قول النبي ﷺ لعشيرته وأقاربه: (إني لا أغني عنكم من الله شيئًا) وللسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام: (ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا)، لا يعني أن رحم النبي ﷺ لا ينفع أقاربه، فإذا كان رحم الشهيد ينفع ألا ينفع رحم سيد الخلق أجمعين؟ قال رسول الله ﷺ: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته) [رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة]
لكن هناك فرق كبير بين (أن ينفعه) وبين أن (يغني عنه)، فليس هناك استنابة في الهدى والتقوى والصلاح، يجب على المكلفين جميعًا -والأقارب من باب أولى- أن يسلكوا طريق الإيمان والهداية والتقوى والعمل الصالح، هذا هو أساس الكرامة في الدين كما قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فالمسؤولية فردية في المقام الأول، كما قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ)، (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وغيرها كثير.
فالدين ليس بالقرابة وإنما بالتقوى والعمل الصالح، على أن قرابة المتقين تنفعهم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله، أما خطاب النبي ﷺ لعشيرته وقرابته ذاك فقد كان من مقام الإنذار والتحذير والتخويف والترهيب الشديد حتى لا يتكل على قرابته أحد، بل يجب أن يكونوا هم القدوة الحسنة في اتباع النبي ﷺ، ولقد كان آل البيت عليهم الصلاة والسلام كذلك والحمد لله رب العالمين. إن أبا لهب -عليه لعنة الله- كان عمًا لرسول الله ﷺ لكنه كفر بالرسالة فلم تغن عنه قرابته من النبي ﷺ وهو من أصحاب النار: (سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ).
أما قرابة النبي ﷺ من عشيرته المؤمنين فلا شك أنها تنفع، كيف لا وهو صاحب الشفاعة العظمى، من يقول له ربه عز وجل يوم الحشر العظيم: (إرفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفَّع)، أي أن الله تبارك وتعالى أكرمه بالشفاعة فيمن أراد فأي نفع بعد هذا؟ قال الحافظ ابن حجر: "حتى يُدخلُ قومًا الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه" أهـ، وإذا كان يوم الحشر قالت الخلائق بمن فيهم الأنبياء والرسل والرسل أولي العزم: "نفسي، نفسي"، إلا بناته عليهن السلام يقلن: "أبي أبي". الكل يومئذ يلوذون برسول الله ﷺ للشفاعة فأولى بذلك أقاربه من المؤمنين فإنه ﷺ قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) أي هي أنفع وأرجى لأهل الكبائر والمتقين من أقاربه أولى.
لذلك فإن قرابة النبي ﷺ تنفع بلا شك، ويتقرب بها إلى الله عز وجل، فقد قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) قال سعيد بن جبير: "هي قربى رسول الله ﷺ"، وروى الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي أن رسول الله ﷺ قال: (ما بال أقوام يقولون إن رحمي لا ينفع، بلى والله، إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة)، وكان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله ﷺ أحب إليَّ أن أصل من قرابتي"، وعن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يومًا فأخذ ابن عباس بركابه فقال: "تنح يا ابن عم رسول الله ﷺ"، فقال: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا" فقال زيد: "أرني يدك" فأخرج يده، فقبلها فقال: "هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسولنا ﷺ". كيف لا تنفع قرابته ﷺ وهي التي كانت دافع عظيم وسبب كبير في الهداية ودخول الإسلام، وهي التي رفع الله بها قدر أهل بيته عليهم الصلاة والسلام وطهرهم تطهيرًا، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وأنزل عليهم بها الرحمات والبركات كما قال تعالى: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)، وبها كانت السيدتان زينب ورقية عليهما السلام نورًا يوصف به زوجهما سيدنا عثمان رضي الله عنه فكان يقال له ذو النورين، وكانت بها السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء الجنة، وأنها تُغَض لها أبصار الخلائق وهي تمر على الصراط فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بُطنانِ العرش: أيها الناس غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد ﷺ) [أخرجه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات وأبو الحسن بن بشران في فوائده والخطيب في تاريخه وغيرهم] . وبهذه القرابة كان سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه سيدًا في الدنيا وسيدًا في الآخرة وبمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، فقد جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لسيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، ومن ثم كان بهذه القربى الحسنان عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة في الجنة، وهكذا.
ولا شك أن قرابة الصالحين تنفع كما نسل الأنبياء، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ثم أعقب ذلك بقوله تعالى: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) فكما: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) في الضلالة فإن الذرية الصالحة بعضها من بعض في الهدى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) قال: "ما ذُكر منهما صلاح ولكن حُفظا بصلاح أبيهما"، وقيل أبوهما كان جدهما السابع وقيل العاشر، قال الحافظ القرطبي في تفسيره: "ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه، وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته".