الخلافة الإسلامية وأقام دولة الكيان الصهيوني ومزق نسيج المسلمين. فلا ننفي التآمر بفزاعة (نظرية المؤامرة) بل علينا أن نبحث في الدعوى وننظر في ما يتوفر من شواهد وأدلة. معلوم أن طبيعة التآمر تقتضي صعوبة بالغة في الحصول على دليل دامغ، فلا تتوقع مثلًا أن تترك أجهزة الاستخبارات دليلًا دامغًا على تورطها في عمل ما، لكن تبقى الشواهد والعلاقة بين الأحداث لمن يتأمل ويتدبر.
والغرض من البحث في دعاوى التآمر عند وجود ريبة وشواهد قوية ليس تعليق الفشل على شماعات وهمية، بل يجب أن يكون هو تحديد العدو، فكيف يمكن أن تتعامل مع عدو متخفٍ ومستتر أنت أصلًا غافل عنه؟ وفي حالة أنك غفلت عن هذا العدو فإن النهاية محتومة، أترى لو أنك تجاهلت جرثومة تسعى في جسدك وأنت تحس بأعراض المرض فيك لكنك لم تكلف نفسك عناء الفحص والتحري، أترى أنك ستنجو؟ قطعًا لا. لن تجد عاقلًا يبرر الخيانة ويتسامح معها، ولا يبرر الغش والخداع، وهنالك فرق كبير بين الخدع الحربية وبين الخداع، فإن الأخير يكون مع حسن ظن، أن تخدع من يحسن الظن بك.
ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإنه عاهد اليهود وحفظ حقوقهم لكنهم عندما تآمروا عليه وحاولوا قتله وأذية دينه مع إظهار أنهم حلفاؤه أخزاهم وأخرجهم من جزيرة العرب. وعندما حذر القرءان الكريم من قضية النفاق والمنافقين بل وقدم عذابهم على عذاب المشركين فإنه أشار لأولي الألباب إلى خطر التآمر والخبث.