الجمعة، 2 نوفمبر 2018

تعظيم قبور الأولياء والعلماء وجواز بناء الأضرحة عليها

بسم الله الرحمن الرحيم
في تعظيم قبور الأولياء والعلماء وجواز بناء الأضرحة عليها
حرمة قبر الميت المسلم:
أتت الشريعة بوجوب احترام قبر الميت بشكل عام، وقبر المسلم وصيانته من كل ما يمتهنه على وجه الخصوص لأن في امتهانه امتهان للمسلم المدفون فيه، وقدر المسلم عند الله عظيم فقد قال ﷺ: (لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق)، لذلك نهت الشريعة الغراء عن الجلوس على القبر، ووطأه والمشي فوقه، ونبشه، وكسر عظام الميت، ونهت عن المشي بالنعلين في المقابر وغيرها من الأحكام التي أريد بها الحفاظ على حرمة القبور، فقد روى الإمام مسلم عنه ﷺ أنه قال: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)، وروى أبو داود عنه ﷺ أنه قال: (كسر عظم الميت ككسره حيًّا)، وروى أيضًا عن النبي ﷺ أنه رأى رجلًا يمشي في القبور عليه نعلان فقال: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله ﷺ خلعهما فرمى بهما.

قبر ابن تيمية الحراني
تمييز القبور:
ينبغي تمييز القبر حتى يُحترم ولا يُمتهن، لأنه إن لم يميز سيكون معرضًا للمشي فوقه والجلوس عليه وإدراس أثره ويكون ذلك سببًا إلى أن يجهل أن هناك قبر، فيجلس أحدهم عليه، أو يبول ويتغوط فوقه، أو يحفر قبرًا في موضع لا يظنه قبرًا فيجد فيه رفات ميت، وغير ذلك. وقبور العلماء والصالحين أولى بالتمييز لكونها مباركة ببركة من دفن فيها، ولأنها تكون مقصودة لمن أراد أن يدفن في جوارهم، وللزائرين يسلمون عليهم ويتبركون بهم، فقد ثبت عنه ﷺ أنه علَّم قبر سيدنا عثمان بن مظعون وميَّزه بصخرة عظيمة ليعرف ويدفن في جواره أهله ﷺ، فروى أبو داود وابن ماجة وجماعة بسند حسن عنه ﷺ أنه قال: (أَتَعَلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)، روى البخاري في صحيحه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان رضي الله عنه أن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه، وفي ذلك رد على من يطمس قبور الصالحين ويخفي معالمها. وروى أبو بكر الأثرم عن جعفر بن محمد أنه قال: كانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلَّمته بصخرة، ورواه الحاكم موصولًا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه أن فاطمة بنت النبي ﷺ كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. قال الحاكم: "هذا الحديث رواته عن أخرهم ثقات وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحريًّا للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنة مسنونة وصلى الله على محمد وآله أجمعين" رواه البيهقي في الكبرى وسكت عنه الحافظ في التلخيص. وعن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحَجَرَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تبكوا على الدين إذا وليه أهلُهُ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله" [أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير والحاكم في المستدرك (8571) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. إسناده حسن، وصححه الحاكم والذهبي وحسنه السّبكي والسمهودي والصالحي الدمشقي، والمناوي]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن بلالا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة، فأتى قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه) [أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد، وابن الأثير في أسد الغابة والسبكي في شفاء السقام والسمهودي في وفاء الوفاء وجوَّد إسناده الشوكاني في نيل الأوطار]، وعن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد مضطجعا على باب حجرة عائشة، رافعا عقيرته يتغنى، ورأيته يصلي عند قبر النبي ﷺ. [أخرجه الطبراني في "الكبير" "399" و"404"، وفي "الأوسط" "330"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 188" من طريق عثمان بن حكيم، عن محمد بن أفلح مولى أبي أيوب، عن أسامة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" "405" من طريق وهب بن جرير قال: حدثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث، عن صالح بن يسان، عن عبيد الله بن عبد الله، به. إسناده حسن، محمد بن إسحاق صدوق، وقد صرح بالتحديث]، وعن الحافظ إبراهيم الحربي أنه قال: (قبر معروف -يعني الكرخي- الترياق المجرب) علق الذهبي على الخبر في السير فقال: "إجابة دعاء المضطر عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء"، وقال الإمام الحافظ ابن حبان في ترجمة على بن موسى الرضا رضي الله عنه من كتابه "الثقات" (8 /456): "ما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة، وهذا شيء جربته مرارا فوجدته كذلك، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته ﷺ الله عليه وعليهم أجمعين"، وعن أبي عبد الله بن المحاملي يقول: (أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة، ما قصده مهموم إلا فرج الله همه). [أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بسند صحيح]، وعن عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال سمعت أبي يقول: (قبر معروف الكرخي مجرب لقضاءالحوائج ويقال إن من قرأ عنده مائة مرة قل هو الله أحد وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته) [رواه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بسند صحيح]، وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب قال الحاكم (صاحب المستدرك) في تاريخ نيسابور:"سمعت أبا بكر محمد بن المؤمل يقول خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس قال فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ماتحيرنا."

