مما لا شك فيه أن زيارة النبي ﷺ حيا وبعد وفاته هي من أفضل الأعمال والقُربات بإجماع أئمة المسلمين، قال الإمام الحافظ ابن حجر في الفتح: (إنها من أفضل الأعمال، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع) أهـ
وقال الإمام الحافظ النووي في شرحه لصحيح مسلم:
(اعلم أنه ينبغي لكل من حجّ أن يتوجه إلى زيارة رسول الله ﷺ، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإن زيارته ﷺ من أهمّ القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات) أهـ
وأما ما يروج له بعض من ابتليت بهم الأمة من تحريم شد الرحال لزيارة النبي ﷺ في قبره الشريف فإنه باطل، وفاسد، وشاذ، ولا يقوم على حجة ولا برهان، بل هو فهم سطحي فاسد لقول النبي ﷺ:
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، ومسجد الأقصى"
والمراد به النهي عن شد الرحال طلبًا للصلاة بأجر مضاعف، لما ثبت من الأجر المضاعف للصلاة في هذه المساجد الثلاثة دون غيرها، فقد قال رسول الله ﷺ: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) [رواه البزار بإسناد حسن]
أما شد الرحال لغير الصلاة بأجر مضاعف، كشد الرحال للجهاد في سبيل الله، أو طلب للعلم، أو صلة للرحم، أو زيارة ولي صالح، أو زيارة أخ في الله، أو تجارة، أو علاج، أو نزهة، وغير ذلك من أنواع السفر فلا شك أنه لا يدخل في هذا النهي، لكونه إما سفرًا واجبًا كالجهاد في سبيل الله، أو مندوبًا كطلب العلم، أو مباحًا كالتجارة، كما قال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وبهذا يتضح التخصيص ويبطل الإدعاء بالتحريم، ويظهر الحق أبلجًا ولله الحمد والمنة.
ومن نافلة القول أن نصوص الشريعة ووفقًا لكلام العرب يكون فيها لفظ أو ألفاظ محذوفة يفهم تقديرها من السياق، كقوله تعالى لموسى عليه السلام: (لَن تَرَانِي)، فلا يفهم على ظاهره أنه لن يراه مطلقًا، لما ثبت أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، لكن فيه محذوف تقديره: (لن تراني في الدنيا)، وكذلك في هذا الحديث الشريف فإن فيه محذوفًا وهو (الصلاة بأجر مضاعف)، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند حسن أن النبي ﷺ قال: (لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تُبتغى فيه [الصلاة] غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي)، ويؤيده أيضًا تبويب الإمام البخاري لحديث شد الرحال بقوله: (فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)، فعلق على ذلك الحافظ في الفتح قائلًا: (وليس في الحديث ذكر الصلاة ليبين أن المراد بالرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها لأن لفظ المساجد مُشعر بالصلاة) أهـ
وزاد: (قوله إلا إلى ثلاثة مساجد المستثنى منه محذوف، فإما أن يُقدَّر عامًّا فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك. لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني، والأولى أن يقدَّر ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين) أهـ
ومما يؤيد أن المحذوف تقديره (الصلاة بأجر مضاعف) ترغيب النبي ﷺ في الصلاة بمسجد قباء، فقد روى الإمام أحمد والترمذي والسيوطي وصححه قوله ﷺ: (صلاة في مسجد قباء تعدل عمرة)، وهذا عام لمن كان من أهل قباء ولمن خارجها فيندب له شد الرحال للصلاة في مسجدها لنيل الفضل الذي رغب فيه رسول الله ﷺ. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ (كان يأتي قباء يعني كل سبت، كان يأتيه راكبًا وماشيًّا) قال ابن دينار: (وكان ابن عمر يفعله)، وعن نافع أن ابن عمر كان يقول: (إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون)، قال ابن حجر: (وفي الحديث دلالة على فضل قباء، وفضل المسجد الذي بها، وفضل الصلاة فيه)، وقال أيضًا: (وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك، وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم) أهـ.
وقد جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم ما يدل على عنايتهم بالصلاة في مسجد قباء والحث عليها، فقد روى عمر بن شبة في تاريخ المدينة بسند صحيح عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: (لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل)، وروى عبد الرزاق في المصنف عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لو كان مسجد قباء في آفاق لضربنا إليه أكباد المطي)، فكل هذا يؤيد استحباب شد الرحال للصلاة بمسجد قباء بما في ذلك من الفضل ما يؤكد أن النهي في حديث شد الرحال إنما عن الصلاة في مسجد طلبًا للصلاة بأجر مضاعف.
وإجمالا فإن الإعتماد على حديث (النهي عن شد الرحال) لتحريم زيارة قبر النبي ﷺ باطل لعدة وجوه منها:
▪ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) فزيارة النبي ﷺ من أفضل الأعمال وأعظم القربات، في حياته وبعد وفاته، فمكانته في حياته وبعد وفاته سيان لقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ)، وقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، والأنبياء أكرم عند الله من الشهداء، ولما ثبت عن النبي ﷺ قوله: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) [رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات والبيهقي والهيثمي وصححاه]، ويؤيده قوله ﷺ: (مررت على أخي موسى قائمًا يصلي في قبره) [رواه مسلم]. ومن ذلك زيارة سيدنا بلال لقبر النبي ﷺ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن بلالا رَأَى النَّبِيّ ﷺ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة، فأتى قبر النَّبِيّ ﷺ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدًا رَسُول اللَّهِ، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يَوْم أكثر باكيًا، وباكية من ذلك اليوم). [أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد، وابن الأثير في أسد الغابة، والسبكي في شفاء السقام، والسِّمْهُودي في وفاء الوفاء وجوَّد إسناده، الشوكاني في نيل الأوطار]
▪ النهي في الحديث مخصص، والمقصود به النهي عن زيارة مسجد للصلاة فيه بأجر مضاعف كما ثبت عن المساجد الثلاث.
▪ شد الرحال لغير الصلاة في المساجد الثلاثة فيه ما هو واجب كالجهاد في سبيل الله، وما هو مندوب كطلب العلم، وما هو مباح كالتجارة، ولا خلاف بين أهل العلم في جوازه. وكان علماء الحديث يشدون الرحال إلى أقاصي الدنيا طلبًا لحديث واحد.
▪ شد الرحال للصلاة في قباء مرغب فيه وهو موافق للسنة ولعمل الصحابة والسلف الصالح.
▪ زيارة المدينة مرغب فيها، ويندب شد الرحال إليها للسكنى وتحري الموت فيها لقوله ﷺ: (ما على الأرض بقعة هي أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها، يعني المدينة) قاله ثلاث مرات. [رواه الإمام مالك في الموطأ]، ولقوله ﷺ: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فأني أشفع لمن يموت بها) [رواه الترمذي وصححه وابن ماجة وأحمد]، وكان من دعاء سيدنا عمر رضي الله عنه: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك ﷺ). [رواه البخاري].
وبذلك تنجلي ظلمة الشبهة التي أثارها ابن تيمية وحوكم بسببها وسجن إلى أن مات في السجن، قال الحافظ في الفتح: (وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي ﷺ، ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول: "زرت قبر النبي ﷺ" وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبًا لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع) أهـ
اللهم ارزقنا زيارة قبر حبيبك المصطفى ﷺ، مرات ومرات ومرات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.