نفحات موسم المولد:
الأزمان تتبارك بالأحداث المباركة التي تقضى فيها الشؤون الإلهية العظيمة، والبركة تتجدد كلما عادت الذكرى، وهذا جلي في خصوصية يوم الجمعة ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة. وفي ذكرى فداء سيدنا إسماعيل عليه السلام، وفي ذكرى عاشوراء، وغير ذلك، وفي قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) منبهًا ليس فقط على اللحظة أو الساعة أو اليوم، بل على الشهر الذي أنزل فيه القرآن العظيم.
لذلك يستحب التعرض لنفحات تلك البركات متى ما عُلم زمانها وحلَّ موسمها وأوانها، وليس في ذلك شبهة للبدعة بأي وجه من الوجوه لأن البدعة نوعان: بدعة لغوية وبدعة شرعية، أما البدعة الشرعية فجمهور أهل العلم من كل المذاهب سلفًا وخلفًا أجمعوا على أنها كل عمل محدث ليس له أصل في الدين، أي ليس عليه دليل خاص أي صريح، أو دليل عام أي بالقياس وبالنصوص العامة كقوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ)، ونظائرها. أما ما كان له أصل في الدين بطريق خاص أو عام فإنه بدعة لغوية فقط وليس شرعية، كالصلاة مثلًا، فالصلاة لغة هي الدعاء، أما شرعًا فهي الصلاة الشعيرة، هذا ملخص جمهور أهل العلم لكل النصوص الشرعية التي تناولت البدعة.
الاحتفال لغةً من الحفل، أي الاهتمام والاكتراث والعناية، واحتفل بالميلاد بمعنى حفل به واهتم واعتنى ولفت النظر إليه، وأول من احتفل بميلاد الأنبياء هو الله تعالى كما قال عن يحيى عليه السلام: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)، وعلى لسان عيسى عليه السلام: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)، فميلاد الأنبياء من الأحداث العظيمة التي لفت الله تعالى النظر إليها في القرآن الكريم، على أن الاحتفال بالميلاد يكون بالشكر على النعمة وإظهار السرور والفرح لذلك شرعت العقيقة (السماية)، بينما في الوفاة يكون بالصبر والاعتبار.
وأول من احتفل بذكرى المولد النبوي الشريف هو رسول الله ﷺ، وكان ذلك بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة، أي بعد ميلاده الشريف بنحو ثلاث وخمسين سنة، فنبَّه الأمة ولفت نظرها إلى نعمة ميلاده الشريف بأنه كان يداوم على صيام اليوم الذي ولد فيه، ودعا الصحابة وذبح العقيقة (السماية) وهو في هذا العمر العظيم، وكان يحدثهم بما أخبرته به أمه السيدة آمنة عن ميلاده الشريف، وأنه لما ولد خرج معه نور أضاء مشارق الأرض ومغاربها.
وجود النبي ﷺ بين الصحابة كان احتفالًا دائمًا به لأنه كان أغلى شيء في حياتهم، وسار على ذلك التابعون وتابعوهم إلى أن مرت القرون وتطاول الأمد بالناس وغشيهم شيء من الغفلة عن رسول الله ﷺ فبرزت الحاجة إلى التذكير والتنبيه ولفت النظر مرة أخرى، وأول من أحيا سنة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من شهر ربيع الأول على المشهور عند الجمهور -كما قرره الإمام ابن كثير- هو الملك المظفر صاحب إربل. قال الإمام الحافظ السيوطي في [حسن المقصد]: "وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدّين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد"، والملك المظفر كان متواضعًا، خيرًا، سُنِّيًّا، يحب الفقهاء والمحدثين كما قال الإمام الذهبي، فليس لاحتفالنا بالمولد على هذا التأصيل علاقة بالروافض أو الدولة الفاطمية أو تشبه بالنصارى.
وقد قرر جمهور أهل العلم من كافة المذاهب وكذلك دور الفتوى في العالم الإسلامي مشروعية الاحتفال بالمولد، وهذا مستند شرعي متين يحمي المحتفلين من اعتراض المعترضين، فمن الأئمة الذين قرروا مشروعيته الإمام الإمام الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية، والإمام الحافظ أبو العباس العَزَفي، والإمام الحافظ أبو شامة المقدسي، والإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي، وإمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري، والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام الحافظ شمس الدين السخاوي، والإمام الحافظ جلال الدين السيوطي، والإمام المحدث الفقيه ابن حجر الهيتمي، والإمام المحدث الفقيه ملا علي قاري، الإمام المحدث الفقيه محمد عبد الرؤوف المناوي، وغيرهم.
المولد مهم ويزداد أهمية كلما زادت غفلة الأجيال برسول الله ﷺ، فلا ينبغي أن تفوتك فرصة التعرض لهذه النفحات العظيمة، ولا تكدر صفوها بأي فعل قبيح لا يشبه هذه الذكرى العطرة.