الغرض من بناء الأضرحة على قبور الأنبياء والصالحين:
▪ احترامها لأنها تضم أجساد أناس صالحين ومباركين أمر الشارع بتعظيمهم وحض على تمييزهم وتخصيصهم بالاحترام والتبجيل، بل أمر بتمييز كل من له رتبة ومنزلة ولو كانت دنيوية فقال النبي ﷺ: (أنزلوا الناس منازلهم)، والكرامة تكون لهم أحياءً وأمواتًا. 
▪ صيانتها من الامتهان الذي يمكن أن ينتج عن القعود عليها ووطئها والمشي فوقها، ونبش السباع، وكسر عظام المدفون فيها وقضاء الحاجة عندها.
▪ تمييزها للقاصدين بغرض الزيارة والتبرك ودعاء الله تبارك وتعالى. قال الحافظ ابن حبان في ترجمة سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه: (انتقل إلى الشام ومات بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان وقبره بدمشق مشهور يزار قد زرته في مقبرة باب الصغير)، وقال الحافظ السخاوي في ترجمة سيدنا حمزة رضي الله عنه: (ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد ظاهر المدينة وجعل على قبره قبة فهو يزار ويتبرك به وبمحله رضي الله عنه)، وقال الذهبي في ترجمة أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي: (ودفن بمقبرة باب الصغير، وقبره مشهور يزار، ويُدعى عنده)، وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام البخاري رضي الله عنه: (وقال أبو علي الغساني: أخبرنا أبو الفتح نصر بن الحسن السكتي السمرقندي: قدم علينا بلنسية عام أربعة وستين وأربعمائة قال: قحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام فاستسقى الناس مرارًا، فلم يسقوا فأتى رجل صالح معروف بالصلاح إلى قاضي سمرقند فقال له: إني رأيت رأيًا أعرضه عليك. قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرج ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وقبره بخرتنك، ونستسقي عنده فعسى الله أن يسقينا. قال: فقال القاضي: نِعمَ ما رأيت. فخرج القاضي والناس معه واستسقى القاضي بالناس وبكى الناس عند القبر، وتشفعوا بصاحبه، فأرسل الله تعالى السماء بماء عظيم غزير، أقام الناس من أجله بخرتنك سبعة أيام أو نحوها، لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته وبين خرتنك وسمرقند نحو ثلاثة أميال)، وقال الذهبي في ترجمة الباخرزي: (وزار بخرتنك قبر البخاري وجدد قبته وعلق عليها الستور والقناديل فسأله أهل سمرقند أن يقيم عندهم، فأقام أياما ورجع إلى بخارى)، وكان الحفاظ يزورون قبر الإمام مسلم يقرأون عنده الصحيح تبركًا به، قال ابن السمعاني: (وأذكر أنا خرجنا في رمضان سنة ثلاثين وحملنا محفته -أي أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي- على رقابنا إلى قبر مسلم بن الحجاج بنصر أباذ لإتمام الصحيح عند قبر المصنف)، وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد من قبور الأولياء والعلماء التي ورد ذكرها في كتب التراجم والطبقات أنها تزار ويتبرك بها.

