الجمعة، 2 نوفمبر 2018

مشروعية السبحة

الغرض من اتخاذ السبحة هو ضبط العدد في الذكر فإن بعض الأذكار مقيدة بعدد كالباقيات الصالحات، وليس بمقدور كل الناس ضبط العدد من خلال عقد التسبيح باليد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن السبحة مذكرة بالذكر تعين من غفل على الذكر، وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (نعم المذكر السبحة)، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، فهي معين على الذكر وتدخل في عموم قوله تعالى: (فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، ولها أصل في سنة المصطفى لذلك ليست بدعة على تعريف أهل العلم سلفا وخلفا للبدعة.
ومن الآثار في ذلك:
1- أخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والطبراني والسيوطي وصححه عن السيدة صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال: ما هذا يا بنت حيي؟ قلت: أسبح بهن، قال: قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا، قلت: علمني يا رسول الله، قال: "قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء". أقرها ولم ينكر عليها، لا التسبيح بالنوى ولا تخصيص عدد، لكنه علمها ما يزيد من نفعها خاصة وهي ربة منزل لها شؤون منزلية قد لا يناسب حالها الانقطاع للتسبيح في كل وقت. طبعا لا يخفى أنه يمكن تكرار قول: "سبحان عدد ما خلق الله" مرات ومرات لعدد يتعذر ضبطه بالسبحة.

2- وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى -أو حصى- تسبح فقال: "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولي سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، الله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا قوة إلا بالله مثل ذلك" أقرها وعلمها ماهو أيسر وأفضل.

3- وأخرج الإمام أحمد في الزهد بسند صحيح عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن.

4- وفي جزء هلال الحفار، ومعجم الصحابة للبغوي، وتاريخ ابن عساكر من طريق معتمر بن سليمان عن أبي بن كعب عن جده بقية، عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوضع له نطع، ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به، فيسبح به حتى يمسي.

وأخرجه الإمام أحمد في الزهد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت: رأيت أبا صفية -رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان جارنا- قالت: فكان يسبح بالحصى.

5- وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى.

6- وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مولاة لسعد، أن سعدا كان يسبح بالحصى، أو النوى. وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن جابر عن امرأة حدثته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها.

7- وأخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به.

8- وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يسبح بالحصى. وأخرج من طريق أبي نضرة عن رجل من الطفاوة قال: نزلت على إبراهيم ومعه كيس فيه حصى أو نوى فيسبح به حتى ينفد. 
وأخرج عن زاذان قال: أخذت من أم يعفور تسابيح لها فلما أتيت عليا قال: اردد على أم يعفور تسابيحها.

9- قال الإمام السيوطي في [المنحة في السبحة]: اتخذ السبحة سادات يشار إليهم ويؤخذ عنهم، ويعتمد عليهم، كأبي هريرة رضي الله عنه كان له خيط فيه ألفا عقدة، فكان لا ينام حتى يسبح به ثنتي عشرة ألف تسبيحة قاله عكرمة. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي نضرة الغفاري قال: حدثني شيخ من طفاوة قال: تثويت أبا هريرة بالمدينة فلم أر رجلا أشد تشميرا ولا أقوم على ضيف منه، قال: فبينما أنا عنده يوما وهو على سرير له ومعه كيس فيه حصى أو نوى، وأسفل منه جارية سوداء، وهو يسبح بها حتى إذا أنفد ما في الكيس ألقاه إليها فأعادته في الكيس فدفعته إليه يسبح.
قوله تثويت أي تضيفته ونزلت في منزله، والمثوى المنزل. وقيل: كان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح بالنوى المجزع -يعني الذي حك بعضه حتى ابيض شيء منه ، وترك الباقي على لونه- وكل ما فيه سواد وبياض -فهو مجزع- قاله أهل اللغة.
10- وذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وذكر أيضا عن سلمة بن شبيب قال: كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ. ومن المعلوم المحقق أن المائة ألف بل والأربعين ألفا وأقل من ذلك لا يحصر بالأنامل فقد صح بذلك وثبت أنهما كانا يعدان بآلة.

11- وكان لأبي مسلم الخولاني رحمة الله عليه سبحة فقام ليلة والسبحة في يده قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح، فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول: سبحانك، يا منبت النبات، ويا دائم الثبات، قال: هلمي يا أم مسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت. أخرجه ابن عساكر في تاريخه وذكره أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري في كتاب كرامات الأولياء.

12- وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان أنه رُئي في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله يوما سبحة فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ قال : طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه.
قال: وقد رويت في ذلك حديثا مسلسلا -وهو ما أخبرني به شيخنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله من لفظه- ورأيت في يده سبحة قال: أنا الإمام أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن يوسف بن البانياسي بقراءتي عليه ورأيت في يده سبحة، قال: أنا أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود الترمذي، ورأيت في يده سبحة، قال: قرأت على شيخنا أبي الثناء، ورأيت في يده سبحة، قال: أنا عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر، ورأيت في يده سبحة، قال: أنا أبو محمد يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي، ورأيت في يده سبحة، قال: أنا أبي ورأيت في يده سبحة، قال: قرأت على أبي الفضل بن ناصر، ورأيت في يده سبحة، قال: قرأت على أبي محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي، ورأيت في يده سبحة، قلت له: سمعت أبا بكر محمد بن علي السلمي الحداد، ورأيت في يده سبحة؟ فقال: نعم، قال: رأيت أبا نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر المقري، ورأيت في يده سبحة، قال: رأيت أبا الحسن علي بن الحسن بن أبي القاسم المترفق الصوفي وفي يده سبحة، قال: سمعت أبا الحسن المالكي يقول: وقد رأيت في يده سبحة، فقلت له: يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة؟ فقال: كذلك رأيت أستاذي الجنيد وفي يده سبحة، فقلت له: يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة؟ قال: كذلك رأيت أستاذي سري بن مغلس السقطي وفي يده سبحة، فقلت: يا أستاذ أنت مع السبحة؟ فقال: كذلك رأيت أستاذي معروفا الكرخي وفي يده سبحة، فسألته عما سألتني عنه فقال: كذلك رأيت [بشرا الحافي وفي يده سبحة، فسألته عما سألتني عنه فقال: كذلك رأيت] أستاذي عمر المالكي وفي يده سبحة، فسألته عما سألتني عنه، فقال: كذلك رأيت أستاذي الحسن البصري وفي يده سبحة، فقلت: يا أستاذ مع عظم شأنك وحسن عبادتك وأنت إلى الآن مع السبحة؟ فقال لي: شيء كنا استعملناه في البدايات ما كنا نتركه في النهايات، أحب أن أذكر الله بقلبي وفي يدي ولساني.
علق على ذلك الإمام السيوطي في المنحة فقال:
فلو لم يكن في اتخاذ السبحة غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في سلكهم والتماس بركتهم، لصارت بهذا الاعتبار من أهم الأمور وآكدها، فكيف بها وهي مذكرة بالله تعالى؛ لأن الإنسان قل أن يراها إلا ويذكر الله وهذا من أعظم فوائدها، وبذلك كان يسميها بعض السلف رحمه الله تعالى أي بالمذكر. ومن فوائدها أيضا الاستعانة على دوام الذكر، كلما رآها ذكر أنها آلة للذكر فقاده ذلك إلى الذكر، فيا حبذا سبب موصل إلى دوام ذكر الله عز وجل، وكان بعضهم يسميها حبل الوصل، وبعضهم رابطة القلوب.