من أدلة جواز البناء عليها:
▪ أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل صحيح وصريح في النهي بدون معارضة بنص صحيح وصريح آخر.
▪ دفن المصطفى ﷺ في حجرة السيدة عائشة وهي بناء، وليس ذلك خاصًّا برسول الله ﷺ لأن صاحبيه أيضًا سادتنا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرصا على أن يدفنا معه ﷺ في نفس المكان، ولا يخفى أنهما رضي الله عنهما أعلم الخلق بدين الله عز وجل بعد رسول الله ﷺ ولم ينكر عليهما أحد ممن خلفهما ولا أحدًا من الصحابة رضوان الله عليهما. كما أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها كانت حريصة كذلك على أن تدفن مع زوجها ﷺ وأبيها لكنها آثرت سيدنا عمر رضي الله عنه على نفسها عندما طلب منها ذلك.
▪ قول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) فذكر قولهم بالبنيان عليهم، وقولهم باتخاذ مسجد عليهم في سياق إظهار آية قدرته على بعث الموتى (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) وما تعقب ذلك بذم أو إنكار أو تصويب، فدل على رضاه، والله عز وجل إذا حكى في كتابه عن قوم ما لا يرضاه تعقبه بما يدل على الصواب، كقوله تعالى: (إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) فإنه أعقبه بقوله: (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)
وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) فإنه أشار إلى فساد ما زعموا بقوله: (فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)
إلى غير ذلك من الآيات التي يطول ذكرها. ولا يقال أن ما ذكر هو شريعة غيرنا لأن القرءان الكريم أنزل علينا نحن المسلمين ونحن المخاطبون بما ورد فيه للتأمل والتدبر والاعتبار، فهو المصدر الأول في شريعتنا وما حكم الله فيه يؤخذ ما لم يُنسخ.
▪ ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب والبيهقي في الدلائل وغيرهما بسند رجاله رجال البخاري عن موسى بن عقبة عن معمر عن الزهري ابن شهاب عن مسور بن مخرمة والحكم بن العاص وكلاهما من الصحابة في قصة أبي بصير وفيها: (فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجدًا)، فلا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكره الصحابة بتمامه للنبي ﷺ وكلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره، أو أن يكون ذلك حرامًا ملعونًا فاعله يجر إلى كفر وضلال ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي يوحي إليه في شأنه كما أعلمه بالمسجد الضرار الذي بناه المنافقون.
▪ ما تواتر من بناء الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم الفساطيط والقباب على القبور، والفُسطاط هو بيت يبنى من الشعر أو ما شابهه، فقد ضرب أمير المؤمنين سيدنا عمر فُسطاطًا على قبر أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، وبنى سيدنا عثمان بن عفان فُسطاطًا على قبر الحكم بن أبي العاص، وضربت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فُسطاطًا على قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، وبنى محمد بن الحنفية فسطاطًا على قبر سيدنا عبد الله بن عباس لمدة ثلاثة أيام، وبنت فاطمة بنت الحسين قبة على قبر زوجها سنة، فكل هذا وغيره يدل على أن الصحابة والتابعون عليهم رضوان الله ما فهموا النهي عن البناء على القبور أنه على إطلاقه وإنما إن فيه امتهان وضرر، كما أن ما ورد عن نهي بعض الصحابة كأبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن يضرب عليهما فسطاطًا إذا ماتا يدل على ضرب الفساطيط كان شائعًا، فعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبي: «إني كبرت وذهب أصحابي وجماعتي فخذ بيدي»، قال: فاتكأ علي حتى جاء إلى أقصى البقيع مكانًا لا يُدفن فيه، فقال: «يا بني، إذا أنا مُت فادفني ها هنا، ولا تضرب علي فُسطاطا، ولا تمش معي بنارٍ، ولا تبكيَنَّ علي نائحة، ولا تؤذنوا بي أحدًا، واسلك بي زقاق عميقة، وليكن مشيك خببا» فهلك يوم الجمعة فكرهت أن أؤذن الناس لما كان نهاني فيأتوني فيقولون: متى تخرجوه؟ فأقول: إذا فرغت من جهازه أخرجه، قال: فامتلأ على البقيع الناس. ولا يخفى أن إيذان الناس بالوفاة مباح بل مندوب لأن يكثر عليه المصلون ومع ذلك زهد فيه أبو سعيد رضي الله عنه عنه، فدل على أن البناء على القبور كان مشتهرًا أيام الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
▪ ما يروى عن النهي عن البناء على القبور هو من العام المخصوص أو العام المراد به الخصوص لاستفاضة الأدلة في جواز البناء على قبور الأنبياء والصالحين صيانة لها، وهو ليس على إطلاقه.
▪ انتشار أضرحة الصالحين في كافة أرجاء العالم الإسلامي وزيارة العلماء لها للتبرك والدعاء عندها كما تقدم دليل على تلقي الأمة سلفا وخلفا ذلك الأمر بالقبول، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

مناقشة أدلة النهي:
▪ أما ما يروى عن أبي هياج قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" فحديث ضعيف، في سنده اختلاف وحبيب بن أبي ثابت مدلس كما قال الحافظ في التقريب، وابن خزيمة وابن حبان والأعمش والبيهقي وغيرهم، وقد عنعن ولم يصرح بالسماع، فروايته لا تقوم بها حجة. وعلى افتراض صحته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث سيدنا عليًّا رضي الله عنه وكرم الله وجهه على قبور مسلمين، وإنما على قبور كفار ومشركين وأهل كتاب كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ويصلون على القبور يعبدونها، وكان ذلك في بداية دولة المدينة المنورة بدليل قوله "لا تدع تمثالا إلا طمسته" وفي رواية: "ولا صورة في بيت إلا طمستها"، وفي رواية: "فلا يدع بها وثنا إلا كسره"، أما قبور المسلمين فكانت مسنَّمة -كسنام البعير- ومرتفعة عن الأرض حتى تعرف ولا تمتهن، وهو السنة، لما رواه البخاري بسنده عن سفيان التمار قال: "رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنَّما"، قال ابن قدامة في المغني: "وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وبه قال مالك وأبو حنيفة". وكان قبر سيدنا عثمان بن مظعون كبيرا ظاهرا، فقد روى البخاري في صحيحه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان رضي الله عنه أن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه.

▪ أما ما يروى من أنه ﷺ نهى أن تجصص القبور وأن يقعد عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ فإن ذلك في سياق إكرام القبور وصيانتها مما ينتهك حرمتها، فقد نهت الشريعة الغراء عن الجلوس على القبر، ووطأه والمشي فوقه، ونبشه، وكسر عظام الميت، ونهت عن المشي بالنعلين في المقابر وغيرها من الأحكام التي أريد بها الحفاظ على حرمة القبور. روى الإمام مسلم عنه ﷺ أنه قال: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)، وروى أبو داود عنه ﷺ أنه قال: (كسر عظم الميت ككسره حيًّا)، وروى أيضًا عنه ﷺ أنه رأى رجلًا يمشي في القبور عليه نعلان فقال: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله ﷺ خلعهما فرمى بهما. 
▪ وأما النهي عن تجصيص القبر فلأن الجص والآجُر (الجبص) مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قد أوصيت أهلي أن لا يتبعوني بنار) أي مجمر، ولهذا لم يخصصوا النهي بأن يكون خارج القبر بل كرهوا البناء بالآجُر داخل القبر أيضًا لأن العلة واحدة، بل داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه، ولهم في ذلك شاهد من وضع النبي ﷺ الجريدة الرطبة على القبرين وقال : (لعله يخفف عنهما مالم تيبسا)، وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وغيره من الفقهاء، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة، فعن أنيسة بنت زيد بن أرقم، قال: قالت: مات ابن لزيد يقال له: سويد، فاشترى غلام له أو جارية جصًّا، وآجُرًّا فقال له زيد: «ما تريد إلى هذا؟» قال: أردت أن أبني قبره، وأجصصه قال: «جفوت، ولغوت لا تُقَرِّبُهُ شيئا مسته النار»، و عن إبراهيم قال: «كانوا يكرهون الآجر في قبورهم»، وعنه أيضا: «كانوا يستحبون اللَّبِنَ،ويكرهون الآجُر، ويستحبون القصب، ويكرهون الخشب»
▪ أما البناء على القبر لصيانته وحفظه وإكرام النبي أو الولي الصالح المدفون فيه فقد تقدم الكلم حول إباحته بما يغني عن إعادته، وكذا البناء لأي غرض آخر فيه كرامة الميت كما ورد من بناء الفساطيط على قبور الصحابة، أما البناء على القبر لغرض آخر يمتهن القبر كبناء بيت للسكنى، أو البناء فوقه بما يغري الناس على الجلوس والإتكاء والحديث فإن ذلك يؤذي الميت، فإنما النهي يصرف إليه، ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنمًا -أي محدبا كسنام الجمل- ولا يكون مسطحًا لأن التسنيم يمنع من الجلوس عليه، فقد أخرج البخاري في صحيحه سفيان التمار قال: (رأيت قبر النبي ﷺ مسنَّما).
▪ أما النهي من الكتابة عليه فتحمل على معنى الكتابة على القبر مباشرة لأنه يتعذر الكتابة عليه إلا بعد البناء فوق القبر وتجصيصه وقد سبقت الإشارة إلى النهي عنهما، أما الكتابة على شاهد يكتب فيه اسم المتوفى وتاريخ وفاته فإنها ليست كتابة على القبر، وتقوم مقام تعليم القبر وتأريخ سنة الوفاة ولا يختلف اثنان في جواز ذلك واستحبابه لما تقدم من تعليم النبي ﷺ لقبر سيدنا عثمان بن مظعون. قال الحاكم في (المستدرك): "هذه الأسانيد صحيحة و ليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم، و هو عمل أخذ به الخلف عن السلف). و ترك العمل بالحديث مدى القرون علة قادحة عند كثير من أهل النقد.
▪ وأما ما يروى عن أن النبي ﷺ من النهي عن بناء المساجد على القبور كقوله ﷺ: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, لا يبقين دينان في جزيرة العرب)، (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة)، (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم, ولا تتخذوها قبورا)، ونحوها بذريعة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة والشرك بالله تعالى فليس مسلَّم به للآتي:
▪ المساجد لها ثلاث معان: 
*المعنى الأول أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان وأطراف القدمين، وفي قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) قال سعيد بن جبير: (نزلت في أعضاء السجود) ويؤيده أن سورة الجن مكية، وعندما نزلت هذه الآية من سورة الجن لم يكن على وجه الأرض إلا المسجد الحرام ومسجد إيلياء أي بيت المقدس، فهما مسجدان وليس مساجد، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. 
*المعنى الثاني: المساجد بمعنى أماكن العبادة، كما هو الحال في (المسجد الحرام)، و(مسجد إيلياء أو بيت المقدس).
*المعنى الثالث وهي دور عبادة المسلمين حصرًا لأن دور عبادة اليهود وكنائسهم تسمى (صلوات)، ودور عبادة النصارى وكنائسهم تسمى (بِيَع) كما قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد). 
فنجد أن كل المعاني انحصرت في النهي عن السجود على سبيل التعبد لأن سجود التعظيم في الملل السابقة مباح اتفاقًا كما قال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا). أما السجود على سبيل التعبد لله عز وجل فواجب لا يمكن أن ينهى عنه رسول الله ﷺ فهو عين التوحيد فدل على أن النهي إنما هو عن السجود لغير الله تبارك وتعالى بنية التعبد، ويؤيد ذلك أن النبي ﷺ خصص بالذكر اليهود الذين عبدوا عزيرًا عليه السلام من دون الله تعالى، والنصارى الذين عبدوا عيسى عليه السلام من دون الله تعالى، ويؤيده أيضًا قوله ﷺ: (لا يبقين دينان في جزيرة العرب) إنما الدين واحد وهو الإسلام، ويؤيده عموم قوله ﷺ الذي أخرجه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه عنه: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) قال الحافظ في الفتح: "أي كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا للسجود، أو يصلح أن يبنى فيه مكان للصلاة". إذًا فالنهي الوارد في كل تلك الأحاديث إنما هو عن عبادة غير الله تعالى كما فعل اليهود والنصارى، ولا علاقة لتلك الأحاديث بمساجد المسلمين التي يعبدون فيها الله تبارك وتعالى حتى لو كان بها قبرا.
▪ كانت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها تصلي في حجرتها بين القبور لقوله ﷺ: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن) فلم تنكر على نفسها ولم ينكر عليها أحد.
▪ لو كان اللعن على إطلاقه لكان أصحاب أهل الكهف ملعونين لأنهم قالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) لكن على النقيض فإن الله تعالى ذكرهم في سياق الإيمان وأن ما صار فيهم آية من آيات الله وما تعقب قولهم بذم أو نكير.
▪ قوله ﷺ: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة) المقصودون اليهود والنصارى لأنهم يعبدون أنبياءهم من دون الله، ويجوز أن يقال للنبي (رجل صالح) كما قال تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقوله تعالى: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ)، وأيًّا كان فالنهي عن عبادة غير الله عز وجل.
▪ أما قوله ﷺ: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا) فمتعلق باستحباب الصلاة في البيوت، ومعناه أن من لا يصلي في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر ويؤيده ما رواه مسلم عنه ﷺ: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه كمثل الحي والميت). قال الخطابي: "وأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء، فقد دفن رسول الله ﷺ في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته"أهـ. وليس ذلك خاصًّا برسول الله ﷺ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرصا على أن يدفنا معه.
▪ وفي المدونة: "قلت لابن القاسم: هل كان مالك يوسع أن يصلي الرجل و بين يديه قبر يكون سترة له؟ قال: مالك لا يرى بأسا بالصلاة في المقابر، و هو إذا صلى في المقبرة كانت القبور بين يديه و خلفه و عن يمينه و شماله.
قال: و قال مالك: لا بأس بالصلاة في المقابر قال: و بلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا يصلون في المقبرة"
▪ واختلف العلماء في هذا النهي هل هو نهي تحريم أم تنزيه؟ ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى كراهة ذلك، وبوب البخاري (قوله باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور)، وقال النووي في المجموع: "كراهة الجلوس على القبر والاتكاء عليه والاستناد إليه، قد ذكرنا أن ذلك مكروه عندنا، وبه قال جمهور العلماء"، وذهب المالكية وبعض الحنفية إلى جواز ذلك، وحملوا الأحاديث السابقة وما في معناها على الجلوس لقضاء الحاجة على القبر. واختلف العلماء في الأرض التي يبنى عليها القبر إن كانت مِلكًا خاصًّا أو مسبلة -مقبرة لعامة المسلمين- فذهب العز بن عبد السلام وابن حجر الهيتمي وغيرهما إلى جواز بناء القبر على أرض مِلك، ومنع بنائه على مقبرة عامة، فأمر العز بن عبد السلام بهدم كل القباب في قرافة مصر لأنها مقبرة مسبلة وأبقى على قبة الإمام الشافعي لأنها بينت على أرض مِلك، وحجته في ذلك أن البناء على مقبرة مسبلة يضيق على الآخرين. وذهب الإمام السيوطي إلى اسثناء بناء قباب الصالحين والأولياء وأضرحتهم على المقابر المسبلة والأرض الوقف لأن في ذلك مصلحة لعامة المسلمين لكونهم يزورونهم ويتبركون بهم، واستدل على ذلك بأن النبي ﷺ أمر بسد كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر فقاسوا استثنائهم لهذا على استثناء خوخة أبي بكر.
على أن النهي يرقى إلى الحرمة اتفاقًا إذا قصد بالبناء عبادة غير الله -وهذا لا يكون- أو تمجيد أهل الدنيا والسلطان، أو الزينة والتباهي والتفاخر، أو التشبه بقبور الكفار والمشركين، وغير ذلك من الأمور التي تتعدى موضوع البناء إلى ما حرمته الشريعة الغراء في كل حال.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا